The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الاذكار

للشيخ الإمام الحافظ زكريا بن شرف الدين النووي

كتاب السلام والاستئذان وتشميت العاطس وما يتعلق بها

 

 


قال اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا على أنْفُسِكُم تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها‏}‏‏[‏النساء‏:‏86‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أهْلِها‏}‏‏[‏النور‏:‏27‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذَا بَلَغَ الأطْفالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كما اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏59‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏24‏]‏

واعلم أن أصلَ السَّلامِ ثابتٌ بالكتاب والسُّنّة والإِجماع‏.‏ وأما أفراد مسائله وفروعه فأكثرُ من أن تُحصر، وأنا أختصرُ مقاصدَه في أبواب يسيرة إن شاء اللّه تعالى، وبه التوفيق والهداية والإِصابة والرعاية‏.‏

بابُ فضلِ السَّلامِ والأمرِ بإفشائه

1/599 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما؛ أنَّ رجلاً سأل رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ أيُّ الإِسلام خَيْرٌ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏تُطْعِمُ الطَّعامَ، وَتَقْرأُ السَّلام على مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ‏"‏‏.‏‏(1)

2/600 وروينا في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قال‏:‏ اذْهَبْ فَسَلِّمْ على أُولَئِكَ‏:‏ نَفَرٍ مِنَ المَلائِكَةِ جُلُوسٍ فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ فإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرّيَّتِكَ، فقال‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالُوا‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهُ، فَزَادُوهُ‏:‏ وَرَحْمَةُ اللَّهِ‏"‏‏.‏‏(2)

3/601 وروينا في صحيحيهما، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال‏:‏ أمرنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبع‏:‏ بعيادةِ المريض، واتِّباعِ الجنائز، وتشميتِ العاطسِ، ونصرِ الضعيفِ، وعوْنِ المظلومِ، وإفشاءِ السَّلامِ، وإبرارِ القَسَم‏.‏ هذا لفظ إحدى روايات البخاري‏.‏ (3)

4/602 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا، أوْلا أدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ‏؟‏ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ‏"‏‏.‏‏(4)

5/603 وروينا في مسند الدارمي وكتابي الترمذي وابن ماجه، وغيرها بالأسانيد الجيدة، عن عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يا أيُّهَا النَّاسُ أفْشُوا السَّلامَ، وأطْعِمُوا الطَّعامَ، وَصِلُوا الأرْحامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ (5)

6/604 وروينا في كتابي ابن ماجه وابن السني، عن أبي أُمامةَ رضي اللّه عنه قال‏:‏ أمَرَنَا نبيُّنا صلى اللّه عليه وسلم أن نُفشيَ السَّلامَ‏.‏ ‏(6)

7/605 وروينا في موطأ الإِمام مالك رضي اللّه عنه، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، أن الطُّفيلَ بن أُبيّ بن كعب أخبرَه أنه كان يأتي عبدَ اللّه بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال‏:‏ فإذَا غدوْنا إلى السوق لم يمرّ بنا عبدُ اللّه على سَقَّاطٍ ولا صاحبِ بَيْعَةٍ ولا مِسكين ولا أحدٍ إلاَّ سلَّم عليه؛ قال الطُّفيلُ‏:‏ فجئتُ عبدَ اللّه بن عمر يوماً، فاستتبعني إلى السوق، فقلتُ له‏:‏ ما تصنعُ بالسوق وأنتَ لا تقفُ على البيْعِ ولا تسألُ عن السِّلعِ ولا تسومُ ولا تجلسُ في مجالس السوق‏؟‏ قال‏:‏ وأقولُ اجلسْ بنا هاهنا نتحدّثْ، فقال لي ابن عمر‏:‏ يا أبا بطن وكان الطفيلُ ذا بطن إنما نغدو من أجل السلام نُسَلِّم على مَن لقيناه‏.‏ ‏(7)

8/606 وروينا في صحيح البخاري عنه، قال‏:‏ وقال عمّار رضي اللّه عنه‏:‏ ثلاثٌ من جَمعهنّ فقد جمعَ الإِيمانَ؛ الإِنصافُ من نفسك، وبذلُ السَّلام للعالم، والإِنفاقُ من الإِقتار‏.‏ (8)

وروينا هذا في غير البخاري مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ قد جمعَ في هذه الكلمات الثلاث خيراتِ الآخرة والدنيا، فإنَّ الإِنصافَ يقتضي أن يؤدّي إلى اللّه تعالى جميع حقوقه وما أمره به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدّي إلى الناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن ينصف أيضاً نفسه فلا يوقعها في قبيح أصلاً‏.‏ وأما بذلُ السلام للعالم فمعناه لجميع الناس، فيتضمن أن لا يتكبر على أحد، وأن لا يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع من السلام عليه بسببه‏.‏ وأما الإِنفاق من الإقتار فيقتضي كمال الوثوق باللّه تعالى والتوكل عليه والشفقة على المسلمين إلى غير ذلك، نسأل اللّه تعالى الكريم التوفيق لجميعه‏.‏

بابُ كيفيّة السَّلام

اعلم أن الأفضل أن يقول المسلم‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحداً، ويقولُ المجيب‏:‏ وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَركاتُه، ويأتي بواو العطف في قوله‏:‏ وعليكم‏.‏

وممّن نصّ على أن الأفضل في المبتدىء أن يقول ‏"‏السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته‏"‏ الإِمام أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ في كتابه ‏"‏الحاوي‏"‏ في كتاب السِّيَر، والإِمام أبو سعد المتولي من أصحابنا في كتاب ‏"‏صلاة الجمعة‏"‏ وغيرها‏.‏

1/607 ودليله ما رويناه في مسند الدارمي وسنن أبي داود والترمذي، عن عمران بن الحصين رضي اللّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم، فردّ عليه ثم جلس، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ عَشْرٌ، ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه، فردّ عليه ثم جلس، فقال‏:‏ عِشْرُونَ، ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه، فردّ عليه فجلس، فقال‏:‏ ‏"‏ثلاثُونَ‏"‏‏.‏ فقال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏

وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ بن أنس رضي اللّه عنه، زيادة على هذا، قال‏:‏ ‏"‏ثم أتى آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته، فقال‏:‏ أرْبَعُونَ، وقال‏:‏ هَكَذَا تَكُونُ الفَضَائِلُ‏"‏‏.‏(9)

2/608 وروينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رجلٌ يمرّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وسلم يَرعى دوابّ أصحابه فيقول‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه‏!‏ فيقول له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ‏"‏، فقيل‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذلكَ وَهُوَ يَنْصَرِفُ بأجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً‏؟‏‏"‏‏.‏‏(10)

قال أصحابنا‏:‏ فإن قال المبتدىء‏:‏ السلام عليكم، حصل السَّلامُ، وإن قال‏:‏ السلام عليكَ، أو سلام عليكَ، حصل أيضاً‏.‏ وأما الجواب فأقلّه‏:‏ وعليكَ السلام، أو وعليكم السلام، فإن حذف الواو فقال‏:‏ عليكم السَّلام أجزأه ذلك وكان جواباً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي نصّ عليه إمامنا الشافعي رحمه اللّه في ‏"‏الأُم‏"‏ وقال به جمهور من أصحابنا‏.‏ وجزم أبو سعد المتولّي من أصحابنا في كتابه ‏"‏التتمة‏"‏ بأنه لا يجزئه ولا يكون جواباً، وهذا ضعيف أو غلط، وهو مخالفٌ للكتاب والسنّة ونصّ إمامنا الشافعي‏.‏

أما الكتاب فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏69‏]‏ وهذا وإن كان شرعاً لِما قَبْلنا فقد جاء شرعنا بتقريره، وهو حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه ‏(11)‏ في جواب الملائكة آدم صلى اللّه عليه وسلم، فإن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أخبرنا ‏"‏أن اللّه تعالى قال‏:‏ هي تحيتك وتحية ذرّيتك‏"‏ وهذه الأمة داخلة في ذرّيته، واللّه أعلم‏.‏

واتفق أصحابنا على أنه لو قال في الجواب‏:‏ عليكم لم يكن جواباً، فلو قال‏:‏ وعليكم بالواو فهل يكون جواباً‏؟‏ فيه وجهان لأصحابنا؛ ولو قال المبتدىء‏:‏ سلام عليكم، أو قال‏:‏ السلام عليكم، فللمُجيب أن يقول في الصورتين‏:‏ سلام عليكم، وله أن يقول‏:‏ السلام عليكم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ‏}‏ قال الإِمام أبو الحسن الواحديّ من أصحابنا‏:‏ أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار؛ قلت‏:‏ ولكن الألف واللام أولى‏.‏

فصل‏:‏

3/609 روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم؛ أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّمَ عليهم ثلاثاً‏.‏ ‏(12)

قلت‏:‏ وهذا الحديث محمولٌ على ما إذا كان الجمعُ كثيراً، وسيأتي بيان هذه المسألة وكلام الماوردي صاحب الحاوي فيها إن شاء اللّه تعالى‏.‏

فصل‏:‏ وأقل السَّلام الذي يصير به مؤدّياً سنّة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه، فإن لم يُسْمعه لم يكن آتياً بالسلام، فلا يجب الردّ عليه‏.‏ وأقلّ ما يسقط به فرض ردّ السلام أن يرفع صوتَه بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الردّ، ذكرهما المتولي وغيره‏.‏

قلت‏:‏ والمستحبّ أن يرفع صوته رفعاً يسمعه به المسلَّم عليه أو عليهم سماعاً محققاً، وإذا تشكك في أنه يسمعهم زاد في رفعه، واحتاط واستظهر، أما إذا سلَّم على أيقاظ عندهم نيام، فالسنّة أن يخفضَ صوتَه بحيث يَحصل سماعُ الأيقاظ ولا يستيقظ النيام‏.‏

4/610 روينا في صحيح مسلم، في حديث المقداد رضي اللّه عنه الطويل، قال‏:‏ كنّا نرفع للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم نَصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلّم تسليماً لا يُوقظ نائماً ويُسمِع اليقظانَ، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما، فجاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فسلَّم كما كان يُسلِّم‏.‏ واللّه أعلم‏. (13)

فصل‏:‏ قال الإِمام أبو محمد القاضي حسين، والإِمام أبو الحسن الواحدي وغيرهما من أصحابنا‏:‏ ويُشترط أن يكون الجواب على الفور، فإن أخَّرَه ثم ردّ لم يعدّ جواباً، وكان آثماً بترك الردّ‏.‏

بابُ ما جاء في كَراهةِ الإِشارة بالسَّلام باليد ونحوها بلا لفظ

1/611 روينا في كتاب الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لا تَشَبَّهُوا باليَهُودِ وَ لا بالنَّصَارَى، فإنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشارَةُ بالأصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشارَةُ بالكَفّ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ إسناده ضعيف‏.‏ ‏(14)

2/612 قلت‏:‏ وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن أسماءَ بنت يزيد‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً، وعُصبَة من النساء قُعود، فأشار بيده بالتسليم‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن، فهذا محمول على أنه صلى اللّه عليه وسلم جمع بين اللفظ والإِشارة، يدلّ على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في روايته‏:‏ فسلَّمَ علينا‏.‏ (15)

بابُ حُكْمِ السَّلاَم

اعلم أن ابتداء السَّلامِ سنَّةٌ مستحبّة ليس بواجب، وهو سنّةٌ على الكفاية، فإن كان المسلِّم جماعة كفى عنهم تسليمُ واحد منهم، ولو سلَّموا كلُّهم كان أفضل‏.‏ قال الإِمام القاضي حسين من أئمة أصحابنا في كتاب ‏"‏السير‏"‏ من تعليقه‏:‏ ليس لنا سنّة على الكفاية إلا هذا‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الذي قاله القاضي من الحصر يُنكر عليه، فإن أصحابنا رحمهم اللّه قالوا‏:‏ تشميتُ العاطسِ سنّةٌ على الكفاية كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء اللّه تعالى‏.‏ وقال جماعة من أصحابنا بل كلهم‏:‏ الأُضحية سنّةٌ على الكفاية في حقّ كل أهل بيت، فإذا ضحَّى واحد منهم حصل الشِّعار والسنّة لجميعهم‏.‏ وأما ردّ السلام، فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعيَّنَ عليه الردّ، وإن كانوا جماعةً كان ردّ السلام فرضُ كفايةٍ عليهم، فإن ردّ واحد منهم سقطَ الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلُّهم أثموا كلُّهم، وإن ردّوا كلُّهم فهو النهاية في الكمال والفضيلة، وكذا قاله أصحابنا، وهو ظاهر حسن‏.‏ واتفق أصحابنا على أنه لو ردّ غيرُهم لم يسقط الردّ عنهم، بل يجب عليهم أن يردّوا، فإن اقتصروا على ردّ ذلك الأجنبيّ أثموا‏.‏

1/613 روينا في سنن أبي داود، عن عليّ رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يُجْزِىءُ عَنِ الجَماعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أحَدُهُمْ، ويُجْزِىءُ عَنِ الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُمْ‏"(16)‏‏.‏‏(‏أبو داود ‏(‏5210‏)‏ وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح‏.‏ الفتوحات الربانية 5/305‏)‏ "‏‏.‏‏(‏أبو داود ‏(‏5210‏)‏ وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح‏.‏ الفتوحات الربانية 5/305‏)‏ "‏‏.‏‏(‏أبو داود ‏(‏5210‏)‏ وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح‏.‏ الفتوحات الربانية 5/305‏)‏ "‏‏.‏‏(‏أبو داود ‏(‏5210‏)‏ وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح‏.‏ الفتوحات الربانية 5/305‏)‏"‏‏.‏‏(‏أبو داود ‏(‏5210‏)‏ وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح‏.‏ الفتوحات الربانية 5/305‏)‏

2/614 وروينا في الموطأ، عن زيد بن أسلم أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنَ القَوْمِ أَجْزَأ عَنْهُمْ‏"‏ قلت‏:‏ هذا مرسل صحيح الإِسناد‏.‏ (17)

فصل‏:‏ قال الإِمام أبو سعد المتولي وغيره‏:‏ إذا نادى إنسان إنساناً من خلف ستر أو حائط فقال‏:‏ السلام عليك يا فلان‏!‏ أو كتب كتاباً فيه‏:‏ السلام عليك يا فلان، أو السلام على فلان، أو أرسل رسولاً وقال‏:‏ سلّم على فلان، فبلغه الكتاب أو الرسول، وجب عليه أن يردّ السلام؛ وكذا ذكر الواحدي وغيره أيضاً أنه يجب على المكتوب إليه ردّ السلام إذا بلغه السلام‏.‏

3/615 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قال لي رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرأُ عَلَيْكِ السَّلامَ‏"‏ قالت‏:‏ قلتُ‏:‏ وعليه السلام ورحمة اللّه وبركاته‏.‏ هكذا وقع في بعض روايات الصحيحين ‏"‏وبركاته‏"‏ ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة، ووقع في كتاب الترمذي ‏"‏وبركاته‏"‏ وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، ويُستحبّ أن يرسلَ بالسلام إلى مَن غاب عنه‏.‏ ‏(18)

فصل‏:‏ إذا بعث إنسان مع إنسان سلاماً، فقال الرسول‏:‏ فلان يسلّم عليك، فقد قدّمنا أنه يجب عليه أن يردّ على الفور، ويستحبّ أن يردّ على المبلِّغ أيضاً، فيقول‏:‏ وعليك وعليه السلام‏.‏

4/616 وروينا في سنن أبي داود، عن غالب القطان، عن رجل قال‏:‏ حدّثني أبي عن جدي قال‏:‏ بعثني أبي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ائته فأقرئه السلام، فأتيته فقلت‏:‏ إن أبي يُقرئك السلام، فقال‏:‏ ‏"‏عَلَيْكَ السَّلامُ وَعلى أبِيكَ السَّلامُ‏"‏ (19) ، وإسناده ضعيف لوجود مجاهيل فيه‏.‏‏)‏قلت‏:‏ وهذا وإن كان رواية عن مجهول، فقد قدّمنا أن أحاديثَ الفضائل يُتسامح فيها عند أهل العلم كلهم‏.‏

فصل‏:‏ قال المتولي‏:‏ إذا سلم على أصمّ لا يسمع فينبغي أن يتلفظ بلفظ السلام لقدرته عليه، ويشير باليد حتى يحصل الإِفهام ويستحقّ الجواب، فلو لم يجمع بينهما لا يستحقّ الجواب‏.‏ قال‏:‏ وكذا لو سلّم عليه أصمّ وأراد الرد فيتلفظ باللسان ويشير بالجواب ليحصل به الإِفهام ويسقط عنه فرض الجواب‏.‏ قال‏:‏ ولو سلّم على أخرس فأشار الأخرس باليد سقط عنه الفرض لأن إشارته قائمة مقام العبارة، وكذا لو سلَّم عليه أخرسُ بالإِشارة يستحقّ الجواب كما ذكرنا‏.‏

فصل‏:‏ قال المتولي‏:‏ لو سلَّم على صبيّ لا يجب عليه الجواب، لأن الصبيّ ليس من أهل الفرض، وهذا الذي قاله صحيح، لكن الأدب والمستحبّ له الجواب‏.‏ قال القاضي حسين وصاحبه المتولّي‏:‏ ولو سلَّم الصبي على بالغ، فهل يجب عليه الرد‏؟‏ فيه وجهان ينبنيان على صحة إسلامه، إن قلنا يصحّ إسلامُه كان سلامُه كسلام البالغ فيجب جوابُه‏.‏ وإن قلنا لا يصحّ إسلامه لم يجب ردّ السلام لكن يُستحبّ‏.‏ قلت‏:‏ الصحيح من الوجهين وجوب ردّ السلام لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها‏}‏ ‏[‏النساء 86‏]‏ وأما قولهما إنه مبنيّ على إسلامه، فقال الشاشي‏:‏ هذا بناء فاسد، وهو كما قال واللّه أعلم‏.‏ ولو سلم بالغ على جماعة فيهم صبيّ فردّ الصبيّ ولم يردّ منهم غيرُه، فهل يسقط عنهم‏؟‏ فيه وجهان‏:‏ أصحُّهما وبه قال القاضي حسين وصاحبه المتولي لا يسقط لأنه ليس أهلاً للفرض، والردّ فرض فلم يسقط به كما لا يسقط به الفرض في الصلاة على الجنازة‏.‏ والثاني هو قول أبي بكر الشاشي، صاحب المستظهري، من أصحابنا أنه يسقط، كما يصحّ أذانه للرجال ويسقط عنهم طلب الأذان‏.‏ قلت‏:‏ وأما الصلاة على الجنازة فقد اختلف أصحابُنا في سقوط فرضها بصلاة الصبيّ على وجهين مشهورين‏:‏ الصحيحُ منهما عند الأصحاب أنه يسقط، ونصّ عليه الشافعي، واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ إذا سلّم عليه إنسان ثم لقيه على قرب يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر، اتفق عليه صحابنا، ويدل عليه‏:‏

5/617 ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه في حديث المسيء صلاته؛ أنه جاء فصلَّى، ثم جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فسلَّم عليه، فردّ عليه السلام، وقال‏:‏ ‏"‏ارْجِعْ فَصَلّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلّ‏"‏ فرجعَ فَصلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، حتى فعلَ ذلك ثلاثَ مرّاتٍ‏. (20)

6/618 وروينا في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إِذَا لَقِيَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فإنْ حالَتْ بَيْنَهُما شَجَرَة أوْ جِدَارٌ أوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ‏"‏‏.‏‏(21)

7/619 وروينا في كتاب ابن السنيّ، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان أصحابُ رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتماشَون، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكَمة فتفرّقوا يميناً وشمالاً ثم التقوا من ورائها، سلَّم بعضُهم على بعضٍ‏. (22)

فصل‏:‏ إذا تلاقى رجلان فسلَّم كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه دفعة واحدة أو أحدهما بعد الآخر، فقال القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي‏:‏ يَصير كلُّ واحد منهما مبتدئاً بالسلام فيجب على كلِّ واحد منهما أن يردَّ على صاحبهِ‏.‏ وقال الشاشي‏:‏ هذا فيه نظر‏.‏ فإن هذا اللفظ يَصلح للجواب، فإذا كان أحدهما بعد الآخر كان جواباً، وإن كان دفعة لم يكن جواباً، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب‏.‏

فصل‏:‏ إذا لقي إساناً فقال المبتدىء ‏"‏وعليكم السلام‏"‏ قال المتولي‏:‏ لا يكون ذلك سلاماً، فلا يستحقّ جواباً، لأنّ هذه الصيغة لا تصلح للابتداء‏.‏ قلت‏:‏ أما إذا قال‏:‏ عليك، أو عليكم السلام، بغير واو، فقطع الإِمام أبو الحسن الواحدي بأنه سلام يتحتم على المخاطَب به الجواب، وإن كان قد قلب اللفظ المعتاد، وهذا الذي قاله الواحدي هو الظاهر‏.‏ وقد جزم أيضاً إمام الحرمين به فيجب فيه الجواب لأنه يُسمَّى سلاماً، ويحتمل أن يُقال في كونه سلاماً وجهان كالوجهين لأصحابنا فيما إذا قال في تحلّله من الصلاة ‏"‏عليكم السلام‏"‏ هل يحصل به التحلّل أم لا‏؟‏ الأصحّ أنه يحصل، ويحتمل أن يُقال‏:‏ إن هذا لا يستحق فيه جواباً بكل حال‏.‏

8/620 لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جزي الهجيميّ الصحابي رضي اللّه عنه، واسمه جابر بن سليم‏,‏ وقيل سليم بن جابر (23) قال‏:‏ لقيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض سكك المدينة وعليه ثوب قِطْري وهو بكسر القاف وسكون المهملة، فقلت‏:‏ عليك السلام يا رسول اللّه‏!‏ فقال‏:‏ ‏عليك السلام تحيّة الموتى، قل السلام عليكم‏ قالها مرّتين أو ثلاثاً قال الحافظ بعد تخريجه‏:‏ حديث صحيح أخرجه النسائي‏)‏ " ؛ ، قال‏:‏ أتيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت‏:‏ عليك السلام يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏"‏لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ، فإنَّ عَلَيْك السَّلامُ تحِيَّةُ المَوْتَى‏"‏ (24)

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون هذا الحديث ورد في بيان الأحسن والأكمل، ولا يكون المراد أن هذا ليس بسلام، واللّه أعلم‏.‏ وقد قال الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء‏:‏ يكره أن يقول ابتداء ‏"‏عليكم السلام‏"‏ لهذا الحديث، والمختار أنه يُكره الابتداء بهذه الصيغة، فإن ابتدأ وجب الجواب لأنه سلام‏.‏

فصل‏:‏ السنّة أن المسلِّم يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة، فهذا هو المعتمد في دليل الفصل‏.‏

9/621 وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي، عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏السَّلامُ قَبْلَ الكَلامِ‏"‏ فهو حديث ضعيف، قال الترمذي‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ ‏(25)

فصل‏:‏ الابتداء بالسلام أفضل لقوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏وَخَيْرُهُما الَّذي يَبْدأُ بالسَّلامِ‏"‏ ‏(26)(‏البخاري ‏(‏6077‏)‏ ، ومسلم ‏(‏2560‏)‏ ‏)‏ "(‏البخاري ‏(‏6077‏)‏ ، ومسلم ‏(‏2560‏)‏ ‏)‏ "(‏البخاري ‏(‏6077‏)‏ ، ومسلم ‏(‏2560‏)‏ ‏)‏ "(‏البخاري ‏(‏6077‏)‏ ، ومسلم ‏(‏2560‏)‏ ‏)‏"(‏البخاري ‏(‏6077‏)‏ ، ومسلم ‏(‏2560‏)‏ ‏)‏ ‏.‏ فينبغي لكل واحد من المتلاقين أن يحرص على أن يبتدىء بالسلام‏.‏

10/622 وروينا في سنن أبي داود، بإسناد جيد، عن أبي أُمامة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللَّهِ مَنْ بَدأَهُمْ بالسَّلامِ‏"‏ وفي رواية الترمذي عن أبي أُمامة‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ الرجلان يلتقيان أيّهما يبدأ بالسلام‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أوْلاهُما باللّه تعالى‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(27)

بابُ الأحوالِ التي يُستَحَبُّ فيها السَّلامُ، والتي يُكرهُ فيها، والتي يُباح

اعلم أنّا مأمورون بإفشاء السلام كما قدّمناه، لكنه يتأكد في بعض الأحوال ويخفّ في بعضها‏.‏ ونُهي عنه في بعضها، فأما أحوال تأكده واستحبابه فلا تنحصر، فإنها الأصل فلا نتكلف التعرّض لأفرادها‏.‏

واعلم أنه يدخل في ذلك السلام على الأحياء والموتى، وقد قدّمنا في كتاب أذكار الجنائز كيفية السلام على الموتى‏.‏ وأما الأحوال التي يُكره فيها أو يخفّ أو يُباح فهي مستثناة من ذلك فيحتاج إلى بيانها، فمن ذلك إذا كان المسلَّم عليه مشتغلاً بالبول أو الجماع أو نحوهما فيُكره أن يُسلَّم عليه، ولو سلَّم لا يستحقّ جواباً، ومن ذلك من كان نائماً أو ناعساً، ومن ذلك من كان مُصلياً أو مؤذناً في حال أذانه أو إقامته الصلاةَ، أو كان في حمام أو نحو ذلك من الأمور التي لا يُؤثر السلام عليه فيها، ومن ذلك إذا كان يأكلُ واللقمة في فمه، فإن سلَّم عليه في هذه الأحوال لم يستحقّ جواباً‏.‏ أما إذا كان على الأكل وليست اللقمةُ في فمه فلا بأسَ بالسلام، ويجبُ الجواب‏.‏ وكذلك في حال المبايعة وسائر المعاملات يُسلّم ويجب الجواب‏.‏ وأما السلام في حال خطبة الجمعة فقال أصحابنا‏:‏ يُكره الابتداء به لأنهم مأمورون بالإِنصات للخطبة، فإن خالفَ وسلَّم فهل يُرَدّ عليه‏؟‏ فيه خلاف لأصحابنا، منهم مَن قال‏:‏ لا يُرَدّ عليه لتقصيره، ومنهم مَن قال‏:‏ إن قلنا إن الإِنصاتَ واجبٌ لا يردّ عليه، وإن قلنا إن الإِنصاتَ سنّة رَدَّ عليه واحد من الحاضرين، ولا يردّ عليه أكثر من واحد على كل وجه‏.‏

وأما السَّلامُ على المشتغل بقراءة القرآن، فقال الإِمام أبو الحسن الواحدي‏:‏ الأولى ترك السلام عليه لاشتغاله بالتلاوة، فإن سلَّم عليه كفاه الردّ بالإِشارة، وإن ردّ باللفظ استأنف الاستعاذة ثم عاد إلى التلاوة، هذا كلام الواحدي، وفيه نظر؛ والظاهر أن يُسلّم عليه ويجب الردّ باللفظ‏.‏ أما إذا كان مشتغلاً بالدعاء مستغرقاً فيه مجمع القلب عليه، فيحتمل أن يُقال هو كالمشتغل بالقراءة على ما ذكرناه، والأظهر عندي في هذا أنه يُكره السلام عليه، لأنه يتنكد به ويشقّ عليه أكثر من مشقة الأكل‏.‏ وأما الملبِّي في الإِحرام فيُكره أن يُسلَّم عليه، لأنه يُكره له قطعُ التلبية، فإن سلَّم عليه ردَّ السلامَ باللفظ، نصّ عليه الشافعي وأصحابنا رحمهم اللّه‏.‏

فصل‏:‏ قد تقدمت الأحوالُ التي يُكره فيها السلام، وذكرنا أنه لا يستحقّ فيها جواباً فلو أراد المسلَّم عليه أن يتبرع بردّ السلام هل يشرع له، أو يُستحبّ‏؟‏ فيه تفصيل؛ فأما المشتغل بالبول ونحوه فيُكره له ردُّ السلام، وقد قدَّمنا هذا في أول الكتاب؛ وأما الأكل ونحوه فيُستحبّ له الجواب في الموضع الذي لا يجب؛ وأما المصلِّي فيحرم عليه أن يقول‏:‏ وعليكم السلام، فإن فعلَ ذلك بطلتْ صلاتُه إن كان عالماً بتحريمه، وإن كان جاهلاً لم تبطل على أصحّ الوجهين عندنا، وإن قال عليه السلام بلفظ الغَيبة لم تبطل صلاتُه لأنه دعاءٌ ليس بخطاب‏.‏ والمستحبُّ أن يردّ عليه في الصلاة بالإِشارة ولا يتلفظ بشيء، وإن ردّ بعد الفراغ من الصلاة باللفظ فلا بأس‏.‏ وأما المؤذّن فلا يُكره له ردُّ الجواب بلفظه المعتاد، لأن ذلك يسير لا يُبطلُ الأذانَ ولا يُخلّ به‏.‏

بابُ مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه

اعلم أنَّ الرجلَ المسلمَ الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يُسَلِّم ويُسَلَّم عليه، فيُسنّ له السلام، ويجب الردّ عليه‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ والمرأةُ مع المرأة كالرجل مع الرجل‏.‏ وأما المرأة مع الرجل؛ فقال الإِمام أبو سعد المتوليّ‏:‏ إن كانت زوجته أو جاريتَه أو محرَماً من محارمه، فهي معه كالرجل، فيستحبّ لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر ردّ السلام عليه؛ وإن كانت أجنبيةً، فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتان بها لم يُسَلِّم الرجل عليها، ولو سلَّمَ لم يجز لها ردّ الجواب، ولم تسلّم هي عليه ابتداءً، فإن سلَّمتْ لم تستحق جواباً فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردّ السلام عليها؛ وإذا كانت النساء جمعاً فيُسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجالُ جمعاً كثيراً فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهنّ ولا عليها أو عليهم فتنة‏.‏

1/623 روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها، عن أسماءَ بنت يزيدَ رضي اللّه عنها قالت‏:‏ مرَّ علينا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نسوة فسلَّم علينا‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ وهذا الذي ذكرته لفظ رواية أبي داود‏.‏ وأما رواية الترمذي ففيها عن أسماء‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً وعصبةٌ من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم‏.‏ (1)

2/624 وروينا في كتاب ابن السنيّ، عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على نسوة فسلّم عليهنّ‏.‏ ‏(2)

3/625 وروينا في صحيح البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه، قال‏:‏ كانتْ فينا امرأةٌ‏.‏ وفي رواية‏:‏ كانتْ لنا عجوزٌ تأخذُ من أصول السِّلق فتطرحُه في القِدْر وتكركرُ حَبَّاتٍ من شعير، فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا نُسلِّم عليها فتقدمه إلينا‏. (3) قلت‏:‏ تكركر معناه‏:‏ تطحن‏.‏

4/626 وروينا في صحيح مسلم، عن أُمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها قالت‏:‏ أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يومَ الفتح وهو يغتسلُ، وفاطمة تسترُه، فسلَّمتُ‏.‏ وذكرت الحديث‏.‏ (4)

فصل‏:‏ وأما أهل الذمّة فاختلف أصحابُنا فيهم، فقطعَ الأكثرون بأننه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس هو بحرام، بل هو مكروه، فإن سلَّمُوا هم على مسلم قال في الردّ‏:‏ وعليكم، ولا يزيدُ على هذا‏.‏

وحكى أقضى القضاة الماورديّ وجهاً لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، لكنْ يقتصرُ المسلِّم على قوله‏:‏ السلام عليك، ولا يذكرُه بلفظ الجمع‏.‏

وحكى الماوردي وجهاً أنه يقول في الردّ عليهم إذا ابتدأوا‏:‏ وعليكم السلام، ولكن لا يقول ورحمة اللَّه، وهذان الوجهان شاذان ومردودان‏.‏

5/627 روينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لاتَبْدأوا اليَهُودَ وَلا النَّصَارَى بالسَّلامِ، فإذَا لقيتُمْ أحَدَهُمْ في طَريقٍ فاضْطَرُوهُ إلى أضْيَقِهِ‏"‏‏.‏‏(5)

6/628 وروينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتابِ فَقُولُوا‏:‏ وَعَلَيْكُمْ‏"‏‏.‏‏(6)

7/629 وروينا في صحيح البخاري، عن ابن عمرَ رضي اللّه عنهما؛ أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فإنَّمَا يَقُولُ أحَدُهُم‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ‏:‏ وَعَلَيْكَ‏"‏ وفي المسألة أحاديث كثيرة بنحو ما ذكرنا، واللّه أعلم‏.‏

قال أبو سعد المتولي‏:‏ ولو سلَّم على رجل ظنَّه مسلماً فبان كافراً يستحَبّ أن يستردّ سلامَه فيقول له‏:‏ رُدّ عليّ سلامي؛ والغرض من ذلك أن يوحشه ويظهرَ له أنه ليس بينهما ألفة‏.‏ ورُوي أن ابن عمر رضي اللّه عنهما سلَّم على رجلٍ، فقيل إنه يهودي، فتبعه وقال له‏:‏ ردّ عليّ سلامي (7)

قلت‏:‏ وقد روينا في موطأ مالك ‏(8)‏ رحمه اللّه أن مالكاً سُئل عمّن سلَّم على اليهوديّ أو النصراني هل يستقيله ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فهذا مذهبُه‏.‏ واختاره ابن العربي المالكي‏.‏

قال أبو سعد‏:‏ لو أراد تحية ذميّ فعلَها بغير السلام بأن يقول‏:‏ هداك اللّه، أو أنعم اللّه صباحك‏.‏ قلت‏:‏ هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه فيقول‏:‏ صُبِّحْتَ بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبَّحَك اللّه بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرّة أو ما أشبه ذلك‏.‏ وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئاً، فإن ذلك بسطٌ له وإيناس وإظهار صورة ودّ، ونحن مأمورون بالإِغلاظ عليهم ومنهيّون عن ودّهم فلا نظهره، واللّه أعلم‏.‏

فرع ‏:‏ إذا مرّ واحدٌ على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفّار، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم‏.‏

8/630 روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أُسامةَ بن زيد رضي اللّه عنهما؛ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرَّ على مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏. (9)

فرع ‏:‏ إذا كتب كتاباً إلى مشرك وكتبَ فيه سلاماً أو نحوَه فينبغي أن يكتب‏:‏

9/631 ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في حديث أبي سفيان رضي اللّه عنه في قصة هرقل‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتبَ‏:‏ ‏"‏من محمدٍ عبدِ اللّه ورسولِه، إلى هرقلَ عظيمِ الرومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ الهُدى‏"‏‏.‏‏(10)

فرع ‏:‏ فيما يقولُ إذا عَادَ ذَميّاً‏.‏ اعلم أن أصحابنا اختلفوا في عيادة الذميّ، فاستحبَّها جماعة ومنعها جماعة؛ وذكر الشاشي الاختلاف ثم قال‏:‏ الصوابُ عندي أن يُقال‏:‏ عيادة الكافر في الجملة جائزة، والقربة فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة، قلت‏:‏ هذا الذي ذكره الشاشيُّ حسن‏.‏

10/632 فقد روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فمرضَ، فأتاه النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم يعودُه، فقعدَ عند رأسه، فقال له‏:‏ ‏"‏أسْلِمْ‏"‏ فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال‏:‏ أطعْ أبا القاسم، فأسلم، فخرجَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ‏"‏‏.‏(11)

11/633 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن المسيِّب بن حَزْن والد سعيد بن المسيِّب رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا عَمّ‏!‏ قُلْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ‏"‏ وذكر الحديث بطوله‏.‏ (12)

قلتُ‏:‏ فينبغي لعائد الذميّ أن يرغّبه في الإِسلام، ويبيِّن له محاسنَه، ويحثَّه عليه، ويحرّضه على معاجلته قبل أن يصيرَ إلى حال لا ينفعه فيها توبته، وإن دعا له دعا بالهداية ونحوها‏.‏

فصل‏:‏ وأما المبتدعُ وَمَنْ اقترف ذنباً عظيماً ولم يَتُبْ منه، فينبغي أن لا يسلِّم عليهم ولا يردّ عليهم السلام، كذا قاله البخاري وغيره من العلماء‏.‏ واحتجّ الإمام أبو عبد اللّه البخاري في صحيحه في هذه المسألة‏:‏

12/634 بما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في قصة كعب بن مالك رضي اللّه عنه حين تخلَّف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له، فقال‏:‏ ونهى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا، قال‏:‏ وكنتُ آتي رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأُسلِّم عليه فأقولُ‏:‏ هل حرّكَ شَفتيه بردّ السلام أم لاقال البخاري‏:‏ وقال عبدُ اللّه بن عمرو‏:‏ لا تسلِّموا على شَرَبَة الخمر‏.‏ (13)‏ قلتُ‏:‏ فإن اضّطُر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلّم، سلّم عليهم‏.‏ قال الإِمام أبو بكر بن العربي‏:‏ قال العلماء‏:‏ يسلِّم، وينوي أن السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، المعنى‏:‏ اللّه عليكم رقيب‏.‏

فصل‏:‏ وأما الصبيان فالسنّة أن يسلِّم عليهم‏.‏

13/635 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه‏,‏ أنه مرّ على صبيانٍ فسَّلمَ عليهم وقال‏:‏ كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يفعله‏.‏ وفي رواية لمسلم عنه‏:‏ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غِلمانٍ فسلَّم عليهم‏. ‏(14)

14/636 وروينا في سنن أبي داود وغيره، بإسناد الصحيحين، عن أنس، أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غلمانٍ يَلعبون فسلَّم عليهم ورويناهُ في كتاب ابن السنيّ وغيره، قال فيه فقال‏:‏ ‏"‏السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا صِبْيانُ‏"‏‏.(15)

بابٌ في آدابٍ ومسائلَ من السَّلام

1/637 روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على المَاشِي، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكثير‏"‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏"‏يُسَلِّمُ الصَّغيرُ على الكَبيرِ، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكَثِيرِ‏"‏‏.‏‏(16)

قال أصحابُنا وغيرُهم من العلماء‏:‏ هذا المذكور هو السنّة، فلو خالفوا فسلَّم الماشي على الراكب، أو الجالس عليهما لم يُكره، صرّح به الإِمام أبو سعد المتولي وغيره، وعلى مقتضى هذا لا يُكره‏.‏ ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، والكبير على الصغير، ويكونُ هذا تركاً لما يستحقّه من سلام غيره عليه، وهذا الأدبُ هو فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق، أما إذا وَرَدَ على قعود أو قاعد؛ فإن الواردَ يبدأُ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، وسمَّى أقضى القضاة هذا الثاني سنّة، وسمّى الأوّل أدباً وجعلَه دون السنّة في الفضيلة‏.‏

فصل‏:‏ قال المتولي‏:‏ إذا لقي رجلٌ جماعةً فأراد أن يخصّ طائفة منهم بالسلام كره، لأن القصد من السلام المؤانسة والألفة، وفي تخصيص البعض إيحاش للباقين، وربما صار سبباً للعداوة‏.‏

فصل‏:‏ إذا مشى في السوق أو الشوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون، فقد ذكرَ أقضى القضاة الماورديّ أن السلام هنا إنما يكونُ لبعض الناس دون بعض‏.‏ قال‏:‏ لأنه لو سلَّم على كلّ مَن لقي لتشاغل به عن كل مهمّ، ولخرج به عن العُرْف‏.‏ قال‏:‏ وإنما يُقصد بهذا السلام أحدُ أمرين‏:‏ إما اكتساب ودّ، وإما استدفاع مكروه‏.‏

فصل‏:‏ قال المتولّي‏:‏ إذا سلَّمتْ جماعةٌ على رجل فقال‏:‏ وعليكم السلام، وقصد الردّ على جميعهم سقط عنه فرضُ الردّ في حقّ جميعهم، كما لو صلَّى على جنائزَ دفعةً واحدةً فإنه يُسقط فرضَ الصلاة على الجميع‏.‏

فصل‏:‏ قال الماوردي‏:‏ إذا دخل إنسانٌ على جماعة قليلة يعمُّهم سلامٌ واحد، اقتصر على سلام واحد على جميعهم، وما زاد من تخصيص بعضهم فهو أدب، ويكفي أن يردّ منهم واحدٌ، فمن زاد منهم فهو أدب‏.‏ قال‏:‏ فإن كان جمعاً لا ينتشرُ فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الحفل؛ فسنّة السلام أن يبتدىء به الداخل في أوّل دخوله إذا شاهدَ القومَ ويكون مؤدياً سنّة السلام في حقّ جميع مَن سمعه، ويدخلُ في فرض كفاية الردّ جميعُ مَن سمعه، فإن أرادَ الجلوس فيهم سقط عنه سنّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدَهم ممّن لم يسمع سلامه المتقدّم ففيه وجهان لأصحابنا‏:‏ أحدُهما أن سنّة السلام عليهم قد حصلت بالسلام على أوائلهم لأنهم جمع واحد، فلو أعاد السلام عليهم كان أدَباً، وعلى هذا أيُّ أهل المسجد ردّ عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم‏.‏ والوجه الثاني أن سنّة السلام باقية لمن لم يبلغهم سلامه المتقدم إذا أراد الجلوس فيهم، فعلى هذا لا يسقط فرض ردّ السلام المتقدم عن الأوائل بردّ الأواخر‏.‏

فصل‏:‏ ويستحبّ إذا دخل بيته أن يُسلِّم وإن لم يكن فيه أحد، وليقل‏:‏ السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ‏.‏ وقد قدَّمنا ‏(17)‏ في أول الكتاب بيان ما يقوله إذا دخل بيته‏.‏ وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد يُستحبّ أن يُسلِّم وأن يقول‏:‏ السَّلامُ عَلَيْنا وَعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ‏.‏

فصل‏:‏ إذا كان جالساً مع قوم ثم قام ليفارقهم، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم‏.‏

2/638 فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بالأسانيد الجيدة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فإذَا أَرَادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُولى بأحَقّ مِنَ الآخِرَةِ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(18)

قلت‏:‏ ظاهر هذا الحديث أنه يجب على الجماعة ردّ السلام على هذا الذي سلَّم عليهم وفارقهم، وقد قال الإِمامان‏:‏ القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي‏:‏ جرتْ عادةُ بعض الناس بالسلام عند مفارقة القوم، وذلك دعاءٌ يُستحبّ جوابه ولا يجب؛ لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وهذا كلامُهما، وقد أنكره الإِمام أبو بكر الشاشي - الأخير من أصحابنا - وقال‏:‏ هذا فاسد، لأن السَّلامَ سنّةٌ عند الانصراف كما هو سنّة عند الجلوس، وفيه هذا الحديث، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب‏.‏

فصل‏:‏ إذا مرّ على واحد أو أكثر وغلبَ على ظنه أنه إذا سلَّم لا يردّ عليه، إما لتكبّر الممرور عليه، وإما لإِهماله المارّ أو السلام، وإما لغير ذلك، فينبغي أن يُسلِّم ولا يتركه لهذا الظنّ، فإنّ السلامَ مأمورٌ به، والذي أُمِرَ به المارّ أن يُسلّم ولم يؤمر بأن يحصل الردّ مع أن الممرور عليه قد يُخطىء الظنّ فيه ويردّ‏.‏ وأما قول مَن لا تحقيق عنده‏:‏ إن سلامَ المارّ سبب لحصول الإِثم في حقّ الممرور عليه فهو جهالة ظاهرة وغباوة بيِّنة، فإن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات، ولو نظرنا إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكار المنكر على مَن فعله جاهلاً كونه منكراً، وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بقولنا، فإن إنكارنا عليه وتعريفنا له قبحه يكون سبباً لإِثمه إذا لم يقلع عنه، ولا شكّ في أنُّا لا نترك الإِنكار بمثل هذا، ونظائر هذا كثيرة معروفة، واللّه أعلم‏.‏

ويُستحبّ لمن سلّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجّه عليه الردّ بشروطه فلم يرد؛ أن يحلِّله من ذلك فيقول‏؟‏ أبرأته من حقّي في ردّ السلام، أو جعلتُه في حِلٍّ منه ونحو ذلك، ويلفظ بهذا، فإنه يسقط به حقّ هذا الآدمي، واللّه أعلم‏.‏

3/639 وقد روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن شبل الصحابي رضي اللّه عنه، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ أجَابَ السَّلامَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَيْسَ مِنَّا‏"‏‏.‏

ويُستحبّ لمن سلَّم على إنسان فلم يرد عليه أن يقول له بعبارة لطيفة‏:‏ ردُّ السلام واجبٌ، فينبغي لك أن تردّ عليّ ليسقطَ عنك الفرضُ، واللّه أعلم‏.‏



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!