ولما كنت تحت المخلوق فذاك خطبها، كذلك لما خرّ موسى، وموسى هو أنت، فأذاقني نظرك بقي، فبقي نظري بنظري، هكذا كل من خرب سكن؛ أي: من خرب نفسه سكن عقله، ومن خرب عقله سكن سره، ومن خرب سره سكن فهمه، فخراب النفس ألا ترى ما تعمل، وخراب العقل من العلم، وخراب السر من المحبة الأزلية، وهو ألا تراك أنك أحببت، كيف يجوز للمملوك محبة مالكه إلا أن محبة الملك فهم، وخراب الفهم هو أن يبقى هو بلا هو، فأصل الأشياء أن تؤثر من لا تعرفه، لا لحاجة ولا لإرادة ولا لشيء مطلقًا، لا تطلب عليه مكافأة ولا سمسرة.

وكذلك إن زرت أحداً فلا تخرج إلا لأحد ثلاثة:

1- إما أن يكونوا فقراء فتخرج تجبرهم، ثم إنه يلزمك تأخير خطك وتقديم خطهم؛ أي: الحظ لهم لا لك، فالفضل لهم، فإن لم يكن معك من الأشياء فاخدمهم بنفسك، وإن لم تقدر تخدمهم تأدب معهم، فإذا وصلت موضعهم فامح نفسك، فمحوك لنفسك هو افتقارك لهم، وقلة مطالبتك لهم هو أدبك معهم، فإن كنت أعلم منهم وأردت بزيارتك لهم الظهور عليهم، فما رحت إلا لتحاربهم ولو كانوا مذعنين فانظرهم بصدقك.

2- ثم إذا دخلت عليهم فأقبل بكليتك عليهم، وقل: سلام عليكم؛ وتعني بذلك أسرارهم، واجلس في مقابلتهم في ظاهرك، وانزل عن مقابلتهم في الباطن، فإن مقابلة الباطن تقبض، ثم لا تنبسط لهم علمًا ولو سألوك؛ لأن العلم كالكمين، فإن رأيتهم ظهروا عليك بالعلم، فتحتاج فتظهر ما كتمت، وإن ظهرت عليهم أخرجوا كمينهم، فأنت ما جلأت إلا لمسرتهم لا لمضرّتهم؛ لأن العلم شبه الميدان لا يدخله إلا لمصادمة، فهذا شرط الزيارة، لكن العلم لا يطلب إلا من الشيوخ، وإنما الحرب من الرجال تكون.

3- وإذا دخلت على الشيخ مسترشداً، وبحث على كل الوجوه وإن لم تكن كذلك، فسرت على كل الوجوه؛ لأنك إذا دخلت عليه صادقًا صرت صديقًا؛ لاجتماع صدقكم، ثم لا تخرج إلا بأوفى ما تطلب؛ لأنك دخلت تطلب من حينك، فيعطيك الحق من حيث هو، ولو كان الشيخ دون ذلك، فلك صدقك وما تطلب، وأما من وصل معارضًا للشيخ، فكأنما يحارب الله عزّ وجلّ ؛ لأن الشيخ على بساط الحق. وهذا العلم لطيف، فإن جئت إليه بالكثافة فكأنك جئت لطفي نور الله، وهذا كلام رقيق لكنه معين، حكمه عالي وثمنه غالي؛ أي: لا تحمله الأسرار ولا تدركه الأبصار، فامح السطور وافهم وانف الأهم بالفهم؛ فالإشارة في العبارة، ثم نشرح في الآيات.