موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الرابع: في وجوب اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وأنها ليست معلومة في الدني لأحد

* - وقال كثير من المتكلمين إنها معلومة للناس في الدنيا لأن الخلق مكلفون بالعلم بوحدانيته وذلك متوقف على العلم بحقيقته قال الجلال المحلي وغيره. وأجيب بمنع التوقف على العلم به في الحقيقة وإنما يتوقف على العلم به بوجه وهو أنه تعالى يعلم بصفاته كما أجاب به موسى عليه الصلاة والسلام فرعون حين قال لموسى وما رب العالمين إلى آخره ثم اختلفوا هل يمكن علمها في الآخرة فقال بعضهم نعم لحصول الرؤية فيها. وقال بعضهم لا والرؤية لا تفيد الحقيقة ولم يرجح ابن السبكي ول الجلال المحلي شيئا في هذه المسألة والتي قبلها.

* - وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني: الصحيح أنه لا سبيل للعقول إلى علمها. قال الشيخ كمال الدين بن أبي شريف ثم لا يخفى أن قولهم ليست معلومة الآن يعني في الدنيا إنما هو كلام في الوقوع وقولهم واختلفوا هل يمكن علمها في الآخرة كلام في الجواز العقلي انتهى هذا ما رأيته في هذه المسألة من كلام محققي المتكلمين.

وأما كلام محققي الصوفية من أهل الكشف فتجلى عليك مقالاتهم فيها حتى يزول عنك اللبس إن شاء اللّه تعالى وتعرف أن القوم أبعد الناس عن القول بالجسمية لشدة معرفتهم باللّه تعالى لا سيما الشيخ محيي الدين رحمه اللّه إذا علمت ذلك فأقول: اعلم أن الخلق ما خبطوا خبط عشواء في آيات الصفات وكثرة اختلافهم فيها إل من ذهولهم حال الاختلاف عن شهودهم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وإلا فلو شهدوا ذلك لم يقفوا في شيء من آيات الصفات وأخبارها ولم يحتج أحد منهم إلى تأويل ولم يخف قط من لحوق نقص في الجناب الإلهي كالقول بالجهة والتجسيم مثلا. وأيضا ذلك أن تنظر يا أخي إلى صفات الخلق كلها وتنزه الحق تعالى عنها من حيث الكيف فتقول مثلا من شأن الخلق الجهل من ذواتهم فليس الحق تعالى بجاهل بل هو عالم بكل شيء ومن شأن الخلق العجز فليس الحق تعالى بعاجز عن إنفاذ وقوع شيء مما أراده بل هو قادر ومن شأن الخلق الجهة فالحق تعالى لا جهة له ومن شأن الخلق الجسمية فالحق تعالى ليس بجسم وهكذا فلا يصح في جانب الحق تعالى لحوق تشبيه بخلقه أبدا لا في شخص ولا في نوع ولا في جنس كما سيأتي إيضاحه في نقول العارفين وقد ذكر الشيخ محيي الدين في الباب الرابع والعشرين وثلاثمائة ما نصه: اعلم أنه لا يجوز لأحد طلب معرفة ماهية الحق تعالى بلفظة ما، كما وقع فيه فرعون فأخطأ في السؤال ولهذا عدل موسى عن جواب سؤاله على المطابقة لأن السؤال إذا كان خطأ لا يلزم الجواب عنه وكان المجلس مجلس عامة فلذلك تكلم موسى بما تكلم به ورأى فرعون أنه ما أجابه على حد سؤاله لتخيله أن سؤاله متوجه وما علم فرعون أن ذات الحق تعالى لا تدخل تحت مطلب ما وإنما تدخل تحت مطلب هل وهو سؤال عن وجود المسؤول عنه هل هو متحقق أم لا ولما علم فرعون ما وقع منه من الجهل قال إشغالا للحاضرين لئلا يتفطنوا لذلك إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون تنفيرا لهم عن الإصغاء لمقالة موسى خوفا أن يتبعوه.

 

* - وقال في الباب الأول من "الفتوحات": اعلم أن الحق منزه عن أن يحيط به خلق أو يعرفه أحد لا يحسب ما وقع به التجلي له لا غير ألا ترى أنه يتجلى يوم القيامة لقوم في غير العلامة التي يعرفونها فيقول أن ربكم فينكرون ربوبيته ومنها يتعوذون وبها يتعوذون ولكن لا يشعرون ويقولون لذلك التجلي نعوذ باللّه منك وها نحن لربنا منتظرون فحينئذ يتجلى لهم في العلامة التي لربهم فيقرون له

بالربوبية وعلى أنفسهم بالعبودية فهؤلاء ما عبدوه تعالى إلا بالعلامة ومن قال منهم إنه عبده تعالى عينا فقوله زور، وكيف يدعي ذلك وعندما تجلى له أنكره فما عبده تعالى عينا إلا الأنبياء وكمل ورثتهم قال تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] أي عينا فافهم. (فإن قلت) فما معنى قولهم العلم حجاب عن اللّه تعالى مع أن العلم هو الذي يكشف عن حقائق الأمور (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثاني من "الفتوحات" أنه ليس المراد به ذم العلم معاذ اللّه أن يريد القوم ذلك، وإنما مرادهم أن أحدا لا يعلم الحق تعالى إلا بواسطة العلم فالواسطة هي التي علمت الحق تعالى لا أنت فما علم الحق تعالى حقيقة إلا علمك لا أنت وعلمك دائما حاجب لك عن معرفة كنه الحق تعالى ولو رقيت في العلم به تعالى ما رقيت فلا يصح وقوف تجلي الحق لك حتى تدركه لأن كل تجل يقع كلمحة بارق لا يثبت آنين أبدا ومن هنا امتنع للخلق تكييف الحق فافهم. فعلم أنه ليس مشهود كل أحد من الحق إلا علمه فإياك إن جريت على أسلوب الحقائق أن تقول إنك علمت العلوم فإنك ما علمت إلا بالعلم والعلم هو العالم بالمعلوم الذي هو الحق وبين العلم والمعلوم بحور لا يدرك أحد قعرها فإن سر التعلق بينهم مع تباين الحقائق بحر مركبه عسير بل لا تركبه العبارة أصلا ولا الإشارة ولكن يدركه الكشف من خلف حجب كثيرة ولا يحسن بها أنها على عين بصيرته إلا الأنبياء وكمل ورثتهم من الأولياء لدقتها وغموضها وإذا كانت عسرة المدارك فأحرى من خلقها.

(فإن قلت) قد ثبت عندنا وتقرر أن العلم بأمر ما لا يكون إلا بمعرفة قد تقدمت قبل هذه المعرفة بأمر آخر يكون به بين المعروفين مناسبة لا بد من ذلك وقد ثبت عندنا وتقرر أنه لا مناسبة بين الحق تعالى وبين خلقه بوجه من الوجوه فكيف صحت معرفته تعالى

(فالجواب) كما قاله الشيخ أيضا في الباب الثاني من "الفتوحات" أن المراد بمعرفتنا له بالآثار وأما الذات فلا تعلم أبدا بعلم سابق وإنما تعلم من طريق الكشف لبعض المختصين علما لا يصح التعبير عنه أبدا (فإن قلت) فهل يصح استدلال بعضهم بالشاهد على الغائب في مسألة العلم الإلهي من أنه عين أو غير (فالجواب) لا يصح هذا الاستدلال لأن الحق تعالى مباين لخلقه في سائر شؤونه فلا يصح قياسه على خلقه وأصل دخول الشبه على هذا المستدل أنه لما رأى الإنسان يسلب علمه وذاته كاملة لم تنقص قال: علم اللّه غير ذاته ثم من العجب أنه يقدسه بعد ذلك مع أنه قد حمله على

حال نفسه وقاسه عليها (فإن قلت) فهل يصح لأحد معرفة ربه من حيث الدليل العقلي (فالجواب) لا يصح لأحد ذلك لأن من المعلوم أن العقل لا يدرك كنهه تعالى من حيث ما هو ناظر وباحث أبدا لأن برهانه الذي يستند إليه الحس أو الضرورة أو التجربة، والحق تعالى غير مدرك بهذه الأصول بإجماع المحققين ولو أن هذا الناظر والباحث نظر بعقله إلى المفعولات الصناعية والتكوينية والانبعاثية ورأى جهل كل واحد منها بفاعله لعلم أن الحق تعالى لا يعلم قط بالدليل العقلي وإنما غاية علم العقل أن يعلم أنه تعالى موجود وأن العلم كله مفتقر إليه افتقارا ذاتيا لا محيص له عنه البتة انتهى، (فإن قلت) فما الحكمة في تحيير العقول فيه سبحانه وتعالى (فالجواب) كما قال الشيخ في الباب السابع والسبعين ومائة: أن الحق تعالى إنما حير عقول عباده فيه لئلا يدخل تعالى تحت حكم ما خلق وذلك أن القوى الحسية والخيالية تطلبه بذواتها لترى موجدها والعقول تطلبه بذواتها وأدلتها لتعلم موجدها فلذلك خاطب تعالى الحواس والخيال بتجريده الذي دلت عليه أدلة العقول، والحواس تسمع فحارت الحواس والخيال وقالوا ما بأيدينا منه شيء. وخاطب أيضا العقول بتشبيهه الذي دلت عليه الحواس والخيال والعقول تسمع فحارت العقول وقالوا ما بأيدينا منه تعالى شيء كما تقدم وتعالى اللّه عن إدراك العقول والحواس والخيال فلذلك انفرد سبحانه وتعالى بالحيرة في وصف كما له فما علمه سواه ولا شاهد غيره ولا أحاط أحد به علما وقد تقدم هذا أيضا في مبحث التوحيد انتهى. (فإن قلت) فهل إطلاق بعض المتصوفة وجه المناسبة بين الحق والخلق صحيح في بعض الوجوه (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثالث من "الفتوحات" لا يصح ذلك بوجه من الوجوه وإن وقع في مثل ذلك أبو حامد الغزالي فهو بضرب من التكلف وبمرمى بعيد من الحقائق فأي نسبة بين المحدث والقديم وكيف يصح تشبيه من لا يقبل المثل بمن يقبل المثل هذا واللّه محال. قال وما طلب الحق تعالى منا إلا العلم بوجوده وألوهيته لا غير وأما الحقيقة فلا وإذا كان المبدع الأول لا مناسبة بينه وبين ربه فكيف تصح مناسبة من بينه وبين ربه وسائط لا تحصى انتهى.

(فإن قيل) فعلى ما قدرتموه لا يصح لأحد مراقبة ذات الحق تعالى أبد وقد أمرنا اللّه تعالى بمراقبته فكيف الحال (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب السادس والعشرين ومائة من

"الفتوحات" إننا لم نؤمر بمراقبة عين الذات وإنما المراقبة حقيقة للمثل التي تنزل الحق تعالى للعقول تقريبا لها لنقف على مركزه ولما اقتضت مرتبة العلماء باللّه تعالى أنه ليس كمثله شيء ارتفعت الأمثال والأشكال من أوهامهم فلم يتقيد لهم أمر الإله المنزه عن الأمثال ولم ينضبط بل جهل الأمر وهناك يعني عند ارتفاع الأمثال يعلمون أن الحق تعالى لم يكن معلوما لهم في وقت ذلك الاعتقاد وأن علمهم به تعالى إنما هو من حيث نسبة معقولة أعطتها الآثار الموجودة في الأعيان لا غير وإذا كان الأمر كذلك فلا كيف ولا أين ولا مثل ولا وضع ولا إضافة ولا عرض ول جوهر ولا كم وهو المقدار وما ثم إلا فاعل مجهول يرى أثره ولا يعرف خبره ولا تعلم عينه ولا يجهل كونه فلمن يراقب العبد وما ثم من يقع عليه عين ولا من يضبطه خيال ولا من يحدده زمان ولا من تعدده صفات وأحكام ولا من يكيفه أحوال ولا من يميزه أوضاع ولا من تظهره إضافة فكيف تصح مراقبة من لا يقبل هذه الصفات ومن شرط العلم أن يرفع حكم الخيال والحادث لا يتعلق إلا بالمناسب وهو ما عندك من معرفة الحق فم برحت من حبسك وما عثرت إلا على صورة اعتقادك. قال: ولهذا اختلفت المقالات في تأويل صفات اللّه تعالى فطائفة تقول هو كذا وطائفة تقول ما هو كذا وإنما هو كذ وما منهم من أحد أحاط به علما فالكامل من عظمت فيه حيرته ودامت حسرته ولم ينل منه مقصوده وذلك لأنه رام ما لا يمكن تحصيله وسلك سبيل من لا يعرف سبيله وأطال في ذلك ثم قال: فأذن لم يعرف أحد الحق تعالى كما يعرف تعالى نفسه أبدا والسلام.

فإن قلت: فعلى ما قدرتموه جميع الأمور المعلومة معلولة والكيفية في حق اللّه مجهولة (فالجواب) كما قاله الشيخ في باب الأسرار نعم لا يخلو علم الخلائق من العلل أبدا فإن الحق تعالى هو المنفرد في علمه بعدم العلل فأصل الأبد من الأزل وقد خلت المثلاث بأهل التفكر والمحدثات إذ لا بد من وجه جامع بين الدليل والمدلول في قضايا العقول والحق تعالى لا يدرك بالدليل فليس إلى معرفة كنه ذاته من سبيل وقد دعانا إلى معرفته وما دعانا إلا لصفته فلا بد من صفة تتعلق بها المعرفة وما ثم في العقل إلا صفة تنزيه وقد ضم الشرع معها صفة ظاهرة التشبيه فعلى ما هو المعول الآخر أو الأول انتهى. وقال في باب الأسرار أيضا لا تعلم الذات إلا مقيدة وإن أطلقت هكذا عرفت الأشباه وحققت، فالإطلاق تقييد في حق السادات والعبيد.

* - وقال فيه أيضا الذات مجهولة فما هي علة ولا معلولة ولا هي للدليل مدلولة فإن من شأن وجه الدليل أن يربط الدليل بالمدلول والذات لا ترتبط كما لا تختلط انتهى.

* - وقال فيه أيضا: اعلم أن التنزيه وإن جلت مراقيه فهو يرجع لتحديد المنزه من حيث أنه لا بد له من مقابل والتشبيه يرجع إلى تثنية المشبه وإذا كان التنزيه يرجع إلى التشبيه فأين المعرفة باللّه تعالى فإذن التنزيه إنما سمع في الشرع ولم يوجد في العقل انتهى. وقال فيه أيضا لا يصح الأنس باللّه تعالى لأحد لعدم المجانسة بينه وبين خلقه ومن ادعى الأنس باللّه تعالى من الخلق فإنما أنس بنور أعماله الصالحة وإيضاح ذلك أن الأنس لا يكون إلا بالمشاكل والمشاكل ممائل والممائل ضد والضدية بعد. وقال الشيخ في كتاب العبادلة تنتهي همم العارفين باللّه تعالى وهم معه على أول قدم في المعرفة فلم تف لهم أعمارهم بما تعلقت به هممهم من واجب معرفة اللّه كما يليق بجلاله انتهى.

* - وقال أيضا في شرحه لترجمان الأشواق كل من الخلق واقف خلف حجاب العزة الأحدي فعند هذا الحجاب تنتهي علوم العالمين ومعرفة العارفين ولا يصح لأحد أن يتعدى هذا الحجاب ولو كان من أكابر الأحباب. وقال سيدي علي بن وفا رحمه اللّه جلت ذات الحق تعالى أن تدخل تحت إحاطة علم أو إدراك انتهى، (فإن قلت) إذا كانت الذات مجهولة فما مرادهم بقولهم فلان من العلماء باللّه تعالى ، (فالجواب) كم قاله الشيخ في الباب السادس من "الفتوحات" أن مرادهم بذلك العلم بوجوده وما هو تعالى عليه من صفات الكمال وليس مرادهم العلم بذاته لأن ذلك عندهم ممنوع لا يعلم بدليل ولا ببرهان ولا يأخذه حدّ ومعرفتنا به سبحانه وتعالى إنما هي علمنا بأنه ليس كمثله شيء وأما الماهية فلا يمكن لنا علمها قطعا انتهى. (فإن قيل) من قول بعضهم إن معرفة الحق لا تكمل إلا بمعرفته تعالى من طريق التنزيه ومن طريق التشبيه أن التشبيه موجود حقيقة (فالجواب) أن الذي نعتقده أن التشبيه لا وجود له حقيقة وإنما ذلك واقع من بعض الخلق لضعف شهود هو كثافة حجابهم ولو انكشف حجابهم لعلمو علما يقينا أن الحق تعالى لا يلحقه قط تشبيه بخلقه في جميع الصفات التي تنزل فيه لعقول عباده وتأمل يا أخي: السراب يحسبه الظمآن ماء ما دام بعيدا فإذا قرب من محله لم يجده ماء وحكم بفساد حسابه الأول وقس على ذلك أيضا سماع كلام اللّه تعالى بصوت وحرف

ورؤيته في التجلي الأخروي في صور مختلفة فإن ذلك إنما هو تنزل العقول ولو كشف الحق تعالى حجابهم لسمعوا كلامه تعالى من غير صوت ولا حرف ورأوه تعالى في غير صورة معقولة لكنهم لما حجبوا لم يكونوا يفهموا الكلام بغير صوت ولا حرف ولم يكونوا يعقلونه تعالى إلا في صورة وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وسمعت سيدي علي الخواص رحمه اللّه يقول: جميع ما منا إليك لا يكيف وجميع ما منك إليه يكيف انتهى.

(فإن قيل) فما وجه قول من منع أن الذات تعلم الكون (فالجواب) كم قاله الشيخ في الباب السادس عشر من "الفتوحات" إن وجهه أن الكون لا تعلق له إل بالمرتبة الطالبة له كالخالق يطلب المخلوق والرازق يطلب المرزوق وهكذا فعل أن الذات غنى عن العالم لا تعلق له بأحد فلذلك كان لا يعرف بالكون انتهى.

(فإن قلت) فإذن ليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق تعالى لا عقل ولا شرعا (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والأربعين ومائة نعم بل قد منع الشرع من التفكير في ذات اللّه تعالى بقوله ويحذركم اللّه نفسه أي أن تتفكرو فيها وقد ورد مرفوعا كلكم حمقى في ذات اللّه أي فلا تصلوا إلى التحقق بمعرفته

(فإن قلت) ما سبب المنع من التفكر في ذات اللّه (فالجواب) أن سببه ارتفاع المناسبة بين ذاتنا وذات الحق ومن هنا أنف أهل اللّه أن يجعلوا التفكر من دأبهم لأنه حال لا يعطى الحفظ فلا يدري أيصيب صاحبه أم يخطئ.

* - وقال في الباب الخامس والأربعين ومائة: إنما منعوا التفكر لأنه لا يتعدى أحد أمرين إما الجولان في المخلوقات وإما الجولان في الإله وأعلى درجات جولانه في المخلوقات أن يتخذه دليلا ومعلوم أن الدليل يضاد المدلول فلا يجتمع دليل ومدلول في حد عند الناظر أبد وأما جولانه في الإله ليتخذه دليلا على المخلوقات ففيه من سوء الأدب ما لا يخفى لأنه طلب الحق لغيره أي ليدله على الكائنات فما طلبه تعالى لعينه وذلك غاية الجهل فإنه لا شيء أدل على الشيء من نفسه (فإن قيل) فهل يتعدى علم أحد باللّه تعالى فوق ما يعطيه نظره أو هل يصح اجتماع اثنين في العلم باللّه على حكم التساوي (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب السادس والسبعين ومائتين: إن علم كل إنسان باللّه تعالى إنما هو على قدر نظره وما هو عليه في نفسه ولا يصح اجتماع اثنين على علم واحد في اللّه تعالى من جميع الجهات أبدا كما أنه لا يصح اجتماعهما على مزاج واحد فلا بد في الاثنين عن وجود ما يقع به الامتياز لثبوت عين كل واحد ولو لم

يكن الأمر كذلك لم يصح أن يكونا اثنين انتهى.

 

* - وقال في الباب السادس والسبعين ومائة: قد جاء النهي عن التفكر في ذات اللّه فزل العقل في ذلك وتعدى وظلم نفسه وما أمرنا اللّه تعالى قط أن نعلم كيف ذاته وإنما أمرنا أن نعلم أنه إله واحد لا إله إلا هو لا غير فلم يقف عن ذلك التفكر غالب العقول بل سبح بنظره وفكره إلى ما لا حاجة له به حتى أنه وقع في ذلك جماعة انتموا إلى أهل اللّه كأبي حامد وغيره انتهى.

* - وقال في الباب الثامن ومائتين أجهل الطوائف من طلب أن يعلم اللّه كما يعلم اللّه نفسه (فإن قلت) فأيما أولى مخاطبة العبد ربه بضمير الغائب أو بضمير الحاضر

(فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والسبعين ومائتين أن خطاب العبد ربه بضمير الغائب أشرف وأعلى في التنزيه من مخاطبته بضمير المخاطب نحو اللهم إني أسألك لأن الحقائق تعطي أنك ما حضرت إلا مع ما عرفته أنت من الحق تعالى فم برحت عن نفسك وإذا كان الأكابر يقولون سبحانك ما عرفناك حق معرفتك فكيف بغيرهم.

* - وقال في الباب الثاني والسبعين من "الفتوحات": اعلم أن خطاب اللّه تعالى بضمير المواجهة تحديد وخطابه بضمير الغائب تمييز ولا بد للعبد من واحد منهما ولكن الثاني أقوى في التنزيه

* - وقال في الباب التاسع والأربعين ومائة كما لا يجتمع الدليل والمدلول كذلك لا تجتمع أنت وربك في حد ولا حقيقة فإنه الخالق وأنت المخلوق.

* - وقال الشيخ أيضا في باب الأسرار: اعلم أن كل من وقف مع الدليل حرم المدلول فإياك أن تقف مع الحق مع كونه دليلا على نفسه فإنك إن وقفت معه على هذ الحد حرمته لأن الدليل والمدلول لا يجتمعان قط في حد. وقال فيه أيضا: لا تقل وصلت فما ثم نهاية ولا تقل لم أصل فإن ذلك عماية ليس وراء اللّه مرمى وهناك يستوي البصير والأعمى.

* - وقال فيه أيضا لو كانت العلة في الأزل لكان المعلول لم يزل فإياك من ظهور الشبه في صور الأدلة فإنها مضلة فما عرفه تعالى سواه. وقال فيه أيضا: اعلم أن البراهين لا تخطىء فإنها قوية السلطان وإنما الخطأ راجع إلى المبرهن وإذا كان المدلول لا يعرف إلا بالدليل فليس، إلى العلم به تعالى سبيل فإن من علمت به معلوما وجهلته فما علمته لأنك ما علمت به. وقال فيه أيضا التنزيه ميل والتشبيه ميل والاعتدال هو ما بين هذين وذلك لا يصح ولا يوجد في العين.

* - وقال في " شرحه لترجمان الأشواق ": اعلم أن كل عقل له عقل مثله وليس للحق تعالى حق مثله فمن عرفه بعقله فما عرفه. وقال في باب الوصايا من "الفتوحات" إياك أن تدعي معرفة ذات خالقك فإنك في المرتبة الثانية من الوجود وأما في حال فنائك فما عرفه تعالى هناك إلا هو فجل معنى التوحيد عن الذوق انتهى.

(فإن قيل) فما سبب وقوع الحيرة في اللّه تعالى

(فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الخمسين من "الفتوحات" إن سبب ذلك طلب الخلق معرفة ذاته بأحد الطريقين إما بطريق الأدلة العقلية وإما بطريق المشاهدة فالدليل العقلي يمنع من المشاهدة والدليل السمعي قد أومأ إليها وما صرح وقد منع الدليل العقل من إدراك حقيقة ذاته تعالى من طريق الصفة الثبوتية التي هو عليها تعالى في ذاته فلم يدرك العقل بنظره إلا صفات السلوب وقد سمى القوم ذلك معرفة.

(فإن قلت) فإذن كلما زادت حيرة العبد ازداد علما باللّه تعالى لكون العقل عجز عن ضبط ما يدركه

(فالجواب) نعم ولذلك كانت حيرة أهل الكشف أعظم لإدراكهم التجليات مع الآيات فلا يستقر لهم في معرفته قدم يستقرون عليه وقد قال في باب الأسرار لا يعقل الحق تعالى قط إلّا إلها غير معقول ولا يمكن قط في العلم تجريده بالكلية عن العالم المربوب فإذا لم يعقل مجردا عن العالم لم تعقل ذاته ولم تشهد من حيث هي فأشبه العلم به العلم بالنفس والجامع عدم التجريد فكما لا يتخلص لك شهود العلاقة التي بين نفسك وبدنها فكذلك لا يتخلص لك معرفة العلاقة التي بين اللّه تعالى وبين العالم. قال:

وكل من قال بتجريد النفس عن هيكل ما تدبره فما عنده علم بالنفس ماهية لأنها لا تعقل نفسها قط إلا في مركب انتهى. وعبارة الشيخ في " شرح ترجمان الأشواق " اعلم أن اللطيفة الإنسانية لا توجد دنيا ولا أخرى إلا وهي مدبرة فمركب ولا تترك قط لحظة واحدة لمشاهدة بسيطها وهي عرية من مركبها من غير علاقة أبدا قال وهذ بخلاف ما يراه بعض المتصوفة وغيرهم ممن لا علم له بما الأمر عليه فعلم أنها لا تتصل أبد الآباد بالمنزه البسيط الأعلى لأن تدبيرها لمركبها وصف لازم فلا تتفرع لغيره انتهى.

* - وقال في باب الأسرار: قد تكون المعرفة بالشيء هي العجز عن المعرفة به فيعرف العارف أن هذا المطلوب لا يعرف وليس الغرض من المعرفة لشيء إلا أن يتميز عن غيره فقد ميز وتمييز من لا يعرف بكونه لا يعرف فحصل المقصود انتهى. وقال في كتاب " لواقح الأنوار "

من سلك إلى اللّه بالفكر لم يبرح من الكون فما عنده غيره. وقال في باب الأسرار: حقيق على الخلق أن لا يعبد كل واحد منهم ماهية الحق لجهلهم بها وإنم يعبدون ما يعتقدونه من صفات الحق دليلي في ذلك اللّه أكبر حتى عند تحوله يوم القيامة في الصور. وقال فيه أيضا: إذا لمح القلب شهود الحق تعالى فالحق حينئذ ضيف نازل يتعين القيام بواجب حقه لكن إكرامه على قدر مقام ذلك القلب لا على قدر النازل وعند العوام أن الكرامة تكون على قدر النازل لا المنزول عليه فلا يحجبنك حديث أنزلوا الناس منازلهم لأنا لو عاملنا الحق تعالى بهذه المعاملة لم يصح بينن وبينه قط مواصلة (فإن قلت) فإذن عظمة الحق تعالى إنما هي راجعة لما يقوم في قلب العبد من شدة التعظيم أو قلته وليست راجعة لذات الحق في نفسها لإدراك العبد الزيادة والنقص في علمه باللّه تعالى (فالجواب) هو كما تقول. فقد قال الشيخ في الباب الثاني والسبعين من "الفتوحات" اعلم أن العظمة الإلهية ليست راجعة لذات الحق تعالى وإنما هي راجعة إلى مقام العبد ومشاهدته إذ لو كانت العظمة صفة للذات الإلهية لكانت الذات مركبة من صفة ذاتية أو معنوية ومعلوم أن قيام صفات المعاني بذاته تعالى محال كما يستحيل أن تكون العظمة صفة نفسه وذلك من أجل ما ورد من إنكار بعض الخلق بعض التجليات في الآخرة مع كونه هو هو وإذا بطل الوجهان فلم يبق إلا أن تكون العظمة صفة للعبد ولذلك إذا خرج ملك متنكرا في غير هيئته المعروفة ومشى في شوارع مدينته لا يقوم له تعظيم في قلب أحد ولو أن العظمة كانت صفة له لعظمه كل من يراه في حال تنكره انتهى. وقال في هذا الباب أيضا:

احذر أن تقول إن الحق تعالى متصف بصفات خلقه كما تعطيه أخبار الصفات فإن ذلك سوء أدب فما في صفات خلقه من النقص من حيث الحدوث وإنما الأدب أن تضيف إليه تلك الصفات وتؤمن بها من غير تكييف ومن أولها أوردها فقد أخطأ طريق الصواب فإن في التأويل فوات كمال مقام الإيمان لا فوات أصل الإيمان إذ لولا اعتقاد المؤول صحة تلك الصفة في جانب الحق لما اشتغل بتأويلها انتهى.

وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: إياك أن تؤول أخبار الصفات فإن في ذلك دسيسة من الشيطان ليفوت المؤمن الإيمان بعين ما أنزل اللّه قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة: 285] وهذا المؤول ما آمن حقيقة إلا بما أوله بعقله ففاته

الإيمان بعين ما أنزل اللّه تعالى فليتأمل انتهى. (فإن قيل) فم أعلى معارف الأولياء وهل يدرك أحد كيف الحق إذا تجلى (فالجواب) كما قاله الشيخ. في الباب السادس والسبعين ومائتين أن أعلى المعارف للأولياء أن يعرف أحدهم التجليات الإلهية لقلوبهم من حيث ورودها فهو يعرف من تجلى ولماذا تجلى لا غير وأم كيف تجلّى فهو من خصائص الحق جل وعلا لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وذلك لأن الذات مجهولة في الأصل فعلم كيفية تجليها غير حاصل ولا مدرك لأحد من خلق اللّه تعالى

(فإن قلت) فمن هم أهل الإنكار في التجليات الأخروية

(فالجواب) هم ثلاثة أقسام كل قسم ينكر ما فوقه لأنه ماثم إلا أربعة أقسام إسلام وإيمان وإحسان وإيقان فإذا تجلى الحق تعالى لأهل مقام الإسلام أنكره الكفار جملة وإذا تجلى لأهل مقام الإيمان فربما أنكره بعض أهل الإسلام وإذا تجلى الحق تعالى لأهل مقام الإحسان فربما أنكره بعض أهل مقام الإيمان وإذا تجلى لأهل مقام الإيقان فربما أنكره بعض أهل مقام الإحسان.

وقدقال الشيخ في الباب الستين وأربعمائة: إن كل من لم يذق شيئا في هذه الدار أنكره في الآخرة فصاحب مقام الإيقان لا ينكره تعالى في تجل من التجليات كالأنبياء وكمل ورثتهم لأنهم جاوزو مقام الإسلام والإيمان والإحسان إلى مقام الإيقان فإن قيل هل في منع التجلي الذاتي في غير مظهرة خلاف بين المحققين فالجواب كما قاله الشيخ في الباب التاسع والسبعين ومائتين أنه لا خلاف في منع التجلي الذاتي في غير مظهره عندنا وعند أهل الحقائق ثم أنشد:

ولم يبد من شمس الوجود ونورها * على عالم الأرواح شيء سوى القرص

وليس تنال الذات في غير مظهر * ولو هلك الإنسان من شدة الحرص

ولا ريب في قول الذي قد بثثته * وما هو بالقول المموه بالخرص

(فإن قيل) فإذا قلتم بمنع وقوع التجلي الذاتي فبماذا تتعلق رؤيتن للحق تعالى ؟

(فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثاني والثمانين ومائتين إن الرؤية تتعلق بحجاب العظمة بيننا وبين الحق تعالى ويحمل على ذلك ما ورد من النصوص إذ لو رفع هذا الحجاب لعلمت ذات الحق تعالى وكل من زعم أنه علم ذات الحق من رؤيته له فلا بد أن ينكشف له جهله في

الدار الآخرة فيعلم يقينا أن الأمر على خلاف ما كان يعتقده في دار الدنيا وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون انتهى.

(فإن قيل) فهل التجلي في صور المعتقدات والمعقولات واقع أو هو ممنوع كالتجلي الذاتي (فالجواب) أنه واقع وذلك لأن صور المعتقدات والمعقولات إنما هي جسور يعبر عليها بالعلم أي يعلم أن وراء هذه المظاهر أمرا لا يصح أن يعلم ولا يشهد وليس وراء ذلك المعلوم الذي لا يشهد ولا يعلم حقيقة ما يعلم أصلا. انتهى كلام الشيخ في الباب التاسع والتسعين ومائتين

(فإن قلت) فإذن من خاض في الذات بفكره فهو عاص للّه ورسوله

(فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثاني والعشرين وثلاثمائة: نعم هو عاص للّه ورسوله وما أمر اللّه تعالى بالخوض في معرفة ذاته لا النافي ول المثبت وذاك لأن العبد إذا عجز عن معرفة كنه نفسه فعن معرفة كنه الحق تعالى من باب أولى بل لو سئل الخائض عن تحقيق معرفة ذات واحدة من العالم ما قدر ولو قيل له كيف تدبر نفسك بدنك وهل هي داخلة فيه أو خارجة عنه أو لا داخلة ولا خارجة وهل الزائد الذي يتحرك به هذا الجسم الحيواني ويسمع ويبصر ويتخيل ويفكر لماذا يرجع هل لواحد أو كثيرين وهل يرجع إلى جوهر أو عرض أو جسم ويطالبه بالأدلة العقلية فضلا عن الشرعية ما وجد لذلك دليلا عقليا أبدا ولا عرف أن للأرواح بقاء ووجودا بعد الموت أبدا انتهى.

(فإن قيل) فإذن عبادة الناس كلهم للّه تعالى إنما هي على الحسن والسماع إلا من شاء اللّه لعدم رؤيتهم له في هذه الدار

(فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثاني والعشرين وثلاثمائة إنه لا سبيل إلى عبادة الحق تعالى على الغيب المحض جملة فلا بد من تعلق العبادة بما هو مشهود أو كالمشهود كما أشار إليه خبرا " اعبد اللّه كأنك تراه " ويكفينا هذ التعلق من فضل اللّه وكرمه وإلا فلو آخذ اللّه أصحاب العقائد من طريق فكرهم لأهلكهم فإن كل صاحب عقل قد قيد أوصاف ربه في معرفته هو من طريق عقله ونظره وحضرة ربه في كذا دون كذا ولا ينبغي أن ينسب للّه تعالى إلا الإطلاق وقد عذر اللّه تعالى الخلق في هذا التقييد وعفا عنهم إذ قد بذلوا وسعهم في طريق معرفته ولولا أن الحق تعالى عند كل معتقد إسلامي لكان العبد يعبد عدما من حيث إن الحق تعالى إذا وجد محصورا عند عبد لزم أن يكون مفقودا عند العبد الآخر. فعلم أن من تعرض لمعرفة الذات بعقله فقد تعرض لأمر يعجز عنه. وبرهان ما قلناه اختلاف المقالات فيه تعالى من كل ناظر بعقله وعدم اختلاف المقالات

فيه تعالى من كل من جاء من عند اللّه ورسوله وولي ملهم. قال ولو أن العاقل فهم معنى قوله تعالى: وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] لعلم أن جميع ما أنتجه العقل من فكره بترتيب مقدمته في معرفة اللّه تعالى بمولود وقد نفى الحق تعالى عن نفسه كونه يولد فأين إيمان هذا العاقل وقد ولد الحق بعقله، فإن كان مؤمنا كان ذلك طعنا في إيمانه وإن لم يكن مؤمنا فيكفيه أنه ليس بمؤمن انتهى.

وكذلك قال في باب الأسرار: إنما نفى الحق تعالى كونه لم يولد ليشمل ما ولدته العقول في حقه تعالى من المعارف فإن ولادة العقول إنما هي عن نكاح سفاح بخلاف ولاة النصوص الشرعية انتهى. (فإن قلت) فعلى ما قررتموه لا يسلم لأحد من أهل النظر الفكري معرفته بل لا بد في طريق معرفته من حصول أوهام وخيالات

(فالجواب) نعم ذلك أمر لازم له وذلك أنه لا يشهد الحق إلا منعزلا عن العالم ببعد اقتضاه له تنزيهه فيحمل هذا نفسه في جانب والحق تعالى في جانب إذ لا حلول ولا اتحاد ولذلك ينادي ربه بالتائه المشعر بالبعد مع أنه ماثم بعد في نفس الأمر إلا بعد مرتبة سيادة من مرتبة عبودية لا غير ذكره الشيخ في الباب السبعين وثلاثمائة،

* - وقال في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة: اعلم أن الحق تعالى لا يدرك بالنظر الفكري أبدا وليس عندنا ذنب أكبر من ذنب الخائضين في ذات اللّه بفكرهم فإنهم قد أتوا بأقصى درجات الجهل ثم إنهم لما أعطاهم الفكر خلاف ما جاءت به الرسل احتاجوا إلى تأويل بعيد لينصروا جانب الفكر على إعلام اللّه تعالى عن نفسه من حيث لا يشعرون ولو أنهم لزموا الأدب ووقفوا على حد ما ورد من أخبار الصفات ووكلوا علم كيفية ذلك إلى اللّه تعالى ولم يتأولوا إلا أعطاهم اللّه الفهم في ذلك بإعلام آخر ينزله في قلوبهم فتكون المسألة منه وشرحها منه وكانوا يعرفون اللّه تعالى بإعلامهم لا بنظرهم انتهى.

(فإن قلت) فهل تزول الحيرة من أحد في جانب اللّه تعالى إذا بلغ مراتب الكمال (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثاني والخمسين وثلاثمائة أن الحيرة تزول من قلب العبد إذا تجلى الحق تعالى له في غير مادة وحينئذ يسكن قلبه من الاضطراب وتزول عنه الحيرة ويعلم عند ذلك من اللّه ما لم يكن يعلم قبل ذلك التجلي لكن لا يقدر أحد على تعيين ما قد تجلى له من الحق إلا كونه تجلى له في غير مادة لا غير (فإن قيل) فما سبب عجز العبد عن تعيين ما تجلى له من الحق (فالجواب) أن سبب ذلك

كون الحق تعالى ما تجلى قط لعبد بعين ما تجلى به لعبد آخر أبدا فلذلك كان لا يقدر عبد على تعيين ما تجلى فيه ولا على التعبير عنه ثم إن العارف إذا رجع من هذا المقام إلى عالم نفسه الذي هو عالم المواد صحبه تجلى الحق تعالى فما من حضرة فيدخلها من جميع الحضرات إلا ويرى الحق تعالى قد تحول بحكم تلك الحضرة لأن العارف قد ضبط منه أولا ما ضبط فلا يجهله بعد ذلك أبدا لأنه تعالى ما تجلى لقلب عبد في شيء من المعارف وانحجب عنه بعد ذلك وأطال الشيخ محيي الدين في ذلك. ثم قال: وفي هذه الحضرة يجمع العبد بين الضدين ولا يقدر على إمكان ذلك من نفسه واللّه تعالى أعلم. وقد قدمنا في هذا المبحث أن علم كيفية تجلي الحق من خصائص الحق لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب. ويؤيده قول الشيخ في الباب الثاني والثمانين وثلاثمائة أن للحق تعالى بنفسه علما ما هو عين ما حكم به العقل عليه ولا هو عين ما شاهده البصر وحكم به عليه ولا هو غير هذين الحاكمين انتهى.

* - وقال الشيخ عبد الجبار النفري في " المواقف ": أوقفني الحق تعالى وقال لي وعزتي وجلالي ما أنا عين ما عرفوه ولا عين ما جهلوه. وقال أيضا: أوقفني الحق تعالى وقال لي اعلم أن حجابي الجهل بي فهو دائما أمام حضرتي فلا معلوم لخلقي إل بجهلهم بي لعدم إحاطتهم بي. وقال أيضا: أوقفني الحق وقال لي اعلم أني لا أظهر لعبد إلا بعد أن يتفرغ من جميع علومه ومعارفه ويدخل حضرة الجبروت فإذا دخل فهناك يشهد المعرفة أصناما والعلوم أزلاما. وقال أيضا: قال لي الحق لي معرفة لا جهل فيها لا تقع وجهل لا معرفة فيه لا يبدو، وأنا أظهر من الظاهر وأخفى من الباطن وأقرب إلى كل شيء من نفسه وجميع ما أظهرته لعبادي من التعرفات لا يحتمل تعرفي الذي لا يبدو فإني لا أنا التعرف ولا أنا العلم ولا أنا كالتعرف ولا أنا كالعلم وليس القرب الذي عرفه عبادي هو القرب الذي أعرفه أنا فلا قربي عرفوا ولا بعدي عرفوا ول وصفي كما يليق بجلالي عرفوا فأنا قريب بعيد بلا مسافة وهم لا يعرفون قربي وبعدي. وقال فيها أيضا أوقفني الحق تعالى وقال لي إن أردت أن أتعرف لك فارم علمك بي من وراء ظهرك لا تدخل حضرتي بعلم ولا جهل وقف من وراء الكون واسأله عني تجد الكون جاهلا بي واسأل الجهل عني نجده جاهلا بي فإني أنا الظاهر لا كما ظهرت الظواهر وأن الباطن لا كما بطنت البواطن وشهود عبدي لي مع غيري لا يصح فإن أردت أن أتعرف لك فلا تجعل

الكون من فوقك ولا من تحتك ولا عن يمينك ولا عن شمالك ولا في علمك ول في وجدك ولا في ذكرك ولا في فكرك وانظر من قبل الكون فهناك مقامك فأقم فيه ناظر لي كيف أخلق الأمور. وقال فيها أيضا أوقفني الحق تعالى وقال لي إن أردت أن أتعرف لك فأخرج عن شهود الموصول والمفصول وعن العلم الذي ضده الجهل وعن الجهل الذي ضده العلم وعن المعرفة التي ضدها الفكر وأطال في ذلك. فإن قلت فما تقول فيمن أخذ معرفة الحق تعالى من خلف حجاب الحروف والألفاظ الواردة في الكتاب والسنة فهل يسمى عارفا. (فالجواب) كما قاله الشيخ في باب الوصايا من "الفتوحات" ليس هو عارف بل هو جاهل باللّه تعالى وليس له نفحة من نفحات الجود الإلهي.

* - قال وإيضاح ذلك أن من أخذ معرفة الحق تعالى من الحروف فهو يتردد من كون إلى كون بداية ونهاية. وقال الشيخ أيضا في " شرحه لترجمان الأشواق ": من عرف اللّه باللّه فقد عرفه ومن عرفه بالكون فقد عرف ما أعطاه ذلك الكون لا غير فما برح من جنسه. وقال الشيخ أيضا في " لواقح الأنوار ": اعلم أن من الناس من أوغل في تحرير الأدلة وغرق في التفتيش وكلما قام بباطنه أمر نفاه فكان غاية هذا أنه وقف بعد التعب مع قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] فهذا قد قطع عمره في التفكر فيمن لا يصح اقتناصه بالفكر وشغل المحل بما نهاه اللّه تعالى عنه ومن الناس من كان هذا بدايته فاستراح من أول قدم وفرغ المحل فبقي قابلا للمواهب والمعارف. وقال الشيخ في الباب الثالث والسبعين وأربعمائة: اعلم أن غاية أمر من خاض في الذات من القدماء والمتصوفة أنهم عصوا اللّه عز وجل بذلك واحتجوا بأمور وهي عليهم لا لهم ثم إنهم بعد استيفاء النظر أقروا بالعجز ولو أنهم لزموا الأدب مع اللّه تعالى لكان ذلك الإقرار وقع منهم في أول قدم لكنهم تعدوا حدود اللّه التي هي أعظم الحدود وجعلوا ذلك قربة إليه والحال أنهم في ذلك من أبعد ما يكون عن حضرته تعالى (فإن قيل) فما أعلى المحامد التي يثني بها العبد على اللّه تعالى (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب السابع والستين وأربعمائة: أعلى المحامد عند جميع المحققين عقلا وشرعا: قولنا هو تعالى كما أثنى على نفسه ليس كمثله شيء إذ لا يصح لعبد أن يثني على ربه عز وجل بما لا يعقله العبد وما بقي إلا أن يثني عليه العبد بما يعقله فقط ومعلوم أن الحق تعالى من وراء كل ثناء للعبد فيه ثبوت فكل

شيء علمته أو عقلته كان على صفتك ولا بد ومن هنا قالوا حقيقة التسبيح هي التسبيح عن التسبيح كقولهم التوبة هي التوبة من التوبة وإيضاح ذلك أن التسبيح تنزيه ولا نقص في حاجب الحق تعالى يتعقله العبد حتى ينزه خالقه عنه فافهم. وقال أيضا في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة: اعلم أن من فهم معنى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] لم يفكر قط في كنه ذات الحق أبدا وم رأيت أحدا ممن يدعي أنه من فحول العلماء من أصناف النظار إلا وقد تكلم في ذات اللّه تعالى بفكره زاعمين أنهم ينزهونه حتى وقع في ذلك أبو حامد الغزالي رحمه اللّه لكنه رجع عن ذلك قبيل موته.

* - قال الشيخ: وكان من فضل اللّه تعالى علي أن حفظني من التفكر في ذاته فلم أعرفه تعالى إلا من قوله وخبره وشهوده فبقي الفكر مني معطلا في هذه الحضرة فشكرني فكري على ذلك وقال الحمد للّه الذي عصمني بك عن التصرف والتعب فيما لا ينبغي لي أن أتصرف فيه وكان ذلك من مبايعة سابقة فإني كنت قد بايعت فكري أن لا يتعب في التفكر في ذات اللّه وأن يصرف تعبه في الاعتبار فبايعني على ذلك فللّه الحمد على صرفه عن الشغل الذي لم يخلق له واستعماله في الشغل الذي خلق له. انتهى وقال الشيخ أيضا في الباب الثالث والسبعين: اعلم أن أكثر الشريعة قد جاء على فهم العامة في صفات الحق رحمة بهم ولم يجيء على فهم الخواص إلا بعد تلويحات نحو قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) [الصافات: 180] لأن العزيز هو المنيع الذي لا يوصل إليه تفكر ولا عقل انتهى. (فإن قلت) فإذن لا سبيل للعبد إلى التنزيه الخالي عن التشبيه أبدا (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثاني والسبعين نعم لا سبيل لمخلوق إليه إلا برد العلم فيه إلى اللّه تعالى فقد صدق واللّه أبو سعيد الخراز حيث قال لا يعرف اللّه إلا اللّه انتهى. (فإن قلت) فإذا كان الحق تعالى لا يشبه خلقه في شيء مطلقا فما معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه خلق آدم على صورته (فالجواب) ما قاله الشيخ في الباب الحادي والستين وثلاثمائة: إن المراد هنا بالصورة أن اللّه تعالى جعل كلا من آدم وبنيه يأمر وينهي ويعزل ويولي ويؤاخذ ويسامح ويرحم ونحو ذلك لكونه خليفة في الأرض، إذ الصورة تطلق ويراد بها الشأن والحكم والأمر أي إن اللّه تعالى جعل آدم يفعل بأمره تعالى ما شاء اللّه له فهذ هو معنى الصورة ه.

وذكر الجلال السيوطي أن الحديث وارد على سبب وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى شخصا يلطم مملوكه على وجهه فقال لا تفعل هذا فإن اللّه خلق آدم على صورته فينبغي لك إكرام صورته ه. فهذا هو المراد بالصورة واللّه أعلم (فإن قلت) ما معنى حديث الطبراني " رأيت ربي في صورة شاب أمرد قطط له وفرة من شعر وفي رجليه نعلان من ذهب " الحديث (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين أن هذه الرؤية كانت في عالم الخيال ومن شأن الخيال أن يجسد ما ليس من شأنه التجسد من المعاني فيريك الإسلام قبة والعلم لبنا والقيد ثباتا في الدين ونحو ذلك فلا شيء في الكون أوسع من الخيال فإنه يحكم بحقيقته على كل شيء وعلى ما ليس بشيء ويصور العدم المحض والمحال والواجب والممكن ويجعل الوجود عدما والعدم وجودا قال ولهذا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لجابر " اعبد اللّه كأنك تراه " وقال " إن اللّه في قبلة أحدكم خطابا لمن هو في حضرة الخيال " وإنما خص وجود الحق بالقبلة فتحا لباب تخيله تعالى في القبلة ليراقبه العبد ويستحي منه ويستفهم من ربه الآية إذا ارتجت عليه فيعلمه الحق تعالى بها من باب الإلهام ويلزم الأدب في صلاته فلو لا أنه صلى اللّه عليه وسلم علم أن عند الإنسان حقيقة تسمى الخيال لها هذا الحكم ما قال اعبد اللّه كأنك تراه أي كأنك تراه ببصرك مع أن الدليل العقلي يمنع من كأن لأنه تخيل بدليله الشبيه. والبصر ما أدرك شيئا سوى الجدار وأطال في ذلك. ثم قال: فما خاطبك الشارع بما قلنا إلا لتتخيل أنك مواجه للحق في قبلتك وإن كان الحق تعالى لا يتحيز لأنك لا تعقل الحق إلا كذلك ما دمت محبوسا في دائرة عقلك فإذ أعطاك الحق تعالى القوة التي فوق طور العقل فحينئذ تشهد الحق تعالى من غير تحيز فقد علمت أن من شأن الخيال أن يصور من يستحيل عليه بالدليل العقلي الصورة والتصور انتهى.

 

* - وقال في الباب الثالث والسبعين إنما سمي العقل عقلا لأنه مأخوذ من العقال فلا قدم له في معرفة الحق تعالى في مرتبة الإطلاق انتهى.

* - وقال في الباب الثامن والستين: اعلم أن أدنى حجاب حجب به العبد عن رؤية الحق تعالى هو الصورة التي يقع في ذهن العبد تجلي الحق فيها فإنه تعالى ما هو تلك الصورة المتحيزة تعالى اللّه عن ذلك مع أن العبد لا يصح قط أن يرقى عن التجلي الصوري إلا إن خرج عن عالم المواد انتهى. (فإن قلت) فما حكمة منع المخلوقات من أن تعلم الحق من كل وجه (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثالث

والسبعين أن حكمة ذلك أن تمنع من علم سر القدر إذ لو صح للمعلومات أن تعلم الحق من كل وجه لعلمت سر القدر ولو علمت سر القدر لعلمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاشتغلت بالعلم بكل شيء وما احتاجت إلى الحق تعالى في شيء وذلك محال انتهى. (فإن قيل) قد أخبر اللّه تعالى بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد وإذا كان من بهذا القرب العظيم فكيف جهلناه (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الخامس والثمانين: أن شدة القرب حجاب كما أن شدة البعد حجاب وتأمل الهواء لما كان بلطافته ملاصقا للباصر كيف لم يدركه البصر وكذلك الماء إذا غطس فيه العبد وفتح عينيه فيه لا يراه لشدة قربه (فإن قلت: فإذا كان الحق تعالى منا بهذا القرب العظيم فأين السبعون ألف حجاب من النور والظلمة التي أخبرنا الشارع بأنها بينن وبين الحق تعالى (فالجواب) كما قاله الشيخ: إن هذه الحجب كناية عن شهود العبد بعده من حضرة الحق تعالى لما يعصي اللّه تعالى مثلا فهي راجعة إلى شهود العبد للحق والحق تعالى لا يحجب وإيضاح ذلك أن العبد المؤمن مشتمل على علم وجهل فالعلم يدرك حجب النور والجهل يدرك حجب الظلمة كل بما يناسبه فافهم. (فإن قلت) فهل يصح رفع حجاب العظمة الذي بين العبد وربه (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والخمسين ومائتين لا يصح رفع حجاب العظمة عن الحق تعالى أبدا الذي هو كناية عن عدم الإحاطة به تعالى فلا تقع عين عبد قط إلا على هذا الحجاب فإذن العبد رآه وما رآه.

 

* - وقال في الباب الحادي والخمسين ومائتين: فسبحان من لا يعلم إلا بأنه لا يعلم.

* - وقال في الباب السابع عشر وثلاثمائة: فسبحان الظاهر الذي لا يخفى وسبحان الخفي الذي لا يظهر وقد حجب تعالى الحق به عن معرفته وأعماهم عن رؤيته بشدة ظهوره فهم منكرون مقرون مترددون حائرون (فإن قلت) فعلى ما قررتموه فما معنى قوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين: إن المراد به أدعو إلى طريق اللّه تعالى الخاصة التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام على حذف مضاف ومن ادعى أنه يدعو إلى اللّه حقيقة من غير حذف مضاف قلنا له كيف عرفت من ليس كمثله شيء حتى تدعو الناس إليه فإنه لو كان مثله شيء لوقع التماثل وهو تعالى لا يماثل فليس مثله تعالى شيء وليس مثله لا شيء ومن هو كذلك لا يعرف فبطل دعواك

معرفته تعالى انتهى.

وقد قال بعض العارفين لشخص من مشايخ العصر: ممن اعتقدت القرب حتى دعوت الناس إليه. فإن قلت اعتقدت قربي من اللّه تعالى قلنا لك هذا تحديد الحق ومن حدد الحق فقد جهل والجاهل لا يكون داعيا وإن قلت إنما دعوت الناس إلى طريق سعادتهم قلنا لك سعادة السعداء من الخلق لم تزل قائمة بهم وما برحت معهم في حال دعائهم إليها وما دعت الأكابر قومها إلا امتثالا لأمر ربهم لا غير انتهى (فإن قلت) فإذ كان الحق تعالى لا تعقل ذاته فالجهات كلها متساوية في توجهنا له تعالى فلماذا شرع لنا استقبال الكعبة بالخصوص حال صلاتنا وغيرها (فالجواب) كما قاله الشيخ في " لواقح الأنوار " أن الحكمة في تخصيص الاستقبال بجهة الكعبة كوننا لا تجتمع قلوبن إلا إذا توجهنا إلى جهة واحدة لأن أحدنا ذو وجهة فلا يقبل أن يتعقل إلا ذا جهة ومن هنا قالوا كل ما خطر ببالك فاللّه تعالى بخلاف ذلك، وأوجبوا على العبد أن ينزه الحق تعالى عما ظهر له ويصرفه عن خاطره فافهم. فكان تخصيص توجهنا إلى الكعبة شفقة من الحق تعالى علينا ليجمع هممنا عليه سبحانه وتعالى وإلا فسائر الجهات في حقه تعالى سواء قال تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] قال واعلم أنه من أعجب الأمور أن العبد يعلم ويتحقق أن الحق تعالى ليس في جهة ثم مع ذلك يغلب وهمه على عقله فلا يشهد الحق تعالى إلا متعاليا في جهة الفوق وربم يستدل بعضهم بقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] وليس في الآية دليل صريح على ذلك لأن المراد يخافون ربهم أن ينزل عليهم عذابا من فوقهم يعني من السماء أو المراد فوقية الرتبة والمكانة لا المكان (وروى) الحكيم الترمذي مرفوعا إن اللّه احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار والملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه، قال: ومن هنا قال المحققون: إن علم العبد بأن اللّه تعالى يراه أكمل في التنزيه من شهود كون العبد كأنه يراه لأن العبد لا يشهده إلا مقيد غير مطلق وتعالى اللّه عن التقييد. قال الشيخ وليحذر المصلي حال استقباله الكعبة أن يرى نفسه مستقبلا في جهة معينة بل يرى الجهات كلها متساوية وهي وجه الحق تعالى عند المحققين ومن توهم أن نفسه قد أحاطت بها الجهات كصورته الظاهرة وبقي الحق في وهمه كالدائرة المحيطة به فهو لم يشم من معرفة اللّه تعالى رائحة ولو كان محقق لرأى نفسه لم تحط بها الجهات الست وذلك لأنها ليست من عالم

الحس فكما يرى نفسه في غير جهة كذلك يشهد الحق في غير جهة وأما ظاهر العبد فهو متوجه إلى جهة الكعبة فقط فعلم أن رؤية الحق في غير جهة بالباطن رؤية مطلقة غير مقيدة وأطال في ذلك. واعلم يا أخي أن مسألة القول بالجهة قد زل فيه خلق كثير حتى نقل القول بالجهة عن سيدي عبد القادر الجيلي وسيأتي بسط ذلك في المبحث السابع وفي مبحث الاستواء على العرش إن شاء اللّه تعالى .

* - وقال الشيخ في الباب التاسع عشر وثلاثمائة: اعلم أن الذات المقدس له الغنى على الاطلاق وكيف للمحدث أن يعرف القديم. وقال الشيخ في الباب الرابع والعشرين والثلثمائة في قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19] المراد بالذنب هنا ما يخطر ببال العبد من طلب معرفة ما هو الحق تعالى عليه من الحقيقة التي لا تعرف في الدارين والمراد بذنبه صلى اللّه عليه وسلم ذنب أمته فهو المخاطب والمراد به غيره هذا هو اللائق بمقامه صلى اللّه عليه وسلم.

* - وقال في الباب الستين وثلاثمائة ما حرم النظر بالفكر في ذات اللّه إلا لكون ذلك لا يؤدي صاحبه إلى معرفة الحقيقة كما يعرف ذلك كل ذي عقل سليم.

* - وقال في الباب السابع والستين وثلاثمائة ما سمى الحق تعالى نفسه بالباطن إلا لبطون العلم بالذات عن جميع الخلق دنيا وأخرى.

* - وقال في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة وإذا كانت ذات الحق تعالى غير معلومة فالحكم عليها بأمر دون آخر جهل عظيم.

 

* - وقال في الباب التاسع والستين وثلاثمائة: اعلم أن ذات الحق تعالى لا يعلمها أحد من خلق اللّه تعالى فهي وراء كل معلوم انتهى كلام الشيخ محيي الدين في جميع أبواب " الفتوحات المكية " وغيرها. فتأمل يا أخي فيه فإنك لا تكاد تجده في كتاب مجموعا هذا الجمع أبدا ومنه يعلم كل عاقل خارج عن الهوى والتعصب أن الشيخ رضي اللّه عنه بلغ في مقام التنزيه للّه تعالى ما لا يكاد يرى أحدا من الأولياء بلغه وأنه رضي اللّه عنه بريء من القول بالجسمية خلاف ما أشاعه عنه من لا يخشى اللّه عز وجل وقد صرح في عقيدته الصغرى بما معناه: اعلم أن الحق تعالى ليس بجوهر فيقدر له المكان ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء ولا بجسم فيكون له الجهة والتلقاء فهو منزه عن الجهات والأقطار انتهى.

* - وقال في باب الأسرار إنما ذهب جمهور المتكلمين إلى انعدام العرض لنفسه ليكون

الخالق خلّاقا على الدوام، وبالجملة فالحق تعالى مباين لخلقه في سائر المراتب وهو من وراء معلومات جميع الخلق والسلام فتدبر هذا المبحث واللّه يتولى هداك.

(خاتمة) كان الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني رحمه اللّه يقول: جميع ما قاله المتكلمون في التوحيد قد جمعه أهل الحق في كلمتين. الأولى اعتقاد أن كل ما تصور في الأوهام فاللّه بخلافه. الثانية اعتقاد أن ذاته تعالى ليست مشبهة بذات ولا معطلة عن الصفات وقد أكد ذلك تعالى بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص: 4] .

واعلم يا أخي أن الحق تعالى هو المنزه نفسه بنفسه. وقد قال الشيخ في الباب الثاني والسبعين ومائتين ما نصه: اعلم أن الحق تعالى إنما هو ينزّه عن صفات خلقه بتنزيه التوحيد إياه لا بتنزيه من نزهه من المخلوقين لأن تنزيه المخلوق مركب والمأمور بذلك مخلوق فلا يصدر عنه إلا ما يشاكله لكن لما تعبدنا الشارع بالتنزيه أقريناه في موضعه وقلناه كما أمرنا به على جهة القربة إليه مع اعتقادنا أنه ليس كمثله شيء فليس التنزيه الذي أمر به العبد هو عين التنزيه الذي نزه الحق تعالى به نفسه (فإن قلت) فما الفرق بين التنزيه والتقديس (فالجواب) كما قاله الشيخ في " لواقح الأنوار " أن الفرق بينهما هو أن التنزيه لا يكون إلا مع استشعار توهم نقص في جانب الحق تعالى وأما التقديس فلا يكون إلا في صفات الكمال والجمال مع عدم استشعار توهم وجود نقص هناك فعلم أن التقديس أكمل في حق العبد من التنزيه ولذلك قال الشيخ في باب الأسرار التسبيح تجريح فإن من لا يلحقه نقص لا ينزه لكن لما وقع استشعار نقص ما من بعض العبيد حين حملوا الحق تعالى على صفاتهم في بعض المواضع شرع للعبد أن ينزهه عن هذا الشعور وإن كان ذلك محالا عند المتأمل. وسمعت سيدي علي الخواص رحمه اللّه يقول: تسبيح العلماء باللّه تعالى إنما هو حكاية عن قول اللّه تعالى عن نفسه فيقولونه على سبيل التلاوة لسلامتهم من الوقوع في التوهم المشعر بنقص ما رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين وقد قدمنا نظير ذلك في مبحث التوحيد واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!