موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


209. الموقف التاسع بعد المائتين

قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾[النساء: 4/ 164].

قال: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ﴾[البقرة: 2/253].

قال: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾[الصافات: 37/ 104].

قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾[البقرة: 2/34]، [الإسراء : 17/61]، [الكهف: 18/ 50]، [طه: 20/ 116].

ونحو ذلك مما يثبت الكلام له تعالى

فاعلم أنه مضى عصر الصحابة و التابعين رضوان الله عليهم وهم مجمعون على أنه تعالى متكلّم، وأن القرآن، وهو مابين دفتي المصحف كلام الله تعالى ، كسائر الكتب المنزلة، من غير خوض في شيء وراء ذلك، فما قالوا : متكلّم بذاته، ولا بصفة وجودية زائدة على ذاته، ولا أن معنى متكلّم: خالق الكلام في من يتكلم من المخلوقات، ولا أَنَّ كلامه نسبة من النسب، ولا فرقوا بين التلاوة والمتلّو، والقراءة و المقروء، والكتابة والمكتوب، ثم لما كان أوائل القرن الثالث نبغت المعتزلة فقالت: هو تعالى متكلم، بمعنى خالق الكلام فيمن يريد به التكلم، بما يريد من الكلام، فموسى عندهم سمع كلام الشجرة، بما خلقه الله فيها من الكلام، ولم يسمع كلام الله تعالى ـ ولم يثبتوا لله تعالى كلاماً، ولا غيره، ممّا أثبته الصفاتيون من الأشاعرة وغيرهم، إلاَّ أبا هشام فإنه وهو مابين دفتي المصحف كلام الله غير مخلوق، فأبدع قولاً ثالثاً. فإنَّ السلف الصالح كانوا على إثبات القدم والأزليّة، لما بين دفتي المصحف من القرآن، دون التعرّض لصفة أخرى وراء ذلك، مع عدم التعرّض لكنه ذلك. وكانت المعتزلة على إثبات الخلقيّة للقرآن، وهو مابين دفتي المصحف، دون التعرض لأمر آخر، ثم كثر اللغط وارتفعت الأصوات بالخلاف بين فرق الأمة المحمدية، إلى أن فسّق بعضها بعضاً، ولعن بعضها بعضاً، إلى هلم جرّا، فإذا سمعت هذا فأقول، غير مقلّد ولا متقيّد، وإنما أقول ما فهّمني الله تعالى في كتابه وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالتفهيم الرباني:

خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به          في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

إنَّ سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم كالإمام أحمد وأمثاله، وم تحمّلوا أنواع الأذى وضروب المحن، وصبروا على السجن والتغريب و الهوان، ولم يتفوّهوا بالقول بخلق القرآن إلاَّ لما ثبت عندهم من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين: أن القرآن، وهو مابين دفتي المصحف، محكوم له بجميع أحكام من أضيف ونسب إليه، وهو الله تعالى ، من القدم والأزلية، والتقديس والتنزيه عن أوصاف المحدثات، ما هو ذلك للمعنى النفسي القائم بالذات العليّة حكماً إلهياً شرعياً، لا لمناسبة بين المعنى النفسي القائم بالذات وبين ما نقرؤه ونحفظه ونكتبه، ولا مشابهة بينهما ولا مماثلة، ولا لحلول ولا لدلالة من الدلالات، كما قيل، فكم أنه تعالى لا يُسأل عمَّا يفعل، لا يسأل عما يحكم: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ﴾[الأنعام: 6/ 57]. [يوسف: 12/ 40/ 67].﴿لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾[الرعد: 13/ 41].

وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم هم أهل الآراء الصائبة والعقول المنوّرة، بالطاعات واجتناب المنهيات، وبالزهد في الدنيا، لا يمكن أن يخفى عنهم ما ورد في حق القرآن، وهو مابين دفتي المصحف من الإنزال والتنزيل والإيتاء ونحو ذلك، وأنه إنزال مخلوق إلى مخلوق، وإيتاء محدث إلى محدث، ولكن الحكم الشرعي والأمر الإلهي شرك بين ما بين دفتي المصحف، وبين المعنى النفسي في الحكم بالتنزيه والتقديس. ألا ترى الأحاديث القدسية الربانية؟! فإنها كلام الله تعالى بل ريب، إذ هي رواية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ربّه، بلا واسطة ملك بل من الوجه الخاص، وحيث لم يحكم لها الشارع بحكم الكلام النفسي لم يكن لها هذا الحكم، كيف؟! وهو تعالى يقول: ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾[الأنبياء: 21/ 2].

وقال: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾[الشعراء: 26/ 5].

كما أنه لا يغرب عن قلوبهم المنوّرة رضوان الله عليهم أنَّ الكلام المنسوب إليه تعالى معنى من المعاني، كالعلم ونحوه، وانتقال المعاني عن محاله محال في الحادث، فكيف بالقديم تعالى؟ فلا ينتقل كلام أحد على أحد، ولا علم أحد على أحد، بعينه وذاته، وإنما يخلق الله تعالى عند السامع والمتعلّم معنى آخر، يكون مثلاً كالظلّ لما عند المتكلم والعالم. فهذه الظلال التي للكلام القديم هي مدلولاته. وكما أن العلم صفة العالم، والصفة لا تفارق موصوفها، كذلك الكلام صفة المتكلم لا يفارقه؛ وكما أن الخارج إلى العقل والخيال والحس هي ظلال المعلومات، كذلك الخارج هي مدلولات الكلام لا عينه، فلا قديم إلاَّ الكلام النفسي. وما حكم الشارع يقدمه، كالقرآن الكريم، وسائر الكتب المنزلةِ، فلأمر استأثر به الشارع، وكما أن حقائق المعلوم في العلم أزلاً وأبداً؛ كذلك حقائق الكلمات المدلولات في الكلام أزلاً وأبداً. فإذا أراد الله تعالى إظهار معلوم أظهره بالكلام القديم. فالعلم قديم، و المعلومات منها قديم وحادث. و الكلام قديم، و المدلولات منها قديم وحادث. وكما أن المعلومات في العلم، ليس لها تقديم ولا تأخير ولا ترتيب، فإذا ظهرت إلى الوجود العيني أو العقلي أو اللفظي أو الرسمي، حصل فيها تقديم وتأخير وترتيب؛ فكذلك مدلولات الكلام القديم، ليس لها في الكلام النفسي تقديم ولا تأخير ول ترتيب، فكلامه النفسي يدل على مدلولاته، التي لا نهاية لها في آن واحد، فإذا ظهرت بالكلام القديم إلى الوجود حصل لها ذلك. فا لكلام القديم تخصيص مراد بمراد تخصيصاً بيانياً كشفياً، كما أن الإرادة تخصيص معلوم بمعلوم تخصيصاً تمييزياً. فليس الكلام إلاَّ ترجمة عن الإرادة والعلم، أعني عند إظهار المعلوم المراد، وإلاَّ فالكلام حقيقة قديمة كسائر الحقائق الإلهية. فليس كلامه عن سكوت، بل لم يزل متكلماً، ول يزال. فلا يشغله شيء عن شيء فكما أنّ علمه تعالى يتعلق بمعلوماته في الآن الواحد؛ كذلك كلامه يدل على مدلولاته، التي هي معلوماته في الآن الواحد.

وما ورد من كون بعض الأمور الحادثة سبباً في كلامه، كقوله:﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾[البقرة: 2/152].

((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في مَلاءٍ ذكرته في مَلاَءٍ خير من منه)).

((إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي)). الحديث.

فإنما هذا إخْبار بأنه يظهر ذكره لعبده عند ذكر العبد، إظهار إيجاد، فإن إيجاد كلّ شيء من أعيان ومعان إنما هو بالكلام،  كما قال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَ أَرَدْنَاهُ ﴾[النحل: 16 /40].

وإلاَّ فالكلام النفسي كما قدمنا ليس فيه ترتيب وتقديم، وتأخير و سبب وشرط، وإنما جاء الشرط و المشروط والسبب و المسبّب في الإيجاد العيني الخارجي.

وصل

زعمت الأشاعرة أن موسى (عليه السلام) سمع الكلام النفسي القائم بالذات العليّة. فما أدرى؟ كيف تصوّروا هذا؟!والكلام النفسي عندهم حقيقة واحدة لا تتعدّد ولا تتجزأ؟ فلو سمع موسى المعنى النفسي للزم أنه سمع مالا بداية له ولا نهاية.

وقد روى النسائي في سننه أنه تعالى قال لموسى: ((إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان)).

كما زعمت أنَّ الكلام النفسي يتنوّع إلى أمر ونهي، ووعد ووعيد، وخبر واستخبار، إلى غير ذلك من أنواع الكلام الحادث، وما تفطّنت أن التنوع إنما هو للكلمة الصادرة عن المصدر الواحد، وهو الكلام الأزلي الأبدي، فإنه واحد مطلق قديم، و الكلمات مقيّدة بالزمان والمكان، متعددة متكثرة متنوعة إلى معان من أمر ونهي ونحو ذلك، وإلى أعيان وأعراض ونحو ذلك، ولا يقدح تعدّد هذه الأنواع وحدوثها في وحدة المبدأ والمصدر لها، وقدمه الذي هو الكلام النفسي، كما لا يقدح تعدّد متعلقات الصفات كلها، وحدوثها في وحدة الصفات، وقدمها. فكلامه تعالى واحد، وكلماته كثيرة كما قال: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾[الكهف: 18 / 109].

وكلماته منها التامة والناقصة بالنسبة إليها ، وكلامه تعالى لا نقص فيه، وكسائر ما ينسب إليه تعالى ـ، فليس الكلام النفسي إلاَّ مبدأ لإيصال مراد المتكلم إلى المخاطب. فكيفما وصل سمّي كلاماً، كما هو لغة، ولهذا كان من ضروب الوحي أن يخلق الله تعالى في قلب الموحى إليه علماً ضرورياً بإدراك ما شاء الله تعالى إدراكه، في الكلام النفسي من غير اختصاص بجهة، ولا أُذُن. وهذه الحالة هي حالة الوحي بغير واسطة الملك،  وهي التي أشار إليها (صلى الله عليه وسلم) بقوله، لما سُئِلَ كيف يأتيك الوحي؟ ! كما في صحيح البخاري، فقال:

((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد علي، فيفصم عنّي وقد وعيت ما قال)).

والمراد من صلصلة الجرس الأزمة، وهو الشدّة والدهش والهول والصعق والغيبة عن كل شيء حتى عن نفسه، وهذا الضرب هو المشار إليه أيضاً بقوله: ﴿وَمَ كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً﴾[الشورى: 42/ 51].

ومن أولياء الأمة المحمدية من يذوق تنزيل القرآن العظيم إلى اليوم ، فإذ أراد الله تعالى إنزال شيء من القرآن على الولي يجد ما أنزل عليه عنده منظوماً، كما هو، من غير أن يسمع صوتاً، أو يرى واسطة، ولا شيئاً من الكيفيات، ول يكون لهم هذا إلاَّ حال صعقهم وغيبتهم عن العالم وعن أنفسهم، وقد رأينا من أصحاب هذا الحال و الحمد الله، ويتكرر عليهم إنزال الآية بحسب ما يريد الله منهم، وهم في حالة هذا التنزيل معصومون، إذ كلام الله تعالى ((ما تنزلت به الشياطين، وم ينبغي لهم وما يستطيعون))، ورُوي عن أبي يزيد (رضي الله عنه) أنه قال متمدّحاً: "مامت حتى استظهرت القرآن" يريد بهذا "التنزيل" 

تدقيق

ليس الكلام إلاَّ إظهار المعلوم، وليس المعلوم إلاَّ عين العلم، وليس العلم إلاَّ عين الذات العالمة، فليس الكلام إلاَّ ظهور الذات، فهي الظاهرة بكلامها فكلامها وجودها، وكلماتها موجوداتها، لأنَّ الأسماء مرائي الذات، بها تظهر وفيها تنظر، فالمتجلّي قديم، والمتجلّى به له وجهان، وجه إلى المتجلّي فهو قديم أزلي، ووجه إلى المتجلّي له، فهو حادث كالمتجَلَّى به، ولا حلول في هذا ، وإنما هو كتجلّي المعاني في الحروف والألفاظ، قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ﴾ [هود: 11/14].

أي القرآن المنزّل على محمد (صلى الله عليه وسلم) نزل ملتبساً بعلم الله ، وعلم الله عين ذاته، وقال: ﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾[النساء: 4/ 166].

وقال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾[الحج: 22/ 54].

والذين أوتوا العلم، بأن القرآن كلامه تعالى، وأن تجلّيه وظهوره بذاته كلماته، هم الملائكة، فإنه قال: ﴿ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أي يشهدون هذ التجلّي. وكذا الأنبياء والرسل والأولياء المحمديون عليهم الصلاة والسلام ف «ال» في العلم في قوله ﴿ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ للعهد وهو العلم الناشئ عن التجلّيات، وهو علم الذوق لا مطلق العلم، فإنه ليس كل علم ولا كل عالم يحصل له هذا: "ليس هذا بعشّك فادرجي".

تدقيق

الكلام نسبة، ولا تحقّق لنسبة إلاَّ بالمنتسبين، فهي عينهما. ف "كن" عين القائل "كن" وعين المقول له "فيكون" فافهم

نقض وحل

كل كلام هو كلام الله فلا كلام لغيره تعالى ، إذ الكلام من توابع الوجود، فما لا وجود له إلاَّ بالمجاز، فلا كلام له إلاَّ بالمجاز، ولا وجود إلاَّ له تعالى ، فلا كلام إلاَّ كلامه تعالى ، كما أنه لا سميع، إلاَّ هو تعالى فهو المتكلم السميع لكلامه.

(تنبيه): الكتب والصحف المنزلة على الرسل ما عدا القرآن الكريم إنما أنزلت عليهم معاني مجرّدة، وهم عبّروا عنها بلغاتهم ، كالعبرانية والسريانية وغيرهما. فلذا قبلت الكتب الإلهية التحريف، ما عدا القرآن الكريم، حيث أن ترجمته كانت من الرسل عليهم الصلاة والسلام والترجمة تقبل التحريف، بخلاف المعنى، فإنه لا يمكن تحريفه، وأما القرآن الكريم، فإن الله تعالى أوجده في قلب جبريل وسمعه منظوماً عربياً معجزاً، كما هو عندنا، قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾[الشعراء: 26/ 193].

إلى قوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾[الشعراء: 26/ 195].

فالباء باء الملابسة، وقال: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾[الأحقاف: 46/ 12].

وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾[طه: 20/ 113].

وحيث كان ناظمه الله تعالى ، ولم يترجمه عن الحق مخلوق، كان محفوظاً من التحريف، ذكر السيوطي (رضي الله عنه) في الخصائص: أنه حضر مجلس المأمون بن الرشيد في خلافته يهودي فتكلم فأعرب عن بلاغة وبيان، وذلاقة لسان، وقوّة جنان، فأعجب به المأمون فعرض عليه الإسلام فامتنع، وبعد برهة من الزمان حضر اليهودي مجلس المأمون لمصلحة، فرآه المأمون مسلماً فسأله عن سبب إسلامه، فقال له: إنك لما عرضت عليَّ الإسلام حصل عندي اضطراب، فعمدت إلى التوراة فكتبت منه عدة نسخ فبدّلت وغيّرت، وقدّمت وأخّرت، وذهبت بها إلى مدارس اليهود فتساقطوا عليها واشتروها، ثم عمدت إلى الإنجيل فكتبت منه عدة نسخ وفعلت بها ما فعلت بالتوراة، وذهبت بها إلى البيعة، فتساقط النصارى عليها واشتروها، ثم عمدت إلى القرآن فكتبت منه عدّة نسخ وفعلت بها ما فعلت بالتوراة والإنجيل وذهبت بها إلى الكتبيين؛ فكل من رأى نسخة منها ضربني بها، وقال: "ما هذا بقرآن" فعرفت الدين الحق فأسلمت.

فائدة

ما من رسول ولا نبي ولا ولي إلاَّ ويكمله الحق تعالى بما شاء كيفم شاء، تارة بغير واسطة وتارة بواسطة مشهودة. فإذا كلّمهم بغير واسطة أو بواسطة غير مشهودة سمعوه بقلوبهم، وإذا كلمهم بواسطة مشهودة سمعوه بآذانهم وقلوبهم، لأن الكلام النفسي محل سماعه القلوب والأذهان، واللفظي محل سماعه الآذان، ويعلمون كلام الحق علماً ضرورياً كسائر الضروريات لا يطرقها ريب ولا تردّد بعلامات، جعلها لهم في معرفة تجلياته وسماع كلامه. يقول الشاذلي (رضي الله عنه): وهب لنا مشاهدة تصحبها مكالمة، ويقول محي الدين الحاتمي (رضي الله عنه) إذا كلمك لم يشهدك، وإذ أشهدك لم يكلمك. فالشاذلي طلب دوام المشاهدة في الصور، بحيث لا يرى إلاَّ الله، ول يكلم إلاَّ الله، ولا يكون إلاَّ مع الله، في جميع ما يكون منه، كما روى عن الجنيد (رضي الله عنه) أنه قال: لي ثلاثون سنة أتكلم مع الله، والناس يظنون أني أتكلم معهم. و الحاتمي كلامه في المشاهدة التي هي غيبة محضة وفناء صرف، فلا تكون فيه مكالمة، لأن المقصود من الكلام الإفادة، والفاني الغائب لا يسمع ولا يحس ولا يفهم، فمكالمته عبث، ويتعالى الحكيم عن العبث. فالمشاهدة بهذا المعنى لا مكالمة فيها، وإنّم اختصّ موسى من بين الرسل والأنبياء على جميعهم الصلاة والسلام بالكليم لذوق اختص به،  كما قال إمام العارفين محيي الدين (رضي الله عنه) ولعل فقيهاً قحاً يقف على هذه الكلمات فيقول: هذه كفرّ وردّة وزندقة ومروق من الدين، فإن الفقهاء أهل الفتاوى أجمعوا على أنَّ من ادعى رؤية الله أو سماع كلامه فهو مرتد مباح الدم، فالله يغفر لي ولهذا الفقيه وللفقهاء أصحاب الفتاوى.

عائدة

كل كلام ينسب لموجود، فذلك الكلام بحسب مرتبة ذلك الموجود، فإذا كان الموجود مطلقاً كان كلامه مطلقاً، لا يتقيّد ولا يحكم عليه بحكم، كوجوده، وليس إلاَّ الحق تعالى ، وإذا كان الموجود مقيداً ببعض القيود دون بعض، أو مقيداً بجميع ما يدرك من القيود فكلامه كذلك. فالكلام المنسوب إلى الحيوان، التي لها صوت وليس لها مخارج الحروف، والتي لا صوت لها كالنملة، وإلى الجمادات كالشجرة والحجارة.... الخ، ليس هو ككلام الآدمي أصالة، كما لا يسمعه السامع بحروف وأصوات، فإنه ليست لها آلات ذلك، ولهذا لمَّا سرت الروح في عجل السامريّ خار، وما تكلّم كالإنسان ولا كغيره من سائر الحيوان، لأن المراتب حاكمة، فلا يظهر الروح فيه إلاَّ بحسبها، وإن الله قادر على إخراج الثمر من الحجر، ولكن بعد جعل الحجر شجراً وإذا تكلّم النبيّ أو الولي بكلامها الذي هو لمرتبتها الحيوانية أو الجمادية، فيخلق الله تعالى في قلب النبيّ أو أذنه أو أذن من شاء من عباده مرادها بكلامها، فيسمعه بحرف وصوت أو بغير صوت ولا حرف، وإن تخصيص السماع بالأُذن أمر عادي، وإلاَّ فكل قوّة يمكن أن يكون لها ما لغيرها من سائر القوى، والأشياء كلّها متكلمة وكلامه بحسب مراتبها، وإنما خرق العادة في المكاشفة للنبي والوليّ بسماع كلامها بالقلب أو الأُذن، الذي ليس هو من جنس كلامنا.

تتمة: مما غلط فيه المتكلمون قولهم بعد إثبات الصفات الثبوتية و السلبية، التي أثبتوها لله تعالى: "ويستحيل عليه تعالى أضدادها"، مع أنَّ الأمر ليس كذلك، فإن صفات الله تعالى لا ضدَّ لها، لأنَّ الضدين إنم يتواردان حيث لا يخلو المحل عن أحدهما، وإنما ذلك في الحادث القابل للكمال والنقص، وأما الحق تعالى فإِنَّ ذاته لا تقبل النقض، فصفات الكمال الثابتة له لا ضدّ لها، فعلمه تعالى لا ضدّ له، وكذا قدرته وإرادته وكلامه وسمعه وبصره، ونحوها.

تكميل

الصوفية الذين هم سادات طوائف المسلمين، لا ينفون الصفات التي أثبته الأشاعرة كما نفاها المعتزلة والحكماء، ولا يثبتونها كما أثبتها الأشاعر، فإن قول الأشاعرة في صفات المعاني أنها موجودة في نفسها، زائدة قائمة بالذات، بحيث لو كشفنا رأينا قيامها بالذات... يلزم منه استكمال الذات بالزائد، ولولا ذلك الزائد لكانت ناقصة. وهو تعالى كامل الذات، فمحال استكماله بالزائد، فإن فيه نقص الذات، والنقص محال، فالاستكمال بالزائد محال، وقولهم: (أعني الأشاعرة، في الصفات): لا عين ول غير، وتفسيرهم الغيرين بما يصح الانفكاك بينهما كلام لا روح له، خال عن التحقيق، ول تسميّ الصوفية ما ينسب إليه تعالى من الكلام وغيره بالصفات إلاَّ على سبيل المجاراة والتنزّل في مقام التفهيم والتعليم ، وإنما تسمّى ذلك بالأسماء، فإنه تعالى ما أطلق في كتبه، ولا على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام لفظة الصفة ولا النعت، وإنما ورد الاسم، قال تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى: 87/ 1].

وقال: ﴿فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[الإسراء: 17 /110].

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[طه: 20/ 8].[الحشر: 59/ 24].

بل نزّه نفسه عن الصفة، فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[الصافات: 37/ 180].

وتسميتها أيضاً بالنسب، لأن النسب أمور معقولة، لا موجودة ولا معدومة، فكل ما ينسب إليه تعالى يقولون فيه نسبة، كالعلم وغيره، فهي عندهم لا موجودة خارجاً، ول معدومة عقلاً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!