موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثالث والعشرون: في إثبات وجود الجن ووجوب الإيمان بهم

وذلك لإجماع أهل السنة سلفا وخلفا على إثباتهم مع نطق القرآن وجميع الكتب المنزلة بهم وهم من الخلق الناطق يأكلون ويتناكحون ويتناسلون. قال الشيخ أبو طاهر القزويني: ومما يدل على وجودهم تخيل عامة الناس من آثارهم الخفية قال: وقد أنكرت المعتزلة الجن أصلا وزعموا أن الجن عبارة عن دهاة الناس والشياطين عبارة عن مردة الناس وأشرارهم فردوا بذلك نص القرآن الدال على وجودهم وأوصافهم.

(فإن قلت): فكم أصول الخلق كلهم ؟

(فالجواب): كما قاله الماوردي: إن أصول الخلق أربعة أشياء: الماء، والتراب، والهواء، والنار، فالماء والتراب ظاهران للخلق والهواء والنار خافيان عنهم ومعلوم أن النار مشتملة على نور ولهب ودخان، فالنور ضياء محض والدخان ظلمة محضة واللهب هو المارج المتوسط وهو الشرر المحض. وخلق اللّه الجان من مارج من نار فلهم نسبة إلى الملائكة بالنورية ولهم نسبة إلى الشياطين بالظلمة الدخانية ولذلك كان منهم المطيع والعاصي والمؤمن والكافر. قال تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) [الحجر: 27] . قيل: هي نار الشمس وقيل: هي نار الصواعق، وأما إبليس فقد اختلفوا فيه أهو من الملائكة أم من الجن فقال قوم: كان من الجن الذين استكبروا في الأرض فحاربهم الملائكة وسبوا إبليس منهم إلى السماء فصار بالحكم من الملائكة فإن مولى القوم من أنفسهم وكان من النسب جنيا فيصدق فيه القولان وقيل: إنه من الجن فعلا ومن الملائكة نوع فباعتبار فعله كان من الكافرين. قال الماوردي: ثم إن اللّه تعالى خلق سكان البر والبحر من الطين والماء كالإنسان والأنعام والوحوش والطيور والحشرات، وخلق الحيتان والضفدع وغيرها من نبات الماء فصار هؤلاء الأجناس الأربعة من المخلوقات من الأصول الأربعة جنسين صاعدين لصعود أصليهما وهما الملائكة والجن وجنسان هابطان لهبوط أصليهما وهما حيوان البر وحيوان البحر، ذكر ذلك كله الماوردي في كتاب “ النبوة “ ثم اعتذر. فقال: إنما نقلت هذه العبارات من ألفاظ المنكرين لها لأن الاستدلال بلسان الخصوم يكون أوقع عندهم وأدعى إلى التزام الحجة انتهى. قال الشيخ أبو طاهر رحمه اللّه: واعلم أن كل جنس من هؤلاء لا بد إذا تم خلقه بقدرة اللّه أن تزول صورة أصله ويتشكل بشكل آخر لا يشبه أصله وتأمل الإنسان كيف زالت عنه صورة الماء والطين والتراب، وصار لحما وعظما وبشرة إلى غير ذلك ثم تشكل بهذه الصور المخصوصة والهيئة المشهودة. وكذلك القول في جميع الحيوانات من السباع والطيور وأشكالها مختلفة لا يشبه بعضها بعضا وهكذا تكون صفة الملائكة والجن والشياطين فإنه قد زالت صورة الهواء عن ظاهر أجسادهم وصور اللّه لهم هيئات لطافا ولذلك سمو روحانيين، ثم إن لتلك الأنوار أشكالا وصورا لطيفة لائقة بذاتها يتمايز بعضه كأشكال الحيوانات الأرضية لا يعلمها إلا اللّه تعالى:

وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] وتلك الصورة لازمة في اختلافاتها وفي تنوعها ولكنها ممنوعة عن أبصارنا لغاية لطافته كالهواء والرياح وقد يكون بعضها عارضة كالصور التي يتصورون فيها أحيانا فيراهم الأنبياء والأولياء بواسطتها ثم تزول عنهم وذلك يجري لهم مجرى اختلاف اللباس لن وسببه أن أجسامهم لغلبة اللطافة والرقة كأنها تمتزج بالهواء فيتصور الهواء بم شاؤوا من الصور في عين الرائي دون الهواء وتارة تظهر مرتسمة الهواء ارتسام قوس قزح حتى يراها الحاضرون أيضا في صورة الخضرة والحمرة والصفرة وغير ذلك. كما رأى عبد اللّه بن عباس صورة جبريل مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، ولم يرها أبوه العباس وكان معه في المسجد فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم، بذلك فقال: أما إنه سيعمى ولكن اللّه يفقهه في الدين ويعلمه التأويل. قال: وقد أقدر اللّه تعالى الجن على أن يظهروا في أي صورة شاؤوا كما أقدرن أن نظهر في أي لباس شئنا فكما أن أشكال اللبس لنا مسخرة كذلك كانت أشكال الصور لهم مسخرة غير أن لباسنا من نسج الغزل والقز ولباسهم من نسج الهواء والأشعة وكل يعمل على شاكلته قال: ولما كان جسم الملك والجني أرق من الهواء يعني: في سرعة التطور دقت أجسامهم عن أبصارنا ولكن إذا أراد اللّه عز وجل أن يرينا الملك أو الجني كيّف الهواء وأعطاهم القدرة على ما تشكلوا به من لباس الهواء بأي شكل وصورة شاؤو فيراهم الناس على تلك الصورة كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) [الأنعام: 9] والملك لا يكون رجلا في الحقيقة وإنما يتشكل بصورة الرجل بواسطة الهواء المتكاثف لأن الهواء إذا تكاثف أمكن إدراكه كالسراب.

(فإن قلت): فما المعنى من قوله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] ؟

(فالجواب): معناه واللّه أعلم من حيث لا ترونهم في الصورة التي خلقهم اللّه عليها وأما رؤيتهم إذا تشكلوا في غير صورهم من كلب وهر فلا منع بل هو واقع كثيرا.

(قلت): وقد وقع أن شخصا منهم جاءني بنيف وسبعين سؤالا في التوحيد يطلب جوابها مني وكان على صورة كلب أصفر مثل كلاب الرمل السالمة من الدنس وذلك ليلا فظن الفراش أن ذلك كلب حقيقة فغسل المسجد كله بالماء والطين فأجبتهم عنه وسميته كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان وهو مجلد لطيف.(فإن قلت): فهل يكونون محجوبين عنا في الجنة كما في الدنيا ؟

(فالجواب): لا بل ينعكس الحكم هناك فنراهم ولا يرونا إلا الخواص منهم فإنهم يروننا كما يرى الخواص منا الجن هنا.

(فإن قلت): فهل تختلف أصواتهم بحسب الصورة التي تطوروا فيها أم هم باقون على أصواتهم الأصلية ؟

(فالجواب): تختلف أصواتهم تبعا للصورة التي ظهروا بها إذ الحكم للصورة التي دخلوا فيها من آدمي أو بهيمة أو غير ذلك من سائر الحيوانات.

(فإن قلت): فإذا دخلوا في صورتنا فهل ينطقون بجميع حروف كلامنا أم يخالفون ؟

(فالجواب): يخالفون في البعض دون البعض فلا تشبه أصواتهم أصواتنا في جميع الأمور وذلك لأن أجسامهم لطيفة فلا يقدرون على مخارج الحروف الكثيفة لأنه تطلب انطباقا وصلابة وذلك غير موجود عندهم.

(فإن قلت): فكيف يحصل لنا العلم من كلامهم الناقص للحروف ؟

(فالجواب): حصول العلم لنا من كلامهم إنما هو لنطقهم بمثال حروفن لا بحقيقها فلو نطقوا بحقيقة حروفنا ونقصوا من الكلمة حرفا واحدا ما فهمنا من كلامهم شيئا.

(فإن قلت): فهل يقدر أحدهم على أن يتكلم بكلام البشر وهو في غير الصورة الإنسانية ؟

(فالجواب): لا يقدر روحاني على ذلك أبدا إلا إن خرقت له العادة.

(فإن قلت): قد تقدم أول المبحث أن الجان خلق من مارج من نار، والمارج في اللغة:

الاختلاط، فما هذا الاختلاط ؟

(فالجواب): هو نار مركبة فيها رطوبة المواد ولهذا يظهر لها لهب وهو اشتعال الهواء فهو حار رطب.

(فإن قلت): إن الشياطين من الجن هم الأشقياء البعداء خاصة فلم أبقى عليهم اسم الجنس الذي هو الجان ؟

(فالجواب): إنما أبقى عليهم اسم الجن لأن الجان خلق بين الملائكة والبشر الذي هو الإنسان ومعلوم أن الجان عنصري ولهذا تكبر ولو كان طبيعيا خالصا لم يغلب عليه حكم العنصر ما تكبر وكان مثل الملائكة فهو برزخي النشأة فله وجه إلى الأرواح النورية بلطافة النار منه بدليل أن له الحجاب والتشكل وله أيضا وجه النيابة فكان عنصريا رمادا كما مرت الإشارة إليه في كلام الماوردي. وأعطاه الاسم اللطيف أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يشعر به ولولا تنبيه الشارع لنا على لمة الشيطان ووسوسته في صدورنا ما علمنا أن ثم شيطانا فما أقدر الجان على الاستتار عن أعين الناس إلا الاسم اللطيف ولهذا كانت أبصارنا لا تدركهم إلا متجسدين.

(فإن قلت): فهل ثم فرق بين لفظ الجسم ولفظ الجسد ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والأربعين وثلاثمائة: إن بينهما فرقا وذلك أن الجسم هو المعروف في العموم لطيفة وشفافة وكثيفة ما يرى منه وما لا يرى وأما الجسد فهو ما يظهر فيه الروحاني في اليقظة الممثلة في صور الأجسام ومنه ما يظهر إدراكه للنائم في نومه مما يشبه بالأجسام ويعطيه الحس وليست هذه الأمور في نفسها بأجسام انتهى.

(فإن قلت): فهل المرئي بواسطة الصور التي يتطور فيها الجني أو الملك هو الملك حقيقة أو الجني ؟

(فالجواب): نعم الملك والجني حقيقة كما أن المسموع بواسطة الحروف والأصوات هو كلام اللّه حقا. وقد سئل بعضهم عن حد الجني فقال: هو حيوان هوائي ناطق من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة.

(فإن قلت): فهل ثم من الجن من يقسم الإنسان عليه بأسماء اللّه تعالى فلا يبر قسمنا أم كلهم يبرون قسم من أقسم عليهم ؟

(فالجواب): كلهم يبرون قسم من أقسم عليهم لا يقدرون على رد أنفسهم عن ذلك بخلاف الإنس. قال الشيخ أبو طاهر: ويقال إن الجن لا يجيبون إلا بالعزائم وإنما إذا قرئت على المجنون كان لها شعاع كشعاع الشمس يقع على الجني فيحضرهم ويردهم إلى الطاعة طوعا بحيث لا يمكنهم العصيان ولقد كانوا مسخرين لسليمان عليه الصلاة والسلام، كما سخرت له الريح وهم أجساد لطاف كالريح يدخلون أجواف بني آدم دخول النار في الفضة المذابة فتراها تضطرب في البوطة وكذلك المصاب يضطرب عند قراءة العزائم عليه وفي الحديث إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم.

(فإن قلت): فما الدليل على أن الجن مكلفون ؟

(فالجواب): الدليل على ذلك قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] وكانوا تسعة من جن نصيبين. وقد كان صلى اللّه عليه وسلم، رآهم ببطن النخلة قد أتوا من شعب الحجون فخط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حول عبد اللّه بن مسعود حطّا وقال: لا تخرج منه وقال ابن مسعود: لما حضرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان بينهم خصومة في دم فكنت أسمع لغطهم حين قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بينهم ثم علمهم سورة الرحمن وأوجب عليهم الصلوات كما هو مشهور في التفاسير.

(فإن قلت): فما الدليل على دخول الجن الجنة ؟

(فالجواب): قد سئل عن ذلك ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما، فمكث سبعة أيام حتى اطلع على قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ [الرحمن: 56] . يعني: الحور إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56] فقال: هذا دليل على أن الجن يدخلون الجنة انتهى. وقال الضحاك: يدخل الجن الجنة ويثابون على أعمالهم كالإنس. وقال سفيان: يثابون على الإيمان بأن يجاوزوا النار خلاصا ثم يقال لهم: كونو ترابا قال الشيخ أبو طاهر: وأكثر الجن لا يعتقدون البعث لقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) [الجن: 7] .

(فإن قلت): فهل منعهم من استراق السمع باق إلى يوم القيامة، من منذ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أم ذلك إلى مدة معلومة ؟

(فالجواب): الصحيح ممنوعون منه إلى يوم القيامة وبتقدير استراقهم السمع فلا يتوصلون إلينا ليخبرونا بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم.

(فإن قلت): فما حقيقة هذه الشهب ؟

(فالجواب): أن فيها قولين: قيل هو نور يمتد بشدة ضيائه فيحرق الجني ثم يعود إلى مكانه وقيل: هو على هيئة النجم ينقض من تحت السماء فيحرقهم فلا يعود.

(فإن قلت): فهل إبليس أبو الجان كما هو مشهور في أفواه الناس ؟

(فالجواب): ليس إبليس بأب للجان فإن الجان كانوا قبله وإنما هو أول من عصى.

(فإن قلت): فما مرتبة إبليس ؟

(فالجواب): مرتبته أن يوسوس للناس بما يهلكهم أو ينقص مقامهم عند اللّه تعالى من حيث لا يشعرون ولكن قد أخبر اللّه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّم سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) [النحل: 99، 100] أي: يضيفون إليه أمر الإغواء مع الغفلة عن اللّه تعالى وتقديره فمن أخذ وسوسته مع الحذر منه ولم يعمل بها نجا من كيده ومن دسائسه التي تخفى أن يجد الإنسان في طاعة فيوسوس له بفعل غيرها لينقله منها ويفسخ عزمه ونيته الأولى مع اللّه تعالى ، ثم إن خالفه العبد في ذلك، حسن له فعلا آخر وقال له: إن ذلك الفعل أفضل مما أنت فيه. ومن دسائسه أيضا أنه يأتي العبد بالكشف الصحيح والعلم التام ويقنع منه أن يجهل من أتاه به. ومن دسائسه أنه يأتي العبد بنور يكشف به معاصي العباد ويهتك به أستارهم ويظهر به عوراتهم، فيظن ذلك المكاشف أنه نال درجة عظيمة وإنما ذلك من الشيطان لأن الشيطان صار سمعه وبصره فيجب على ذلك المكاشف المبادرة للتوبة وإلا هلك. ومن دسائسه التي تخفى على غالب الأولياء أنه ينظر إلى قلب الولي فإن رآه يستمد من العماء مثل له عماء وأتاه منه وكلمه منه أو عرشا فكذلك أو كرسيا فكذلك أو سماء فكذلك، فإن كان سبق في علم اللّه تعالى حظ هذ العبد منه أطلعه على أن ذلك مفتعل وتلبيس عليه من الشيطان فيرد خاسئا وإن لم يحفظ اللّه العبد هلك مع الهالكين.

(فإن قلت): فهل للشيطان سلطان على ظاهر الإنسان كباطنه أو سلطان على الباطن فقط ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثالث والثمانين وثلاثمائة: أن شياطين الجن ليس لهم سلطان إلا على باطن الإنسان بخلاف شياطين الإنس لهم سلطان على ظاهر الإنسان وباطنه، وإن وقع من شياطين الجن وسوسة وإغواء للناس في ظاهرهم فإنم ذلك بحكم النيابة لشياطين الإنس فإنهم هم الذين يدخلون الآراء على شياطين الإنس.

(فإن قلت): فأي عداوة أشد ؟ عداوة إبليس لآدم أم عداوته لذريته ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الخامس وعشرين وثلاثمائة: إن عداوته لبني آدم أشد من عداوته لآدم وذلك أن بني آدم من ماء والماء منافر للنار وأما آدم فقد جمع بينه وبين إبليس اليبس الذي في التراب فكان بين التراب والنار جامع ولهذا صدقه لما أقسم له باللّه تعالى أنه له من الناصحين وما صدقه الأبناء في ذلك لكونهم أضداده فلهذا كانت عداوته للأبناء أشد من عداوته لأبيهم قال: ثم من رحمة اللّه تعالى بنا أنه لما كان هذا العدو محجوبا عن إدراك أبصارنا جعل اللّه تعالى لنا علامات في القلب من طريق الشرع نعرفه بها تقوم لنا مقام البصر الظاهر لنتحفظ بتلك العلامة من العمل بإلقائه وأعاننا اللّه تعالى عليه أيضا بالملك الذي جعله مقابلا له غيبا لغيب ه.

(فإن قلت): فهل ثم لنا شيطان لا هو إنسي ولا هو جني كما قيل ؟

(فالجواب): نعم وذلك في صورة واحدة إذ الشيطان في سائر مراتبه حسي إلا في صورة واحدة يكون فيها معنويا وهو ما إذا اجتمعت شياطين الإنس والجن وأوحى بعضهم إلى بعض فإنه يحدث بينهما حينئذ شيطان آخر عند وسوستهم معنوي لا إنسي ول جني.

(فإن قلت): فما الفرق بين هؤلاء الشياطين الثلاثة ؟

(فالجواب): الفرق بينهم أن الشيطان الإنسي أو الجني يفتح أحدهما باب الإلقاء في قلب العبد بما يبعده عن اللّه تعالى لا غير وأما الشيطان المعنوي فيستنبط من ذلك شبها وأمورا لم يقصدها إبليس ولا غيره. قال الشيخ محيي الدين: ومثل هذ ينسب إلى الشيطان بحكم الأصالة لأنه هو الذي فتح باب الوسوسة وليس غرض الشيطان من الخلق إلا أن يجهلوه في الخواطر ويصدقوها. قال: وقد أعطى الشبان قوة التجسد قال تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: 34] . وكان روحا تجسد على صورة سليمان فإذا رأى الشيطان من عبد أنه محفوظ ووجد التأييد من اللّه محيطا به ولم يستطع الوصول إليه بالوسوسة تجسد له في صورة إنسان مثله فيتخيل العبد أنه إنسان حقيقي ويأتيه بالإغواء من قبل أذنه فيدخل له فيما حجر اللّه تعالى عليه التأويلات الكثيرة ليوقعه في معاصي اللّه تعالى أدناها أن يقول له مثلك لا يؤاخذه اللّه تعالى لكونه كشف لك أنه الفاعل وأنه المقدر فإن رد ذلك عليه دخل له من باب حسن الظن باللّه، وقال: أحسن ظنك باللّه لأنه لا يؤاخذك فإنك إذا ظننت به ذلك لا يؤاخذك وأنت عبده على كل حال، في حال طاعتك وفي حال معاصيك وذلك لأن إبليس يعلم أن المؤمن لا يقدم على معصية اللّه تعالى ابتداء دون تأويل وتزيين لذلك الفعل ولو أن المؤمن كان يقدم على المعصية بغير وسوسة إبليس ما أوجد اللّه إبليس انتهى. وقد بسط الشيخ الكلام على ذلك في الباب الثالث والثمانين وثلاثمائة فراجعه.

(فإن قلت): فما صورة تناكح الجن ؟

(فالجواب): صورة تناكحهم التواء مثل ما يبصر الدخان الخارج من الألوان أو من فرن الفخار يدخل بعضه في بعض فليتذ كل واحد من الشخصين بذلك التداخل ويكون حملهم من ذلك كلقاح النخلة بمجرد الرائحة.

(فإن قلت): فهل هم قبائل وعشائر كالإنس ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب التاسع من “ الفتوحات “: نعم ويقع منه حروب عظيمة، قال: وبعض الزوابع قد يكون من حربهم فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل واحدة صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك المنع إلى الدور المشهور في الغبرة في الحس وما كل زوبعة تكون من حروبهم.

(فإن قلت): فمن أول من سمي من الجن شيطانا ؟

(فالجواب): هو الحارث فأبلسه اللّه تعالى أي: طرده من رحمته ومنه تفرقت الشياطين بأجمعها فمن آمن منهم مثل هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس التحق بالمؤمنين من الجن ومن بقي منهم على كفره كان شيطانا.

(فإن قلت): فهل يصح في حق شيطان أن يسلم كما يسلم الكافر عندنا من الإنس ويصير مؤمنا ؟

(فالجواب): قد اختلف الناس في ذلك ومبنى خلافهم على ضبط ميم فأسلم فإن بعض الحفاظ ضبطها بالضم أي: فأسلم أنا منه وهو باق على كفره وبعضهم ضبطه بالفتح ولفظ الحديث ما من أحد إلا وله قرين يأمره بالسوء فقالوا: وأنت يا رسول اللّه، قال: نعم ولكن أعانني اللّه عليه فأسلم وفي بعض طرق الحديث فلا يأمرني إلا بخير فهذه الزيادة تدل على أنه يصح إسلامه في الجملة، فإن إبليس قد أنظره اللّه تعالى إلى يوم الدين. يعني: الجزاء حين تنقطع التكاليف فلا يصح أن يسلم أبدا لأنه لو جاز أن يسلم لتعطل بعض حضرات الأسماء الإلهية وما عصى اللّه أحد فإنه لا يصح في الوجود كله معصيته من أحد إلا بواسطته إما بنفسه وإما بأعوانه واللّه أعلم.

(فإن قلت): فإذا كان إبليس أول من عصى فهو نظير قابيل سواء ؟

(فالجواب): نعم والأمر كذلك فكما كان قابيل أول الأشقياء من البشر فكذلك كان إبليس أول الأشقياء من الجن ولذلك قال تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: 50] .

أي: من هذا الصنف المخلوقين الأشقياء.

(فإن قيل): قد حكى اللّه تعالى عن إبليس أنه إذا قال للإنسان: اكفر فلما كفر يقول:

إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر: 16] فهل يدل هذا الخوف على توحيده باطنا ؟

(فالجواب): لا يدل ذلك على توحيده لأنه أول من سن الشرك في العالم ثم بتقدير صحة توحيده ذلك الوقت فما يدرينا أنه لحقه شبهة طرأت عليه على الفور فأخرجته عن ذلك التوحيد فإنه لا بد أن يموت على الكفر قطعا فافهم.

(فإن قلت): إن الكفر الذي أمر به إبليس ليس بشرك فإن الكفر هو تعيين الألوهية لغير من هي له مع عدم وجود إله ثان في عقده والشرك هو جعل المشرك مع اللّه تعالى إلها آخر فمن أين جاء أن إبليس أول من سن الشرك في العالم.(فالجواب): أن المراد بالكفر هنا هو الشرك وهو الظلم العظيم كما قال لقمان: ذلك لابنه، ولذلك قال تعالى في آخر الآية: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة: 29] . يريد المشركين فإنهم هم الذين لبسوا إيمانهم بظلم فعلمنا بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] . وتفسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الظلّم بالشرك أن المراد بالإيمان في قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] الإيمان بتوحيد اللّه عز وجل، إذ الشرك لا يقابله إلا التوحيد فعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم، ما لم يعلمه الصحابة حين سألوه عن الظلم وقد أطال الشيخ الكلام على ذلك في الباب الثالث والثمانين وثلاثمائة من “ الفتوحات “، ثم قال: ومن هنا ترك بعض العلماء التأويل ولم يقل به واعتمد على الظاهر ووكل علم ذلك إلى اللّه فمن أعلمه اللّه بما أراده في كلامه قال به: وإلا كف عن ذلك انتهى.(فإن قلت): فهل مجالسة الجان رديئة أو محمودة ؟

(فالجواب): هي رديئة غير محمودة ومن آثر مجالستهم من العلماء الروحانيين فهو جاهل فإن الغالب عليهم الفضول كإنس الفسقة فالعاقل من هرب منهم كم يهرب من مجالسة الفاسقين وما رأينا أحدا جالسهم وحصل لهم أبدا خير وذلك لأن أصلهم نار والنار كثيرة الحركة ومن كثرت حركاته كان الفضول أسرع إليه فالجن أشد فتنة على جليسهم من الناس فإنهم اجتمعوا مع فسقة الإنس على الاطلاع على عورات الناس التي لا يقع فيها عاقل وقد قال الشيخ محيي الدين في الباب الحادي والخمسين من “ الفتوحات “: ما جالس أحد الجان وحصل له منهم باللّه علم جملة واحدة إذ هم أجهل العالم الطبيعي باللّه وصفاته. قال: وربما يتخيل جليسهم بما يخبرونه به من حوادث الأكوان وما يقع في العالم ومن العالم أن ذلك من كرامة اللّه له وهيهات فإن غاية ما يمنحونه لمن يجالسهم أن يطلعوه على شيء من خواص النبات والأحجار والأسماء والحروف وذلك معدود من علم السيمياء فما اكتسب هذا منهم إلا العلم الذي ذمته الشرائع قال: ومما جرب أن من أكثر مجالستهم صار عنده تكبر على الناس ومن تكبر مقته اللّه تعالى وأدخله النار كما جاءت به الآيات والأخبار انتهى. وقد أطال الشيخ الكلام على ذم عشرة الجن في الباب الخامس والخمسين واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!