موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثالث: في وجوب معرفة اللّه تعالى على كل عبد بقدر وسعه

* - قال تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] قال ابن عباس إلا ليعرفوني فكما تعلقت الرؤية به تعالى فكان مرئيا كذلك تعلقت به المعرفة فكان معروفا لكن ربما يكون معرفة بعض الناس باللّه تعالى جهلا بالنسبة لمن هو أعلى منه درجة فلا يصح العلم باللّه تعالى من كل وجه ولا الجهل به من كل وجه ولا يخرج الإنسان عن الجهل بالحق إلا إن عرف الحق تعالى كما يعلم الحق نفسه من غير نقص وذلك محال وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: من ادعى مقام المعرفة وهو يجرح عقائد أحد من أهل الفرق الإسلامية من كل وجه فهو كاذب، فإن من شرط العارف باللّه تعالى دخول الحضرة الإلهية وإذا دخله رأى عقائد جميع المسلمين شارعة إليها ومتصلة بها كاتصال الأصابع بالكف فأقر عقائد جميع المسلمين بحق وكشف ومشاهدة ولو من بعض الوجوه وإنما منع الأشياخ المريد من الاجتماع بغيرهم من الأشياخ ليختصروا له الطريق فإن حكم طريق كل شيخ كالإصبع المتصلة بالكف فإذا سلك الإنسان مقدار عقدة ثم انتقل إلى شيء آخر فسلك على يديه مقدار عقدة ثم انتقل إلى آخر فسلك على يديه مقدار عقدة فقد أوقف نفسه عن السير ولو أنه جعل سلوك تلك العقد كلها على يد شيخ واحد لكان دخل حضرة الكف فإن كل أصبع ثلاث عقد فنفذ عمر هذا وهو في أول عقدة من سائر الطرق فهذا سبب منع الأشياخ مريدهم أن يشرك معهم في السلوك غيرهم انتهى.

ثم اعلم أن المعرفة عند أئمة الأصول هي العلم باللّه تعالى وصفاته الذاتية والمعنوية فهذا هو المطلوب من معرفة الصانع جل وعلا إذ الذات مجهولة من حيث الإحاطة بها (فإن قيل) فما الحق المطلق والصدق المحض. فالجواب أن الحق المطلق هو اللّه والصدق المحض هو معرفته تعالى والإقرار بوحدانيته. فإن قيل: فم الدليل على كون معرفته الحق تعالى واجبة ؟

(فالجواب) أن دليل ذلك كون المعرفة من الأمور التي تصل العقول إليه فإن الإنسان إذا دهاه أمر وضاقت به المسالك فلا بد أن يستند إلى إله يتأله إليه ويتضرع نحوه ويلجأ إليه في كشف بلواه ويسمو قلبه صعودا إلى السماء ويشخص ناظره إليها من حيث كونها قبلة دعاء الخلائق أجمعين فيستغيث بخالقه وبارئه طبعا أو جبلة لا تكلفا وحيلة ومثل ذلك قد يوجد في الوحوش والبهائم أيضا فإنها ظاهرة الخوف والرجاء رافعة رؤوسها إلى السماء عند فقدان الكلأ والماء وإحساسها بالهلاك والفناء. وكذلك شاهدنا الأطفال عند البلوى يرفعون مسبحتهم نحو السماء هذا كله مركوز في جبلة الحيوانات فضلا عن الإنسان العاقل وهي الفطرة المذكورة في القرآن والحديث ولكن أكثر الناس قد ذهلوا عن ذلك في حالة السراء وإنما يردون إليه في الضراء قال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 67] (وحكي) أن رجلا أنكر الصانع عند جعفر الصادق ففتح له باب الاستدلال فلم يصغ إليه فقال هل ركبت السفينة قط ؟

* - قال نعم انكسرت بنامرة فطلعت على لوح إلى الساحل فانفلت مني اللوح حين طلعت إلى الساحل فقال له جعفر: لما ذهب عنك اللوح كنت ترجو السلامة ممن حين ذهب اعتمادك على الأسباب فسكت الرجل فقال له جعفر: الذي رجوع السلامة منه هو اللّه الذي خلقك فأسلم الرجل (فإن قيل) قوله صلى اللّه عليه وسلم عليكم بدين العجائز فيه نهي عن الاستدلال العقلي أم لا ؟

(فالجواب) ليس في ذلك نهي عن الاستدلال العقلي وإنما هو تنبيه على استصحاب تلك الحالة التي غفل عنها أصحاب السلامة من الأحداث والشبان. ونقل الشيخ أبو طاهر القزويني أنه رأى

في كتاب " ديانات العرب " أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعمران بن حصين: كم لك من إله ؟ قال: عشرة، قال فمن لغمك وكربك والأمر العظيم إذا نزل بك ودهاك فقال اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم فمالك يا ابن حصين من إله إل اللّه فأسلم. ومن هذا القبيل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] وقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَن قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر: 84] وأيضا فإن عامة الناس في جميع أقطار الأرض دعت أنفسهم إلى الاعتراف بأن لهم خالقا من غير معلم ولا ثبات حجة عندهم ولا اصطلاح وقع بين كافتهم من الأتراك والأكراد وأهل البوادي وأقاصي الهند والصين وأهل الجزائر الذين لم يبلغهم داع إلى الإسلام ولا إلى الشرك فإنهم استغنوا بشهادة أنفسهم على الأعم الأغلب بالخالق لكثرة ما وجدوا من استجابة دعائهم بدعوتهم ودرك المساعي ومفاجأة الفرج في حوادث عظام دهمتهم بعد القنوط من السلامة وربما جربوه من الرؤيا الصادقة والفأل والزجر وبتخلصهم من أيدي الأعداء في مواضع لا ناصر لهم من الخلق فيها وبحدوث نوادر وعجائب شاهدوها في الآفاق وفي أنفسهم فكانت نفوسهم شهدت بالإله الحق جل جلاله وذلك قوله تعالى قالَتْ رُسُلُهُمْ فِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] ورأى أعرابي مرة ثعلبا بال على صنم كان يعبده فقال:

أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب

برئت من الأصنام والشرك كله * وأيقنت أن اللّه لا شك غالب

وهذا كله قريب من الضروريات ولذلك قال بعضهم: المعرفة ضرورة فالناس كلهم يشيرون إلى الصانع جل وعلا وإن اختلفت طرائقهم وعللهم ولا يجهلون سوى كنه الذات ولذلك لم يأت الأنبياء والرسل ليعلمونا بوجود الصانع وإنما أتونا ليدعون إلى التوحيد قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] والخلق إنما أشركوا بعد الاعتراف بالموجود لما اعتقدوه من الشركاء للّه تعالى أو لنفي واجب من صفاته أو لإثبات مستحيل منها أو لإنكارهم النبوات. ولما فتح السلطان محمود بن سبكتكين رحمه اللّه بلاد شومنات الهند أتي إليه براهب قد طعن في السن وكان يهمهم ويزمزم بكلمات فسأل السلطان الترجمان عما يقول فذكر أنه يقول اللّه اللّه فقال للترجمان قل له وأنتم تعرفون اللّه تعالى فتكلم بالهندية شيئا فقال الترجمان يقول الخطوط المستقيمة من المحيط إلى المركز متساوية وهذا مثاله على الهامش فعلم أن الأنبياء لو جاءونا ليعلمونا بوجود الصانع ما قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا اللّه وإنما كان يقول فاعلم أن لك إلها وكذلك القول في قوله تعالى وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [إبراهيم:

52] (فإن قيل) فلأي شيء سلك أهل الأصول طريق الاستدلال على هذا (فالجواب) إنما سلكوا ذلك قطعا للأطماع التي تشرئب إلى ذلك كالاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح ونحو ذلك وإلا فهم يعلمون أن ما شهدت به الفطرة أقرب إلى الخلق وأسرع تعقلا لأن الممكن الخارج والحادث الدال على محدث موقوفان على النظر الصحيح وتلك داعية ضرورية من الناظر قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذ دَعاهُ [النمل: 62] . أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل: 64] .

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً [النمل: 61] إلى غيرها من الآيات التي كلها استفهامات تقرير كأنه تعالى يقرر على عباده شيئا فطرهم على ذلك الشيء ومثله قوله تعالى: لَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وقوله: فِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] ولهذا ورد مرفوعا أن اللّه تعالى خلق العباد على معرفته فاختالهم الشيطان عنها فما بعثت الرسل إلا للتذكير بتوحيد الفطرة وتطهيره عن تسويلات الشيطان بالاستدلالات النظرية والدلائل العقلية وبها توجهت التكاليف على العقلاء وكان إمام الحرمين رحمه اللّه: يقول إذا سئل عن معرفة الذات: هذ أمر تاهت فيه العقول وإنما يعلم بالدليل وجوده تعالى وما يجوز عليه وما يجب له وم يستحيل عليه بلا تحييث ولا تمييز وليس إلا وجهه العزيز فإن الركون إلى معتقد محصل بمثل والعدول عن الاستدلال بالصنع تعطيل وليس إلى درك حقيقة الحق تعالى سبيل انتهى. قال الإمام أبو طاهر القزويني رحمه اللّه: فقول الإمام بلا تحييث إشارة إلى نفي المكان فلا يقال أنه تعالى حيث العرش ولا حيث الكرسي وقوله ولا تمييز أي لأن التمييز إنما يكون بين الجنسين أحدهما يمتاز عن الآخر بوصف وذات اللّه تعالى لا جنس لها فلا تتمايز بشيء عن جنسها وإنما يتمايز الأشياء عنه تعالى بالحدوث. ومعنى قوله معتقد محصل أي محاط به ينتهي الفكر إليه بالإحاطة وفي الحديث مرفوعا " كلكم في ذات اللّه حمقى " واللّه تعالى أعلم. وذكر الأنصاري في نكث الأدلة أن القاضي أبا بكر الباقلاني أثبت للّه تعالى أخص وصف لا سبيل لأحد من الخلق إلى إدراكه ثم قال: وقد أشار أبو إسحاق الأسفرايني إلى هذا المعنى. وقال إمام الحرمين: للعقل مزية فلا يبعد أن يكرم اللّه بعض العقلاء بمزية يدرك بها حقائق الذات إذ قال تعالى:

عِلْماً [طه: 114] انتهى. ولعله يعني المزية كمال قوة وثائق في النظر قال صلى اللّه عليه وسلم " أنا أعلمكم باللّه تعالى وأخشاكم منه " وسيأتي في المباحث الآتية ما يعلم به يقينا عجز الخلق كلهم عن إدراك الذات وما كلف اللّه العبد إلا بتلاوة التوحيد على لسانه بقوله لا إله إلا اللّه وبه عرف الإمام مالك وغيره التوحيد فاعلم ذلك فهذه مقالات المتكلمين. وأما مقالات الصوفية فهي واسعة جدا ولكن نذكر منها بعض نكت لأن المعرفة المطلوبة عند القوم لا تكون إلا بالسلوك على يد شيخ عارف باللّه تعالى فنقول وباللّه التوفيق ذكر الشيخ محيي الدين في الباب السابع والسبعين ومائة ما نصه: اعلم أنه لا يصح وصف أحد بالعلم والمعرفة إلا إن كان يعرف الأشياء بذاته من غير أمر آخر زائد على ذاته وليس ذلك إلا اللّه وحده وكل ما سواه فعلمه بالأشياء إنما هو تقليد لأمر زائد على ذاته وإذا ثبت ذلك فليقلد العبد ربه سبحانه وتعالى في العلم به وإيضاح ما قلناه من أن العبد لا يعلم شيئا إلا بأمر زائد على ذاته أن الإنسان لا يعلم شيئا إلا بقوة من قواه التي أعطاها اللّه تعالى له وهي الحواس والعقل فالإنسان لا بد أن يقلد حسه فيما يعطيه وقد يغلط وقد يوافق الأمر على ما هو عليه في نفسه أو يقلد عقله فيما يعطيه من ضرورة أو نظر والعقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالأمور بالانفاق فم ثم إلا تقليد وإذا كان الأمر على ما قلناه فيجب على العاقل إذا طلب معرفة اللّه تعالى أن يقلده فيما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله ولا يقلد ما تعطيه قواه وليسع بكثرة الطاعات حتى يكون الحق تعالى سمعه وبصره وجميع قواه كما ورد وهناك يعرف الأمور كلها باللّه ويعرف اللّه باللّه فلا يدخل عليه بعد ذلك جهل ولا شبهة ولا شك ولا ريب. فقد نبهتك يا أخي على أمر ما طرق سمعك أبدا فإن العقلاء من أهل النظر يتخيلون أنهم صاروا علماء باللّه تعالى بما أعطاهم النظر والحس والعقل وهم في مقام التقليد لقوتهم وما من قوة إلا ولها غلط قد علموه ومع هذا قد غالطوا أنفسهم وفرقو بين ما يغلط فيه الحس والفكر والعقل وبين ما لا يغلط فيه وما يدريهم لعل الذي جعلوه غلطا يكون صحيحا فلا يزيل هذا الداء العضال إلا أخذ العلم بكل معلوم عن اللّه عز وجل لا عن غيره وهو تعالى عالم بذاته لا بأمر زائد فلا بد أن يكون عالم بما يعلمه به سبحانه وتعالى لأنك قلدت من يعلم ولا يجهل وليس بمقلد في علمه سبحانه وتعالى وكل من قلد غير معصوم دون اللّه تعالى فهو مقلد لمن يدخله الغلط وتكون إصابته بالاتفاق. فاشتغل يا أخي بما أمرك اللّه تعالى به وبالغ في فعل الطاعات حتى يكون الحق تعالى لجميع قواك فتكون على بصيرة من أمرك ولا تطلب معرفته الخاصة بدون ذلك فإنك لن تصل إلى معرفته ولو كنت على عبادة الثقلين وقد نصحتك فإن الحق تعالى قد أخبر عن نفسه بأمور تردها الأدلة العقلية والأفكار الصحيحة مع إقامة أدلتها على تصديق المخبر ولزوم الإيمان به فالكامل من قلد ربه ولم يقلد عقله في تأويل الصفات فإن العقل قد أجمع مع صاحبه على التقليد بصحة هذا القول أنه من عند اللّه فما للعبد منازع منه يقدح فيما عنده. واصرف يا أخي علم حقيقة الصفات إلى اللّه تعالى واعمل بالقربات الشرعية حتى يعطيك اللّه تعالى من علمه وحينئذ تكون عارفا به فهذه هي المعرفة المطلوبة والعلم الصحيح الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه انتهى.

فإن قلت فما معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الثابت كشفا " من عرف نفسه عرف ربه " (فالجواب) كما قاله الشيخ محيي الدين في الباب السابع والسبعين ومائة: أن المعنى من عرف نفسه بما وصفه الحق به مما وصف به نفسه من كونه له ذات وصفات وما أعطاه من علمه ومن استخلافه في الأرض يولي ويعزل ويعفو وينتقم ونحو ذلك ويحتمل أن يكون معناه أن يعرف نفسه بالافتقار في وجوده ويحتمل أن يكون المراد المعنيين معا لا بد من ذلك (فإن قلت) فلم زاد تعالى في قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] ذكر الآفاق ولم يكتف بأنفسهم عن ذكر الآفاق (فالجواب) إنما زاد قوله في الآفاق تحذيرا للعبد أن يتخيل أنه بقي في الآفاق بقية علم باللّه لا تعطيه النفس فأحاله تعالى على الآفاق فلم لم يجد شيئا خارجا عما تعطيه النفس زال ذلك التخيل إذ النفس جامعة لحقائق العالم كله. فانظر يا أخي كثرة حرص النبي صلى اللّه عليه وسلم على أمته كيف اختصر الطريق إلى معرفة اللّه تعالى بقوله في الحديث الثابت كشفا من عرف نفسه عرف ربه ولم يذكر لهم الآفاق صلى اللّه عليه وسلم (فإن قلت) فما طريق السلامة من كثرة الجهل باللّه لمن ليس على بصيرة من أمره (فالجواب) طريق السلامة عدم التأويل وتسليم علم ذلك إلى اللّه تعالى (فإن قلت) فهل يصح لأحد أن يعرف اللّه تعالى من كل طريق للخلق إليها سبيل (فالجواب) نعم يصح له ذلك كما عليه الأكابر من أهل اللّه تعالى فيعرفون اللّه تعالى بكل طريق من طرق المعتقدات الإسلامية إذ ما من شيء إلا والحق تعالى هو ممهده بسره القائم أو بوجوده وصاحب هذا المشهد هو الذي يخاطب الحق تعالى من سره القائم بهياكل الخلق. وقد

نقل عن السيد سهل بن عبد اللّه أنه كان يقول لي منذ ثلاثين سنة أكلم اللّه والناس يظنون أني أكلمهم (فإن قلت) فهل يرتفع الخطأ المطلق عند هذا الكامل (فالجواب) نعم لأن علمه من علم اللّه فلا يخطئ لا في الأصول ولا في الفروع بخلاف ما علمه من طريق فكره ونظره فقد يخطئ فيه ذكره الشيخ محيي الدين رحمه اللّه. (فإن قلت) فهل التجلي الإلهي للقلوب دائم بوجود المعارف أم يكون بقلب دون قلب وفي وقت دون وقت (فالجواب) كما قاله الشيخ محيي الدين في الباب السابع والسبعين ومائة: أن التجلي الإلهي لجميع القلوب الإسلامية دائم لا حجاب عليه ولكن لا يعرف أنه هو فإن اللّه تعالى لما خلق العالم أسمعه كلامه في حال عدمه وهو قوله كن فكان مشهودا له سبحانه ولم يكن الحق تعالى مشهودا للعالم لأنه كان على أعين جميع الممكنات حجاب العدم فلذلك لم تدرك الوجود وهي معدومة كما تبصر الظلمة من النور ولا بقاء للنور مع وجود الظلمة أصلا وكذلك العدم والوجود فلما أمر الحق الممكنات بالتكوين لإمكانها واستعداد قبولها سارعت لترى ما تم لأن في قوتها الرؤية كما في قوتها السمع من حيث الثبوت لا من حيث الوجود فلما وجد الممكن انصبغ بالنور فزال العدم ثم فتح عينه فرأى الوجود الخير المحض فلم يعلم ما هو ولا علم أنه الذي أمره بالتكوين فأفاده التجلي علما بما رآه لا علما بأنه هو الذي أعطاه الوجود فلم انصبغ في النور التفت إلى اليسار فرأى العدم فتحققه فإذا هو ينبعث منه كالظل المنبعث في الشخص إذا قابله النور فقال: ما هذا ؟ قال له النور من الجانب الأيمن هذا هو أنت، فلو كنت أنت النور لما ظهر للظل عين فأنا النور وأنا مذهبه ونورك الذي أنت عليه إنما هو من حيث ما تواجهني من ذاتك وذلك لتعلم أنك لست أنا، فأنا النور بل ظل وأنت النور الممتزج لامكانك فإن نسبت إلى قبلتك وإن نسبت إلى العدم قبلك فأنت عين الوجود والعدم وأنت بين الخير والشر، فإن أعرضت عن ظلك فقد أعرضت عن إمكانك وإذا أعرضت عن إمكانك جهلتني ولم تعرفني فإنه لا دليل لك على أني إلهك وربك وموجدك إلا إمكانك وهو شهودك ظلك فلا تنظر إلى نظر نفسك عن ظلك فتدعي أنك أنا فتقع في الجهل ولا تنظر إلى ظلك نظرا يغنيك عني فإنه يورثك الصمم فتجهل ما خلقتك له فكن تارة وتارة وما خلقت لك عينين إلا لتشهد لي بالواحدة وتشهد ظلك بالأخرى وأطال في ذلك. ثم قال: واعلم أن من أجل علوم المعرفة باللّه تعالى العلم بالكمال والنقص في الوجود

كما يشهد لذلك حضرات الأسماء الإلهية من أسماء الحنان والامتنان وأسماء القهر والانتقام فلو لا العاصي ما ظهر كمال فضل الحق على عباده من حلمه وصفحه وعفوه وغير ذلك. فعلم أن من كمال الوجود وجود النقص النسبي فيه قال تعالى في كمال كل ما سوى اللّه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] فما نقصه شيئا أصلا حتى النقص أعطاه خلقه ووفاه إياه وقوله ثم هدى أي بين الأمور التي خرجت عن الكمال بلسان الأمر فتقرها على اسم النقص كما أقرها الحق تعالى فافهم (فإن قلت) فهل ظهرت النقائص في شيء غير الإنسان أم هي خاصة بالإنسان (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب السابع والسبعين ومائة أن النقص المعنوي لم يظهر في شيء من العالم كله إلا في الإنسان فقط وإن كان في الجن فهو معلوم غير ظاهر إلا للخواص وذلك لأن الإنسان مجموع حقائق العالم وهو المختصر الوجيز والعالم هو المطول البسيط، قال: واعلم أنه لما كان كمال الألوهية ظاهرا بالشرائع وأدلة العقول جاء الشرع بالتنزيه وغيره وجاء العقل بالتنزيه فقط فهو على النصف من معرفة اللّه عز وجل فلزم للعقل سلب أحكام كثيرة عن اللّه جاء بها الشرع إذ الشرع قد أخبر عن اللّه بثبوت ما سلب العقل عنه وجاء بالأمرين معا وهذا هو الكمال الذي يليق به سبحانه وتعالى فحير تعالى العقول ولو أنه تعالى لم يحيرها لكان تحت حكم ما خلق فإن القوى الحسية والخيالية بذواتها لترى موجدها والعقول تطلبه بذواتها وأدلتها من نفي وإثبات ووجوب وجواز وإحالة لتعلم موجدها فخاطب الحواس والخيال بتجريده الذي دلت عليه أدلة العقول والحواس تسمع فحارت الحواس والخيال وقالوا ما بأيدينا منه شيء وخاطب العقول بتشبيهه الذي دلت عليه الحواس والخيال والعقول تسمع فحارت العقول وقالت ما بأيدين شيء منه. فتعالى عن إدراك العقول والحواس والخيال وانفرد سبحانه بالحيرة في الكمال فما يعلمه سبحانه وتعالى سواه ولا شاهده غيره فلم يحيطوا به علما ولا رأو له عينا فآثار تشهد وجناب يقصد ورتبة تحمد والإله منزه ومشبهه يعبد فهذا هو الكمال الإلهي وبقي الإنسان متوسط الحال بين كمال الحيرة والحمد وهو كما العالم فبالإنسان كمل العالم وما كمل الإنسان بالعالم فافهم وبالجملة فقد قال الإمام المحاسبي مجموع المعرفة ترجع إلى العلم بأربعة أشياء اللّه والنفس والدنيا والشيطان.

* - وقال الشيخ محيي الدين: والذي نقول به إن المعرفة ليس لها طريق إل المعرفة بالنفس

انتهى. واللّه تعالى أعلم. وسيأتي في هذا الكتاب من مسائل المعرفة ما تقر به عينك إن شاء اللّه تعالى فإن غالب المباحث متعلقة باللّه عز وجل فاعلم ذلك واللّه تعالى أعلم.

(خاتمة): في بيان العارف باللّه تعالى وصفاته. ذكر الشيخ محيي الدين في الباب السابع والسبعين ومائة أن العارف عند طائفة الصوفية هو من أشعر قلبه الهيبة والسكينة وعدم العلاقة الصارفة عن شهود الحق تعالى وإذا ذكر اللّه واستولى عليه الذكر يغيب عن الأكوان يهابه كل ناظر هو مع اللّه بلا وصل ولا فعل كثير الحياء في قلبه التعظيم يقدم حق الحق تعالى على حظوظ نفسه: بطنه جائع، وبدنه عار لا يأسف قط على شيء لكونه لا يرى غير اللّه طيارا أمد الدهر تبكي عينه ويضحك قلبه هو كالأرض يطؤه البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شيء وكالمطر يسقي ما يجب وما لا يجب لا يقضي وطره قط من شيء وذلك ليدوم افتقاره إلى اللّه تعالى ذوقا شأنه الفقر والذل بين يدي اللّه يفتح له في فراشه كما يفتح له في صلاته وإن اختلفت الواردات بحسب المواطن وأطال في ذلك. ثم قال وأما صفة العارف عندنا وعند غيرنا من المحققين فهو أن يكون قائما بالحق في جمعيته، نافذ الهمة، مؤثرا في الوجود على الإطلاق من غير تقييد لكن على الميزان المعلوم عند أهل اللّه جهول النعت والصفة عند جميع العالم من بشر وجن وملك وحيوان لا يعرف مقامه فيحد ولا يفارق العادة فيتميز هو خامل الذكر مستور المقام عام الشفقة على خلق اللّه عارف بإرادة الحق تعالى قبل ظهور المراد فيريد بإرادة الحق لا ينازع ولا يقاوم ولا يقع في الوجود ما لا يريد، شديد في لين يعلم مكارم الأخلاق من سفسافها فينزلها منازلها مع أهله تنزيل حكيم يتبرأ ممن تبرأ اللّه منه يحسن إليه مع البراءة منه يشاهد لتسبيح المخلوقات كلها على تنوعات أذكارها لا يظهر إلا لعارف مثله وأطال في ذلك ثم قال وقد اختلف أصحابنا في مقام المعرفة ومقام العلم فقالت طائفة مقام المعرفة رباني ومقام العلم إلهي، قال وبه أقول ووافقني على ذلك المحققون كسهيل بن عبد اللّه التستري وأبي يزيد وابن العريف وأبي مدين وطائفة قالت مقام المعرفة إلهي ومقام العلم كذلك وبه أقول أيضا فإنهم إن أرادوا بالعلم ما أردناه بالمعرفة وأرادوا بالمعرفة ما أردناه بالعلم فالخلاف فيه لفظي وعهدتنا قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83] فسماهم عارفين وعلماء ثم ذكر قولهم فقال: يقولون ربن آمنا ولم يقل يقولون إلهنا آمنا ولا علمنا ولا شهدنا وقد علمت من جميع ما قررناه في هذا المبحث أن طريق المعرفة باللّه عند القوم إنما هو الكشف لا الظن المبني على الفكر وتأمل قوله تعالى:

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: 30] كأنه تعالى يقول ما حذرناكم من النظر في ذات اللّه إلا رحمة بكم وشفقة عليكم لما نعلم ما تعطيه القوة المفكرة للعقل من نفي ما أثبته على ألسنة رسلي من صفاتي فتردونها بأدلتكم العقلية فتحرمون الإيمان بها فتشقون شقاء الأبد ولذا اختلفت مقالات أهل النظر في اللّه وتكلم كل بما اقتضاه نظره فنفى واحد عين ما أثبته الآخر وما اجتمعوا على أمر واحد في اللّه من حيث النظر في ذاته وعصوا رسوله بما تكلموا به مما نهاهم اللّه عنه نهي شفقة ورحمة بهم فرغبوا عن رحمة اللّه وضل سعيهم فاثبت يا أخي على اعتقاد كل ما جاءتك به الشريعة تسلم فهمته أو لم تفهمه فإنه تعالى أعلم بنفسه وأصدق في قوله واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!