المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

كتاب الباء
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
سألني من تعز علي مسألته وتنجح لذي طلبته أن أقيد له كتابا بخط يدي بما وضعنا في
الحقائق الإلهية والدقائق الروحية ، ثم جرى منه أكرمه اللّه في أثناء المجلس كلام
قال أنه اختلس من نفسه ونودي في سره من عالم قدسه ، وقيل له في ذلك الخطاب المذكور
المكتشف بالنور أن الأشياء ظهرت بالباء والباء فيها أمر ما ، قال فتحيرت فإن كل
واحد لا يقدر على فك المعنى ، قال فلما قامت الحيرة والحضرة من عادتها الغيرة قيل
لي اضرب عشرة في عشرة ثم سد الحجاب وارتفع الخطاب ورجعت بهذه الزيادة إلى عالم
الشهادة ، فلما عرض علينا ما شوقه به في عالم مثاله وخوطب به في خزانة خياله ،
أردنا أن نضرب عن اعجام هذا الكلام ونلحقه بمرتبته المعينة له في عالم الإلهام ،
فقلت الحمد للّه باللّه فإنه أثبت لعيني وأبقى لكوني وفي بقائي ظهور سلطانه وشق
إحسانه ولولا باؤه ما ظهر أثر ولا التحم روح ببشر ، وصلّى اللّه على محمد أبي
الآباء المشغوف بالباء وعلى آله وسلّم تسليما كثيرا .
.....
ولما تحير المكاشف في هذا الأمر وما عرفه
وقال له في خطابه اضرب عشرة في عشرة فبالضرورة هي مائة فلماذا قصد إلى العشرة دون
غيرها من الأعداد
فاعلم أن العشرة في العشرة في الضرب وخروج كل منهما عقدا واحدا وهو مائة وهو في
المئين بمنزلة الواحد في الآحاد والعشرة في العشرات فصار الشبه بين الواحد والعشرة
والمائة واحد فإن الواحد رأس الآحاد والعشرة رأس العشرات والمائة رأس المئين فما
زالت من الوحدانية ولكنها العالم من الاثنين كما تقدم في الذاتين في حرف الميم
وإدغام النون فيها كما ذكرناه فصار عشرة في عشرة تبيانا لما قال له في الباء وتشديد
الميم وتحير فيه فكما تقول واحد في واحد فهما واحد وتضرب الواحد في الآخر فيظهر
واحد وهذا الواحد الخارج ليس بواحد خالص فإنه نتيجة لخلاف الواحد كذلك العشرة في
العشرة ظهرت منهما مائة واحدة . العشرة بيان للباء ثم أعلم أن قصده للعشرة بالضرب
في العشرة كأنه يقول اضرب في ذاتك ذات موجودك فإنك مخلوق على صورته ، وقامت صورة
الإنسان من عشرة فالذات الغيبية التي هذه صورتها عشرة ، فإذا ضربت ذاتك في ذاته من
طريق العشرة كانت مائة ، فإن كان الخارج في هذا الضرب في عالم الحس فهو أنت في هذه
المائة لا هو وهي درجات الجنة مائة درجة ، وإن كان الخارج في هذا الضرب في عالم
الغيب فهو الهو لأن هذه المائة وهي مراتب الأسماء التسعة وتسعون أسما ، والواحد
المائة الذي غيب عن الخلق في عالم الألفاظ فلكل اسم درجة من الجنة فالدرجات لك لأنك
الذي ترتقي فيها ، والأسماء له لأنها المؤثرة الناصبة لهذه الدرجات
فقد تبين لك لماذا قصدت العشرة والسبب الآخر وهو أن مراتب الأعداد أربعة :
المرتبة الأولى الآحاد ،
والمرتبة الثانية العشرات ،
والثالثة الميؤن ،
والرابعة الألوف وما تم خامسة أصلا ،
فالعشرة هي المرتبة الثانية من هذه المراتب والباء قد عرفت أنها اثنان لأنها بعد
الألف فلهذا لما تحيرت في الباء جعل لك بدلا منها العشرة فلكل واحد منهما أعني من
الباء والعشرة التي هي بدل منها حظ في الأولية بواحدة وحظ في التثنية بوجه فتضرب
فيها كيف شئت فإنه لا يحجر عليك وهنا قد تبين لك حقيقة ما خوطبت به فلنتكلم في كون
الأشياء المتعددة ظهرت من الباء دون غيرهما فإن في الباء دعوى من حيث نفي الرسم
فإنها لا تعطي الفناء مثل اللام ولهذا نقول باء الاستعانة كذلك التبعيض وكذلك
الالصاق وقد تنوب مناب الظرف وتكون زائدة فلها إخوة جمة كلها تعطي البقاء يدل على
المحجة تقول حمدت اللّه باللّه فأثبت نفسك حامدا غير أنك عجزت عن القيام بحمده حتى
استعنت به كما تقول كتبت بالقلم فأثبت نفسك كاتبا لكن استعنت على كتابتك بالقلم
ولذلك قال تعالى الذي علم بالقلم فعلم الخلق كلهم بالقلم وهو العدل والحق الذي قامت
به السماوات والأرض وهو الفعل الأول وهو الحقيقة المحمدية وهو الباء فكما تقول
بالحق ظهرت الأشياء كذلك تقول بالباء ظهرت الأشياء لأن الباء اسم لهذه الحقيقة
المعقولة ،
كما أن أسمائها ما ذكرناه وهو العلم والحق والعدل والعقل فهذه كلها أسماء لهذه
الحقيقة التي اسمها الباء وأحسن أسمائها الباء من طريق ظهور الأشياء بها والآن
الباء تعطي الالصاق تقول مررت بالمسجد أي ألصقت المرور به ،
إنما ظهرت الأشياء بالباء فإنه واحد ولا يصدر عنه إلّا واحد وهو الصحيح ،
....
فانظر ما أودع اللّه فيها من الأسرار والباء حرف شريف ذكرنا مراتبه وبسائطه وأصل
نشأته وحركته وسببه ومزاجه وما يعطي من الأمور وإتصالاته بالحروف على اختلافها في
الفتوحات المكية في الباب الثاني فلتنظر هناك
وهو حرف سعيد يعطي المواصلة والمؤانسة والجود وهو نافذ الروحانية وله من المنازل
البطين
فانظر كيف جاءت الباء في أول اسم هذه المنزلة ويعطي من الأمور ما تعطي هذه المنزلة
فانظر يا أخي فيما ذكرناه في هذا الجواب على ضيق الوقت وكثرة الاشغال بغير هذا من
الأسرار
واللّه يفتح قفل هذه الأبواب والفصول الذي أودعتها في هذا الجواب والسلام الطيب
المبارك عليكم ورحمة اللّه وبركاته.