موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب في بيان المرشد الكامل ]

واعلم أن الحكيم الكامل المحقّق المتمكّن هو الذي يعامل كل حال ووقت بما يليق به ولا يخلط، وهذه حالة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنه كان من ربه بقاب قوسين أو أدنى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإذا علمت مقام محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته ( فاصرف الهمّة في الخلوة للوراثة الكلية المحمدية ) ولكن هنا لطيفة تعلم مما مضى في داخل الشرح.

مطلب في بيان المرشد الكامل ( واعلم أن الحكيم الكامل ) الذي يضع الأشياء في مواضعها ( المحقّق ) الذي اطلع على حقائق الأشياء ومراتبها ( المتمكّن ) في جميع المقامات، وقد علمت ما معنى التمكين لا المتلون في الأحوال فافهم، فإنه لا ينافي مذهب الشيخ في التلوين والتمكين ( هو الذي يعامل كل حال ووقت بما يليق به ) لأن المتمكن يحكم على الأشياء بتمكنه في التلون معها على صورة الخلق الجديد لأنه على صورة الحق وهو سبحانه كل يوم هو في شأن ( ولا يخلط ) المقامات والأحوال والمواطن والحقائق والمراتب وما تقتضيه ببعضها، وهو الملامتي لأن الملامتية هم سادات الطائفة لأنهم أصحاب الحكمة، وهي: وضع الشيء في محله وإعطاء كل ذي حق حقه، كما أعطى الحق كل شيء خلقه، فهم أصحاب التمكين في التلوين، وقد اتخذوا الحق وكيلا عن أمره، وتحققوا بأعلى مراتب العبودية، وغابوا عن كل شيء، فهم في الدنيا التي هي مواطن التكليف والتعريف بحسبها، وفي الآخرة بحسبها، لا يظهرون بما هو للدار الآخرة في الدنيا، وهم أرباب العلم والحكمة وأصحاب الحلم وعدم الهمة، لأن الهمة لا تكون إلا لمن لم يكمل عرفانه ولا رجح ميزانه، وهم رضوان اللّه عليهم في أعلى مقامات العرفان وأعظم من أظهر الملء في الميزان، ووسع كل شيء حتى الحق وما وسعه شيء.

مطلب في قاب قوسين ومعراج النبي ( وهذه حالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ) لأنه رأس الملامتية وإمامهم وسيدهم، لأن حقيقته عبارة عن التعين الأول وهو الوحدة ( فإنه ) صلى اللّه عليه وسلم ( كان من ربه ) حين أسري به ( بقاب قوسين ) وهما الأحدية والواحدية له، وظاهر الوجود وظاهر العلم لغيره من الأنبياء، وظاهر النبي وباطنه لغيرهم من الأولياء ( أو أدنى ) يعني: الوحدة. ومعنى قوله:

«قاب قوسين» أي: مقدار قوسين ولما كانت حقيقته صلى اللّه عليه وسلم عبارة عن برزخ البرازخ،

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أعني: الوحدة ظهر الاعتدال في جميع أحواله وأقواله وأفعاله، لأن البرزخ له الاعتدال التام بين طرفي الإفراط والتفريط، ولهذا ما بعث إلا في دورة الميزان وهو العادل، وبعث جميع الرسل الذين هم نوابه في دورة السنبلة، ولهذا كان الغالب على المتقدمين اليبس، وعلى هذه الأمة الاعتدال في جميع الأمور، وظهر اعتدال حقيقته صلى اللّه عليه وسلم فيما أمر به مثل قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [ الإسراء: الآية 29 ] ، وقوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [ الإسراء: الآية 110 ] وأمثال ذلك. ولما وصل صلى اللّه عليه وسلم إلى مقام «أو أدنى» أعني: الوحدة. التي هي نهاية النهايات وغاية الغايات ومبدأ التعينات ووحدة الوحدات ومصدر الكثرات، وتجاوز غاية عروج سائر الأنبياء، أعني:

البرزخ الذي بين ظاهر الوجود وظاهر العلم، ورجع إلى عالم حسه المقيد الأرضي، أصبح بين قومه كواحد منهم، وذلك لكمال اعتدال نشأته وبرزخية حقيقته، لأنه ما امتاز عنهم بشيء، ولو امتاز عنهم بشيء ما كانت حقيقته برزخ البرازخ، وما كان لها المقام الشامخ، لأنه كان إذ ذاك تحت حكم أحد طرفيه، وهذا ينافي البرزخية الكبرى.

فإن قلت: غاية عروج سائر الأنبياء هو البرزخ الذي بين ظاهر العلم وظاهر الوجود، وعلى هذا يلزم أن يكون في درجة محمد صلى اللّه عليه وسلم في الاعتدال، وأنت قد نفيت ذلك. قلت: نعم هم صلوات اللّه عليهم في غاية الاعتدال في هذا البرزخ، الذي هو نهاية عروجهم، وما بعده من البرازخ، وأما ما فوقه فلا حكم لهم عليه بل له التحكم فيهم، وليس وراء غاية محمد صلى اللّه عليه وسلم غاية، لأنه القائل «لي مع اللّه وقت» ( الحديث ) فإن قلت: قد نفى الشيخ رضي اللّه تعالى عنه الاعتدال الحقيقي في جميع الأشياء حتى في الأسماء الإلهية، فكيف تقول به قلت:

ما نفاه الشيخ نوع من أنواع الاعتدال، وهو أن تكون المتقابلات بواسطة التفاعل متكافئة من جميع الوجوه، بحيث لا يرجح أحدهما على البواقي، لأن ذلك يؤدي إلى عدم التكوين وانقلاب الحقائق، وأنا لا أقول بهذا النوع من الاعتدال، لأن الاعتدال الذي أثبته هو عبارة عن حقيقة مطلقة عن جميع القيود، ونسبتها إليها على السواء من غير ترجيح ولو بوجه من الوجوه، وهذه الحقيقة هي مبدأ جميع المتقابلات، ولو مالت إلى أحدها لما صح كونها مبدأ للآخر إلا في مبدأ المتقابلات لا بد منه، فافهم.

"***"

ولما أصبح في قومه وذكر ذلك للحاضرين لم يصدقه المشركون لكون الأثر ما ظهر عليه ووافقوه في ذلك بخلاف موسى حين ظهر عليه الأثر فكان يتبرقع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما أسرى به ربه إلا ليريه من آياته التي في الآفاق بعد ما أراه إياها في نفسه، وهو المعراج الروحاني إذ المعراج الروحاني لا يشهد صاحبه آيات ربه إلا في نفسه، فلا يرى في المعراج الروحاني آيات الأنفس، وأما آيات الآفاق فلا ترى إلا بالمعراج الحسي، ومذهب الشيخ رضي اللّه تعالى عنه وسائر الكمل الورثة، هو أن معراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بالحس والمعنى لا بالمعنى فقط، فعروجه المشهور كان بروحه وجسده العنصري الذي ولد بمكة، ولا تلتفت إلى من يقول: إنه كان بجسد خيالي فإنه كلام من لا علم عنده، وحديث المعراج مشهور.

( ولما ) أراه من آياته، وقربه إلى حضرته، وجاد عليه بمشاهدته وكلامه، وجرى ما جرى ورده إلى الموضع الذي أسرى به منه، و ( أصبح ) صلى اللّه عليه وسلم ( في قومه ) وما تغير عليه الحال لتمكنه في رعاية المواطن، ومعاملة كل مقام بما يستحقه، وسعة باطنه واستهلاك جميع الكمالات فيه ( وذكر ذلك ) المعراج وما شاهده فيه ( للحاضرين ) من قومه ( لم يصدقه المشركون ) منهم ( لكون الأثر ) الذي يكون من العروج ومشاهدة الحق ومكالمته ( ما ظهر عليه ) لأنه ما أتاه ما لم يعرفه، وما لم يسعه وعاء استعداده الكلي الجمعي الأحدي الإحاطي ( ووافقوه ) أي المشركون ( في ذلك ) أي في عدم ظهور الأثر فكان عدم ظهوره علة لإنكارهم ( بخلاف موسى ) عليه السلام ( حين ) كلمه ربه على الطور وناداه وشهده في صعقته ( ظهر عليه الأثر ) وهو نور كان يسطع من وجهه حين رجع من الميقات، وكانت الأبصار لا تتمكن من إبصاره، لأنه كان مثل البرق الخاطف لها ( فكان يتبرقع ) لذلك النور مع أن موسى عليه السلام كان في البرزخ الثاني الجامع لظاهر العلم وباطنه، أعني ظاهر الوجود، فكيف به لو وصل إلى البرزخ الأول الذي هو غاية المعراج المحمدي صلى اللّه عليه وسلم. قال بعض أهل اللّه لبعض أهل اللّه أبو زيد يقول: سبحاني. والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول، له ربه: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [ الكهف: الآية 110 ] ولا شك أنه صلى اللّه عليه وسلم أفضل من أبي يزيد. فقال له: وعاء استعداد شوق النبي صلى اللّه عليه وسلم يسع بحار الملك والملكوت، ولا تخمد نار شوقه، ولسان طلب استعداد شوقه قد خرج على صدره يشتكي الظمأ، وأبو يزيد صغر وعاء استعداده عن أن يسع ما فاض عليه من خزائن الجود والكرم فطفح وتدفق وشطح وعربد ( وإذا كان حال السعة

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الإلهية والضيق الإلهي ) فإنه لا شيء أوسع من اللّه الذي وسع كل شيء رحمة وعلما، ولا شيء أضيق منه، لأنه ليس كمثله شيء، فهو الضيق الواسع، وهو عين الخلق الجديد، وتقلب الحق في شؤونه مع الآنات حال عبد من العباد كان من أكمل الخلق، وتتفاوت الرجال في التحقق بهذا الحال، وأكملهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، ثم الأنبياء على ترتيب يعلمه اللّه، ثم الأولياء الأمثل فالأمثل، ثم عامة الناس على اختلافهم، فإنه ما من أحد إلا له من السعة والضيق الإلهيين حصة تخصه على حسب استعداد عينه الثابتة، وكمال جميع الحصص نسبي، إلا كمال حصة محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنها حصة كلية جامعة محيطة بجميع الحصص إحاطة الهيئة الاجتماعية للآحاد المجتمعة، وهي بهذه الحيثية ختمية لها الاسم الآخر والظاهر، وإحاطة الطبيعة المشتركة وهي من هذه الجهة مبدأ لها الاسم الأول والباطن، وبمجموع الجهتين صح لمحمد صلى اللّه عليه وسلم الكمال بالكمال، والمقام الذي لا ينال بالاحتيال، ويفنى عن الوصول إلى أكناف بيداء سعته صناديد الرجال، وصح لورثته بكمال متابعته، وهم الكمل والسادة، ولنوابه من محض جوده وكرمه، فحال النواب والورثة حال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التمكين في التلوين، فهم متمكنون في التلوين فلهم التلون والتمكن معا، لأن لهم السعة والضيق معا، فمن نظر إلى بطن السعة فقط قال: بالتلوين فقط، وهو على النصف من المعرفة، ومن نظر إلى بطن الضيق فقط، قال: بالتمكين فقط وله نصف المعرفة، ومن نظر إلى بطنهما قال:

بالتمكين في التلوين والتلوين في التمكين، لأنه ضيق في عين سعته، وواحد في عين كثرته، وغيب في عين شهادته، وأول في عين آخريته وباطن في عين ظاهريته ومنزه في عين تشبيهه، لأن جلاله وجماله واحد، وهو كماله وقدم صدقه وعدله واحدة، وهي كلمته وناره وجنته واحدة ( وهي دنياه ) وكلتا يديه يمين مباركة، وليس إلا ذاته، فمن يدعي أنه ذاق وحدة الوجود، ولم يقل بما قلناه فما عنده رائحة من العلم، وهو يظن، وإن بعض الظن إثم، فأصحاب التمكين لا تؤثر فيهم الأحوال، لأنهم أوتاد ثابتة مثبتة، والقيامة حال من أحوال الإنسان وشأن من شؤون الحق فهم الذين قال اللّه فيهم: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [ الأنبياء: الآية 103 ] والذين يغبطهم النبيون والمرسلون لأنهم يحزنهم الفزع الأكبر ولكن على أممهم لا على أنفسهم وهذا من تمكنهم في التلوين الذي فاقوا به على من ليس بنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو أثرت الأقوال فيهم لأحزنهم الفزع الأكبر على أنفسهم.

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!