موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب في بيان أن كل سالك لا بد أن تؤثر فيه الأحوال وما ينبغي له ]

ولكن لا بد لكل سالك من تأثير الأحوال فيه وخلط العوالم بعضها ببعض ولكن ينبغي له الترقي من هذا المقام إلى مقام الحكمة الإلهية الجارية على القانون المعتاد في الظاهر وأن يصرف خرق العوائد إلى سره حتى يرجع له خرق العوائد عادة لاستصحابه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مطلب في بيان أن كل سالك لا بد أن تؤثر فيه الأحوال وما ينبغي له ( ولكن لا بد لكل سالك ) إما مطلقا إن كان المراد غير الواصل، وإما مقيدا إن كان عبارة عن كل سالك عدا أرباب التمكين والحقائق، وهم غير الكمل من الورثة المحمديين، أعني ورثة سائر الأنبياء، أو تلامذتهم، أوكل سالك يسلك بالخلق الجديد، ولكن من حيث أخذ الحق بالناصية حتى يخرج غير ما يدب، كل هذه الاحتمالات سائغة مجموعة أو مفردة، لأن الكمال في التمكين نسبي كما علمت ( من تأثير الأحوال فيه ) أي في ذلك السالك كائنا من كان ( و ) لا بد له عند تأثير الأحوال فيه من ( خلط ) ما تستحقه وتقتضيه ( العوالم بعضها ببعض ) وذلك من انحطاط درجته في مقام التمكن في التلون على ما قررناه غير مرة، لأن العوالم متخالفة متضادة واستعداداتها مثلها، فهو يظهر بما يقتضيه علم الجنة من الكرامات وخوارق العادات، والفناء في الحق بطريق المحق، أو ارتكاب الشهوات ومتابعة الهوى والتحكم في العالم كما هو دأب الملوك، أو عدم الانقياد إلى الأمر وهو الجري على ما تقتضيه الصورة الإلهية من عدم الانقياد إلى الغير، لأن اللّه غني عن العالمين، وذلك عين العدول عن الطريق القويم والصراط المستقيم، وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في كتاب «السبحات» لنا ( ولكن ) إذا أثرت الأحوال في السالك كائنا من كان ( ينبغي له الترقي ) بالهمة ( من هذا المقام ) الذي هو مقام تأثير الأحوال وخلط العوالم بعضها ببعض، وإنما سماه مقاما لأن أكثر الناس لا يزال فيه ( إلى مقام الحكمة ) لأنه صفة يجب الرسوخ فيها ( الإلهية الجارية على القانون المعتاد في الظاهر ) كما هو المتعارف بين أهل العلم فلا يمتاز عنهم بظاهره أصلا إلا بالعلم، وعلامته أنه إذا كان في مصر مخالطا للناس لا يعرف أحد مما في باطنه من المواهب الإلهية وأثر الكرامات وخوارق العادات مثقال ذرة، وهذا معنى الملامتي لأنه الذي لا يظهر خيرا ولا يضمر شرّا، لا ما يتوهمه من لا عقل ولا دين ولا خلاق له من أنه ارتكاب المناهي والعكوف على الملاهي والانهماك في  

"***"

ولا يزال يقول في كل نفس: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [ طه: الآية 114 ] ما دام الفلك يجري بنفسه، ويجتهد أن يكون وقته نفسه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شهوات النفس، وفي الجملة إنه يخالف الشريعة المحمدية حتى يلومه الناس، فإن من هذه صفته ونعته أشر من الوسواس الخناس، وهو ذو جهل مركب وداء عضال وخيبة ووبال وبعد عن الكبير المتعال، وليس دواءه إلا سيف الشرع نصرة للّه، والواجب على كل متدين ينسب نفسه إلى أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم قمع من هذا اعتقاده وحربه، فإن إفساده أعظم من إفساد المحاربة من سائر الملل والنحل لأنه في الأجساد وهو في الأرواح ( و ) إذا كان الأمر على هذا، فالواجب على من أثرت الأحوال فيه، وظهر ما في باطنه على ظاهره بظهور خرق العوائد عليه، وخلط العوالم بعضها ببعض ( أن يصرف خرق العوائد إلى سره ) فإن كان من أهل البدايات صرف ذلك إلى التخلي عن سفاسف الأخلاق والتحلي بمكارمها وذلك عين خرق العادة، وإن كان من المتوسطين أفاق من صعقة الفناء في المشاهدة والاستهلاك في الحق بطريق المحق الموجب للظهور بمرتبة الخلافة على الكون في غير موطنها، الذي هو عبارة عن الدنيا وتحقق بمرتبة البقاء والفرق بعد الجمع، فمرة في عين التشبيه ومرة في التنزيه، وعلم أحدية المتصرف والمتصرف فيه، ورجع إلى وطنه الأصلي ومكانه الأول، وهو الإمكان أعني برزخ البرازخ، وهذا عين خرق العادة بالنسبة إليه، وهكذا ينبغي أن يكون ديدن من أثرت فيه الأحوال من السالكين ( حتى يرجع له خرق العوائد عادة لاستصحابه ) الشعور التام بالنسبة إلى جميع الأحوال المؤثرة الموجب لإقامة الوزن بالقسط وعدم الإخسار في الميزان، وصرف خرق العوائد إلى سره حتى ترجع إليه خرق العوائد عادة.

( و ) ينبغي له أن ( لا يزال يقول في كل نفس ) من أنفاس الرحمن إن كان المراد به الخلق الجديد، أو من أنفاس الإنسان وهو الأظهر، لقوله بعد هذا ما دام الفلك يجري بنفسه، وهو هواء تجذبه الرئة ليبرد حرارة الجوف ويردها إلى الاعتدال، الذي هو سبب الحياة ببرودة اكتسبها ورطوبة في ذاته ( رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) كما أمر اللّه حبيبه أن يقول، فإنه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن ربي أدبني فأحسن تأديبي» فما أدب به قوله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [ الإسراء: الآية 110 ] ،

وقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً [ الإسراء: الآية 29 ] الآية.

وقوله: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [ الأنعام: الآية 90 ] ، وقوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [ الأنبياء: الآية 112 ] ، وقوله: عندما كان يغلب عليه الاستهلاك في الحق

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بطريق المحق وهو قوله: «إنه ليغان على قلبي» «1»، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [ الكهف: الآية 110 ] ولما كان القرب إلى اللّه لا يكون إلا بالعلم وعدم التأثر من الأحوال، لأن العلم يحقق العبد بعبوديته التي تقربه إلى سيده، فإن العبد على قدر تحققه بالعبودية يكون قربه من الحق، لأن العبودية تلي الربوبية، كما أن الخلة أو الصديقية تلي النبوة، فليس بين العبد والرب فاصلة أصلا، والتحقق بالعبودية هو الأمر المطابق لحقيقة الممكن، والممكن برزخ بين الواجب والمحال، فليس بين الواجب والممكن فاصلة أصلا، فمن غفل عن عبوديته التي هي عين إمكانه دخل في حضرة الواجب سبحانه وذلك عين الجهل، لأن الحقائق لا تنقلب كما أنه من تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة، فكما أنه ليس بين الصديق رضي اللّه تعالى عنه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد، كذلك ليس بين العبد المتحقق بأوصاف عبوديته وبين ربه أحد، قال صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام: «لي مع اللّه وقت» «2» ( الحديث )، وقال اللّه تعالى:

إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [ فاطر: الآية 28 ] وعلى هذا فالكل عباد اللّه، وما فاز العلماء بهذه الدرجة إلا لعلمهم وليس إلا عدم الغفلة، فإن الأمر في نفسه لا يتغير، فالحق حق والخلق خلق، والسيد سيد والعبد عبد، لا تمد رجلك في غير بساطك، وإذا علمت هذا علمت أن الحال الذي هو ضد العلم نقصان كما أن العلم كمال، ولهذا قال اللّه تعالى لحبيبه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [ طه: الآية 114 ] وما قال له: قل رب زدني حالا. وما نسب اللّه إلى حضرته من خلقه إلا العلماء، وما تمدح بشيء من الصفات كتمدحه بالعلم، وكيف لا وهو مبدأ التعينات مطلقا سواء كانت أسمائية أو كونية، ألا تراه تعالى كيف قال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [ الأعراف: الآية 205 ] وهو دليل على الذكر النفسي، ولا يذكر إلا من له علم بالمذكور تضرعا، ولا يتضرع إلّا من يخاف وخيفة ودون الجهر من القول، وهو عين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، حديث رقم ( 41 - 2702 )، ونصه: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم مئة مرة». ورواه أحمد في المسند، حديث رقم ( 18321 ). ورواه أبو داود في سننه، كتاب الوتر، باب في الاستغفار، حديث رقم ( 1515 ). ورواه غيرهم.

( 2 ) أورده العجلوني، في كشف الخفاء، حديث رقم ( 2157 )، ولفظه: «لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل».

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الاعتدال بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [ الأعراف: الآية 205 ]

نهاه أن يكون من أرباب الأحوال إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [ الأعراف: الآية 206 ]

يعني الملائكة المهيمة أو من هم على قلوبهم وهم الأفراد الذين هم أهل التمكين لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [ الأعراف: الآية 206 ]

مثل الذين غفلوا عن عبوديتهم بربوبية الحق، ويسبحونه عن أن يشارك في ربوبيته وله يسجدون، وهو عين تحققهم بعبوديتهم، ولكن طلب العلم في كل نفس حال من أثرت فيه الأحوال ( ما دام الفلك يجري بنفسه )

قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: ثم لتعلم أن قول الصوفي إن الفلك يدور بأنفاس العالم يعني: العالم المتنفس أي علة دورانه وجود الأنفاس أي عند دورانه يحدث اللّه الأنفاس، فإذا لم يبق فيه حركة تعطي نفسا في متنفس لم يعط حياة، وإذا لم يعط حياة فقد ذهبت الحياة منه، وإذا ذهبت الحياة منه لم يبق له شوق، وإذا لم يبق له شوق لم تكن له حركة، وإذا لم تكن له حركة انفطرت الكرة وذهب العالم العنصري بأجمعه، وقد ذكر هذه المسألة أبو طالب في «قوت القلوب» مجملة وما فسرها في باب الأقوات ولا تكلم عليها بشيء، فهذا نوع واحد من الأنواع التي يقال من أجلها: إن الفلك يدور بأنفاس العالم، ومساق آخر في ذلك، وهو أن الفلك لما دار أعطى المولدات أبدا في أول دوراته، وعدد دوراته بعدد الأنفاس الكائنة في المولدات، فهو يدور بعدد ذلك، فإذا انتهى انخرم النظام وانتقلت العمارة إلى الدار الآخرة بالحركة الكبرى المحيطة التي لا تنخرم أبدا شرعا وحكمة، ولذلك لا ينخرم العلم انخرام عدم، وإنما انخرامه انخرام انتقال وتبدل وتحول، فصور تخلع من الجوهرة وصور تخلع عليه، وبتلك الدورة الكبرى يبقى العالم في البرزخ، وفي الدار الآخرة أبد الآبدين، ولا يزول ولا يفنى واستمداده من حضرة الديمومية وبها يتعشق فإنها المبقية لعينه، انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

وعلى هذا المعنى قوله: ما دام الفلك يجري بنفسه، يعني: إلى أن يموت، ويجوز أن يكون المراد بجريان الفلك بأنفاس العالم، كون الفلك بالخلق يتحرك وحركته به من العلو إلى السفل، كما أشرنا إليه فيما نقلناه في كتاب مرآة الحضرات من كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه في ذلك، وهذه الحركة عين جريانه بأنفاس العالم إن قلنا: إنها الخلق الجديد، وهذا كما يقول جرى الزمان، أي عدى بأعمار الناس، فإنه على قدر ما يتصرم منه ينقضي من أعمارهم، والزمان مقدار حركة الفلك، فالفلك يجري بأنفاس العالم التي هي عدد أعمارهم، وإذا كان الأمر على هذا  

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!