وأمّا البحر المالح في الحقيقة هو التوحيد، لكنه در للروح وبه تموت البشرية، ولؤلؤه في الباطن الورع، ومرجانه الحياء، ودره الحكمة، وأمواجه المعرفة، وإحاطته التسليم، أما تعلم أن الدنيا ماء مسجون، لطيفه ينبع وكثيفه جماد، فكثافة الكثيف من الحجاب، ولولا لطف اللطيف لأمن النظر، فهي حكمة بالغة.

ولما كان أوان إرادته عزّ وجلّ عمارة الوجود حجب الكثيف بكثافته، ونبع اللطيف بالحكمة فيه بتحمل الدنيا، فأما الكثيف فهو النبات واللطيف الأصول؛ لأن السماء ماء ونور، والأرض نار ونور، فوقع الكثيف والنور في اللطيف، لكن النار يبوسة والنور رطوبة، فلو كان مع يبوسة الأرض برودة ما خرج فيها نبات، وكأن كون طبعها طبع الموت، وإنما طبعها طبع الحياة حارة رطبة، وكل ما كان طبعها بارداً يابسًا فهو طبع الموت فهي ميتة، وهذه صفة الجاهل؛ أنّ به برودة مزاج ويبوسة الطباع فيكون ميتاً.

والذين هم نور وهم المريدون، فإذا كان مع النور نار محبة، فشبهه كالشمس المضيئة، إذا ظهرت على الثلج ذوبته، فإذا ذاب الماء نبعت عنه الحكمة، وهو مكنون في الإنسان، فأول ما ينبع منه الحكمة، ثم الأدب، ثم الهمة، فيكون عارفًا ذلك الذي تنبع حكمته، وترقى همته، فهو حي لا يموت، وليس الموت موت الأجسام، وإنما الموت موت النفوس، فإذا كان بلا ماء، انقطع منه النبات، وإذا كانت القلوب بلا علم لدني انقطعت عنها الحكمة، وإذا كانت النفوس بلا حياء انقطع عنها اليقين، وإذا كانت الأرواح بلا محبة انقطع عنها مدد الحكمة، وإذا كانت الجبال نور وبها ماء ينبع، فاعلم أنها ذاكرة لله تعالى، وإذا رأيت عليها ظلمة ولا فيها ماء ولا ري فاعلم أنها ميتة.

كذلك الأرض فيها ما هو ميت وما هو حي؛ فحياة الأرض بسطك فيها وإليها، من حسنها وجمالها، وقبضك عنها هو موتها، فما أمر كل إنسان بالخدمة إلا لحصول السعادة، فالسعادة تنزيل الفهم على القلوب نزول السحاب عن الشمس، ولا كل عامل يقبل تحمله، لكن العمال ثلاثة، فثم من يعمل بخط نفسه، ولا يزال يعمل ولا يؤجر، ولا يزداد إلا حرمانًا وبعداً، و ثم من يعمل إلى أن يلحق القوم فيكون معترضًا؛ لأنه يرى خدمته، و ثم من يعمل استسلامًا وهو الذي يطرح السلام، ذلك الذي نظره إلى الشيء بعين الحقيقة عنه، عرفوا أنهم عبيد فميسرون، مسيرون في القدرة، وثم من يزاولهم حولاً وقوة، وهم قد نزلوا كان ويكون.

وأما الذين سمعوا النهي فانتهوا قد صعدوا رتبًا إلى أن صارت عطيتهم بشريتهم، فهم المقبلين بلا إدبار، التائبين الأصل مثمرين الفرع، تائبين في التوحيد ومستمرين في المحبة، والعقول الذكية التي لم تزلزلها رياح الشهوات ولم تضعف ولم تضطر، إنما هو من ضعف اليقين، لكن كل من ليس له همة فذاك ميت، ولا تتغير العقول؛ لأن كل ما تغير ففيه شبهة؛ لأن الذهب لا يعرف فيه الخالص من الدنس إلا بعد دخول النار، وهذا حال الرجال، لا يعرف الرجل من غيره، إلا بالتلون والتنقل [بين الناس].