موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثالث والثلاثون: في بيان بداية النبوة والرسالة والفرق بينهما وبيان امتناع رسالة رسولين معا في عصر واحد وبيان أنه ليس كل رسول خليفة وغير ذلك من النفائس التي لا توجد في كتاب

اعلم يا أخي أنه قد ورد في « الصحيح » أول ما بدىء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصادقة الحديث.

(فإن قلت): ما حقيقة بدء الوحي ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الجواب الخامس والعشرين من الباب الثالث والسبعين من « الفتوحات »: أن المراد ببدء الوحي إنزال المعاني المجردة العقلية في القوالب الحسية المقيدة في حضرة الخيال سواء كان ذلك في نوم أو يقظة.

(فإن قلت): فإذن هو من مدركات الحس ؟

(فالجواب): نعم، هو من مدركات الحس وحضرة المحسوس كما في قوله تعالى:

فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم: 17]

* - قال الشيخ محيي الدين: وفي حضرة الخيال أدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، العلم في صورة اللبن، ولذا كان يؤول به رؤياه وهذا هو ما أبقاه اللّه تعالى على الأمة من أجزاء النبوة فإن مطلق النبوة لم يرتفع وإنما ارتفع نبوة التشريع فقط كما يؤيده حديث: من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه. فقد قامت بهذا النبوة بلا شك.

وقوله صلى اللّه عليه وسلم: « فلا نبي بعدي ولا رسول » المراد به لا مشرع بعدي.

(فإن قلت): فما الحكمة في كون الرؤيا الصادقة جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما حكمة هذا العدد ؟

(فالجواب): إنما خصت الأجزاء بهذا العدد لأن نبوته صلى اللّه عليه وسلم، كانت ثلاثا وعشرين سنة وكانت رؤياه الصادقة ستة أشهر ونسبة الستة أشهر إلى الثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءا فلا يلزم أن تكون هذه الأجزاء لنبوة كل نبي فقد يوحى إلى نبي أكثر من ذلك فتكون الأجزاء بحسب ذلك من خمسين وستين وأكثر واللّه أعلم.

(فإن قلت): هل مقام الولاية من لازم مقام النبوة أو هو وصف آخر لا يكون للأنبياء.

(فالجواب): إن ولاية اللّه تعالى لعباده هي الفلك المحيط العام وهي الدائرة الكبرى.

وفي حكمها وحقيقتها أن اللّه تعالى يتولى من شاء من عباده برسالة أو نبوة أو إيمان ونحو ذلك من أحكام الولاية المطلقة وكل رسول لا بد أن يكون نبيا وكل نبي لا بد أن يكون وليا وكل ولي لا بد أن يكون مؤمنا.

(فإن قلت): فإلى أي وقت يستمر حكم الرسالة والنبوة ؟

(فالجواب): أما الرسالة فتستمر إلى دخول الناس الجنة أو النار وأم النبوة فإنها باقية الحكم في الآخرة لا يختص حكمها بالدنيا.

(فإن قلت): فما حقيقة الرسالة وهل هي حال أو مقام ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والخمسين ومائة، أن حقيقة الرسالة إبلاغ كلام اللّه من متكلم إلى سامع وهو حال لا مقام إذ لا بقاء له بعد انقضاء التبليغ فلا تزال الرسالة يتجدد حكمها كل حين وهو قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] فالإتيان به هو الرسالة وحدوث الذكر هو عند السامع المرسل إليه ولهذا ظهر علم الرسالة في صورة اللبن لأن المرسل هو اللبن انتهى.

* - وقال في الباب السابع والخمسين ومائة:

اعلم أن الرسالة نعت كوني متوسط بين مرسل ومرسل إليه والمرسل به قد يعبر عنه بالرسالة وقد تكون الرسالة حال الرسول لانقضائها بانقضاء التبليغ قال تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99] . فالرسالة هنا هي التي أرسل بها وبلغها، وهكذا وردت في القرآن حيثما وردت ولا يقبلها الرسول إل بواسطة روحي قدسي ينزل بالرسالة تارة على قلبه وتارة يتمثل له

الملك رجلا وكل روحي لا يكون بهذه الصفة لا يسمى رسالة بشرية، وإنم يسمى وحيا أو إلهاما أو وجودا أو لا تكون الرسالة إلا كما ذكرنا يعني بواسطة روحي قدسي.

(فإن قلت): فما الفرق بين النبي والرسول ؟

(فالجواب): الفرق بينهما هو أن النبي إذا ألقى إليه الروح شيئ اقتصر به ذلك النبي على نفسه خاصة ويحرم عليه أن يبلغ غيره، ثم إن قيل له: بلغ ما أنزل إليك إما لطائفة مخصوصة كسائر الأنبياء وإما عامة ولم يكن ذلك إلا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، سمي بهذا الوجه رسولا وإن لم يخص في نفسه بحكم لا يكون لمن بعث إليهم فهو رسول لا نبي وأعني بها نبوة التشريع التي لا تكون للأولياء. فعلم أن كل رسول لم يخص بشيء من الحكم في حق نفسه فهو رسول لا نبي وإن خص مع التبليغ بشيء في حق نفسه فهو رسول ونبي فما كل رسول نبي على ما قررناه، ولا كل نبي رسول بلا خلاف واللّه أعلم. هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والخمسين ومائة، فليتأمل. فإن قال: من بلغ شرعا لا نصيب له في العمل به يطلق عليه نبي أيضا من حيث إنه مخبر واللّه أعلم.

(فإن قلت): فهل كان الوحي للأنبياء الذين لم يرسلوا على لسان جبريل في اليقظة أم في المنام ؟

(فالجواب): لم أر في ذلك شيئا عن الأصوليين ولكن ذكر الشيخ عبد العزيز الديريني في كتابه المسمى " بالدرر الملتقطة " أن الأنبياء الذين لم يرسلو، كان الوحي إليهم في المنام على لسان جبريل انتهى. فلا أدري ما دليله في ذلك فليتأمل.

(فإن قلت): فكم تنقسم النبوة على قسم ؟

(فالجواب): تنقسم النبوة البشرية على قسمين.

(القسم الأول): من اللّه تعالى إلى غيره من غير روح ملكي بين اللّه تعالى وبين عبده بل إخبارات إلهية يجدها في نفسه من الغيب أو في تجليات، ول يتعلق بذلك الإخبار حكم تحليل ولا تحريم بل تعريف بمعاني الكتاب والسنة أو بصدق حكم مشروع ثابت أنه من عند اللّه تعالى أو تعريف بفساد حكم قد ثبت بالنقل صحته ونحو ذلك وكل ذلك تنبيه من اللّه تعالى وشاهد عدل من نفسه قال ولا سبيل لصاحب هذا المقام أن يكون على شرع يخصه يخالف شرع رسوله الذي أرسل إليه وأمرنا باتباعه أبدا.

(القسم الثاني): من النبوة البشرية وهو خاص بمن كان قبل بعثة نبين محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهم الذي يكونون كالتلامذة بين يدي الملك، فينزل عليهم الروح الأمين بشريعة من اللّه تعالى في حق نفوسهم بتعبدهم بها فيحل لهم ما شاء ويحرم عليهم ما شاء ولا يلزمهم اتباع الرسل وهذا المقام لم يبق له أثر بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم، إلا في الأئمة المجتهدين من أمته لكن لا يفارقونهم بوجوب اتباعهم الرسل فلهم أن يحلوا بالدليل ويحرموا به انتهى.

(فإن قلت): هل ثم أحد من البشر ينال في الدنيا علما من غير واسطة محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الأحد وتسعين وأربعمائة، ليس أحد ينال علما في الدنيا إلا وهو من باطنية محمد صلى اللّه عليه وسلم، سواء الأنبياء والعلماء المتقدمون على مبعثه والمتأخرون عنه، وأطال في ذلك كما تقدم بسطه في المبحث قبله.

(فإن قلت): فهل أطلع اللّه تعالى أحدا من الأولياء على عدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، أو حصل له الاجتماع بهم كلهم من طريق كشفه ؟

(فالجواب): نعم ذلك واقع لكل من حق له قدم الولاية الكبرى. وقد قال الشيخ محيي الدين في الباب التاسع والأربعين وثلاثمائة: اعلم أن عدد الأنبياء والمرسلين من بني آدم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا كما ورد في الحديث ولا بد من هذا العدد في الأولياء في كل عصر وقد يزيدون، قال الشيخ: وقد جمع اللّه تعالى بيني وبين جميع أنبيائه في واقعة صحيحة حتى لم يبق منهم أحد إلا وعرفته وكذلك جمعني على من هو على أقدامهم من الأولياء فرأيتهم وعرفتهم كلهم. وقال أيضا في الباب الثالث والستين وأربعمائة: رأيت في كشفي جميع الأنبياء والمرسلين وأممهم كما سيأتي مشاهدة على من كان منهم ومن يكون إلى يوم القيامة أظهرهم الحق تعالى في صعيد واحد. قال: وصاحبت منهم غير محمد صلى اللّه عليه وسلم، جماعة منهم: الخليل عليه الصلاة والسلام، قرأت عليه القرآن كله باستدعائه ذلك مني فكان يبكي عند كل موضع ذكره اللّه تعالى فيه من القرآن وحصل لي منه خشوع عظيم. وأما موسى عليه الصلاة والسلام، فأعطاني علم الكشف والإفصاح عن الأمور وعلم تقليب الليل والنهار. وأما هود عليه الصلاة والسلام، فأخبرني بمسألة كانت وقعت في الوجود وم علمتها إلا منه. وأما عيسى عليه الصلاة والسلام، فتبت على يديه أول دخولي في طريق القوم. قال ورأيت في هذه الواقعة أمورا علمت منها أنه لاحظ لي في الشقاء ومنها: أني رأيت نفسي في السعداء الذين على يمين آدم عليه الصلاة والسلام، فشكرت اللّه على ذلك. وقال أيضا في الباب الثالث والسبعين: ما اجتمعت بأحد من الأنبياء أكثر من عيسى عليه الصلاة والسلام، وكنت كلما اجتمعت به دعا لي بالثبات في الدين حيا وميتا وكان لا يفارقني حتى يدعو لي بذلك. وكان يقول لي: يا حبيبي، وأمرني أول اجتماعي عليه بالزهد والتجريد وكان من زهاد الرسل وأكثرهم سياحة وكان حافظ للأمانة لم يأخذه في اللّه لومة لائم ولذلك عادته اليهود انتهى. وقال أيضا في الباب الخامس والستين وثلاثمائة: قد شاهدت في واقعة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، وشاهدت جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأشهدني اللّه تعالى جميع المؤمنين بهم حتى ما بقي منهم أحد لا من كان ولا من يكون إلى يوم القيامة، وعرفت خاصهم وعامهم، وعرفت جميع السعداء الذين كانوا في ظهر آدم وعددهم فلا يخفى علي الآن منهم أحد من أهل الجنة ولا من أهل النار لكن لم يعطني اللّه تعالى معرفة عدد أهل النار لكثرتهم فلا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى ، وعرفت في هذ الكشف جميع مراتب الأنبياء والمرسلين وأتباعهم واطلعت على جميع ما كنت آمنت به مجملا مما هو في العالم العلوي والسفلي وشاهدت ذلك كله عيانا وما زحزحني ذلك الذي رأيته وشاهدته عن إيماني فلم أزل أقول وأفعل ما أقوله لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لي: قل كذا وافعل كذا لا لعلمي ولا لعيني ولا لشهودي فواخيت في شهودي بين الإيمان والعيان في آن واحد لئلا يفوتني ثواب الإيمان. قال: وهذا مقام ما وجدت له ذائقا إلى وقتي هذا وإن كنت أعلم أن في رجال اللّه تعالى من ناله لكني لم أجتمع به يقظة ومشافهة. قال: وسبب ذلك أني ما علقت خاطري قط من جانب الحق تعالى بشيء يطلعني عليه من الكون وإنما علقت خاطري مع اللّه تعالى أن يستعملني فيما يرضيه، ولو خالف ذلك هوى نفسي وأن لا يحجبني عنه بوقوع ما يباعدني عنه وعن شهوده فإني أن العبد المحض الذي لا أرى لي شفوفا على أحد من عباد اللّه تعالى ،

وأتمنى أن يكون العالم كله مطيعا على قدم المعرفة، قال: وإنما ذكرت لك ذلك من باب التحدث بالنعمة وفتحا لباب تنشيط الإخوان لطلب نيل مقامات الرجال انتهى.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر:

15] ؟

(فالجواب): أن الروح هنا هو الملقى من عند اللّه إلى قلوب عباده، ويكون أمر اللّه تعالى هو الذي ألقاه، لأن صورة ذلك الروح هو صورة قوله تعالى: ل إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:

2] ولو لم تكن صورته ذلك لكان يقول أن لا إله إلا هو فالوسائط مرتفعة في هذا المنزل لا وجود لها إذ كان عين الوحي المنزل هو عين الروح، والملقي هو اللّه لا غيره فليس الروح هنا عين الملك.

(فإن قلت): فهل الملائكة تعرف هذا الروح ؟

(فالجواب): لا تعرف الملائكة هذا الروح لأنه ليس من جنسها إذ هو روح غير مجهول، وليس نورانيا والملك روح في نور. قال الشيخ في الباب الثامن والثلاثين ومائتين: وهذا الرزق لنا ولسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأم تنزل الأرواح الملكية على قلوب العباد، فإنهم لا ينزلون إلا بأمر اللّه الرب، وليس معنى ذلك أن اللّه يأمرهم من حضرة الخطاب بالإنزال، وإنما يلقي إليهم ما لا يليق بمقامهم أن يعرفوه من ذواتهم في صورة من ينزلون عليه بذلك فيعرفون أن اللّه تبارك وتعالى قد أراد منهم الإنزال والنزول بما وجده في نفوسهم من الوحي الذي لا يليق بهم، فإنه من خصائص البشر، فإن البشر يشاهدون صورة المنزل عليهم في الصورة التي عندهم، فيعرفون من تلك الصورة من هو صاحبها في الأرض فينزلون عليه ويلقون إليه ما ألقى إليهم فيعبر عن ذلك الملقى بالشرع والوحي، فإن كان منسوبا إلى اللّه تعالى بحكم الصفة سمي قرآنا وفرقانا وتوراة وإنجيلا وزبورا وصحفا وإن كان منسوب إلى اللّه بحكم الفعل لا بحكم الصفة سمي حديثا وخبرا وسنة ورأيا. قال الشيخ: وقد ينزلون أيضا بالأمر الإلهي من حضرة الخطاب.

(فإن قلت): فما معنى قول الملكوَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَم

بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(64) [مريم: 64] ما معنى هذا النسيان ؟

(فالجواب): معناه ليس ربك نسيا فيما شاهده من قول جبريل لمحمد صلى اللّه عليه وسلم في حال كونها أعيانا ثابتة في علمه حال عدمها وخطاباتها فصح قوله نسيا لأنه حكاية أمر محقق في وجود محقق للّه لا يتصف بالحدوث ثم إن تلك الأعيان لما حدثت أخبرت بما كان منها قبل كونها مما شاهده الحق تعالى منها، ولم تشهده هي لعدم وجودها لنفسها، وقد روي عن الزهري أنه حدث مرة عن شخص من الثقات فقال حدثني فلان عني أني قلت كذا وكذا، وذلك أن الزهري لما قال حدثني فلان اتصل الإسناد، وإن كان هو لا يعلم هذا الحديث ذكره الشيخ في الباب السابع والثمانين، وسيأتي بسط الكلام على أحوال الملائكة في المبحث التاسع والثلاثين فراجعه واللّه أعلم.

(فإن قلت): هل النبوة مكتسبة كالولاية ؟ أي ولاية النبي في نفسه كم قيل ؟ أم هي موهوبة ؟

(فالجواب): الولاية في كل من النبي والولي مكتسبة وما خرج عن الكسب سوى النبوة، وإيضاح ذلك أن اللّه تعالى قد خلق الخلق على منازل بحسب ما سبق في علمه فجعل الملائكة ملائكة والرسل رسلا، والأنبياء أنبياء، والأولياء أولياء، والمؤمنين مؤمنين، والمنافقين منافقين، والكافرين كافرين كل ذلك مميز عنده سبحانه وتعالى لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، ولا يتبدل أحد بأحد فليس لمخلوق تعمل في مقام لم يخلق عليه، بل قد وقع الفراغ من ذلك فلا يجري أحد في مجراه، ولا يمشي أحد في مدرجة أحد. إذ لو سلك أحد في مدرجة أحد لكانت النبوة مكتسبة وحصلها من لم يكن نبيا، وذلك غير واقع انتهى.

* - وقال الشيخ أيضا في الباب التاسع عشر: لكل شخص من أهل اللّه تعالى سلم يخصه لا يرقي فيه غيره إذ لو رقي أحد في سلم أحد لكانت النبوة مكتسبة والأمر على خلاف ذلك.

(فإن قلت): فما شبهة قول من يقول إن النبوة مكتسبة ؟

(فالجواب): شبهته في ذلك كونه رأى الأنبياء قبل رسالتهم لا بد أن ينقطعوا أو يتعبدو

على نية قوة الاستعداد للوحي ليرجعوا إلى الحالة التي كانوا عليها حين قدر الحق تعالى المقادير، فلما نظر هؤلاء القوم إلى انقطاعهم وتعبدهم ثم حصول النبوة لهم ظنوا أن النبوة مكتسبة وهو وهم وقصور نظر.

(فإن قلت): فما شبهة منكري النبوات المعهودة ؟

(فالجواب): سبب إنكارهم ذلك توهمهم أن كل من صفى جوهرة نفسه من الكدورات الطبيعية والتزم مكارم الأخلاق العرفية صار نبيا من غير وحي إليه على لسان ملك قالوا فإنه إذا صفي قلبه انتقش في قلبه جميع ما في العالم العلوي من العلوم السماوية التي في اللوح المحفوظ وغيره بالقوة، فينطق بالغيوب فهناك يسمى نبيا عندهم ذكره الشيخ في الباب الخامس والستين وثلاثمائة. ثم قال: وليس الأمر عندنا وعند أهل اللّه تعالى كما قال هؤلاء، وإن جاز وقوع ما ذكروه من انتقاش العلوم الإلهية لأنه لم يبلغنا أن نبيا أو حكيما صفى جوهرة نفسه فأحاط علما بم يحتوي عليه حاله في كل نفس أبدا بل غايته أن يعلم بعضا، ويجهل بعضا، وأطال في رد أقوال منكري النبوّة فكذب واللّه، وافترى من زعم أن الشيخ فلسفي كما مر في مبحث حدوث العالم.

وقد قال أيضا في الباب الثامن والتسعين ومائتين من قال: إن النبوة مكتسبة أخطأ لأن النبوة اختصاص إلهي قطعا. قال: وشبهة قول من يقول إنها مكتسبة زعمه أنها ليست من اللّه تعالى ، وإنما هي من فيض العقل والأرواح العلوية انتهى.

* - وقال أيضا في الباب الرابع والثمانين: اعلم أن كل مأمور به فهو مقام مكتسب، ومن هنا قالوا: المقامات مكاسب والأحوال مواهب انتهى.

(فإن قلت): فهل كل رسول خليفة أم الخلافة لبعض الرسل دون بعض ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والأربعين: أنه ليس كل رسول خليفة إنما تكون الخلافة لمن نص اللّه تعالى على خلافته كداود عليه الصلاة والسلام فهو رسول وخليفة لأنه قال له احكم بين الناس بالحق وأما آدم عليه الصلاة والسلام فأجمل اللّه تعالى له الخلافة

وما قال له احكم.

(فإن قلت): فما الفرق بين الخلافة والرسالة ؟

(فالجواب): الفرق بين الخليفة والرسول أن الخليفة هو كل من جمعت فيه هذه الصفات فأمر ونهى وعاقب وعفا، وأمرنا اللّه تعالى بطاعته فهذا هو الخليفة، وأما الرسول فهو كل من بلغ أمر اللّه ونهيه ولم يكن له من نفسه أمر من اللّه أن يأمر وينهي في كل ما أراد فهذا رسول مبلغ رسالات ربه لا خليفة.

(قلت): ويصح أن يسمى الرسول الذي لم يصرح الحق له بقوله احكم خليفة أيضا، من حيث إنه نائب عن الحق في خطابنا بالتكاليف وغيرها واللّه أعلم. فعلم أن للخليفة أن يشرع كل ما أراد مما لم يأمره الحق به صريحا وليس ذلك للرسول قال اللّه تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] أي: أطيعوا اللّه فيما أمركم به على لسان محمد بقول محمد فيه إن اللّه يأمركم بكذاأَطِيعُوا اللَّهَ [النساء: 59] فيما لم يبلغه عن أمري ولا قال لكم إنه من عندي ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ [النساء: 59] ففصّل أمر اللّه الذي يطيعه فيه من طاعة رسوله، ولو كان يعني بذلك ما بلغه إلين عن أمر اللّه الذي أمرنا به لم يكن، ثم فائدة زائدة بطاعة رسوله فتعين أن يكون المراد بطاعتنا له صلى اللّه عليه وسلم أن نطيعه فيما أمر هو به ونهى عنه مما لم يقل هو إنه من عند اللّه، وسيأتي بسط ذلك في مبحث وجوب الإذعان والطاعة للرسل إن شاء اللّه تعالى .

(فإن قلت): هل يقدح في كمال عبودية الرسل بالنظر إلى مقامهم طلبهم الأجر على التبليغ كما أشاروا إليه بقولهمإِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود: 29] ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في باب أسرار الزكاة من "الفتوحات": لا يقدح في عبودية الرسل ذلك، وإنما قال نوح عليه الصلاة والسلام: إن أجري إل على اللّه ليعلمنا بأن كل عمل خالص يطلب الأجر بذاته وذلك لا يخرج العبد عن أوصاف عبوديته فإن العبد في صورة الأجير ما أنت أجير، إذ حقيقة الأجير من استؤجر وهو أجنبي عن عبودية المستأجر له، والسيد لا يستأجر عبده، وإنما العمل يقتضي الأجرة وهو لا يأخذها، وإنما يأخذها العامل وهو العبد فهو

قابض الأجرة من اللّه تعالى فأشبه الأجير في قبض الأجرة وفارقه بالاستئجار انتهى.

(فإن قلت): فهل الأفضل ترك الأجرة أو أخذها صدقة من اللّه تعالى ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الكلام على الأذان: أن مذهب المحققين أخذ الأجرة وأن ذلك أفضل من تركها لكن بشرط أن يكون مشهده الأخذ من اللّه لا من المخلوقين.

فللكمل طلب الأجرة وأخذها من باب المنة وإظهار الفاقة لا من باب الاستحقاق وذلك من أجل ما يؤكل ويتمتع به فعلم أن مقام الدعوة إلى اللّه تعالى يقتضي الأجرة وما من نبي دعا قومه إلى اللّه تعالى إلا قال لا أسألكم عليه أجر فأثبت الأجر على الدعاء، ولكن اختار أن يأخذه من اللّه تعالى .

(قلت): ويؤخذ من هذا أن للواعظ منا أو المدرس أو المفتي يعلم أن يأخذ أجرا على ذلك إذ هو من عمل يقتضي الأجر بشهادة كل رسول اللّه تعالى ، وله أيضا أن يترك الأخذ من الناس ويطلبه من اللّه تعالى اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هو أجر تفضل اللّه تعالى به على عبده لكون العبد لا يستحق على سيده أجرا من حيث إنه ملكه وعين ماله.

* - وقال الشيخ أيضا في الباب السادس عشر وثلاثمائة: اعلم أن استخدام الحق العبد على حالين للعبد: فتارة يعبده العبادة المحضة، وتارة يعبده عبادة إجارة فمن كونه عبدا هو مكلف بالصلاة والزكاة وجميع الفرائض ولا أجر له على هذا جملة واحدة من حيث أداء فرضه إنما له ما يمن به على عبده من النعم التي هي أفضل من الأجر لا على جهة الأجر ثم إنه تعالى ندب إلى عبادته في أمور ليست فرضا على العبد فعلى هذه الأعمال المندوبة فرضت الأجور فكل من تقرب بها إلى سيده أعطاه أجرته عليه وكل من لم يتقرب لم يطلبه بها ولا يعاقبه عليها. فمن هنا كان العبد حكمه حكم الأجير في الإجارة، فالفرض له الجزاء الذي يقابله من حيث إنه هو العهد الذي بين اللّه وبين عباده وأما النوافل فلها الأجور وهي قوله في الحديث القدسي: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. الحديث فإذن: أنتجت النافلة للعبد محبة الحق تعالى ، والنكتة في ذلك هو أن المتنفل عبد اختيار كالأجير، فإذا اختار الإنسان أن يكون عبد اللّه لا عبد هواه فقد آثر اللّه تعالى على هواه، وأما في الفرائض فهو عبد اضطرار لأن العبودية

أوجبت على العبد خدمة سيده فيما افترضه عليه فعلم أن بين الإنسان في عبوديته الاضطرارية وعبوديته الاختيارية كما بين الأجير، والعبد المملوك، فإن العبد الأصلي ماله على سيده استحقاق إلا ما لا بد منه فهو يأكل ويلبس من سيده ويقوم بواجبات أموره، ولا يزال في دار سيده ليلا ونهارا لا يبرح إلا إذا وجهه سيده في شغل فهو في شغله الدنياوي مع اللّه تعالى ، وكذلك هذا حاله يوم القيامة، وفي الجنة فإنها جميعها ملك لسيده فيتصرف فيها بإذن سيده كتصرف المالك والأجير ليس له لا ما عين له من الأجرة فقط، ومنها نفقته وكسوته وماله دخول على حرم سيده ومؤجره ولا له اطلاع على أسراره ولا تصرف في ملكه إلا بقدر ما استؤجر عليه، فإذ انقضت مدة إجارته وأخذ أجرته فارق مؤجره واشتغل بأهله وليس له من هذا الوجه حقيقة ولا نسبة أن يطلب من استأجره إلا أن يمن عليه رب المال بأن يبعث خلفه ويخاليه ويخلع عليه فذلك من باب المنة.

(فإن قلت): فهل يكون عبودية الاضطرار في الجنة كما هي في الدنيا ؟

(فالجواب): لا يكون في الآخرة عبودية اضطرار أبدا لعدم التحجير فإن تفطنت يا أخي لما نبهتك عليه علمت من أي مقام قالت الأنبياء إن أجري إلا على اللّه مع كونهم العبيد الخلص الذين لم يملكهم قط هوى نفوسهم ولا هوى أحد من خلق اللّه وذلك لأن طلب الأجر راجع إلى دخولهم تحت حكم الأسماء الإلهية فمن هناك وقعت الإجارة فهم في حال الاضطرار وهم في الحقيقة عبيد الذات وهم لها ملك والأسماء دائما تطلبهم لتظهر آثارها فيهم فكل اسم يناديهم ادخلوا تحت أمري وأنا أعطيكم كذ. فلهم الاختيار من هذا الوجه في الدخول تحت أي اسم شاؤوا فلا يزال أحدهم في خدمة ذلك الاسم حتى يناديه السيد من حيث عبودية الذات فيترك كل اسم إلهي ويقوم بدعوة سيده، فإذا فعل ما أمره به حينئذ رجع إلى أي اسم شاء ولهذا كان الإنسان يتنفل حتى يسمع إقامة صلاة الفريضة فيؤمر بترك كل نافلة ويبادر إلى أداء فرض سيده ومالكه، فإذا فرغ دخل في أي نافلة شاء.

(فإن قلت): فمن أي حضرة كان أجر الأنبياء على اللّه تعالى ؟

(فالجواب): هو من حضرة السيادة، فإنه هو الذي استخدمهم في التبليغ.

(فإن قلت): فهل يكون زيادة أجر النبي صلى اللّه عليه وسلم ونقصه بحسب النية والعزم أو بحسب التعب والراحة من جهة المدعوين ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السابع عشر وأربعمائة: إن أجر كل نبي يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة من المخالفين.

(فإن قلت): فكيف يصح طلب الأجر من اللّه مع كون الأجر ليس هو بمعلوم القدر عند الرسول أو الواعظ مثلا ؟

(فالجواب): إنما صح طلب ذلك من اللّه تعالى مع كونه مجهولا لعلم الرسول بأن اللّه تعالى يعلمه بخلاف طلب الأجر المجهول من الخلق لا يصح إلا بعد علمه وذلك لجهل الخلق بما يستحقه المدعى عليهم.

(فإن قلت): فهل للرسول أجر إذا رد قومه رسالته ولم يقبلوها منه ؟

(فالجواب): نعم للرسول أجر في ذلك لكن كما يؤجر المصاب فيمن يعز عليه فللرسول أجر بعدد من رد رسالته من أمته بلغوا من العدد ما بلغوا كما أن الذي يعمل بشرع محمد صلى اللّه عليه وسلم ويؤمن به له مثل أجر جميع من اتبع الرسل لاستجماع الشرائع كلها في شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم.

(فإن قلت): فما هو الغيب الذي يطلع اللّه تعالى عليه رسوله المشار إليه بقولهفَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26 - 27] هل هو ما غاب عنه من أحكام التكاليف الموحى بها إليه أم غير ذلك ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الأحد وعشرين وثلاثمائة: أن المراد بهذا الغيب المخصوص بمن كان رسولا هو علم التكاليف الذي غاب عن العباد، ولم تستقل عقولهم بإدراكه، ولهذا جعل له الملائكة رصدا حذرا من الشياطين أن تلقّى إلى الرسول ما يعمل به في نفسه من التكاليف الذي جعله اللّه طريقا إلى سعادة العباد من أمر ونهي ويؤيد ما قلناه من أن هذا الغيب هو علم الرسالة التي يبلغه الرسل عن اللّه تعالى قوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28] ، فأضاف الرسالة إلى قوله ربهم لما علموا أن الشياطين لم تلق

إليهم، أعني الرسل شيئا فيتيقنون أن تلك الرسالة من اللّه تعالى لا من غيره.

(فإن قلت): فهل ذلك القدر الذي يطلع اللّه تعالى عليه من ارتضاه من رسول هل هو بإعلام الملك أم هو بلا واسطة ملك ؟

(فالجواب): هو بلا واسطة ملك فإن الملائكة إذا لم يكن لها واسطة في الوحي تحف أنوارها بالرسول كالهالة حول القمر، وتكون الشياطين من ورائها لا يجدون سبيلا إلى هذا الرسول حتى يظهر اللّه تعالى ذلك الرسول على ما شاء من غيبه المتعلق بالتكاليف كما مر، قال الشيخ محيي الدين، وليس في " الفتوحات المكية " ولا غيره من كتبنا أصعب من تصور الغيب الذي انفرد به الحق ويسمى الغيب المحالي المشار إليه بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] ، وإنما كان محالا لأنه غيب برزخي بين عالم الشهادة وعالم الغيب لا يتخلص لأحد الجانبين، وكان هذا مما فضل الصديق عن غيره به وقليل من عثر عليه.

(فإن قلت): فما الحكمة في كونه صلى اللّه عليه وسلم كان يلحقه البرد إذا نزل عليه الوحي حتى يسجى بالكساء ؟

(فالجواب): الحكمة في ذلك أن الرسول إذا نزل عليه الوحي عرق من شدته للانضغاط الذي يحصل من التقاء روح الملك وروح الرسول، ثم إن الهواء الخارج مع الرطوبات من البدن يغمر المسام بقوته فلا يتخلل الهواء البارد من خارج، ثم إذ سرى عن ذلك النبي وانصرف الملك عنه، سكن المزاج وانتعشت الحرارة الغريزية، وإيضاح ذلك: أن الملك إذا ورد على رسول اللّه بأمر يتعلق بعلم خبري أو حكم يتلقى ذلك منه الروح الإنساني ويتلاقيان هذا بالإصغاء، وذلك بالإلقاء، وكل منهما نور فيحتد عند ذلك المزاج ويشتعل وتتحرك الحرارة الغريزية المزاجية حتى يتغير وجه الرسول من شدتها وهو المعبر عنه بالحال وهو أشد ما يكون، ثم إن تلك الرطوبات البدنية تصعد بخارات إلى سطح كرة البدن لاستيلاء الحرارة، ومنه يكون العرق الذي يطرأ على صاحب الحال، ثم إذا انتعشت تلك الحرارة وانفتحت المسام قبل الجسم الهواء البارد من الخارج فتخلل الجسم، وحصل البرد في المزاج فيطلب الغطاء

وزيادة الثياب ليسخن، وذلك لاستيلاء البرد والقشعريرة على الحرارة الغريزية وضعفها، ولا يخفى أن هذا كله خاص بما إذا كان التنزل على القلب بالصفة الروحانية واللّه أعلم.

(فإن قلت): فلم اختار الأنبياء النوم على ظهورهم دون جنبهم ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الحادي والثلاثين وثلاثمائة: أنهم إنما اضطجعوا على ظهورهم لعلمهم بأن كل ما قابل الوجه فهو أفق له ومعلوم أن الأفق نوعان: نوع أدون وهو الأرض، ونوع أعلى وهو السماء، فلذلك استلقوا على ظهورهم ليكون أفقهم أعلى وإيضاح ذلك كما في الباب الثالث والثلاثين: هو أن تعلم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني المدبر عن تدبيره بما يتلقاه من الوارد الإلهي من العلوم الإلهية فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض المعبر عنه بالاضطجاع، ولو كان على سرير، فإن السرير هو المانع له من وصوله إلى التراب فهذا سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي عليهم، ثم إن الروح إذا فرغ من ذلك التقى وصدر الوارد إلى حضرة ربه رجع الروح إلى تدبير جسده فأقامه من ضجعته، قال الشيخ: وما بلغنا عن نبي قط أنه تخبط واضطرب عند نزول الوحي أبدا واللّه أعلم.

(فإن قلت): فما ثم إذن في العباد أقوى من الأنبياء لتحملهم ثقل الوحي ؟

(فالجواب): نعم. ما ثم أقوى من الأنبياء فهم أقوى من الجبل، لتحملهم الوحي حين نزل إليهم ولم يحمل ذلك الجبل بل تصدع. قال الشيخ في الباب الثاني والأربعين وثلاثمائة:

ومما يؤيد قولنا: إن الأنبياء أقوى من الجبال قوتهم على سماع ما لا يليق بجناب اللّه من الكفار وغيرهم وعدم قوة الجبال لسماع ذلك قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً(91) [مريم: 90، 91] . وقد سمع الأنبياء قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] ولم يكادوا ينفطرون ولم يتزلزلوا بل ثبتوا وذلك لأنه تعالى تجلى للأنبياء، نحو حضرة قوله تعالى: لَوْ

أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] فعلموا من حضرة الإطلاق الإلهي ما لم تعلمه السماوات والأرض والجبال فأنتج لهم هذا العلم قوة في نفوسهم حملوا بها ما سمعوه في حق اللّه ولو أن ذلك نزل على من ليست له هذه القوة لذاب عظمه فانظر ما أكثف حجاب من اعتقد أن للّه ولدا وما أشد عماه عن رؤية الحقائق انتهى.

(فإن قلت): فهل كان قبل نوح عليه الصلاة والسلام رسل أم كانوا كلهم أنبياء فقط حتى آدم عليه الصلاة والسلام ؟

(فالجواب): لم يبلغنا في كتاب ولا سنة أنه كان قبل نوح رسل وإنم كانوا كلهم أنبياء فقط، كل نبي منهم على شريعة مخصوصة من ربه عز وجل ولكن كان كل من شاء من القوم دخل في شرع أحدهم معهم ومن شاء لم يدخل. فمن دخل ثم رجع كان كافرا ومن لم يدخل فليس بكافر كما أنه إذا أدخل نفسه ثم كذب الأنبياء كان كافرا، وأما من لم يكذب وبقي على البراءة فليس بكافر.

(قلت): لكن رأيت في مسند الإمام سندا مرفوعا كان آدم عليه الصلاة والسلام رسولا مكرما انتهى. فليتأمل مع ما قبله وما بعده.

(فإن قلت): قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيه نَذِيرٌ [فاطر: 24] هل هو نص في الرسالة ؟

(فالجواب): ليس هو بنص في الرسالة كما ذكره الشيخ في الباب الثالث عشر وثلاثمائة.

* - قال: وإنما هو نص في أن في كل أمة عالما باللّه تعالى وبأمور الآخرة وذلك هو النبي لا الرسول. إذ لو كان الرسول لقال إليها ولم يقل فيها فليس هو بنص في الرسالة قال: وهذا هو الذي نقول به فلم يكن فيهم رسل وإنما كان فيهم أنبياء عالمون باللّه تعالى فمن شاء وافقهم ودخل معهم في دينهم وتحت حكم شريعتهم ومن شاء لم يكلف ذلك وكان إدريس عليه الصلاة والسلام منهم فلم يجئ له نص في القرآن بالرسالة وإنما قيل فيه: صديقا نبيا فأول شخص افتتح اللّه به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام.

(فإن قلت): فهل كان عدم إجابة أكثر قوم نوح عليه الصلاة والسلام، لضعف عزمه أم لاتساع حاله وغلبة التسليم للّه تعالى عليه فلم يكن له همة تنفذ فيهم. فالجواب: ليس للهمة من الداعين أثر في المدعوين جملة واحدة. ومن قبل من رسول ما قبل فليس ذلك من علو همة الداعي وإنما ذلك من حيث ما وهب اللّه تعالى لخلقه من المزاج الذي اقتضى له قبول مثل ذلك ويسمى هذا المزاج الخاص الذي لا يعلمه إل اللّه تعالى وبه كان كفر أول من كفر ممن ليس له أبوان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما ورد، فعلم أنه لو كان تأثير الكلام في المدعو من همة الداعي فقط لأسلم كل من شافهه الرسول بالخطاب كائنا من كان لنفوذ همته وكان يقدح في كمال الرسل رد قومهم رسالتهم ولا قائل بذلك فسقط قول من يقول: لو كان الواعظ صادق مخلصا في وعظه لأثر وعظه في قلوب السامعين فإنه لا أصدق من الرسل ومع ذلك فلم يعم قولهم في السامعين قبولا بل قال نوح عليه الصلاة والسلام: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّ فِراراً(6) [نوح: 5، 6] فلما لم يعم القبول في السامعين لكلام الرسل مع تحققنا علو همتهم علمنا أن الهمة ما لها أثر جملة واحدة. وإنما ذلك من المزاج كم مر، ومن سمع قول واعظ فلم يؤثر فيه القبول فالعيب منه لا من الواعظ إذ صاحب العقل السليم يؤثر فيه الكلام الحق على يد أي من جاء به من الناس ولو من كافر باللّه إذ الوحي الذي جاء به المشرك حق على كل حال وإن لم يعمل به حامله فالعاقل يقبل ذلك من حيث كونه حقا لا من حيث المحل الذي ظهر به.

(فإن قلت): فما إيضاح ذلك ؟

(فالجواب): أن تنظر في حال المدعو فإن رأيته في حال سماعه يسمع من الواعظ كلاما ولم يؤثر فيه ثم إنه يسمع من واعظ آخر بعينه فيؤثر فيه. فاعلم أن ذلك التأثير لم يكن من حيث قبوله الحق وإنما هو من حيث وجود نسبة بينه وبين الواعظ الثاني من اعتقاد فيه أو نحو ذلك فما أثر في السامع سوى نفسه وفي القرآن العظيمإِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [البقرة: 272] أي: ليس عليك أن توفقهم لقبول ما أرسلتك به وأمرتك ببيانهوَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 272] وهو أعلم بالمهتدين. أي: الذين

قبلوا التوفيق على مزاج خاص فللهادي الذي هو اللّه تعالى الإبانة والتوفيق وليس للهادي من المخلوقين إلا الإبانة فقط ذكره الشيخ في الباب التاسع والسبعين وثلاثمائة.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] مع أن القرآن جاء على لغتهم فما السبب الداعي إلى احتياجهم إلى بيان الرسول صلى اللّه عليه وسلم ؟

(فالجواب): سبب ذلك أن كل كلام لا بد فيه من إجمال وما كل أحد يعرف المجمل فلذلك لم يكتف الحق تعالى بنزول الكتب الإلهية من غير بيان الرسل لما أجمل فيها ومعلوم أنه لا يفضل العبارة إلا العبارة فنابت الرسل مناب الحق تعالى في تفصيل ما أجمله في كتابه وناب المجتهدون مناب الرسل فيما أجملوه في كلامهم ولول أن حقيقة هذا الإجمال سارية في العالم ما شرحت الكتب ولا ترجمت من لسان إلى لسان ولا من حال إلى حال قال تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، وهو ما أنزل خاصة وأما ما فصله الرسول وأبان عنه فهو تفصيل ما نزل لا عين ما نزل فإن البيان وقع بعبارة أخرى ذكره الشيخ في الباب الحادي والستين وثلاثمائة.

(فإن قلت): فهل النبوة من النعوت الإلهية أو الكونية ؟

(فالجواب): هي من النعوت الإلهية أثبت حكمها في الجناب الإلهي الاسم السميع وأثبت حكمها صيغة الأمر الذي في الدعاء المأمور به وإجابة الحق تعالى عباده فيما سألوه فيه فليست النبوة بمعقول زائد على هذا الذي ذكرناه إلا أنه تعالى لم يطلق على نفسه من ذلك اسما كما أطلق في الولاية فسمى نفسه وليا وما سمى نفسه نبي مع كونه أخبرنا وسمع دعاءنا ذكره الشيخ في الباب الخامس وخمسين ومائة.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] كيف وصل إلى قلب الرسول والنبي مع أنهما معصومان منه.

(فالجواب): كما قال الشيخ في الباب السادس من "الفتوحات": إن الأنبياء عليهم

السلام، إنما عصموا من العمل بوسوسة الشيطان فقط فهو يلقى إليهم ول يعملون بقوله:

لعصمتهم فليس له على قلوب الأنبياء من سبيل فالعصمة حقيقة إنما هي العمل بما يلقي لا من الإلقاء لأجل الآية المذكورة في السؤال بخلاف قلوب الأولياء فقد يعملون بما يلقى إليهم إن لم تحفهم عناية الحفظ. ولما علم إبليس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معصوم من العمل بقوله لعصمة قلبه من استشراف إبليس عليه جاءه في الصلاة بشعلة نار مخيلة فرمى بها في وجهه وكان غرض الشيطان أن يفتن بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن صلاته وعن الإقبال عليها لما رأى ما له في الصلاة من الخير، إذ هو لعنه اللّه حسود لبني آدم بالطبع فتأخر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى خلفه ولم يقطع الصلاة وأخبر بذلك أصحابه. خاتمة: إن قلت هل يمتنع رسالة نبيين معا في آن واحد إلى شخص واحد.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الرابع والعشرين من "الفتوحات": نعم يمتنع رسالتهما إلا أن يكونا ينطقان في رسالتهما بلسان واحد في آن واحد كموسى وهارون عليهما السلام، قال تعالى فيهما: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى(44) [طه: 43، 44] . إلى آخر النسق فلم يكن لكل منهما عبارة تخصه دون الآخر لا سيما وموسى عليه الصلاة والسلام، يقول عن هارون وهوأَفْصَحُ مِنِّي لِساناً [القصص: 34] انتهى.

واللّه أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!