موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثاني والعشرون: في بيان أنه تعالى مرئي للمؤمنين في الدنيا بالقلوب وفي الآخرة لهم بالأبصار بلا كيف في الدنيا والآخرة أي: بعد دخول الجنة وقبله

كما ثبت في أحاديث الصحيحين الموافقة لقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة: 22، 23] . والمخصصة أيضا لقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] .

أي: لا تراه. قال جمهور المتكلمين والأصوليين وتكون رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة بالانكشاف المنزه عن المقابلة والجهة والمكان وذلك لأن الرؤية نوع كشف وعلم للمدرك بالمرئي يخلقه اللّه تعالى عند مقابلة الحاسة له بإبعاده فجاز أن يخلق هذا القدر بعينه من غير أن ينقص منه قدر من الإدراك من غير مقابلة لهذه الحاسة أصلا كما كان صلى اللّه عليه وسلم، يرانا من وراء ظهره وكما أن الحق تعالى يرانا من غير مقابلة ولا جهة باتفاقنا إذ الرؤية نسبة خاصة بين طرفي راء ومرئي فإذا اقتضت عقلا كون أحدهما في جهة اقتضت كون الآخر كذلك فإذا ثبت عدم لزوم ذلك في أحدهما ثبت مثله في الآخر وخرج بقولنا: يراه المؤمنون غير المؤمنين من الكفار فل يرونه يوم القيامة ولا في الجنة لعدم دخولهم لها. قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين: 15] . الموافق لقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] .

واختلفوا هل تجوز رؤيته تعالى في الدنيا يقظة ومناما. فقال بعضهم: يجوز. وقال بعضهم: لا يجوز، دليل جوازها في اليقظة هو أن موسى عليه الصلاة والسلام، طلبها حيث قال: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] وهو عليه الصلاة والسلام، لا يجهل ما يجوز ويمتنع عن ربه عز وجل، ودليل المنع أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام، طلبوها فعوقبوا قال تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] .

* - قال الجلال المحلّى رحمه اللّه تعالى: واعترض هذا بأن عقابهم إنما كان لعنادهم وتعنتهم في طلبها لا لامتناعها في نفسها انتهى. وقد استدل الجمهور على منع الرؤية في الدنيا بقوله صلى اللّه عليه وسلم: “ لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت “ وبذلك صح حملهم للآيتين السابقتين على عدم الرؤية في الدنيا جمعا بينهما وبين أدلة الرؤية وأما دليل امتناعها في النوم فلأن المرئي فيه خيال ومثال وذلك محال على القديم سبحانه وتعالى ودليل المجيز لها أنه لا استحالة في الرؤية في المنام وقد ذكر العلماء وقوعها في المنام لكثير من السلف الصالح منهم الإمام أحمد وحمزة الزيات والإمام أبو حنيفة وكان حمزة الزيات يقول: قرأت سورة “ يس “ على الحق تعالى حين رأيته فلما قرأت تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) [يس: 5] بضم اللام فرد علي الحق تعالى تنزيل بفتح اللام وقال: إني نزلته تنزيلا.* - وقال: وقرأت عليه جل وعلا سورة طه فلما بلغت إلى قوله: وَأَنَ اخْتَرْتُكَ [طه: 13]

فقال تعالى: “ وأنا اخترناك “. فهي قراءة برزخية وقد أجمع علماء التعبير على جواز رؤية اللّه تعالى في المنام وإنما بالغ ابن الصلاح في إنكاره تبعا لمن منع وقوعها من العلماء.

وأما رؤية الحق جل وعلا في اليقظة لغير نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، فمنعها جمهور العلماء واستدلوا لذلك بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] .

وبقوله تعالى: لموسى لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143]

وبقوله صلى اللّه عليه وسلم: “ لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت “ رواه مسلم في كتاب الفتن في صفة الدجال أما نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، فقد اختلف الصحابة في وقوع الرؤية له ليلة المعراج قال الجلال المحلّى رحمه اللّه والصحيح نعم.

إليه استند القائل بالوقوع في الجملة لكن روى مسلم عن أبي ذر: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، هل رأيت ربك ؟ فقال: نور أنى أراه ! بتشديد نون أنى مفتوحة وضمير أراه اللّه تعالى أي: حجبني النور المغشي للبصر عن رؤيته انتهى ما قاله الشيخ جلال الدين المحلّى والشيخ كمال الدين بن أبي شريف في حاشيته. وعبارة الشيخ أبي طاهر القزويني في كتاب “ سراج العقول “ في هذه المسألة: واعلم أن أكثر المتكلمين من الفرق ينكرون جواز رؤية اللّه تعالى في المنام فضلا عن اليقظة لغير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واحتجوا في ذلك بأن ما يراه النائم يكون مصور لا محالة ولا صورة للرب تعالى وأنه يراه بواسطة مثال مناسب له ولا مثل ولا مثال للّه رب العالمين قال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النحل: 74] . وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .

* - وقال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص: 4] قال: فمن رأى من ذلك شيئا وتخيل أنه الإله فذلك من إراءة الشيطان وتخييله وإغوائه وتضليله أو هو مشبه يعتقده كذلك في اليقظة وأطال في ذلك، ثم قال: والذي عليه جمهور مشايخ السلف رضي اللّه تعالى عنهم أنه يجوز رؤية اللّه تعالى في صورة في المنام وبه جاءت الأحاديث نحو قوله صلى اللّه عليه وسلم. “ خير الرؤيا أن يرى العبد ربه في منامه “ أو يرى نبيه أو يرى أبويه إن كانا مسلمين وقوله صلى اللّه عليه وسلم. “ رأيت ربي في أحسن صورة “ الحديث. وقال محمد بن سيرين: من رأى ربه في المنام دخل الجنة قالوا: وتكون رؤية اللّه تعالى بواسطة مثال يليق به منزه عن الشكل والصورة فيكون تجليه في ذلك المثال كتفهيم الحق تعالى كلامه القديم لعباده بواسطة الحروف والأصوات مع تنزيه كلامه تعالى عن ذلك فكما أن الكلام الأزلي منزه عن الصوت والحروف الحادثين ويفهم بواسطتهما كلام اللّه القديم، فكذلك يجوز أن تكون ذاته الأزلية المنزهة عن الصورة والشكل ترى بواسطة مثال يناسبها بأدنى معنى فيكون كالمثل بفتح المثلثة المذكور في القرآن في قوله: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [النور: 35] لا كالمثل بسكون المثلثة الذي يوجب المماثلة من كل وجه أما إذا رآه في صورة لا تناسب جلال الصمدية في معنّى ما فالرائي ممن عبث به الشيطان.(فإن قيل): إن رؤية اللّه تعالى على ما هو عليه في ذاته غير ممكن لعدم صحة المثل والمثال في نفس الأمر والنائم لا يرى شيئا في المنام إلا بصورة ومثل.(فالجواب): إذا تجلّى الحق تعالى بذاته المقدس لعبد في منامه فالروح تعرف بالفطرة الأولية أنه هو الإله الحق بخلاف سائر رؤياه المحتاجة للتعبير إذ النفس بآلاتها الخيالية لا تستطيع رؤية من لا صورة له ولكن نتصوره بوسائط وأمثلة ثم تذهب الأمثلة ك الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً [الرعد: 17] ويبقى معها رؤية اللّه تعالى حقا كما أن كلام اللّه القديم يتعلمه الناس بأمثلة الحروف في اللوح ثم يمحى اللوح ويبقى القرآن في الحفظ قال الشيخ أبو طاهر رحمه اللّه:

فعلم أنه لا يلزم من كون الشيء لا صورة له أن لا يرى في صورة على ما قررناه ألا ترى أن كثيرا من الأشياء التي لا أشخاص لها ولا صورة ترى في المنام بأمثلة تناسبها بأدنى معنى ولا يوجب التشبيه ولا التمثيل وذلك كالمعاني المجردة مثل الإيمان والكفر والشرف والقرآن والهدى والضلال والحياة الدنيا ونحو ذلك فأم الإيمان فكقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: “ رأيت الناس في المنام يعرضون منهم من قميصه إلى كعبه ومنهم من قميصه إلى أنصاف ساقيه فجاء عمر بن الخطاب وهو يجر قميصه فقالوا: يا رسول اللّه ما أولت ذلك قال: الإيمان فالإيمان لا شكل له ولا صورة ولكن جعل القميص له مثالا فرؤي بواسطته وكذلك الكفر يمثل في المنام بالظلمة، وكذلك الشرف والعز يرى بواسطة صورة الفرس وكذلك يمثل القرآن باللؤلؤ ويمثل الهدى بالنور والضلال بالعمى “ ولا شك أن بين هذه الأشياء مضاهاة لتلك المعاني المرئية وتجسد المعاني لا ينكره العلماء باللّه تعالى قال: وموضع الغلط في ذلك لمن منع رؤية اللّه في صورة ظنه أن المثل بفتحتين كالمثل بكسر الميم وسكون المثلثة وذلك خطأ فاحش. فإن المثل بالسكون يستدعي المساواة في جميع الصفات كالسوادين والجوهرين ويقوم كل واحد منهما مقام الآخر من جميع الوجوه في كل حال بخلاف المثل بفتحتين فإنه لا يشترط فيه المساواة من كل وجه وإنما يستعمل فيما يشاركه بأدنى وصف قال تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يونس: 24] . والحياة صورة لها ولا شكل والماء ذو شكل وصورة وقد مثل اللّه تعالى به الحياة وكذلك قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] وغير ذلك فعلم أنه لا مثل للّه تعالى ولكن له المثل الأعلى في السماوات والأرض. قال: ومن هنا جوز الأكثرون من السلف الصالح جواز تجليه تعالى لعبده في المنام كما مر في الأمثال وأطال في ذلك ثم قال: واللسان يقصر حقيقة عن البيان لأنها أمور ذوقية لا تضبطها عبارة واللّه تعالى أعلم. هذا ما رأيته في كتاب المتكلمين. وأما ما رأيته في كتب الصوفية فمن أفصحهم عبارة فيه الشيخ محيي الدين رضي اللّه عنه، فقال في الباب الرابع والستين من “ الفتوحات “: اعلم أنه لا ينبغي لمسلم أن يتوقف في رؤية اللّه تعالى في المنام لأنه لا شيء في الأكوان أوسع من عالم الخيال وذلك أنه يحكم بحقيقته على كل شيء وعلى ما ليس بشيء، ويصور لك العدم المحض والمحال والواجب. فضلا عن الممكن ويجعل الوجود عدما والعدم وجودا ويريك العلم لبنا والإسلام قبة والثبات في الدين قيدا قال: ودليلنا فيم قلنا قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] . ووجه الشيء حقيقته وعينه فقد صور الخيال من يستحيل عليه بالدليل العقلي الصورة والتصوير فعلم أن كل ما جاز وقوعه في المنام والدار الآخرة جاز وقوعه وتعجيله لمن شاء في اليقظة والحياة الدنيا انتهى. وقال أيضا في علوم الباب التاسع والستين وثلاثمائة: لا يصح لإنسان قط أن يعبر عن حقيقة ما طريقة الذوق من غير تكييف كرؤية اللّه عز وجل أبدا وأطال في ذلك. ثم قال: وإذا صح أن العقل يدرك الحق تعالى جاز أن يدركه بالبصر من غير إحاطة لأنه لا فضل لمحدث على محدث من حيث الحدوث وإنما الفضل من حيث الصفات الجميلة. ومن قال: إن الحق تعالى يدرك عقلا ولا يدرك بصرا فمتلاعب لا علم له بحكم العقل ولا بحكم البصر ولا بالحقائق على ما هي عليه وذلك كالمعتزلة فإن هذه رتبتهم وكل من لا يفرق بين الأمور العادية والطبيعية فلا ينبغي لأحد الكلام معه في شيء من الأمور العلمية ولولا أن موسى عليه الصلاة والسلام فهم من الأمر إذ كلمه ربه بارتفاع الوسائط ما أجرأه على طلب الرؤية ما فعل، فإن سماع كلام اللّه تعالى بارتفاع الوسائط عين الفهم فلا يفتقر إلى فكر وتأويل فلما كان عين السمع في هذا المقام عين الفهم سأل اللّه الرؤية ليعلم قومه ومن له هذه المرتبة من اللّه تعالى يعلم أن رؤية اللّه تعالى ليست بمحال انتهى. وقال أيضا في الباب التسعين من “ الفتوحات “: اعلم أن أعظم نعيم في الدنيا والآخرة نعيم رؤية الباري جل وعلا لكن هنا دقيقة وهي أن الالتذاذ برؤيته تعالى إنما هو راجع إلى رؤية المظاهر التي تجلّى الحق تعالى فيها تنزلا للعقول لا إلى الذات المتعالي وإيضاح ذلك أن الالتذاذ بالرؤية لا يكون إلا برؤية من بيننا وبينه مجانسة ومناسبة ول مناسبة بيننا وبين الحق تعالى بوجه من الوجوه.

(فإن قيل): فكيف الرؤية ؟

(فالجواب): أن الحق تعالى إذا أراد أن يتفضل على عبد من عبيده المختصين بأن يحصل له الالتذاذ برؤيته أقام له مثالا يتخيله في عقله مطابقا له لقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] . وتقدم في الكتاب أن مراد من يقول إن الحق تعالى إذا حيط عبدا به أحاط به هو علمه بأنه تعالى لا يحاط به فهذ هو معنى الإحاطة. وقال أيضا في الباب الثامن والتسعين ومائة: إذا أراد اللّه عزّ وجلّ أن يرى عبدا من عبيده نفسه تعالى فلا بد من فناء العبد عن شهود نفسه عند التجلي وتجرد الروح وحينئذ ترى ربها كما تراه الملائكة ثم إذا أراد الحق تعالى أن ينعم عبده ويلذذه برؤيته ومشاهدته فلا بد من إرسال الحجاب فيقع التلذذ للمشاهد. قال:

وهذه مسألة من الأسرار ما أظهرتها باختياري وإنما كنت في إظهاره كالمجبور انتهى. وعبارته في كتاب “ لواقح الأنوار “: اعلم أنه لا بد من فناء المشاهد عند رؤية الباري جلّ وعلا فيغيب عن حسه وعن لذته لأن النفس أحدية الذات ليس في قدرتها أن تشتغل بأمرين معا في آن واحد. فلا بد أن تكون متوجهة بكليته لإدراك الرؤية أو قبولها فإذا أشهدك تعالى نفسه أفناك عنه فلا يجد الخطاب محل يتوجه عليه وإذا كلمك أوجدك لأنه لا بد للقبول منك حتى تقبل الخطاب وإلا فلا فائدة للخطاب انتهى. وكان أبو العباس الساري أحد شيوخ الطائفة الأكابر يقول: ما التذ عاقل قط بمشاهدة الحق تعالى وذلك لأنها فناء ليس فيها لذة ووافقه على ذلك الشيخ في “ الفتوحات “ وقال في “ لواقح الأنوار “ أيضا: إذا أقامك الحق تعالى في مشهد ما وأشهدك نفسك معه فأنت من أبعد الأبعدين لأن نفسك كون وأين الكون في الرتبة من رب العالمين لكن لك حينئذ حقيقة المجاورة المعنوية وهي أنه ليس بينك وبين اللّه تعالى أمر زائد كما ليس بين الجوهرين المتجاورين حيز ثالث وللّه المثل الأعلى. قال: ثم إن هذه المجاورة لا يتعقلها إلا أهل الكشف. وفي حديث الطبراني وغيره مرفوعا: بين العبد وبين ربه سبعون ألف حجاب من نور وظلمة فما من نفس تسمع بشيء من حس تلك الحجب إلا زهقت انتهى. وفي رواية أخرى: أن للّه تعالى سبعين ألف حجاب بينه وبين خلقه لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه.

(فإن قيل): فكيف رؤية الباري جل وعلا لخلقه ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والسبعين ومائة: أن صورة نظر الحق تعالى إلى العالم أنه ينظر إليه بعين الرحمة لا بعين العظمة كما يليق بجلاله تعالى ولهذا ثبت العالم معه تعالى عند الرؤية ولو أنه تعالى نظر إلى العالم بعين العظمة كما يليق بجلاله لاحترق العالم كله بسبحات وجهه كما مر آنفا في الحديث، قال: وهذه الرحمة هي عين الحجاب الذي بين العالم وبين السبحات المحرقة فهي كالعلماء الذي أخبر الشارع أن الحق تعالى كان فيه قبل أن يخلق الخلق وأكثر من ذلك لا يقال. وقال الشيخ في باب الأسرار إذا عوين الحق تعالى فلا يعاين إلا من حيث العلم والمعتقد واللّه أجل وأعلى من أن يحاط بذاته انتهى. وقال في باب الوصايا من “ الفتوحات “: اعلم أن من علامة صدق ما يدعي أنه يشاهد الحق تعالى أنه إذا عكس مرآة قلبه إلى الكون يعرف ما في ضمائر جميع الخلق ويصدقه الناس على ذلك الكشف.

(فإن قلت): فما الفرق بين الرؤية وبين الشهود الذي تقول به الطائفة ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السادس والستين ومائتين: أن الرؤية لا يتقدمها علم بالمرئي أبدا والشهود يتقدمه علم بالمشهود وهو المسمى بالعقائد ولهذا يقع الإقرار والإنكار في الرؤية يوم القيامة لأنهم رأوا من لم يتقدم لهم به علم بخلاف الشهود فإنه لا يكون فيه إلا الإقرار لا الإنكار وإيضاح ذلك أن الشاهد ما سمي شاهدا إلا لكون ما رآه يشهد بصحة ما اعتقده قال تعالى: فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17] . أي: يشهد له بصحة ما اعتقده. قال: ومن هنا سأل موسى الرؤية بقوله: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:

143] . وما قال: أشهدني لأنه تعالى كان مشهودا له ما غاب عنه، وكيف يغيب عن رسول كريم ولا يغيب عن الأولياء فما طلب موسى إلا الرؤية الخاصة بالأنبياء في الآخرة ليجعلها اللّه تعالى له في الدنيا حين طلب مقامه ذلك وأما شهوده الحق تعالى مثل ما يشهده الأولياء فذلك حبوة وزيرية من حيث مقام ولايته انتهى. وقال في كتاب اللواقح أيضا: ما الفرق بين الرؤية والشهود ؟ إن الشهود هو ما تمسكه في نفسك من شاهد الحق المشار إليه بحديث: “ اعبد اللّه كأنك تراه “. فقوله: كأنك تراه هو شاهد الحق الذي أقمته في نفسك كأنك تراه. قال: وهذه درجة التعليم ثم يرتقي منها إلى درجة الخصوص وهي علمك بأن اللّه يراك ولا تراه وذلك لأنك ضبطت شهوده تعالى في قلبك عند صلاتك مثلا في جهة القبلة فقد أخليت شهودك عن بقية الوجود المحيط بك، وإذا تحققت بذلك علمت عجزك عن الإحاطة به تعالى لأنك مقيد وهو تعالى مطلق وأنت ضيق وهو تعالى واسع وحينئذ تبقى مع نظره المحقق إليك لا مع نظرك أنت إليه لأن نظرك يقيده ويحدده وهو المنزه عن القيود والحدود. فإذن الشهود له المعرفة والرؤية لها الكشف التام انتهى.(فإن قلت): فمتى يخرج العبد عن القول بالجهة.(فالجواب): كما قاله سيدي علي بن وفا رحمه اللّه: أنه لا يخرج عبد عن القول بالجهة إلا إن نفد كشفه من أقطار السماوات والأرض وأعطاه اللّه تعالى شيئا من علمه تعالى ، قال:

وأما من تقيد كشفه بالسموات والأرض أو البرزخ والجنة والنار. فلا يرى ربه إلا في جهة انتهى.

(فإن قلت): فإذن ما رأى أحد ربه إلا بصورة استعداده في نفسه وتعالى اللّه عن ذلك في علو ذاته ؟

(فالجواب): نعم ما رأى عبد ربه إلا بقدر وسعه. غير ذلك لا يكون، إذ لو صح أن يرى عبد فوق مرتبته لبطل اختصاص الأنبياء والأولياء على بعضهم ولرقي الأولياء في سلم الأنبياء وذلك محال.

(فإن قلت): فإذن ما رأى العبد إلا صورة نفسه في مرآة معرفة الحق وم رأى الحق حقيقة.(فالجواب): نعم وهو كذلك فحكمه كالإنسان الذي رأى وجهه في المرآة المحسوسة فإنه يرى صورة نفسه حاجبة له عن شهود جرم المرآة، وقال الشيخ محيي الدين في “ لواقح الأنوار “: وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من رؤية الشاهد وجهه في المرأة واجهد يا أخي في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا بل تنطبع صورتك في المرآة قبل تحققك بالرؤية فلا يقع بصرك إل على صورة نفسك فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى إلى أعلى من هذا المرقى فما هو ثم أصلا وليس بعده إلا العدم المحض. فليتأمل ويحرر فإنه يوهم أن المرئي في الآخرة لجميع الناس غير الحق ولا يخفى ما فيه.(فإن قلت): فما سبب تفاضل الناس في الرؤية كمالا ونقصا مع أن المرئي سبحانه وتعالى لا تقبل ذاته الزيادة ولا النقصان ؟

(فالجواب): سبب التفاضل كونهم لا يشهدون في مرآة معرفة الحق تعالى إلا حقائقهم ولو أنهم شهدوا عين الذات لتساووا في الرؤية ولم يصح بينهم تفاضل ولكن أين حقائق الأنبياء من غيرهم.

(فإن قلت): فهل يتفاوتون في الآخرة كما تفاوتوا في الدنيا ؟

(فالجواب): نعم. فإن تفاوتهم في الآخرة فرع عن تفاوتهم في الدني وقد قال الشيخ في الباب الحادي والثلاثين وثلاثمائة: اعلم أن رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تابعة لاعتقادهم الذي كانوا عليه في دار الدنيا ليجني كل أحد ثمرة ما كان يعتقده فرؤيتهم على قدر علمهم باللّه تعالى وعلى قدر ما فهموه ممن قلدوه من العلماء وكما أنهم متفاضلون في النعيم واللذة فمنهم من حظه من النظر إلى ربه لذة عقلية، ومنهم من حظه من ذلك لذة نفسية، ومنهم من حظه من ذلك لذة حسية، ومنهم من ذلك لذة خيالية، ومنهم من حظه من ذلك مكيفة، ومنهم من حظه لذة لا يقال بتكييفه ومنهم من حظه لذة لا يقال: بتكييفها، ومنهم من هو مقلد في علمه باللّه بحسب ما ألقى إليه عالمه أو على حسب ما عنده من العلم وأما على قدر ما يخيله عقله فقط، ومنهم من هو غير مقلد وهكذا.

(فإن قلت): فما أكمل الرؤية التي تقع للخلق ؟

(فالجواب): أكمل الرؤية رؤية الأنبياء ثم رؤية كمل أتباعهم فإن الكمل لا يرون ربهم إلا في مرآة نبيهم المأخوذة من شرعه الثابت عنه. واعلم أن عدد رؤية كل عبد للحق في الآخرة تكون على قدر مجالسته للحق تعالى في جميع المأمورات واجتناب المنهيات على الكشف والشهود فتزيد الرؤية والمعرفة بزيادة الطاعات وتنقص بفعل المنهيات وكل من قلت مجالسته للحق تعالى جهله فيما لم يجالسه فيه والسلام.

(قلت): وإنما كانت مرآة نبينا صلى اللّه عليه وسلم، أكمل المراي لأنها حاوية لجميع مرايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودون ذلك في المرتبة من يرى ربه في مرآة نبي من الأنبياء ثم في مرآة أحد من الأولياء فعلم أن الكامل من لا يطأ مكانا لا يرى فيه قدم نبيه أبدا.(فإن قلت): فالذين ينكرون الحق تعالى في تجليات الآخرة هل هم مسلمون ؟

(فالجواب): نعم هم مسلمون بقرينة قوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث التجلي: “ فإذا كشف عن ساقه خروا ساجدين وقالوا: أنت ربنا “ وهنا أسرار يذوقه أهل اللّه لا تسطر في كتاب واللّه تعالى أعلم.

(فإن قيل): فإذا وقع الإنكار من هؤلاء، فهل يكون المقرون من الأنبياء والأولياء حاضرين ؟ فإن كانوا حاضرين فلم لم يرشدوهم إلى أن المتجلي لهم هو اللّه تعالى ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في “ شرحه لترجمان الأشواق “: إن الإنكار إذا وقع يكون الأنبياء والعارفون واقفين بجانب عن هؤلاء المنكرين وإنما لم يرشدوا المنكرين لتلك التجليات لأنهم يعرفون من الحق تعالى أنه طلب منهم أن يستروه عن أولئك المنكرين ليجني كل أحد ثمرة علمه به في دار الدنيا.

(فإن قيل): فإذا كان الكافرون لا يرون ربهم، فما صورة عدم رؤيتهم له ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في باب الأسرار: إنما صورة عدم رؤيتهم له تعالى أنهم يرونه ولكن لا يعلمون أنه هو فحجابهم عن ربهم جهلهم به فلا يرونه أبد الآبدين ودهر الداهرين انتهى.

(فإن قيل): فهل تكون الرؤية للمؤمنين بباصر العين كما في الدنيا أم تكون بجميع عيونهم ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور: إن رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تكون بجميع أجسادهم وذلك لكمال النعيم الأبدي فلا تتقيد رؤيتهم له تعالى بباصر العين بل كلهم أبصار. قال: وبعضهم يراه بجميع وجهه فقط ه.

(فإن قيل): فهل يلزم أن يكون ما يشهده المؤمن بقلبه من اللّه تعالى هو المطلوب لوسعه تعالى وتعاليه عن الحصر والتقييد ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السابع والسبعين وثلاثمائة: لا يلزم من شهود العبد ربه بقلبه أن يكون هو المطلوب بإعلام من اللّه تعالى فيجعل للعبد في نفسه علما ضروريا مثل ما يجد النائم في نومه من رؤية الحق جل وعلا أو رؤية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيجد الرائي في نفسه العلم الضروري بأن ذلك المرئي هو اللّه عز وجل أو رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وذلك لوقوع المرئي مطابق لما هو الأمر عليه فيما يراه إذ لا يدرك أحد الحق تعالى إلا هكذا وأما بالنظر والفكر فلا، كما مر في مبحث أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق.

(فإن قيل): فهل النور الذي يرى الحق تعالى فيه في الآخرة نور له شعاع كما رآه صلى اللّه عليه وسلم، في دار الدنيا أم هو نور لا شعاع له ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الستين وثلاثمائة: أن النور الذي يرى الحق تعالى فيه في الآخرة نور لا شعاع له فلا يتعدى ضوؤه نفسه ويدركه البصر في غاية الوضوح وذلك ليخالف النور الدنيوي وذلك لما قيل له صلى اللّه عليه وسلم: “ أرأيت ربك “. فقال: نور أنى أراه، يقول: كيف أراه وهو نور شعشعاني والأشعة تذهب بالأبصار وتمنع من إدراك من تنشق عنه تلك الأشعة فلا يدرك تعالى في ذلك النور لاندراج نور الإدراك فيه فلذلك لم يدركه مع أن من شأن النور أن يدرك ويدرك به، كما أن من شأن الظلمة أن تدرك ولا يدرك بها. قال: وإذا عظم النور أدرك ولم يدرك به لشدة لطافته ثم إنه لا يكون إدراك قط إلا بنور من المدرك زائد من ذلك عقلا وحسا.

(فإن قيل): من شرط الرائي أن تعطيه رؤيته العلم بالمرئي والإحاطة به ورأينا الذي يرى الحق لا ينضبط له رؤية لمخالفة حقيقته لسائر الحقائق فكيف يقال: إنه رأى ربه عزّ وجلّ ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثاني والأربعين وأربعمائة: إلى رؤية الحق تعالى: لا يصح فيها إحاطة ولا تدخل تحت هذا الحد وغاية العلم أن يعلم الرائي له عند الرؤية أنه ما رآه، وإلا فلو صح له أن يراه حقيقة لعلمه وكيف يعلمه وقد رأى تنوع صور التجليات على قلبه في حال رؤيته له تعالى وقد قال موسى عليه الصلاة والسلام: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] قال: لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] . والنكتة في سبب قوله: لَنْ تَرانِي.

كونه قال: أَنْظُرْ إِلَيْكَ بالهمزة ولو قال: ننظر إليك بالنون أو التاء لربما لم يكن الجواب:

لَنْ تَرانِي، مع أن السؤال مجمل في قوله: “ أنظرني “. والجواب كذلك مجمل في قوله: لن تراني. وإيضاح ذلك أن الرؤية بادرة إلى رؤية العين. أي: لن تراني بعينك لأن المقصود بالرؤية حصول العلم بالمرئي وأنت لا تزال ترى في كل رؤية خلاف ما رأيته في الرؤية التي تقدمت فلا يحصل لك علم بالمرئي في رؤيتك له تعالى أبدا فصح قوله: لن تراني. لأني ما أقبل من حيث ما أنا عليه في ذاتي التنوع وأنت لا ترى ربك إذا رأيته إلا متنوعا في الصفات وأنت ما تنوعت أيضا فما رأيتني ول رأيت نفسك، وقد رأيت فلا بد أن تقول: رأيت الحق وأنت ما رأيتني حقيقة وكذلك لا بد أن تقول: رأيت نفسي وما رأيت نفسك حقيقة وما ثم إلا أنت والحق تعالى ، ول واحدا من الحق والخلق رأيت وأنت تعلم أنك رأيت فما هذا الذي رأيت فرجع المعنى: لن تراني بعينك إلا إن أمددتك بالقوة الإلهية. قال: وهذا من مشاهد الحيرة، وقال في الباب الأحد والأربعمائة: إنما قال تعالى لموسى: لَنْ تَرانِي لأن كل مرئي لا يصح للرائي أن يرى منه إلا على قدر منزلته ورتبته، لا غير. ولو كان الرائي يحيط بالحق تعالى ما تفاوتت الرؤية ثم أقل حجاب يحجب العبد عن الإحاطة شغله برؤية نفسه حال تجلي الحق له فحجاب العبد عن ربه رؤية نفسه فما حجبنا إلا بأنفسنا على أنا ولو زلنا عنا أيضا ما رأيناه لأنه لم يبق ثم بعد زوالنا من يراه وإذا لم نزل نحن فم رأينا في المرآة الصافية حينئذ إلا أنفسنا وقد نتوسع في العبارة فنقول: إن رأيناه فلا يخرج أحد عن الحيرة في اللّه تعالى انتهى.

(فإن قلت): فإذن فما خر موسى صعقا إلا لما كان عنده من العلم باللّه تعالى قبل سؤال الرؤية.(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن وأربعين وأربعمائة: نعم ما أصعقه إلا ذلك ولكنه لم يكن يعلم من الحق تعالى قال: تبت إليك. أي: لا أطلب رؤيتك على الوجه الذي كنت طلبتها أولا فإني قد عرفت ما لم أكن أعلمه منك وأنا أول المؤمنين. أي: بقولك: لن تراني لأنك ما قلت ذلك إلا لي وهو خبر فلذلك ألحقه موسى عليه الصلاة والسلام، بالإيمان دون العلم ولو أنه عليه الصلاة والسلام، أراد مطلق الإيمان بقوله: لن تراني ما صحت له الأولية فإن المؤمنين كانوا قبله ولكن بهذه الكلمة لم يكن مؤمن فكل من آمن بعد الصعق فقد آمن على بصيرة وهو صاحب علم في إيمان وهو مشهد عزيز فإن العبد إذا انتقل من الإيمان إلى العلم الذي هو أوضح فكيف يبقى معه حجاب الإيمان فلذلك كان خاصا بالكمل فيؤمنون بما هم عالمون ليحرزوا أجر الإيمان مع أجر العلم ويقال في أحدهم إنه مؤمن بما هو به عالم من عين واحد. وقد بسط الشيخ الكلام على ذلك في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة في الكلام على اسمه تعالى الظاهر فراجعه إن شئت وكان سيدي علي بن وفا رضي اللّه تعالى عنه يقول: “ من أعجب الأمور قوله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: لَنْ تَرانِي. أي: مع قوتك، كونك تراني على الدوام، ولا تشعر بأن الذي تراه هو أنا انتهى.(فإن قلت): فهل يعلم الحق تعالى بالكشف ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب (الأسرار): لا يصح أن يعلم الحق تعالى بالكشف وإنما يرى به فقط كما أنه تعالى يعلم بالعقل ولا يرى به قال: وهل ثم لنا مقام يجمع بين الرؤية والعلم لا أدري ه.

(فإن قلت): فكم ترجع صور التجلي الإلهي إلى مرتبة من العدد ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والتسعين ومائة: أنه ترجع كلها إلى صورتين صورة: تنكر وصورة تعرف ولا ثالث لهما. قال: وقد ورد أن اللّه تعالى لما كلم موسى عليه الصلاة والسلام تجلى له في اثني عشر ألف صورة وفي كل صورة يقول له: يا موسى، ليتنبه موسى فيعلم أنه لو كان جميع التجلي بصورة واحدة لم يقل له في كل صورة وكلمة: يا موسى انتهى.

(فإن قلت): فكيف ثبت موسى عليه الصلاة والسلام، لسماع كلام اللّه، ولم يثبت لرؤيته ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الخمسين وأربعمائة: أنه إنم ثبت لسماع كلام اللّه لأن الحق تعالى كان سمعه عند النجوى يعني: مؤيدا ومقوي لسمع موسى عليه الصلاة والسلام، لأنه محبوب للّه بلا شك، وقد أخبر الحق تعالى أنه إذا أحب عبدا كان سمعه وبصره الحديث. لكن قد يجمع اللّه تعالى لمن شاء في هذ المقام الصفات كلها وقد يعطيه بعض الصفات على التدريج شيئا بعد شيء فلذلك صعق موسى عند التجلي إذ لم يكن الحق تعالى بصره إذ ذاك فلو أنه تعالى أيده بالقوة في بصره كما أيده بها في سمعه لثبت للرؤية كما ثبت لسماع الكلام إذ لا طاقة للمحدث على رؤية الحق تعالى ، إلا بتأييد إلهي انتهى.

(فإن قلت): فما السبب الذي دعا موسى عليه الصلاة والسلام إلى سؤال الرؤية دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟ فإن كان هو شدة الشوق فنبين محمد صلى اللّه عليه وسلم أشد شوقا منه بيقين، لأن الشوق يعظم بشدة المعرفة بعظمة من وقع الاشتياق إلى رؤيته وإن كان الباعث له على ذلك هو التقريب فكل الأنبياء مقربون ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الحادي والثلاثين وثلاثمائة: أن السبب الداعي له إلى طلب الرؤية: زيادة التقريب على غيره من الأنبياء ما عد محمدا صلى اللّه عليه وسلم، فإن الحق تعالى لما أقام موسى في مقام التقريب لم يتمالك أن يمنع نفسه عن سؤال الرؤية ومحمد صلى اللّه عليه وسلم، منعه الأدب أن يسأل ذلك مع أنه كان بالأشواق إلى رؤية الباري أكثر من موسى عليه الصلاة والسلام، بيقين فلما سلك مقام الأدب لقوة تمكينه حفظ اللّه عليه المقام حتى دعاه تعالى إلى رؤيته على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام، وأرسل له براقا يركب عليه تشريفا له على موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم أن موسى عليه الصلاة والسلام، ما منع من الرؤية إلا لكونه سألها عن غير وحي إلهي ومقام الأنبياء يقتضي المؤاخذة بالذرات فلذلك كان الجواب له: لن تراني من حيث سؤاله الرؤية ثم إنه تعالى استدرك استدراكا لطيفا لم علم أن التأديب بلغ حده في موسى من حيث سؤله الرؤية بغير أمر اللّه تعالى فقال له تعالى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] . فأحاله على الجبل في استقراره عند التجلي حيث كان الجبل من جملة الممكنات فلما تجلّى سبحانه وتعالى للجبل وهو محدث وتدكدك الجبل لتجليه علم كل عارف أن الجبل رأى ربه وأن الرؤية هي التي أوجبت له التدكدك. ومن هنا قال بعض المحققين: إذا جاز أن يكون الجبل رأى ربه فما المانع لموسى أن يرى ربه، في حال تدكدك الجبل ويكون وقوع النفي على الاستقبال والآية محتملة فكان الصعق لموسى قائما مقام التدكدك للجبل ثم لما وقع التجلي للجبل واندك علم موسى أنه وقع فيما لم يكن ينبغي له سؤاله وإن كان الحامل له على ذلك كثرة الشوق. فقال: تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] يعني: بوقوع هذ الجائز انتهى. وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: ما أطمع موسى في طلب الرؤية إلا ما قام عنده من التقريب ومعلوم أن الرسل أعلم الناس باللّه تعالى فهم يعرفون أن الحق تعالى مدرك بالإدراك البصري كما ينبغي لجلاله تعالى وعلى ذلك فم سأل موسى إلا ما يجوز له السؤال فيه ذوقا ونقلا لا عقلا، لأن ذلك من محالات العقول انتهى. وقال في الباب التاسع ومائتين: إنما أحال الحق تعالى موسى عليه الصلاة والسلام، على رؤية الجبل حين سأل رؤية ربه لأن من صفات الجبل الثبوت يعني: إن ثبت الجبل إذا تجليت له فستراني من حيث ما في ذاتك من صفة ثبوت الجبال يقال: فلان جبل من الجبال إذا كان يثبت عند الشدائد، والأمور العظيمة. ولا يخفى أن الجبل ليس هو أكرم على اللّه تعالى من موسى وإنما ذلك من حيث كون خلق الأرض التي: الجبل منها أكبر من خلق موسى الذي هو من الناس كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] أي: فإذ كان الجبل الذي هو أقوى صار دكا عند التجلي فكيف يثبت لرؤيتي جبل موسى الذي هو جبل صغير من حيث الجرم انتهى.

(فإن قيل): فلم رجع موسى إلى صورته بعد الصعق ولم يرجع الجبل بعد الدك إلى صورته ؟

(فالجواب): إنما لم يرجع الجبل إلى صورته لخلوه عن الروح المدبرة له بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، رجع إلى صورته بعد الصعق فكونه كان ذا روح فروحه هي التي أمسكت صورته على ما هي عليه بخلاف الجبل لم يرجع بعد الدك إلى كونه جبل لعدم وجود روح فيه تمسك عليه صورته انتهى.

(فإن قلت): قد قال أهل الكشف: إن الجماد كله حي فما هذه الحياة ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثالث والتسعين وثلاثمائة: إن المراد بحياة الجماد كونه يسبح بحمد ربه وينزهه ويقدسه لا أن له اختيارا وتدبير كالحيوان المشهور. قال الشيخ رضي الله عنه: ومن أعظم دليل سمعي على حياة الجماد قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْها [البقرة: 74] . يعني:

الحجار لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] فإنه لا يوصف بالخشية إلا حيّ دراك ولكن قد أخذ اللّه تعالى بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء اللّه تعالى كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل سمعي في ذلك لكشفنا عن حياة كل شيء عينا وإسماعنا تسبيح الجماد ونطقه. قال: وكذلك اندكاك الجبل حين وقع له التجلي ما وقع منه لا لمعرفته بعظمته للّه تعالى ، ولولا ما كان عنده من المعرفة ما تدكدك إذ الذوات لا تؤثر في بعضها من حيث هي ذات وإنما يؤثر فيها معرفتها وانظر إلى الملك إذا دخل إلى السوق على هيئة العوام ومشى بينهم وهم لا يعرفونه، كيف لا يقوم له وزن في نفوسهم ثم إذا لقيه في تلك الحالة من يعرفه من خواصه قامت بنفسه عظمته وقدره وأثر فيه علمه فاحترمه وتأدب معه وخضع له، فإذا رأى الناس ذلك من هذا الخاضع الذي يعرفون قربه ومنزلته من الملك حارت إليه أبصارهم وخشعت له أصواتهم وأوسعوا له في الشارع وتبادروا لرؤيته واحترامه فما أثر فيهم إل ما قام بهم من العلم فما احترموه حينئذ لمجرد صورته لأنها كانت مشهودة لهم قبل علمهم بأنه الملك فتأمل. فعلم أن كونه ملكا ليس هو عين صورته وإنما هي رتبة نسبية أعطته التحكم في العالم الذي هو تحت حكمه ه.

(فإن قلت): قد ورد في الحديث: أن العبد يناجي ربه في الصلاة في هذه الدار ومعلوم أنه لا يصح أن يناجي إلا من يتخيله مناجيا له كذلك، فبم تميزت الدار الآخرة ؟.(فالجواب): تتميز الدار الآخرة بكون العبد هناك يعرف من يناجيه ويسمع كلامه وهنا لا يعرفه ولا يسمع كلامه فلا بد من مزيد انكشاف للعبد في الآخرة ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم: له في هذا الدار “ اعبد اللّه كأنك تراه “ وقال: في الدار الآخرة ما من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحا ليس بينه وبينه ترجمان، الحديث. وإيضاح ذلك أن كل مدرك بشيء من القوى الظاهرة أو الباطنة التي في الإنسان لا بد أن يكون يتخيل ولولا ذلك التخيل ما سكن إليه فلا يقع السكون إلا لمتخيل بفتح التحتية من متخيل بكسرها وجميع العقائد كلها تحت هذا الحكم ولهذا سميت عقائد فإن العقائد محلها الخيال والخيال لا يصح أن يضبط أمرا أبدا ولذلك كان من لازم صاحب الوهم قلة السلامة منه انتهى.(فإن قيل): فهل يقع من أهل الكشف في الدنيا إنكار لشيء من التجليات الأخروية ؟

(فالجواب): كما قال الشيخ في الباب الستين وثلاثمائة: لا يقع من أهل الكشف شيء من الإنكار للتجلي الأخروي وإنما يقع ذلك من أصحاب النظر العقلي وذلك لأنهم قيدوا الحق تعالى بما أدت إليه عقولهم المعقولة فلما لم يروا في الآخرة ما قيدوه بعقولهم في الدنيا أنكروه ضرورة ألا تراهم إذا وقع التجلي لهم بالعلامة التي كانوا قيدوه بها يقرون له بالربوبية ولو أنه تعالى كان تجلّى لقلوبهم بهذه العلامة أولا لما أنكروه فعلم أن أهل الكشف لا يقع منهم إنكار والسلام انتهى. وكان سيدي علي بن وفا رحمه اللّه يقول: لا يقر بالحق تعالى في تجلي من تجليات الآخرة إلا أهل التنزيه المطلق الذي هو تجريد التوحيد عن شريك يقابله قال: وهذ هو سر العيان الذي يستحيل معه الحجاب انتهى.

(فإن قيل): إذا كان الحق تعالى واحدا لا ثاني له، في نفس الأمر فمن أين جاء الإنكار ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في باب الأسرار جاءهم الإنكار من اختلاف الأمزجة فكل قد يصوب اعتقاد نفسه ويخطئ غيره وهو تعالى في نفسه واحد لا يتبدل ول يتحول فالاعتقادات هي التي تنوعه وتفرقه وتجمعه وتعالى اللّه في علو ذاته عن ذلك.

(فإن قيل): فما علامة صدق من يرى اللّه تعالى بقلبه في هذه الدار على الكشف القلبي ؟

(فالجواب): علامته أن يراه من سائر الجهات الست من غير ترجيح لإحدى الجهات على بعضها قال الشيخ محيي الدين في الباب السادس عشر ومائتين: وقد ذقن هذا المقام وللّه الحمد. قال: وكذلك هي رؤية أهل الجنة في الجنة إذا رأوه بأبصارهم تكون الرؤية مطلقة لا تتقيد بجهة انتهى.

(فإن قلت): إن بعض المحققين منع رؤية الحق تعالى أيضا بالقلوب كالأبصار فما وجهه ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب العشرين وأربعمائة: أن وجهه: إطلاق الأبصار في الآية. أي: لا تدركه الأبصار من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب وذلك أن القلوب لا ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى أيضا إلا بالبصر فالبصر حيث كان هو الذي يقع به الإدراك فيسمى البصر في القلب عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين فكما أن العين في الظاهر محل البصر فكذلك البصيرة في الباطن محل العين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه كما لا تدركه العيون بأبصارها، كذلك لا تدركه البصائر بأعينها انتهى.

(فإن قيل): فهل وقعت رؤية اللّه تعالى ، يقظة في الدنيا لأحد غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بحكم الإرث له في المقام ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ عبد القادر الجيلي رضي اللّه تعالى عنه: لم يبلغنا وقوع ذلك في الدنيا لأحد غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقيل له: إن فلانا يزعم أنه يرى اللّه تعالى بعيني رأسه فأرسل الشيخ خلفه وقال له: أحق ما يقول هؤلاء عنك. فقال: نعم. فانتهره الشيخ وزجره عن هذا القول وأخذ عليه العهد أن لا يعود عليه فقيل للشيخ: أمحق هذا الرجل أم مبطل ؟ فقال:

هو محق ملبس عليه وذلك أنه شهد ببصيرته نور ذلك الجمال البديع ثم خرق من بصيرته إلى بصره منفذ فرأى ببصره بصيرته حال اتصال شعاعها بنور شهوده فظن أن بصره الظاهر رأى ما شهدته بصيرته وإنما رأى بصره حقيقة بصيرته فقط من حيث لا يدري قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) [الرحمن: 19، 20] . وكان جمع من المشايخ حاضرين فأعجبهم هذ الجواب وأطربهم ودهشوا من حسن إفصاحه رضي اللّه عنه، عن حال ذلك الرجل، قال الشيخ عبد القادر الجيلي: وقد تراءى لي مرة نور عظيم ملأ الأفق ثم بدت لي فيه صورة تناديني يا عبد القادر: أنا ربك وقد أسقطت عنك التكاليف فإن شئت فاعبدني وإن شئت فاترك، فقلت له: اخسأ يا لعين فإذا ذلك النور قد صار ظلاما وتلك الصورة صارت دخانا ثم خاطبني اللعين وقال لي: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بأحكام ربك وفقهك في أحوال منازلاتك ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق فقيل للشيخ عبد القادر: فمن أين عرفت أنه شيطان. فقال: بإحلاله لي ما حرمه اللّه على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنه تعالى لا يحرم شيئا على ألسنة رسله ثم يبيحه لأحد في السر أبدا انتهى.

(فإن قلت): إن الحق تعالى أخبر أنه أقرب إلينا من حبل الوريد فإذ كان بهذا القرب العظيم فما المانع من رؤيته ؟

(فالجواب): المانع من رؤيته هو شدة القرب كما قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة: 85] . أي: لشدة قربي منكم وقد أطال الشيخ في تفسير قوله تعالى:

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] . في الباب الخامس والعشرين وأربعمائة. وفي الباب الحادي وعشرين ومائتين. وقال في كتابه “ شرح ترجمان الأشواق “: اعلم أن الحق تعالى إذا كان الوهم لا يحيط به مع أنه ألطف من الإدراك الحسي فكيف يدركه البصر الذي هو الأكثف انتهى. وكان سيدي علي الخواص رحمه اللّه يقول: قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] . صحيح على ظاهره فإن المبصر للحق جل وعلا إنما هم المبصرون بالأبصار لا نفس الأبصار انتهى. فليتأمل.

(فإن قلت): فهل ثم وجه جامع بين قول من أثبت رؤية الباري وبين قول من نفاها ؟

(فالجواب): نعم كما قاله الشيخ في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة ولفظه: اعلم أن الجامع بين من أثبت رؤية اللّه عزّ وجلّ وبين من أنكرها ونفاها أن من أثبتها أراد أنها تكون على قدر وسع العبد ومن نفاها أراد أن حجاب العظمة مانع من رؤية حقيقة الذات وكل من لا يحيط بشيء كأنه ما رآه مع أنه رآه انتهى. وقال في “ لواقح الأنوار “ أيضا: اعلم أن حجاب الكبرياء على الذات المتعالى لا يرتفع أبد كما أشار إليه خبر مسلم بقوله صلى اللّه عليه وسلم: “ وليس على وجهه تعالى إل رداء الكبرياء في جنة عدن “ وإذا كان الحجاب لا يرتفع فما وقعت الرؤية دائما إل على الحجاب فصح قول من قال: إن الحق يصح أن يرى ومن قال: لا يصح أن يرى يحمله على هاتين الحالتين انتهى. وأما الكلام على رؤيته تعالى في المنام فقد قدمنا أول المبحث نقول المتكلمين فيها وها نحن نذكر لك نقول: الصوفية. فنقول وباللّه التوفيق: اعلم أن الأصل في صحة الرؤيا ما رواه الطبراني وغيره مرفوعا رأيت الليلة ربي في صورة شاب أمرد قطط له وفرة من شعر وفي رجليه نعلان من ذهب الحديث، قال الحافظ السيوطي رحمه اللّه: هو حديث صحيح قال الشيخ محيي الدين في الباب الأحد والثمانين وثلاثمائة: قد اضطربت عقول العلماء في معنى هذا الحديث وفي صحته فنفاه بعضهم وأثبته بعضهم وتوقف في معناه وأوله ولا يحتاج الأمر إلى تأويل فإنه صلى اللّه عليه وسلم، إنما رأى هذه الرؤية في عالم الخيال الذي هو النوم ومن شأن الخيال أن النائم يرى فيه تجرد المعاني في الصور المحسوسة وتجسد ما ليس من شأنه أن يكون جسدا لأن حضرته تعطي ذلك فما ثم أوسع من الخيال قال: ومن حضرته أيضا ظهر وجود المحال فإنك ترى فيه واجب الوجود الذي لا يقبل الصور في صورة ويقول لك معبر المنام:

صحيح ما رأيت، ولكن تأويلها كذا وكذا، فقد قبل المحال الوجود في هذه الحضرة فإذا كان الخيال بهذه القوة من التحكم في الأمور من تجسد المعاني وجعله ما ليس قائما بنفسه وهو مخلوق فكيف بالخالق وكيف يقول بعضهم: إن اللّه تعالى غير قادر على خلق المحال وهو يشهد من نفسه قدرة الخيال على المحال وأطال الشيخ الكلام على ذلك في الباب الثامن والتسعين ومائة. ثم قال: ولو لم يكن من قوة الخيال إل أنه يريك الجسم في مكانين فيكون الإنسان نائما في بيته ويرى في منامه أن عين جسمه في مدينة أخرى وعلى حالة أخرى تخالف حاله الذي هو عليه في بيته وهو عينه لا غيره، لمن أدرك الوجود على ما هو عليه ولولا ذلك ما قدر العقلاء على فرض المحال فإنه لولا صورة في نفسه ما قدر على فرضه. قال: ومن هذا الباب مشاهدة المقتول في سبيل اللّه في المعركة وهو عند اللّه حي يرزق ويأكل وروى الترمذي في حديث القبضتين مرفوعا: أن الحق لما فتح قبضته أي: كما يليق بجلاله فإذا فيها آدم وذريته فآدم في هذه القصة في القبضة وهو عينه خارجها فيا من يحيل الجمع بين الضدين ما تقول في هذا الحديث وأطال في ذلك هذا كلامه بحروفه، فتأمله وحرره واللّه يتولى هداك.

(فإن قلت): فإذن المواطن تحكم بنفسها على كل من ظهر فيها فمن مر على موطن انصبغ به كما حكم الخيال على صاحبه برؤية الحق تعالى في صورة ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الرابع والسبعين وأربعمائة: نعم، وهو كذلك والدليل الواضح في ذلك ما ذكرته في السؤال من رؤيتك للّه تعالى في المنام. الذي هو موطن الخيال في صورة فإذا كان الحكم الموطن قد حكم عليك في الحق تعالى بما هو منزه عنه فلا تراه إلا كذلك فكيف بغيره ثم إنك إذا خرجت من حضرة الخيال إلى موطن النظر العقلي لم تدرك الحق تعالى إلا منزها عن تلك الصورة التي أدركته فيها في موطن الخيال، فإذا كان الحكم للمواطن عرفت إذا رأيت الحق تعالى ما رأيت وأثبت ذلك الحكم للموطن حتى يبقى الحق تعالى لك مجهولا أبدا فلا يحصل لك به إحاطة أبدا وغاية أمرك توحيد المرتبة له لا غير. وأما علمك بذاته تعالى فهو محال لأنك لا تخلو عن موطن تكون فيه يحكم عليك ذلك الموطن بحاله فلا تعرف اللّه تعالى من حيث ما يعرف اللّه نفسه أبدا فما عندك من معرفته في موطن ينفذ منك في موضع آخر فما عندك من العلم به ينفذ وما عنده تعالى من علمه بنفسه لا يتغير ولا يتبدل انتهى.

(فإن قلت): فإذا كان ما يراه الإنسان في النوم بهذه المثابة فلا يصح لأحد القطع بما يراه في المنام أبدا ؟

(فالجواب): نعم. وهو كذلك كما ذكره الشيخ في “ لواقح الأنوار “ قال: لأن دائرة الخيال واسعة وكل ما يظهر فيها ومنها يحتمل التأويلات فلا يحصل القطع إلا إن استند الرائي إلى علم آخر وراء ذلك. إذ الخيال ليس له حقيقة في نفسه لأنه أمر برزخي بين حقيقتين وهما:

المعاني المجردة والمحسوسات، فلهذا يقع فيه الغلط قال: وانظر إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم حين أتاه جبريل بصورة عائشة في سرقة من حرير وقال له: “ هذه زوجتك “ كيف قال له: إن يكن من عند اللّه يمضه ولو أن جبريل أتاه بذلك من طريق الوحي المعهود في الحس أو بطريق المعاني المجردة الموجبة لليقين لما كان يمكنه الجواب بمثل ذلك لأن النصوص لا يدخلها تأويل ولا خطأ ولا تردد انتهى.

(فإن قلت): فما السبب الداعي لرؤية اللّه تعالى في النوم مع قوله صلى اللّه عليه وسلم: “ إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا “. السابق أول المبحث.(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الخامس والثلاثين وثلاثمائة: إن السبب لرؤية اللّه في المنام كون النوم أخا للموت فمعنى الحديث: إنكم ترونه بعد موتكم لا في حال موتكم فما نفى الشارع إلا رؤية اللّه في الدنيا يقظة لغير من استثنى وسبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار إلا لمن أمده اللّه بالقوة بخلاف نشأة الآخرة لقوتها.(فإن قلت): فما محل وقوع النوم في العالم ؟

(فالجواب): محل النوم ما تحت مقعر فلك القمر خاصة، وما فوق فلك القمر لا نوم وأما محله في الآخرة فهو ما تحت مقعر فلك الكواكب الثابتة. قال الشيخ محيي الدين: ومن هنا أنكر بعضهم كون الملائكة يرون ربهم. وقال: إن الملائكة خلقوا للبقاء من غير موت فلا يرون اللّه في الدنيا ولا في الآخرة لعدم موتهم ونومهم وقد أطال الشيخ الكلام على الرؤيا في الباب التاسع والتسعين من “ الفتوحات “. وذكر في موضع آخر من “ الفتوحات “ أن جبريل لا يرى ربه في الدني وإنما يراه في الآخرة فقط فليتأمل ويحرر.

(فإن قلت): فما الفرق بين النوم والموت ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السابع عشر وثلاثمائة: إن الموت فيه إعراض الروح عن تدبير الجسم بالكلية ويزول بذلك جميع القوى كما يدخل الليل بمغيب الشمس وأما النوم فليس هو إعراضا عن الجسم بالكلية وإنما هو حجب أبخرة تحول بين القوى وبين مدركاتها الحسية مع وجود الحياة في النائم كالشمس إذا حال السحاب دونها ودون موضع خاص من الأرض، بكون الضوء موجودا كالحياة وإن لم يقع إدراك الشمس لذلك السحاب المتراكم بينها وبين الأرض.

(فإن قلت): فما السبب في عدم نقض وضوئه صلى اللّه عليه وسلم بالنوم ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الأحد وثمانين وثلاثمائة: أن السبب في ذلك شدة حياة قلبه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا انتقل إلى عالم الخيال لم يتغير عليه حال بل يرى صورته هناك بسرعة يقظانه فكأنه لم ينم فلم يحدث وكذلك جسده المحسوس لم يطرأ عليه ما ينقض طهارته ومن هنا قال بعضهم: النوم سبب للحدث ما هو عين الحدث.

(فإن قلت): فمن أصدق الناس رؤيا ؟

(فالجواب): أصدقهم رؤيا من تجلّى له ما رآه في حضرة خياله الذي هو فيه فهذا هو الذي تصدق رؤياه أبدا.

(فإن قلت): فإذن كل رؤيا صادقة ؟

(فالجواب): نعم. هي صادقة بلا شك لا تخطىء وإذا قيل: إن الرؤي أخطأت فما أخطأت، وإنما الذي عبرها هو المخطىء حيث لم يعرف ما المراد من تلك الصورة ألا تراه صلى اللّه عليه وسلم، قال لأبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه حين عبر الرؤيا: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، وما قال له: خيالك فاسد لأنه رأى حق ولكن أخطأ في التأويل وقد أطال الشيخ الكلام على ذلك في الباب الثالث والستين من “ الفتوحات “ فراجعه.

(فإن قلت): فما الفرق بين الرؤيا والحلم المشار إليهما في حديث الرؤيا من اللّه والحلم من الشيطان ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة، في الكلام على اسمه تعالى الحليم: أن الرؤيا هي رؤيا الأمر على ما هو عليه في نفسه وأما الحلم فهو رؤيا الأمر على خلاف ما هو عليه، يقال: حلم الأديم إذا فسد وكذلك النوم أفسد المعنى عن صورته لأنه ألحقه بالحس وليس بمحسوس فإذا أخبر المحتلم العارف بما رأى عبر له ذلك العارف بنقل تلك الصورة. إلى المعنى الذي ظهر به فردها إلى أصلها كما أفسد الحلم العلم وأظهره في صورة اللبن فليس بلبن فرده صلى اللّه عليه وسلم، بتأويل الرؤيا إلى أصله وهو العلم وجرده عن تلك الصورة. وقد جاء رجل إلى محمد بن سيرين رضي اللّه عنه، فقال: إني رأيت أني أرد الزيت في الزيتون فقال له: أمك تحتك فبحث الرجل عن ذلك فوجد أمه تحته تزوجها وما عنده خبر منها، وأين صورة نكاح الرجل أمه من رد الزيت في الزيتون فتأمل وبالجملة فكل من رأى الأمر على ما هو عليه فهو صاحب كشف لا صاحب حلم سواء كان في النوم أو في اليقظة انتهى.

(فإن قلت): فما معنى حديث: “ رؤيا المؤمن على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت “ ؟

(فالجواب): ما قاله الشيخ في الباب الثامن والثمانين ومائة: إن للّه تبارك وتعالى ملكا موكلا بالرؤيا يسمى الروح وهو دون السماء الدنيا وبيده صور الأجساد التي يدرك النائم فيها نفسه وغيره وصور ما يحدث من تلك الصور في الأكوان فإذا نام الإنسان انتقلت اللطيفة الإنسانية بقواها من حضرة المحسوسات إلى حضرة الخيال المتصل بها الذي محله مقدم الدماغ فيفيض عليها ذلك الروح الموكل بالصور من الخيال المنفصل عن الإذن الإلهي ما يشاء الحق تعالى أن يريد لهذا النائم من إدراك المعاني متجسدة ونحو ذلك، حتى أنه يرى الحق تعالى في صورة كما مر، فإذن: ما عبر أحد الرؤيا حيث عبره إلا بعد أن تصورها في خياله فتنتقل تلك الصورة عن المحل الذي كانت فيه حديث نفس أو تحزين شيطان إلى خيال العابر لها.

(فإن قلت): فما المراد بالطائر في الحديث ؟

(فالجواب): الطائر هو الحظ. قال تعالى: قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس: 19] . أي: حظكم ونصيبكم معكم، من الخير والشر، وإيضاح ذلك أن اللّه تعالى إذا أراد أن يري أحدا رؤيا جعل لصاحبها فيما يراه حظا من الخير والشر بحسب ما تقتضي رؤياه فيصور اللّه تعالى ذلك الحظ طائرا وهو ملك في صورة طائر كم يخلق من الأعمال صورا ملكية روحانية جسدية برزخية وإنما جعلها الحق تعالى في صورة طائر لأنه يقال: طار فهمه بكذا فإذا وقعت الرؤيا جعلها اللّه تعالى معلقة برجل هذا الطائر وهي حقيقة عين الطائر فإذا عبرت سقطت لما عبرت له وعندما تسقط ينعدم الطائر لأنه عين الرؤيا فينعدم لسقوطها ويتصور في عالم الحس بحسب الحال التي تخرج عليه تلك الرؤيا فترجع صورة الرؤيا عين الحال، لا غير وتلك الحال إما عرض وإم جوهر وإما نسبة عن ولاية أو غيرها، هي عين صورة تلك الرؤيا وذلك الطائر ومنه خلقت ولا بد كما خلق آدم من تراب ونحن من ماء مهين انتهى.

(فإن قيل): فما وجه تخصيص النبي صلى اللّه عليه وسلم، الستة وأربعين جزء من حديث الرؤيا جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة ؟

(فالجواب): وجهه أن رسالته صلى اللّه عليه وسلم، كانت ثلاثا وعشرين سنة وقعت له الرؤيا قبل الرسالة مدة ستة أشهر فانسب الستة أشهر إلى ستة وأربعين جزءا تجدها صحيحة فالمراد بالجزء منها هنا النصف ولذلك كان صلى اللّه عليه وسلم، يقول لأصحابه إذا أصبح هل رأى أحد منكم رؤيا لكون الرؤيا من أجزاء النبوة إذ هي مبتدأ الوحي فكان يحب أن يشهد النبوة في أمته هذا والناس في عماية الجهل عن هذ المعنى الذي اعتنى به صلى اللّه عليه وسلم، وقصده وسأل عنه كل يوم بل بعضهم يستهزئ بالرائي إذا اعتمد على تلك الرؤيا وذلك جهل بمقامها وأطال الشيخ في ذلك الباب الثالث والستين وثلاثمائة، وذكر فيه الفرق بين الرؤيا والمبشرات فراجعه واللّه تعالى أعلم.

(خاتمة): في الكلام على رؤية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: اعلم أن الأصل في ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم السابق أول المبحث خير الرؤيا أن يرى العبد في منامه أو يرى نبيه وقوله صلى اللّه عليه وسلم: “ من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي “. وليس بعد الحق تعالى أعظم من محمد صلى اللّه عليه وسلم، فوجب علينا الاعتناء بالكلام على رؤيته في المنام. إذا علمت ذلك فأقول وباللّه التوفيق: إنما كان الشيطان لا يتمثل به صلى اللّه عليه وسلم، لم ورد أنه صلى اللّه عليه وسلم، لما ولد جاءه الشيطان وجنوده حتى دخلوا مكة فوجدو نورا يسطع منه إلى السماء له شعاع كلما دنا منه شيطان احترق فمن ذلك اليوم والشياطين كلهم يفرون ويفزعون من صورته صلى اللّه عليه وسلم، ولأجل هذا الفزع أسلم قرينه كما جاء في الحديث بناء على ضبط أسلم بفتح الميم وقد ضبطه بعضهم بضمه فهذا هو السبب في كون الشيطان لا يتمثل به صلى اللّه عليه وسلم.(فإن قلت): كيف عصم اللّه صورة محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولم يمنع تصور الشياطين ودعواهم أنهم الحق تبارك وتعالى ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الأربعين وخمسمائة: إن الشياطين إنما لبست على بعض الحمقى بالتصور بصورة ادعوا أنها صورة الحق لكون الحق تعالى ليس له صورة تعقل فلذلك جاء الشيطان إلى جماعة في المنام وقال لهم: إني أن اللّه فمنهم من هدى اللّه فرده خاسئا ومنهم من حقت عليه الضلالة بخلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإن له صورة معقولة ثابتة الأوصاف في الأحاديث الصحيحة فإذا جاء إبليس في صورة غيرها ردت عليه. حتى قالوا: من شرط الرؤيا الصحيحة أن يراه صلى اللّه عليه وسلم، مكسور الثنية كما كان في حياته ومعنى قوله في الحديث السابق فقد رآني أي: رأى حقيقة جسمي وروحي وصورتي معا وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا تبلى أجسادهم ولا تتغير صورهم وهم في قبورهم يصلون كما جاءت به الأحاديث.

(فإن قيل): كيف يراه وهو بالمدينة وبينه وبين هذا الرائي مسافات بعيدة ؟

(فالجواب): أن رؤية المنام ليس حكمها حكم رؤية العين التي في رأسه حتى يجب الحضور وإنما الرؤية له صلى اللّه عليه وسلم، بالعين التي في قلب الرائي وذلك لا يستدعي حضور المرئي بل يرى من المشرق إلى المغرب وتخوم الأرض إلى العرش، وذلك كما ترى الصورة في المرآة المحاذية لها وليست الصور منتقلة إلى جرم المرآة ومعلوم أن العين الباطنة كالمرآة يرتسم فيها ما قابلها من العلويات والسفليات.

(فإن قيل): فما الحكم فيما إذا رآه صلى اللّه عليه وسلم، جمع كثير في وقت واحد على صفات مختلفة كأن يراه بعضهم شيخا ويراه آخر شابا ويراه آخر ضاحك، وآخر باكيا، وآخر طويلا، وآخر قصيرا، وغير ذلك ؟

(فالجواب): أن هذه الاختلافات كلها راجعة إلى الرائين لا إلى المرئي صلى اللّه عليه وسلم، ومثاله المرايا الكثيرة المختلفة الأشكال والمقادير إذ قابلت وجه إنسان يرى وجهه في المرآة الكبيرة كبيرا وفي الصغيرة صغيرا، وفي المعوجة معوجا، وفي الطويلة طويلا، وفي المقعرة مقعرا، إلى غير ذلك في الاختلافات في ذلك راجعة إلى اختلافات أشكال الرائي لا إلى وجه المرئي وكذلك الراؤون للنبي صلى اللّه عليه وسلم، أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة بحسب استقامتهم على شريعته واعوجاجهم فعلم أن جميع ما يرى من النقص في صورة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فهو راجع إلى الرائي.

* - قال الشيخ أبو طاهر القزويني رحمه اللّه تعالى: وإني لأرى جماعة من الحمقى تشمئز طباعهم من ضرب الأمثال بالمرآة ونحوها، في مثل هذا الذي ذكرناه من رؤية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على صفات مختلفة وذلك جهل منهم يضاهون قول الذين كفروا من قبل حين ضرب اللّه الأمثال بالذبابة والعنكبوت حتى أنزل اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَم فَوْقَها [البقرة: 26] . يعني واللّه أعلم في الصغر والحقارة فالأمثال أعظم شيء في تفهيمات المعنى وقالوا الأمثال مرايا القلوب يعني: أن عين القلب ترى في الأمثال من صور المعاني ما تراه عين الرأس في المرآة من صور الأجسام قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (43) [العنكبوت: 43] . والكتب المنزلة من السماء أكثرها أمثال مضروبة فعلم أن الرائي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على تلك الصور والأشكال المختلفة راء له حقيقة فإن تلك الصور كلها أمثلة له خيالية والمرئي بواسطتها هو النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهذا كما يقول الإنسان: رأيت وجهي في الماء ومعلوم قطعا أن وجهه ليس منتقلا إلى الماء حتى يراه فيه وإنما معناه رأيت حقيقة وجهي بواسطة مثاله في الماء فيكون المثال واسطة لا يلتفت إليه إذ لا حقيقة له حتى يكون مرئيا لذاته وإنما هو هيئة يريك اللّه تعالى وجهك بواسطتها وذلك من عجائب قدرته التي تكل الأفهام عن دركها ولا فرق بين أن تقول رأيت وجه صديقي بعيني، وبين قولك: رأيت وجه صديقي في الماء إذ المرئي في الحالتين واحد غير أن اللّه تعالى أجرى العادة أن من نظر في صقيل كالماء والمرآة يرى في ذلك الصقيل وجهه فيظن أن في ذلك الصقيل شيئا يراه هو مثالا لوجهه وذلك خيال باطل. لأن الصقيل في ذلك الحال يتلون بلونه الخاص ولا يقوم لونان بمحل واحد في واحدة فعلى هذا: من رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم، في نومه فقد رآه حقيقة بروحه وجسده، كما قال صلى اللّه عليه وسلم: “ فقد رآني وأطلق “، كما أنه صلى اللّه عليه وسلم، لما كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام، في صورة دحية الكلبي يراه حقيقة لا مثالا. قال الشيخ أبو طاهر القزويني رحمه اللّه: وكان الغزالي رحمه اللّه يقول: من رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لم ير حقيقة شخصه المودع في روضة المدينة وإنما رأى مثاله لا شخصه قال: وبلغنا عن الغزالي أيضا أنه كان يقول: ما يراه النائم من المثال إنما هو مثال روحه صلى اللّه عليه وسلم: المقدسة عن الصورة والشكل وشبه رؤية اللّه في المنام بذلك فلا أدري ما أراد به رحمه اللّه ه.(فإن قلت): فهل يصدق من ادّعى رؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم، في اليقظة الآن ؟

(فالجواب): نعم يصدق وقد أخبرني الشيخ الصالح عطية الأبناسي والشيخ الصالح قاسم المغربي المقيم في تربة الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه، والقاضي زكريا الشافعي أنهم سمعوا الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه اللّه تعالى يقول: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في اليقظة بضعا وسبعين مرة وقلت له في مرة منه: هل أنا من أهل الجنة يا رسول اللّه ؟ فقال: نعم ! فقلت: من غير عذاب يسبق، فقال: لك ذلك، قال الشيخ عطية: وسألت الشيخ جلال الدين مرة أن يجتمع بالسلطان الغوري في ضرورة وقعت لي. فقال لي: يا عطية أنا أجتمع بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، يقظة وأخشى إن اجتمعت بالغوري أن يحتجب صلى اللّه عليه وسلم، عني، ثم قال: إن فلانا من الصحابة كانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى في جسده لضرورة فلم ير الملائكة بعد ذلك عقوبة له على اكتوائه انتهى. قال الشيخ قاسم المذكور: وأكثر ما تقع رؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم، يقظة بالقلب ثم تترقى إلى رؤية البصر. قال: وليست رؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم، كرؤية الناس بعضهم بعضا وإنما هي جمعية خيالية وحالة برزخية، وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره ه. وقد ألف الشيخ جلال الدين المذكور كتابا سماه تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك وذكر فيه من كان يجتمع بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، وبالملائكة يقظة من الصحابة والأولياء والعلماء ولم يذكر عن نفسه شيئا مما ذكرناه عن هؤلاء الأشياخ الثلاثة العدول الثقات الذين لا يتهمون في مثل ذلك، فيصدق من قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يقظة مطلقا وكان الشيخ محمد المغربي رحمه اللّه يقول: بين العبد وبين مقام رؤية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقظة مائتا ألف مقام وسبعة وأربعون ألف مقام وتسعمائة وتسعة وتسعون مقاما لا بد للسالك من قطعها كلها حتى يصح له مقام الرؤية في اليقظة، وكان رضي اللّه عنه يقول أيضا: إن من ادّعى رؤية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما رأته الصحابة فهو كاذب وإن ادّعى أنه يراه بقلبه حال كون القلب يقظانا فهذا لا يمنع منه وذلك لأن من بالغ في كمال الاستعداد بتنظيف القلب من الرذائل المذمومة حتى من خلاف الأولى صار محبوبا للحق تعالى وإذا أحب الحق تعالى عبدا كان في نومه من كثرة نورانية قلبه، كأنه يقظان قال: وحينئذ فم رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إلا بروحه المتشكلة بشكل الأشباح من غير انتقال ذاته الشريفة ومجيئها من البرزخ إلى مكان هذا الرائي لكرامتها وتنزيهها عن كلفة المجيء والرواح هذا هو الحق الصراح انتهى.

فعلم أن المراد بقول من قال: إنه يراه يقظة يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية والسلام.

(فإن قلت): فهل يجب على الرائي العمل بما يسمعه من هذه الصورة ؟

(فالجواب): لا يجب على أحد العمل بمثل ذلك لعدم العصمة ولخوف تطرق الخلل إلى الشرع الظاهر لا سيما إن خالف نصا صريحا.

(فإن قلت): فما حكم ما يراه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟

(فالجواب): أن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، العمل بما يرونه في المنام وذلك أن الأنبياء لا يرون إلا حقا وما يرونه في المنام حكمه حكم اليقظة ويؤيد ذلك حديث إن عيني تنامان ولا ينام قلبي وكذلك الأنبياء فجميع ما ينطبع في عالم أمثالهم حق إذ هو من خزانة علم الحق بتوسط الملكوت السماوي، وهذا لا يمكن الخط فيه ولا التأويل.

(فإن قيل): فإذا انعكس نور قلوبهم إلى الجهة العلوية فهل يحتاج إلى تأويل ؟

(فالجواب): أن مثل ذلك يحتاج إلى تأويل كما وقع في قصة يوسف ورؤيته الأحد عشر كوكبا ولهذا قال يوسف: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف: 100] واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!