موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


346. الموقف السادس والأربعون بعد الثلاثمائة

قال تعالى:﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾[يوسف12/76]

وفي صحيح البخاري:«سئل موسى عليه السلام هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال لا. فعاتبه الله حيث لم يرد العلم إليه فقال: بلى، عبدنا خضر...» الحديث بطوله. وقال خضر لموسى - عليهما السلام - عندما نزل العصفور على حرف السفينة ونقر بمنقاره نقرة في البحر: ياموسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور بنقرته من البحر، وموسى عليه السلام ما قال إلاّ ما علم.

فاعلم أن الإمام الكبير العارف بالله الكامل عبد الكريم الجليلي رضي الله عنه انتقد في كتابه الإنسان الكامل على الشيخ الأكبر محي الدين الحاتمي ثلاث مسائل إحداهن في باب العلم، وثانيهما في باب الإرادة والاختيار، وثالثهما في باب القدرة. ولا أدري كيف احتجب وجه هذه المسائل الثلاث عن الإمام الجيلي رضي الله عنه ومن أين جاءته هذه الغفلة وسرى إليه هذا السهو، فإنّ مرماه غير مرمى سيدنا الشيخ الأكبر رضي الله عنه وما ذاك إلا لينفرد الحق - تعالى - بالكمال المطلق، ورضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال، وهو تجاه القبر الشريف: ما منا إلا من ردّ ورد عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم . وروي عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إني ألفت هذه الكتب وبذلت جهدي في تصحيحها وتنقيحه ولابد أن يوجد فيها اختلاف فإن الله -تعالى- يقول:﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾[النساء 4/82].

فأراد هذا العاجز أن يبين مقصود شيخنا وسيدنا محي الدين بما قال، كم نقله الإمام الجيلي، ولا أناقش كلام الإمام الجيلي كلمة كلمة أو جملة جملة إلا م لابد منه. وإني أعلم أني لا أكون قطرة من بحر الإمام الجيلي رضي الله عنه ولكن من عرف الحق عرف أهله، ومن عرف الحق بالرجال تاه في مهامه الضلال. روي أنه جاء رجل إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: أتقول أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ يريد السائل في مخالفتهما لعلي عليه السلام وقتالهما إياه. فقال له الإمام علي عليه السلام : يا هذا، إنه قد لبس عليك، اعرف الحق تعرف أهله. ذكر الشيخ مصطفى البكري رضي الله عنه في شرحه لـ " ورد السحر" أنه كان بصالحية دمشق رجل من الصالحين هَمَّ بشرح عينّية الإمام الجيلي المسماه بـ "البوادر الغيبية والنوادر العينية"، فرأى الشيخ محي الدين رضي الله عنه في المنام فنهاه عم هَمّ به وقال له، لا تفعل فإنه رماني بثلاث حصيات، فأولها بانتقاده الثلاث مسائل. يقول العبد العاجز والقائل شيخنا الروحاني محي الدين رضي الله عنه والعبد المترجم عنه، إذ القول ينسب تارة إلى قائله كما قال تعالى:﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾[التوبة:9/6].

وما سمعه المشرك إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة ينسب إلى المترجم كما قال تعالى:﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾[الحاقة: 69/40].

وهو جبريل عليه السلام وإني بعدما كتبت بعض السطور من هذه الرسالة رأيت شيخنا وسيدنا محي الدين في المنام في صورة أسد، الصورة صورة أسد ولاشك، أنه الشيخ محي الدين رضي الله عنه وفي يد ذلك الأسد سلسلة عظيمة كالسلاسل التي تجعل في رقاب الأسود تمنعها التعدي، فكلمني الأسد وقال لي: ادخل يدك في فمي فخفت، فإن العادة والطبيعة قاضية بخوف الإنسان من الأسد فقال لي: لا تخف، فأدخلت يدي في فمه وأخرجتها سالمة، ثم تحول من صورة الأسد إلى صورة الإنسان وهي الصورة التي رأيته رضي الله عنه فيها غير مرة، إلا أنه موله مجذوب يخلط في كلامه، فماشيته وأنا أتكلم معه، ثم التفت إليّ وقال: ها أنا أروح وأموت مرتين أو ثلاث مرات ووقع على الأرض. انتبهت، فعبرت ظهوره في صورة الأسد أن ذلك إشارة إلى مرتبته بين أولياء الله تعالى مثل الأسد بين سائر الحيوانات، وهو كذلك فإنه رضي الله عنه كما قيل:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل     

 

ونزلت في البيداء أبعد منزل.

وأولت السلسلة التي في يساره بالشريعة، ولولا الشريعة لقال مالم يقله أحد، وفعل ما لم يفعله أحد. وأولت أمره بإدخال يدي في فمه بأن يميني الكاتب لهذه الرسالة فمه رضي الله عنه المملي علي، والممدُّ لي بما أكتب، فإن جميع ما حصل لن من الخير بعد الإيمان بالله ورسوله هو بواسطته. وأولت ظهوره في صورة المولّه المجذوب باختباط الوقت ومرجه وشدة تغيره وخروجه عن الاعتدال، وقوله ها أنا أروح أموت، قال ذلك لشدة أسفه وحسرته على ما صار إليه الإسلام والمسلمون في مخالفة أمر ربهم ونبيهم وإعراضهم عن دينهم، فإنّ أكمل الخلق تسليماً ورضاه بقضاء الله، قال له تعالى:﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُو بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾[الكهف 18/6].

وهكذا هم ورثته صلى الله عليه وسلم كما يقول أحدنا إذا اشتد غيظه وغضبه: أنا ماضي أتضرر، أنا ماشي أنقلق، أنا ماشي أموت.

وفي هذه الليلة نفسها رأيت في المنام أني ألممت بالكعبة وما هي الكعبة التي أعرفها فإنّ هذه أطول محددة الرأس لا لباس عليها، فطفت غالب ظني ثلاث أشواط وأقيمت صلاة الجماعة فدخلت في الصلاة وانتبهت ولا أذكر تعبير هذه.

قال الشيخ عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه في باب العلم، ولا يجوز أن يقال أن معلوماته أعطته العلم من نفسه لئلا يلزم من ذلك كونه استفاد شيئا من غيره، لقد سهى الإمام محي الدين بن العربي رضي الله عنه فقال أن معلومات الحق أعطته العلم من نفسها، فلنعذره ولا نقول ذلك مبلغ علمه. ولكنا وجدناه سبحانه وتعالى بعد هذا يعلمها بعلم أصلي منه غير مستفاد مما هي عليه المعلومات فيما اقتضته بحسب ذواتها، غير أنها اقتضت في نفسها ما علمه سبحانه وتعالى عليها، فحكم بها ثانياً بما اقتضته وهوالذي علمها عليه. ولما رأى الإمام المذكور رضي الله عنه أن الحق حكم للمعلومات بما اقتضته من نفسها ظن أن علم الحق مستفاد من اقتضاء المعلومات فقال أن المعلومات أعطت الحق العلم من نفسها، وفاته إنما اقتضت ما علمها عليه بالعلم الكلي الأصلي النفسي قبل خلقها وإيجادها فإنها ما تعنيت في العلم الإلهي إلا بما علمه لا بما اقتضته ذواتها، ثم اقتضت ذواتها بعد ذلك نفسها أموراً هي عين ما علمه عليه أولاً فحكم بها ثانياً بما اقتضته، وما حكم إلا بما علمها عليه، فليتأمل فإنه مسألة لطيفة . ولو لم يكن الأمر كذلك لم يصح له الغنى من نفسه عن العالمين لأنه إن كانت العلومات أعطته العلم من نفسها فقد توقف حصول العلم له على المعلومات، ومن توقف وصفه على شيء كان مفتقراً إلى ذلك الشيء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، انتهى انتقاد الإمام الجيلي رضي الله عنه في مسألة العلم.

يقول العبد: محصل الانتقاد في مسألة العلم هو منع كون علم الحق - تعالى - بالمعلومات مستفاداً منها لما يلزم من ذلك، وهوكونه مفتقراً إلى الغير وإثبات أنه تعالى علم المعلومات أولاً باقتضاءاتها وما اقتضت شيئاً من نفسها في تلك الحضرة الأولى، والعلم الأول. ثم اقتضت ما علمه عليه أولاً فحكم بها ثانياً بم اقتضته. وهذا الكلام من الإمام الجيلي راجع إلى الفرق بين اسمه تعالى العليم واسمه الخبير، فإنه تعالى العليم الخبير، وهو أنه إذا كان الإدراك للمعلوم والانكشاف من حيث المدرك لا باعتبار شيء آخر كان ذلك الإدراك علماً والمدرك عالماً، وإذا كان ذلك الإدراك للمعلوم والانكشاف من حيث المعلوم كان ذلك الإدراك والانكشاف خبرة، والمدرك خبيراً، وهو المستفاد من المعلوم، وهو علم مع ذوق، المشار إليه بقوله تعالى:﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ﴾[محمد 47/31].﴿ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾[آل عمران:3/140].

ونحو ذلك على بعض الوجوه والاحتمالات حسب الأذواق. وهذا الذي أشار إليه الإمام الجيلي -رضي الله عنه - إنما هو العلم بالغير والسوى في مرتبة الفرق والتمييز الحقيقي حيث كان العلم نسبة من النسب الإلهية والكونية. وكلام سيدن الإمام محي الدين - رضي الله عنه - في العلم الذاتي الذي هو إدراك الذات بالذات ل بأمر زائد لا علم ولا غيره. وقد أجمع أهل هذا الشأن الراقون إلى ذروة التحقيق بالشهود والعيان على أن أول تعين للذات من الغيب المطلق هو المرتبة المسماة عندهم بالوحدة المطلقة، وهو عبارة عن علمه تعالى ذاته بذاته من ذاته، وعلمه بجميع أسمائه وبجميع المعلومات الحسية والعقلية والخيالية على وجه الإجمال من غير تمييز بعضه عن بعض، فلا تتميز الذات عن الصفات، والأسماء عن الممكنات، ولا بعض الممكنات، ول بعض الممكنات عن بعض، بلا اعتبار الاسم العالم ولا العلام ولا العليم، فعلمه تعالى لذاته بذاته، فهوالعالم والعلم والمعلوم، والتغاير اعتباري، فذاته هي المدركة لذاته المنكشفة على ذاته، فعلم العالم من علمه بذاته، إذ العالم في هذا الطور والمرتبة عين الذات، وعلمه ذاته أزلا إذ التجلي والظهور أزلا وتعلق علمه بالعالم أزلا على ما يكون العالم عليه أبدا مهما لبس حالة الوجود لا يزيد الحق - تعالى- به علماً ولا يستفيد ولا رؤية، فإن الشؤون الإلهية والكونية التي ظهرت في المراتب كانت عين الذات، تعالى الله أن يكون ذاته ظرفاً لغير وسوى، فلا يتوهم أحد أن الممكنات بأنواعها لها وجود في هذه المرتبة في ذات الله - تعالى- ولو وجود إجمال فإنه لايصح عقلاً وشرعاً، فإن الشيء في حدّ القوة لا يقال أنه شيء لأنه مختلف وكامن بالنسبة إلى نفسه وإلى غيره. ففي حضرة العلم الذاتي ليس إلا عين الذات، والأشياء معدومة في أنفسها وحكمها حكم العدم، فشهوده تعالى هذه المشاهدة، وعلمه الإحاطي بذاته وبجميع ما كمن في ذاته هو فيه غني عن ظهور العالم على وجه التفصيل، إذ ل حاجة له إلى العالم، لأن مشاهدته وعلمه بكل شيء حاصل له من علمه ومشاهدته لذاته، وإنم كانت هذه الحضرة حضرة إجمال لاستدعاء التفصيل المغايرة والغيرية، فإن التفصيل لايتمّ إلاّ بهما، والتفصيل مستحيل في حضرة الوحدة المطلقة الذاتية لمنافاته المغايرة المؤذنة بالكثرة، وهما متقابلان... فالحقائق التي في العلم كانت كامنة في الذات قبل تعلق الذات بنفسها، قبلية اعتبارية، فظهرت الحقائق في الذات بالذات على نحو ما ظهرت في الحس. وفي التحقيق الأحق أن الحقائق الذاتية ما ظهر في العلم الإلهية إلا ّظلالالتها، كما أنه ما ظهر من تلك الظلالات إلى الحس إلاّ ظلالاته أيضاً. فالأشياء من حيث معلوميتها له تعالى أزلا أزالية، ومن حيث ظهورها بالوجود أبدية، فالذات من حيث أنها علم متأخرة عن نفسها من حيث أنها عالمة معلومة والترتيب عقلي إذ لا زمان. «ليس عند ربك مساء و لا صباح» . ومن علم ذاته بذاته علم م اشتملت عليه ذاته في وحدتها من الشؤون الإلهية والكونية والاعتبارات مع العلم والمشاهدة لأحكام الشؤون والاعتبارات ولوازمها ولوازم لوازمها واقتضاءاتها جمعاً وفرادى على وجه جملي كلي شامل لجميعها لاندراج الكل في بطون الذات واندماجها فيه. والإجمال إنما جاء من حيث المعلومات، فإنها مجملة ولايتعلق العلم بها إلاّ على م هي عليه، لا من حيث العلم فإنها مفصلة عنده، فهو تعالى يعلم التفصيل في الإجمال، والعلم من حيث أنه علم ما هو من مقولة الكم فيوصف بالإجمال، فما أعطته المعلومات العلم باقتضاءاتها ولوازمها من حيث أنها اعتبار للذات بل من حيث أنها عين الذات العالمة المعلومة، فمتعلق العلم في هذه المرتبة معلوم واحد وحدة حقيقية. ثم اعلم أن العلم مطلقاً في القديم والحادث عند المحققين من أهل الكشف والوجود لا يتعلق إلاّ بموجود، وإذا تعلق بمعدوم فلتعلقه بمثله الموجود، وذلك أن كل عالم علم إحاطة موجود في نفسه وعينه عالم بنفسه مدرك لها، وكل معلوم سواه إما أن يكون على صورته بكماله فهو مثل له أو على بعض صورته، فمن ذلك الوجه يكون عالماً بالمعلومات لأنه عالم بنفسه، وذلك العلم ينسحب عليها انسحاباً وهذا هو إدراك المفصل في المجمل، والتفصيل في الإجمال، وإدراك الكثير في الواحد كشهود النخلة والأغصان والأوراق مع الطلع والبسر والتمر في النواة الواحدة، ولا وجود إلاّ للنواة، وشهود الحروف والكلمات في الحبر في الدواة ولا وجود إلاّ للحبر. فالعالم كله مع الإنسان خلق على الصورة الموجودة القديمة، فالعلم المتعلق بالحادثات أزلا إنما حصل ولم يزل حاصلا لكونه على الصورة الإلهية. فإذا فهمت ما أوردناه على النحو الذي أردناه علمت أن الحق - تعالى - آخذ معلوماته من ذاته بذاته، فالذات المطلقة أعطت العلم بها وبما يكون عنها إلى غير نهاية ذاته المقيدة بأول تقييد وتعين عندما تجلّى وظهر بذاته على ذاته، فهو عالم وعلم ومعلوم باعتبارات ثلاثة من غير اعتبار شيء زائد على الذات من اسم أو وصف أو كون. وبهذا التجلي حصلت أعيان المعلومات في العلم الذاتي ثبوتاً ل وجوداً، فسميت أعياناً ثابتة وشؤناً، ونحو هذا حصلت في العلم الذاتي باستعداداته الكلية والجزئية وأحكامها واقتضاءاتها إلى غير نهاية. وهذا التجلي الذاتي هو المسمى في اصطلاح الطائفة العلية بالفيض الأقدس. فالذات من حيث هي هي اقتضت لذاته الحقائق الإلهية، والأسماء الرحمانية. والحقائق الإلهية اقتضت لذاتها الحقائق الكونية الإمكانية صلاحية أزلاً وفعلاً فيما لا يزال. فما استفاد شيئاً من غيره تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولا أخذ علمه بمعلوماته الكلية والجزئية إلاّ منه، فمنه وإليه. ثم لما تفصلت المعلومات وصارت أغيارا انسحب عليها هذا العلم من غير زيادة ولا نقصان. فيجوز والحالة هذه، بل يتعين أن يقال إن معلوماته أعطت العلم من نفسها، وإن العلم تابع للمعلوم في هذه الحضرة حضرة الذات، علم ذاته وما يكون عن ذاته باقتضاءاتها ولوازمها واستعداداتها. فحكم لها بذلك حكماً تقديرياً علمياً. إذ م من حاكم على أمر إلاّ والمحكوم عليه سابق على الحكم عليه في تعقل الحاكم تقدم مرتبة لا تقدم وجود. فكما علمت الذات بالذات حكمت الذات للذات بما اقتضته الذات، فإن اقتضاء الذات طلب الذات من نفسها، فلا وجه لتأخر الحكم بعد العلم بالإقتضاء والطلب. فمهما تصور العالم تصور الحكم، فإن الحكم أخو العالم إذ هو الحاكم على كل معلوم بما هو ذلك المعلوم، فالمحكوم له أو عليه كائناً ما كان جعل الحاكم حكماً كما أن المعلوم جعل العالم عالماً أو ذا علم. فالحكم القاضي في الأمور إنما حكم عليه بحسب أعيانها واقتضاءاتها كما يحكم على الأشياء بحدودها الذاتية. فما حكم عليه هذا العلم من غير زيادة ولا نقصان فيجوز والحالة هذه، بل يتعين أن يقال من عنده لمن حكم له أو عليه فلا أثر للعلم في المعلوم ولا للحكم في المحكوم عليه، ومن عرف هذا الأمر ذوقاً عرف سرّ القدر، وهو أنه ماحكم على الأشياء إلاّ بالأشياء. وقول الإمام الجيلي رضي وفاته أنها إنّما اقضت ما علمها عليه.. الخ، بل ما فاته شيء، فإن ما اقتضه ذوات المعلومات من نفسها هو استعدادتها الذاتية ولوازمها البينة فلا تنفك عنها بل هي عينها. ولهذا سمى بعضهم المعلومات بالاستعدادات، فلما تعين في العلم تعينت باقتضاءاتها، واقتضاءاتها في تلك الحضرة اقتضاء استعداد وطلب بلسان استعداد لا بلسان حال ولا لسان مقال، فحكم لها بما اقتضته استعداداتها فيما لايزال حكماً علمياً لا فعلياً، فإنه لا فعل في ذلك الطور. فليس للحق - تعالى- بعد هذا إل إعطاء الوجود لما اقتضته المعلومات في نفسها، فأحكام الأسماء الإلهية لذاتها وم تقتضيه معانيها، لكن تعين تلك الأحكام بكذا دون كذا مع جواز كذا إنما أعطاه المعلوم من نفسه بترتيب الاسم الحكيم، فإن للاسم الحكيم حكمين، أحدهما العلم بمواضع الأمور فهو علم خاص، وثانيهما وضعها في مواضعها فيعطي كلّ شيء خلقه وكل ذي حق حقه، فكم من عالم لا يضع الأمور مواضعها وكم من واضع للأشياء مواضعها من غير علم ولكن بحكم الاتفاق، فالاسم الحكيم يحكم في الأمر أن يكون هكذا فيتعلق به العلم على ما حكم به الحكيم، إذ ما من ممكن يضاف إلى ممكن إلا ويمكن إضافته إلى ممكن آخر من حيث الإمكان، فإنه يجوز خلافه: فالترتيب الواقع بين الممكنات مع بعضها بعضاً هو أثر الاسم الحكيم، وهو قريب من الاسم المريد في هذا التخصيص والترتيب، إلاّ أن الاسم الحكيم عام الترتيب حتى في الحقائق الإلهية والأسماء الربانية، فيرتبها في حضراتها وينزلها منازلها ومراتبها، والاسم المريد خاص بترتيب الممكنات وتخصيص بعضها ببعض.

 المسألة الثانية - مسألة الإرداة: قال الشيخ الإمام الجيلي - رضي الله عنه - في باب الإرداة ما نصه: فاعلم أن الإرادة الإلهية المخصّصة للمخلوقات كل على حالته وهيئته صادرة من غير علّة ول سبب، بل محض اختيار إلهي، لأنّها، أعني الإرادة، حكم من أحكام العظمة، ووصف من أوصاف الألوهية فألوهيته وعظمته لنفسه لا لعلة. وهذا بخلاف رأي الإمام محي الدين بن العربي فإنه قال: لا يجوز أن يسمى الله مختاراً فإنه لا يفعل شيئاً بالاختيار، بل فعله على حسب ما اقتضاه العالم من نفسه، وما اقتضى العالم من نفسه إلا هذا الوجه الذي هوعليه، فلا يكون هذا كلام الإمام محي الدين في الفتوحات المكية. ولقد تكلم على سرّ جليل ظفر به في تجلي الإرادة وفاته أكثر مما ظفر به، ثم عثرنا بعد ذلك في تجلي العزّة أنه مختار في الأشياء متصرف بها بحكم اختيار المشيئة الصادرة لا عن ضرورة ولا مزيد بل شأن إلهي ووصف ذاتي كما صرح به تعالى فقال:﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[القصص:28/68].فهو القادر المختار. انتهى الانتقاد.

فاعلم أن الحقيقة تثبت الإرادة وتنفي الاختيار وإن ورد في الكتاب العزيز: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾.

فلمعنى آخر غير المعنى المتعارف للاختيار عند العموم. وقد أجمع المسلمون على أنه تعالى مريد، واختلفوا في معنى كونه مريداً، ولسنا بصدد بيان المذاهب. والحق أن إرادته تعالى هي تعلق الذات بتخصيص أحد الجائزين للممكن على التعيين، كما أن مشيئته تعلق الذات بالممكن من حيث تقدم العلم قبل كون الممكن، كم أن الاختيار تعلق الذات بالممكنات من حيث ما هي الممكنات عليه، فالإرادة في حق الحق - تعالى - كونه مريداً ومخصصاً لوجود ممكن ما ليس تخصيصه لوجوده من حيث هو وجود، لكن من حيث نسبته لممكن ما تجوز نسبة ذلك الممكن آخر، فالوجود من حيث الممكن مطلقاً لا من حيث هو ممكن ما ليس بمراد ولا واقع أصلاً إلاّ بممكن ما . وإذا كان بممكن ما فليس بمراد من حيث هو لكن من حيث نسبته لممكن ما ونسبة الاختيار إليه تعالى إذا وصف به إنما ذلك من حيث الممكن معرى من علته وسببه لا من حيث ما هو الحق - تعالى- فيه إلاّ أمر واحد هو معلوم عند الله - تعالى - من جهة حال الممكن، علمه أزلا فاختار ما علمه عليه أزلا قال تعالى:﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾[السجدة: 32/13].

﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾[الزمر:39/19].

﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾[ ق: 50/29].

وفي هذه الآية تنبيه على سرّ القَدَر، وبه كانت الحجة البالغة لله على خلقه، وهذا هو الذي يليق بجانب الحق - تعالى - وأنه علم واختار ما علم وأمضى وحكم. والذي يرجع إلى الكون من حيث الإمكان، ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾[السجدة: 32/13]، فما شئنا ولكن حق القول استدراك للتوصيل بأن الممكن قابل للهداية والضلالة من حيث حقيقته، فإنه قابل للمتقابلين على البدل، وقد قرّر أن كل حقيقة كونية هي مستندة لحقيقة إلهية فبمستند التقابل الواقع في العالم من الأسماء الإلهية:« المحي والمميت المعزّ المذّل»، ولا ينبغي أن يكون الإله إلاّ من هذه أسماؤه مضاف إليها مشيئته وإرادته المقيدتان بلو، فيكون مطلق المشيئة والإرادة ظاهراً لأنه ملك، ولا يكون الملك إلا مطلق المشيئة والإرادة فيفعل ما شاء وأراد ويترك ما لم يشأ. (ولو) حرف امتناع لامتناع، فهو الحرف المشؤوم، ولا تدخل «ولو» إلا على ممكن من حيث إمكانه وقبوله بالأصالة والمشروط بشرط لا يكون بدونه، فاقتران المشيئة والإرادة بحرف الامتناع بسبب موجود قديم يستحيل عدمه فيستحيل ضد مشيئته، فخرجت المشيئة الواردة في الكتاب والسنة على بابها المعقول في العادة إلى بابها المعقول في الحقيقة، وهو أن مشيئته غير ما علم وشاء أزلا ممتنعة، فما ترك سبق العلم وأحدية المشيئة للو شئنا ولو أردنا محلا فكان قوله:﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾[ ق:50/29].

نفى به عن نفسه تعالى لو شاء ولو أراد، وأثبت ما شاء من غير تخيير، فم بقي في الإمكان ممكن غير مرجح الوجود أو البقاء في العدم بحيث يحتمل الوجود والبقاء في العدم على البدل بالنسبة إلى الحق - تعالى- لا بالنسبة لحقيقة الممكن. فلولا قبول الممكن من حيث حقيقته ما ظهر للإرادة والاختيار اسم. والممكن وإن كان قابلاً لأحد الجائزين عليه فليس بقابل بالنظر إلى سبق علم الله - تعالى - وأحدية مشيئته فيه إلا أحد أمرين. ولذا نفى بعض المحققين من المتكلمين الإمكان وقال: أنه ليس إلاّ واجب بذاته، وهو الحق - تعالى- وواجب الغير، ومحال، لسبق العلم وأحدية المشيئة. فإن قيل فما فائدة إخبار الله - تعالى - إيانا أنه لو شاء كذا مع كون ذلك يستحيل وقوعه عقلاً لكون المشيئة الإلهية لم تتعلق به. الجواب: أن فائدة ذلك الإعلام لنا أن الأمر الذي نفى تعلق المشيئة الإلهية بكونه لا يستحيل كونه بالنظر إلى ذاته، لإمكانه فإنه يجب له أن يكون في نفسه قابلاً لأحد الأمرين فيفتقر إلى المرجح، بخلاف المحال لنفسه فإنه يستحيل نفي تعلق المشيئة بكونه فإنه لا يكون لنفسه، فإن بعض الناس ذهب إلى أن الله - تعالى- لو أراد إيجاد ما هو محال الوجود لنفسه لأوجده، وإنما لم يوجده لكونه ما أراد وجود المحال، فهذا القائل لا يدري م يقول، فهو كما قال القائل أراد أن يعربه فأعجمه، أراد أن ينسب إلى الله - تعالى- نفوذ الاقتدار ولم يعلم متعلق الاقتدار ما هو فعلقه بما لا يقتضيه، فكانت فائدة الإخبار من الله تعالى - بقوله لو شاء فيما لا يقع إعلاماً لنا أنه بالنظر إلى إمكانه ليفرق لنا سبحانه بين ما هو في الإمكان وبين ما ليس بممكن، فنفي تعلّق المشيئة والإرادة به. لا يقال أنه تعالى علقها بالمحال على جهة نفي تعلقها مثل قوله:﴿ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾[الزمر: 39/4].

وقوله:﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً﴾[ الأنبياء:21/17].

وهذا محال لنفسه، فكيف أدخله تحت نفي الإرادة التي لا يدخل تحتها إل الممكن، لأنا نقول أن هذا منه سبحانه وتعالى غاية الكرم حيث سبق في علمه إيجاد قول هذا القائل الذي تقدم ذكره بأنه تعالى لو أراد إيجاد ما هو محال الوجود لنفسه لأوجده، فأخبر تعالى بنفي تعلق الإرادة بالمحال الوقوع لنفسه. فينبغي أن يقال أن الله على كل شيء قدير، والقدرة تطلب محلها الذي تتعلق به، كما أن الإرادة تطلب محلها الذي تتعلق به، كما أن العلم يطلب متعلقه نفياً وإثباتاً. فإن قيل: إِنّ نرى الممكنات تنتقل من حال إلى حال وتتنوع في أنواع متخالفة متباينة فما متعلق هذ التنقل والتحول، أليس ذلك متعلق الإرادة ومقتضاها؟! قلنا: لا، إنما متعلق هذا التبدل هو المشيئة لا الإرادة، فإنه ليس للإرادة اختيار ولا جاء ذلك في كتاب و لا سنة، فإنَّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وفي الصحيح:«ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن».

وما ورد: وما لم يكن، بل ورد لو أردنا كذا لكان كذا، فخرج من المفهوم الاختيار. فالإرادة إنما هي تعلق المشيئة بالمراد وهو قوله تعالى:﴿ إِنَّمَ قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ﴾[النحل: 16/40].

هذا تعلق المشيئة بالمراد، والمشيئة مقدمة على الإرادة بالذات، إذ المشيئة سادن العلم إلا أنه تظهر رائحة الاختيار مع المشيئة، لأنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وبها كان الحق تعالى - ملكاً. وتظهر رائحة الحبر مع العلم. والحق أن المشيئة أحدية التعلق لا اختيار فيها ولهذا لا يعقل الممكن إلا مرجحاً كما قدمناه، وفي مشرب التحقيق الأعلى في المقام الأكشف الأجلى أن المشيئة والإرادة عبارة عن تصرف الحق تعالى - في ذاته وبتصرفه في ذاته ثبت قوله: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾[الرعد:13/39].

فتتصرف المشيئة في الإرادة بالظهور والبطون، فيشاء أن يريد، ومشيئته لأن يريد تصرف في ذاته، لأن إرادته تعالى ليست غير متعلقة بالممكن، فيشاء أن يريد ويحكم العلم. والمشيئة بما هو المعلوم عليه في ثبوته، فالذات من حيث أنها مشيئة تتصرف في تعلق الذات من حيث أنها إرادة وتردّد كما ورد في الحديث الصحيح: ((م ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له من لقائي)).

فوصف سبحانه وتعالى نفسه بالمفاضلة في التردّد والذي جعله يقبضه على كره هو حقيقة المعلوم. فالتردد من الإرادة ماهو من المشيئة، وحكمته ظهور العناية بالأمر المتردد فيه، والمشيئة لا تردّد لها فلا يشاء إلاّ ما شاء وما شاء إلاّ م علم. والمشيئة لها الحكم في التردد الإلهي كما لها الحكم في الأمر الإلهي المتوجّه على المأمورإما بالوقوع أو عدم الوقوع، فإن توجهت بالوقوع سمى ذلك العبد طائعاً، وسمى ذلك الوقوع طاعة، فأن أطاعت الإدارة الأمر الإلهي وإن لم تتوجه المشيئة بوقوع ذلك الأمر عصيت الإرادة الأمر، وليس في قوة الأمر الحكم على المشيئة، فظهر حكم المشيئة في العبد المأمور، فعصى أمر ربه أو نهيه، وليس ذلك إلاّ للمشيئة الإلهية. فهذه هي العظمة الذاتية التي تحير العقول ولا يهتدي إليها بنظر فكر ولا منقول، إذ عظمته تعالى لذاته لا لأمر آخر، والإرادة والاختبار إنما جاء من اعتبار الممكنات صلاحية وفعلا. فالممكنات أعطت الحق تعالى ما ينسب إليه من الأسماء، فإنها كلها نسب بين الحق تعالى والممكنات فإذا خصص الممكن بأمر دون غيره مما يمكن أن يقوم به قيل مريد، ولولا ذلك ما خصصه به دون غيره. وإذا أوجد قيل على الإيجاد، ولو ذلك م أوجد، وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى، وسبب ذلك كله إنما أعطته حقيقة الممكن. فعظمته تعالى لذاته لا بأمر زائد على ذاته، إذ لو كانت عظمته لأمر زائد على ذاته كصفة الإرادة مثلاً كما هو مذهب الصفاتيين لكانت الذات ناقصة في نفسها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، و لا يغني قوله أنها ليست عيناً و لاغيراً. وأما الطائفة الناجية فإنهم يقولون حكمها حكم النسب والأحوال لا معدومة عقلاً ولا موجودة خارجاً فسيدنا الشيخ محي الدين رضي الله عنه ما نفى الإرادة عن الحق بل أثبتها على وجه مخصوص لا يهتدي إليه إلا هو رضي الله عنه وأمثاله وبين متعلقها ومحلها، وما نفى الاختيار عن الحق تعالى - بأن يكون مضطراً مكرهاًَ مجبوراً، فإن العالم إذا حكم بما علم لا يقال أنه مضطر مجبور مكره فيما حكم به على علم إلا على ضرب من التجوّز منا بالنظر إلى حكمه تعالى أزلا بما علم فيه، فلا جبر ولا إضطراراً بل اختيار محض. وبالنظر إلى إعطاء الوجود لما علم فيما لا يزال فما فيه اختيار، بل إذا فعل خلاف ما علم كان ظلماً وجهلاً، تعالى الله عن الظلم والجهل. وسيدنا الإمام محي الدين رضي الله عنه قائل بهذا كله، قال: ففي الأصل جبر واختيار، ففي الاختيار أسقط من الصلاة عشراً عشراً إلى أن انتهى إلى خمس، وبالإضطرار قال:﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾.

الإمام محي الدين رضي الله عنه لا يقول بالعلّية والإيجاب الذاتي الذي قالت به الحكماء، حاشاه حاشاه من ذلك، بل الحكماء يقولون أنه تعالى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لكن لابدّ من مشيئة الفعل لأن الفعل كمالٌ والحق تعالى - له صفات الكمال كلها. فالحق تعالى - مختار فيما علم وحكم لا مكره له، وفي الحديث الصحيح: ((لايقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت)).

فإنه لا مكره له، وقد اختار تعالى ما عليه المعلومات من غير إجبار ول إكراه من المعلومات ولا اضطرار، فإنها ما تعينت في العلم الذاتي أعني الذات المقيد إلاّ من ذاته المطلقة التي هي مادة موجودة المحض والعدم المحض، وما بقي اختيار فيما لا يزال إلا ما أثبته من التردّد كما بيّناه، وهنا مهامه تحار فيها العقول فافهم أو سلّم تسلم.

المسألة الثالثة: مسألة القدر، قال الإمام الجيلي رضي الله عنه في باب القدرة ما نصّه: والقدرة عندنا إيجاد المعدوم خلافاً لمحي الدين العربي فإنه قال أن الله لم يخلق الأشياء من العدم وإنما أبرزها من وجود علمي إلى وجود عيني، وهذ الكلام وإن كان له وجه في العقل يستند إليه على ضعف فإني أنزّه ربّي أن أعجزه في قدرته عن اختراع المعدوم وإبرازه من العدم المحض إلى الوجود المحض.

واعلم أن ماقاله الإمام غير منكور، لأنه أراد بذلك وجود الأشياء في علمه أولاً، ثم لما أبرزها إلى العين كان هذا الإبراز من وجود علمي إلى وجود عيني، وفاته أن حكم الوجود لله في نفسه قبل حكم الوجود لها في عالمه فالموجودات معدومة في ذلك الحكم ولا وجود فيه إلا لله تعالى - وحده. ولهذا صحّ له القدم وإلا لزم أن تسايره الموجودات في قدمه على كل وجه ويتعالى عن ذلك. فحصل من هذا أنه أوجده في علمه من عدم، بمعنى أنه يعلمها في علمه موجودة عن عدم، فليتأمل، ثم أوجدها في العين بإبرازه من العلم، وهي في أصلها موجودة من العدم المحض. واعلم أن علم الحق لنفسه وعلمه لمخلوقاته علم واحد. فبنفس علمه بذاته يعلم مخلوقاته، لكنها غير قديمة لقدمه، لأنه يعلم مخلوقاته بالحدوث، فهي في علمه محدثة الحكم في نفسها، مسبوقة بالعدم في عينها، وعلمه قديم غير مسبوق بالعدم. وقولنا حكم الوجود له قبل حكم الوجود لها، فإن القبلية هنا حكمية أصلية لا زمانية، لأنّه سبحانه وتعالى له الوجود الأول لاستقلاله بنفسه، والمخلوقات لها الوجود الثاني لاحتياجها، فالمخلوقات معدومة في وجوده الأول، فهو سبحانه أوجدها من العدم المحض في علمه اختراعاً إلهياً ثم أوجده من العالم العلمي إلى العالم العيني بقدرته، فإيجاده للمخلوقات إيجاد من العدم إلى العلم إلى العين لا سبيل إلى غير هذا. ولا يقال: يلزم من هذا جهله بها قبل إيجاده في علمه، إذ ما ثم زمان ولا ثم إلا قبلية أو جبتها الألوهية لعزتها بنفسه واستغنائها في أوصافها عن العالمين، فليس بين وجودها في علمه وبين عدمها الأصلي زمان، يقال أنه كان جهلها قبل إيجادها في علمه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فافهم فإن الكشف الإلهي أعطانا ذلك في نفسه، وما أوردناه في كتابنا إلا ليقع التنبيه عليه نصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، لا اعتراضاً على الإمام رضي الله عنه إذ هو مصيب في قوله على الحدّ الذي ذكرناه، ولو كان مخطئاً على الحكم الذي بينّاه، وفوق كل ذي علم عليم. وإذا علمت هذا فاعلم أن القدرة الإلهية صفة إلهية بثبوتها انتفى العجز عنها بكل حال وعلى كل وجه. ولا يلزم من قولنا بثبوتها انتفى العجز أن يقال لو لم تثبت لثبت العجز فإنها ثابتة، لا يجوز فيها تقدير عدم الثبوت فهي ثابتة أبداً والعجز منتف أبداً. فافهم ترشد إن شاء الله تعالى. انتهى الانتقاد.

قول الإمام الجيلي رضي الله عنه : والقدرة عندنا إيجاد المعدوم، وقولي فإني أنزه ربي أن أعجزه في قدرته عن اختراع المعدوم وإبرازه من العدم المحض، فيه نظر، فإن حصول المعلومات في العلم الذاتي من العدم المحض لا دخل للقدرة الإلهية التي هي صفة من الصفات الإلهية فيه، فإن القدرة الإلهية وغيرها من الصفات والأسماء الإلهية إنما تعينت وتميزت في العلم الذاتي عندما علمت الذات الذات بالذات، وتميزت المعلومات تمييزاً نسبياً لا حقيقياً، وظهور الصفات إنما هو في مرتبة الواحدية التي هي في أثناء المراتب مراتب الذات، فلا أثر للقدرة إلا في الإيجاد الحسّي العيني، فحصول المعلومات الممكنة في العلم لم يكن بواسطة القدرة الإلهية وإنما هو تجل ذاتي، فتأثير القدرة الإلهية في الحقائق الممكنة إنما هو في اتصافها بالوجود، وأم من حيث معلوميتها وعدميتها فيستحيل أن تكون مجعولة فإن الجعل تأثر ولا تأثير في الأزل فإن ذلك قادح في صرافة وحدة الذات العلية. وقوله رضي الله عنه أيضاً: وفاته أن حكم الوجود لله - سبحانه - في نفسه قبل حكم الوجود لها في علمه، فالموجودات معدومة في ذلك الحكم...الخ. يقول العبد: ما فات الإمام محي الدين شيء، والأمر كم قال الإمام الجيلي، لكن لا من حيث نظر الإمام الجيلي، بل من حيث أن الأشياء الموجودة لا عين لها في تلك الحضرة ولا وجود إلاّ لذاته العالمة، فهي معدومة العين لا تسمى أشياء لا مخلوقات ولا محدثات ولا أغيار للذات وهي مسبوقة بالعدم، لأن الذات العالمة قبل تعقل تعلق علمها بها كانت مطلقة لا تسمى باسم ولا توصف بوصف ل بوجود ولا غيره، فلما تعلق علمها بها علمت ذاتها وما اندرج في ذاتها على أنه من جملة ذاتها، فهي واحدة العين. فلا اسم ولا حكم لما اندرج فيها، بل الاسم والحكم للذات كشهود العاقل مِنّا في النواة النخلة، وما اشتملت عليه من أسفلها إلى أعلاها، وشهود من يتفرع عن النخلة من النخيل إلى غير نهاية، فهل النخلة اسم أو حكم أو عين في النواة! بل النخلة وما يتفرع عنها عدم في حكمها مسبوقة بالعدم في عينها، والاسم والحكم للنواة، وقد أجمعنا والإمام الجيلي على أنه تعالى علم نفسه، فعلم العالم من علمه بنفسه لأنه عين العالم في هذه الحضرة الذاتية بلا مغايرة، فالممكنات المعلومة ليست بشيء زائد خارج عن الذات المطلقة، وإنما هي وجوه وشؤن للذات المقيدة. وقوله رضي الله عنه :وإلا لزم أن تسايره الموجودات في قدمه...الخ. هذ إنما يلزم لو كانت الموجودات متميزة عن الذات في ذلك الطور، وليس الأمر كذلك، فإن الموجودات في هذا الطور والحضرة عين الذات العلم والعالم والعلوم عين واحدة ل غيرية ولا سوائية، ما ثم إلا ذات واحدة ومعلوم واحد، فمي يسايره، والمسايرة مفاعلة، تطلب اثنينيته ولا اثنينية هناك. وقوله رضي الله عنه فحصل من هذا أنه أوجدها في علمه من عدم..الخ. فاعلم أن هذه العبارة لا تصلح فإن أوجد يقتضي إيجاداً ولا وجود في الأزل إلا له تعالى فلا إيجاد في الأزل والقدم، فالحق تعالى - يقال يقدّر الأشياء أزلا ولا يقال أوجد أزلا، فمحال أن يتصف الموجود الذي كان معدوماً بأنه موجوداً أزلا. وقوله رضي الله عنه فاعلم أن القدرة الإلهية صفة بثبوتها انتفى العجز عنه بكل حال... في هذه العبارة رائحة جنوح إلى مذهب الصفاتية القائلين بالزائد على الذات، كما هو مقرّر مشهور، وأما أهل التحقيق من أهل الكشف والوجود فلا يقولون بالزائد، وجميع ما ينسب إليه تعالى من الأسماء والصفات من علم وإرادة وقدرة إنما هي نسب وإضافات بين الحق تعالى - والممكنات، وليس إلا بالذات، إذ نسبتها إلى المعلومات كانت علما، وإلى المرادات كانت إرادة، وإلى المقدورات كانت قدرة، وقس على هذا، حتى أنهم يتحاشون من التعبير بالصفات إلا في مقام التعليم، ويعبرون بالأسماء فإنّه الوارد في الكتاب والسنة.

وقول الإمام الجيلي: وأعلم أن علم الحق لنفسه وعلمه لمخلوقاته علم واحد، فبنفس علمه بذاته يعلم مخلوقاته، لكنها غير قديمة لقدمه لأنه يعلم مخلوقاته بالحدوث، فهي في علمه محدثه لحكم في نفسها مسبوقة بالعدم في عينها..الخ. هذا كله إنما يتمشى أن لو كنت المخلوقات متميزة عن الذات كما هي في مرتبة الحس والتمييز، وليس الأمر كذلك في حضرة العلم الذاتي، بل عين العالم عين العلم عين المعلوم فبنفس علمه بذاته يعلم مخلوقاته، لأنها عين ذاته فيعلم مخلوقاته بما يعلم به ذاته من الأحكام في تلك الحضرة وذلك الطور، فيعلم أن لذاته وجوها واعتبارات وتعينات وظهورات ونسباً، وهذه كلها من الذات، إذ ليست بشيء زائد على ذاته كما يعلم في تلك الحضرة الذاتية ما ستصير إليه من الفرق والتمييز والغيرية وغير ذلك مما حدث لها في مرتبة الحس والفرق، فكان لها الحدوث والخلقية لما تميزت الحقائق. فقيل هذه حقائق وجوبية وهذه حقائق إمكانية، وقَبْل ذلك ليس إلا الذات الواحدة وأحكام الواحدة. وليس كل حادث حادث حقيقة قال تعالى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾[الشعراء: 26/5].

فهو حادث عند من حدث عنده لا في حقيقته. وكنا نقول بقول الإمام الجيلي في هذه المسألة تقليداً له، وذكرناها في هذه المواقف، وقد رجعنا عن ذلك لما فتح الله به علينا من نفث روح القدس..

ثم اعلم - علمني الله وإياك من لدنه علما ًوفتح لي ولك في كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أوليائه باباً وفهماً أنه قد تقرر عند أهل الكشف الاعتصامي: أن الذات من حيث هو هو مادة العدم والوجود، فأحد طرفيها العدم وطرفها الآخر الوجود، إذ العدم المطلقة هو الذات المتجردة تجرداً أصلياً، وهو في مقابلة الوجود المطلقة الذي هو وجود لنفسه واجب، وما من نقيضين متقابلين إل وبينهما برزخ معقول فاصل به يتميز كل واحد من الآخر، وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة الآخر قال تعالى: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾[الرحمن: 55/20].

أي لولا ذلك البرزخ لم يتميز أحدهما من الآخر ولأشكل الأمر وأدّى إلى قلب الحقائق. فبين الوجود المطلق والعدم المطلقة برزخ، وهو حضرة الإمكان وهو البرزخ الأعلى المسمى برزخ البرازخ، له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم، بل هو وجه واحد لأنه لا ينقسم، فهو يقابل الوجود المطلق والعدم المطلق بذاته. وفي هذا البرزخ المسمى بالحقيقة الكلية جميع الممكنات أعيان ثابتة لا موجودة من الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق، وليس له أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليه من العدم العدم المطلق، والممكنات في هذا البرزخ بما هي عليه وما تكون إذا كانت مما تصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان. فإذا نسبت هذه البرازخ إلى الوجود وجدت فيه من رائحته لكونه ثابتاً معقولاً، وإن نسبته إلى العدم صدقت لأنه لا وجود له. سبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرين بذاته، وذلك أن العدم المطلق قام للوجود المطلق كالمرآة، فرآى الوجود المطلق فيه صورته فكانت تلك الصورة عين حضرة الإمكان، فلهذا كان للممكنات أعيان ثابتة وشيئية في حال عدمها. وخرج الممكن على صورة الوجود المطلق، وكان أيضاً الوجود المطلق كالمرآة للعدم المطلق، فرأى العدم المطلق في مرآة الحق نفسه، فكانت صورته التي رأى في هذه المرآة عين العدم الذي اتصف به هذا الممكن، فاتصف الممكن ما هي من حيث ثبوتها عين الحق تعالى - ول غيره، ولا هي من حيث عدمها عين المحال ولا غيره. فمن هذه الحضرة البرزخية والحقيقة الكلية وجد العالم بواسطة الحق تعالى وأسمائه وليست هذه الحقيقة الكلية البرزخية بموجودة، فيكون الحق أوجدنا من وجود قديم فيثبت لنا القدم. وهذه بالحقيقة التي وجد العالم عنها لا توصف بالتقدم على العالم و لا العالم بالتأخر عنها فإنه محال، إذ ليست بموجودة، كما استحال على الحق تعالى فإنه ليس بين العالم الممكن وبين موجوده تعالى زمان يتقدم به عليه فيتأخر هذا عنه فيقال فيه قبل أو بعد، وإنم هو متقدم بالوجود كتقدم أمس على اليوم لأنه من غير زمان لأنه نفس الزمان، وكتقدم طلوع الشمس على أول النهار، وإن كان أول النهار مقارنا لطلوع الشمس، ولكن قد تبين أن العلة في وجود أول النهار طلوع الشمس، وقد قارنه في الوجود، فعدم العالم لم يكن في زمان ولكن الوهم يتخيل أن بين وجود الحق ووجود الخلق امتداد زماني. وهذه الحقيقة الكلية البرزخ المعقول تقارن الحق الأزلي أزلا، وليس لها وجود مع الحق تعالى . فتبين مما أوردناه على النحو الذي بيناه أن الممكنات حصلت في الحضرة العلمية الذاتية من العدم المحض الذي هو أحد طرفي الذات، إذ الذات كما قلنا مادة للعدم المطلق المحض، والوجود المطلقة المحض، والممكن الذي هو برزخ بين العدم المطلق المحض، والوجود المطلق المحض، ثم لما حصلت المقابلة بين الوجود المطلق والعدم المطلق، ولا نهاية لكل واحد منهما، وكانت البرزخية الكبرى في الحقيقة الكلية حصلت فيها جميع الممكنات من جهة مقابلتها للوجود المطلق، فهو مادتها، فكان للممكنات في الحقيقة الكلية ثبوت، ولا وجود فهي ثابتة غير موجودة، وهي معلومات الحق تعالى - مخزونة في هذه الخزانة الكبرى التي هي صورة علم الحق تعالى - علمها بها فحصلت المعلومات في الحضرة العلمية بالأصالة عن العدم المحض الذي هو وجود الملابس عن الليس، وهو أحد طرفي الذات بتجل ذاتي لا بتوسط اسم من الأسماء. ثم لما وجدت في مرتبة الوجود العيني كان ذلك بالقدرة عقلاً وبواسطة القول شرعاً. وسيدنا محي الدين بن العربي رضي الله عنه قائل بهذا كلّه، وجميع ما ذكرناه هو من إملائه. قال في باب كيمياء السعادة من الفتوحات: قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾[الحجر:15/21].

من اسمه الحكيم، فالحكمة سلطانة هذا الإنزال الإلهي وهو إخراج هذه الأشياء من هذه الخزائن إلى وجود أعيانها، وهو قولنا في خطبة هذا الكتاب: «والحمد لله الذي أخرج الأشياء عن عدم وعدمه» وعدم العدم وجود، فهو نسبة كون هذه الأشياء في هذه الخزائن محفوظة ثابتة لأعيانها غير موجودة لأنفسها، فبالنظر إلى أعيانه فهي موجودة عن عدم، وبالنظر إلى كونها عند الله في هذه الخزائن هي موجودة عن عدم العدم، وهو وجود، فإن شئت رجّحت جانب كونها في الخزائن فنقول: أوجد الأشياء من وجودها في الخزائن إلى وجودها في أعيانها للتنعم بها أو غير ذلك، وإن شئت قلت: أوجد الأشياء عن عدم بعد أن تقف على معنى ما ذكرت لك فقل ما شئت، انتهى .

فقول سيدنا الإمام محي الدين رضي الله عنه فالنظر إلى أعيانها هي موجودة عن عدم صريح في أنه يريد العدم المحض، يعني أنك إذا نظرت إلى الممكنات الموجودة في مرتبة الحس من حيث هي هي من غير اعتبار ثبوتها في الخزائن العلمية قلت إنها موجودة عن عدم محض، وبالنظر إلى كونها ثابتة عند الله في هذه الخزائن العلمية قلت إنها موجودة في مرتبة الحس عن عدم العدم، وهو وجودها العلمي الذي هي فيه ثابتة غير موجودة.

ثم اعلم أن العلم الإمكاني غير مغاير للوجود المطلق ولا للحقيقة الكلية التي هي صورة علم الحق تعالى - بل العالم صورة الوجود وصورة الحقيقة الكلية. وقد قدمنا أن العلم لا يتعلق إلا بموجود أو مثل الموجود، وأما الرؤية فإنها تتعلق بالمعدوم، يرى تعالى الأشياء في عدمها فيوجدها، فانتشأت صورة مثال العالم الإمكاني في نفس العالم تعالى من هذه الحقيقة الكلية من غير عدم تقدم، ولكن تقدم رتبة كتقدم العلة على المعلول وإن كانا متقارنين و:﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَ لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ﴾[الأعراف: 7/ 43].

وبعد إتمام هذه الورقات رأيت رؤيا أخذت منها بشارة حسب تعبيري إياها، وهي رضاء سيدنا الشيخ محي الدين بالانتصار له، وأن ذلك وقع منه بجانب القبول. رأيت أنه دفع إليّ مكتوباً مختوماً ففتتحته فإذا فيه صورتي مثل هذه الصور التي تجعل على الورق، وعلى رأس الصورة تاج السلطنة والمملكة، ومع الصورة مكتوب غير ممضي من أحد فيه الترغيب لي بقبول تاج السلطنة وتحسين ذلك والحث على القبول، فأوّلت ذلك بأن الإمام محي الدين رضي الله عنه ملك بل ومن أعزم الملوك، وعادة الملوك إذا فعل بعض خدمتهم فعلاً وقع منهم موقع الاستحسان يخلعون عليه خلعة يتميز بها ما بين أقرانه، ورأيت أثناء الكتابة أنه قدم إليّ فرساً أسوداً حالكاً لاشية فيه فركبته، فكان ذلك الفرس من نفسه يفعل أفعالاً عجيبة والناس مجتمعون ينظرون ويتعجبون، تارة يرتفع في الهواء وتارة يرفع يديه إلى السماء وتارة ينتقل من محل إلى محل، ثم نزلت من ظهره فجعل يأتي بين يدي ويطأطئ رأسه يقول بلسان حاله اركبني، فعل ذلك مراراً والناس ينظرون ويتعجبون، فعلوت رقبته ثم استويت على ظهره. فأوّلت ركوب الفرس الأسود الحالك بالكلام في الذات العلية، فإنه قد كان بعض ذلك في هذه الورقات بالإذن والفتح في التعبير عن ذلك، إذ الذات هي الظلمة الحالكة ولا يخوضها بالعقل إلاّ نفس هالكة فليس فيها معلم يهتدى العقل به ولا اسم ولا رسم يستند إليه والتحذير الوارد في المنع من الخوض في الذات إنما هو من حيث النظر العقلي والتفكر الحدسي. فقول الصديق رضي الله عنه :«العجز عن الإدراك إدراك، والخوض في ذات الله إشراك» . يريد من حيث العقل، وأما من جهة الوهب الإلهية بالإخبار الرحماني فقد يفتح الله تعالى في ذلك لمن يشاء من خواص عباده. وما ورد من الصفات السمعية الواردة في الكتاب والسنة التي ردتها العقول إلا بتأويل عقلي كله كلام في الذات العلية، وربّك يخلق ما يشاء لا إله إلا هو العليم الحكيم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!