موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب في بيان دخول جميع شرائع الأنبياء في شريعة محمد ]

واعلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم هو الذي أعطى جميع الأنبياء والرّسل ومقاماتهم في عالم الأرواح حتى بعث بجسمه عليه السلام، وتبعناه، والتحق بنا من الأنبياء في الحكم من شاهده، أو نزل من بعده من أنبيائهم، وأنبياؤهم يأخذون عن محمد صلى اللّه عليه وسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

للّه في الأرض إلا قد رأيته واجتمعت به، فلا بد لي أن أجتمع في ذلك اليوم مع ولي للّه لم أكن عرفته قبل ذلك، وروينا عنه أنه قال: اجتمعت بشخص يوما لم أعرفه، فقال لي: يا خضر سلام عليك، فقلت له: من أين عرفتني، فقال لي: إن اللّه تعالى عرفني بك فعلمت أن للّه عبادا يعرفون الخضر عليه السلام ولا يعرفهم الخضر عليه السلام، وما كنت عرفت أن اللّه قد جعل في الوجود وليّا له على قدم كل نبي، فإن اللّه تعالى لما جمع بيني وبين أنبيائه كلهم حتى ما بقي منهم نبي إلا رأيته في مجلس واحد لم أر معهم أحد ممن هو على أقدامهم، ثم بعد ذلك رأيت جميع المؤمنين وفيهم الذين هم على أقدام الأنبياء وغيرهم من الأولياء، فلما لم يجمعهم مجلس واحد لذلك لم أعرفهم، ثم عرفتهم بعد ذلك ونفعني اللّه تعالى برؤيتهم، وكان شيخنا أبو العباس المغربي رحمه اللّه تعالى على قدم عيسى عليه الصلاة والسلام، وكنا نقول قبل هذا إن ثم أولياء على قلوب الأنبياء عليهم السلام فقيل لنا: لا بل على أقدام الأنبياء لا تقل على قلوبهم، فعلمت ما أراد بذلك، لما أطلعني اللّه على ذلك رأيتهم على آثارهم يقتدون، ورأيت لهم معراجين المعراج الواحد يكونون فيه على قلوب الأنبياء ولكن من حيث هم الأنبياء أولياء النبوة التي لا شرع فيها، والمعراج الثاني يكونون فيه على أقدام الأنبياء أصحاب الشرائع لا على قلوبهم، إذ لو كانوا على قلوبهم لنالوا ما نالوه من الأحكام المشروعية، وليس ذلك لهم وإن وقع لهم التعريف الإلهي بذلك، ويأخذون الشرع من حيث أخذته الأنبياء، ولكن من مشكاة أنوار الأنبياء يقترن معه بحكم الاتّباع بما يخلص لهم ذلك من اللّه لا من الروح القدسي، وما عدا هذا الفن من العلم فإنه يخلص للأولياء من اللّه سبحانه وتعالى، ومن الأرواح القدسية. انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

مطلب في بيان دخول جميع شرائع الأنبياء في شريعة محمد ( واعلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم هو الذي أعطى ) من كونه نبيّا في عالم الأرواح وآدم بين الماء والطين ( جميع الأنبياء والرّسل ) علومهم وشرائعهم ( ومقاماتهم ) وأحوالهم ( في عالم الأرواح ) لأنه خازن الأسرار الإلهية لأن روحه هو العقل الأول خازندار الجناب

"***"

فأولياء الأنبياء الذين سلفوا يأخذون عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، فشاركت الولاية المحمدية الأنبياء في الأخذ عنه، ولهذا ورد في الخبر: «علماء هذه الأمة كأنبياء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الإلهي، ومبدأ عالم التدوين والتسطير وحقيقة التعين الأول، الذي هو مبدأ جميع التعينات، فكان هو الوهاب لجميع الموهوبات بحقيقته وروحه من حيث الاسم الباطن، وجميع الواهبين الذين يهبون المواهب من حيث الاسم الظاهر نوابه وأتباعه، فهم يأخذون عنه من حيث اسمه الباطن، ويملون على العالم من حيث الاسم الظاهر، ولم يزل حكمهم هكذا ( حتى بعث بجسمه عليه السلام ) العنصري إلى الأسود والأحمر، وقيل فيه إذ ذاك: إنه ما أرسل إلا رحمة للعالمين، يعني كل ما سوى اللّه، فنسخ حكمهم وحوى علمهم واختفى رسمهم، وما بقي إلا اسمهم صلى اللّه عليه وسلم، وأسعدنا اللّه تعالى أعني هذه الجماعة السعيدة التي هي أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بأن جعلنا من أمته في أصل الفطرة واتباع الحكم بمحض الجود والمنة ( وتبعناه ) فيما شرعه بنفسه بلا واسطة من حيث الاسم الظاهر حين بعث بجسده الشريف بمكة شرفها اللّه تعالى ( والتحق بنا ) في هذا الاتّباع ( من الأنبياء ) الذين كانوا نوابه وأتباعه من حيث الاسم الباطن الأول ( في الحكم ) متعلق بالتحق أي: التحق بنا يعني أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من حيث الاسم الظاهر الآخر من كان من أتباعه من حيث الاسم الباطن الأول ( من شاهده ) عند ظهور جسمه مثل الخضر عليه السلام، وهو عند الشيخ رضي اللّه تعالى عنه من الأنبياء، وقد اجتمع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخذ عنه وأتبعه في عالم الشهادة، ولا عبرة بما يروى من الأحاديث التي تخالف ذلك لأنها ما صحت لا من جهة النقل ولا من جهة الكشف ( أو نزل من ) السماء ( بعده ) أي بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهو عيسى عليه السلام لأنه ينزل في آخر الزمان، ويحكم بشرعنا، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب ويدعو الناس إلى ملة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهو ختم الولاية العامة، فهو الذي قال فيه محمد بن علي الحكيم الترمذي رضي اللّه تعالى عنه: إن من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من هو أفضل من أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ( فأولياء الأنبياء الذين سلفوا يأخذون ) علومهم ومقاماتهم وأحوالهم ( من أنبيائهم ) لأنهم أتباعهم ( وأنبياؤهم يأخذون عن محمد صلى اللّه عليه وسلم ) علومهم ومقاماتهم وأحوالهم، لأنهم أتباعه، وأولياء أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم يأخذون عن محمد صلى اللّه عليه وسلم ( فشاركت الولاية المحمدية ) في الأخذ عن محمد صلى اللّه عليه وسلم ( الأنبياء في الأخذ عنه ) بلا واسطة ( ولهذا ورد في الخبر ) الثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( علماء هذه الأمة ) يعني أرباب الكشف والإلهام لا أرباب الفكر ( كأنبياء

"***"

بني إسرائيل» وقال تعالى فينا: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [ البقرة: الآية 143 ] وقال في حق الرسلوَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ النّحل:

الآية 89 ] فنحن والأنبياء شهداء على أتباعهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بني إسرائيل ) يعني في الأخذ بلا واسطة ( وقال تعالى فينا )، يعني: أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يعني في يوم القيامة، لأنه سبحانه قد أخبرنا بأحوالهم في كتابه، وهذا دليل ظاهر في مماثلة علماء هذه الأمة الأنبياء ( وقال في حق الرسل: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وقال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ التّوبة: الآية 128 ] الآية، وإذا كان الأمر على هذا في الشهادة ( فنحن ) أي: أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ( والأنبياء شهداء ) للّه ( على أتباعهم ) أي: أتباع الأنبياء، قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: ورد في الخبر: أن النبي عليه السلام قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «1» وفي صحيح مسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» «2» فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر وقال عليه السلام: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» «1» يريد على علم بذلك، فأخبره اللّه بمرتبته وهو روح قبل إيجاده الأجسام الإنسانية، كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاده أجسامهم، وألحقنا اللّه بأنبيائه بأن جعلنا شهداء على أممهم معهم حين يبعث من كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وهم الرسل، فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلى اللّه عليه وسلم من آدم إلى آخر الرسل وهو عيسى عليه السلام، وقد أبان عن هذا المقام بأمور، منها: قوله «لو كان موسى حيّا لما وسعه إلا أن يتبعني» «1»، وكذلك لو كان محمد صلى اللّه عليه وسلم موجودا بجسمه من لدن آدم إلى زمان وجوده الآن لكان جميع بني آدم تحت شريعته حسّا، ولهذا لم يبعث عامة إلا هو، فإنه الملك والسيد، وكل رسول بعث إلى قوم مخصوصين، ولم تعم رسالة أحد دونه، فمن آدم إلى زمان بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه، وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل وسيادته منصوص على ذلك فروحانيته صلى اللّه عليه وسلم وروحانية كل رسول موجودة، فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهر منهم من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلا وتشريعهم الشرائع كعلي ومعاذ وغيرهما، في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) هذا الحديث سبق تخريجه.

( 2 ) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم ( 327 - 194 ). ورواه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء باب يزفون النسلان في المشي، حديث رقم ( 3361 ). ورواه غيرهما.

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

زمان وجود جسم محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكعيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان حاكما بشرع محمد صلى اللّه عليه وسلم، لتقدم شرعه في الظاهر، لكن لما لم يتقدم في عالم الحس وجوده أولا صلى اللّه عليه وسلم نسب كل شرع إلى من بعث به، وهو في الحقيقة شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم، وإن كان مفقود العين من حيث لا يعلم ذلك، كما هو مفقود العين في زمان نزول عيسى عليه السلام والحكم بشرعه، ولما نسخ اللّه بشرعه المنزل عليه جميع الشرائع، فلا يخرجها هذا النسخ عن أن تكون من شرعه، فإن اللّه قد أشهدنا في شرعه الظاهر في القرآن والسنة النسخ مع إجماعنا واتفاقنا على أنه شرعه الذي نزل به، فنسخ بالمتأخر المتقدم، فكان هذا النسخ الموجود في القرآن والسنة تنبيها لنا على أن نسخه لجميع الشرائع المتقدمة لا يخرجها عن كونها شرعا له، وكان نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان حاكما بغير شرعه الذي كان عليه في زمان رسالته، وحكمه بالشرع المقرر اليوم دليلا على أنه لا حكم لأحد من الأنبياء مع وجوده أو وجود ما قرره من الحكم، ويدخل في ذلك ما هم عليه أهل الذمة من أهل الكتاب ما داموا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن حكم الشرع على الأحوال، فخرج من هذا المجموع كله أنه ملك وسيد على جميع بني آدم، وإن جميع ما تقدمه كان ملكا له، والحاكمون فيه نواب عنه، وإن كان قد وردأُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [ الأنعام: الآية 90 ] فهو صحيح فإنه قال: «بهداهم» وهداهم من اللّه وهو شرعه عليه السلام، أي: ألزم شرعك الذي ظهر به نوابك من إقامة الدين وعدم التفرق فيه، ولم يقل: فبهم اقتده. وقال: اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [ النّحل: الآية 123 ] وهو الدين فهو مأمور باتباع الدين، فإن أصل الدين بما هو من اللّه لا من غيره، ولهذا قال عليه السلام: «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتبعني» فأضاف إليه، وأمر هو صلى اللّه عليه وسلم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء، فإن الإمام الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النواب بمراسمه، فهو الحاكم غيبا وشهادة، وما أوردنا هذه الأخبار والتشبيهات إلا تأنيسا لمن لا يعرف هذه المراتب من كشفه، ولا أطلعه اللّه تعالى عليها من نفسه، وأما أهل اللّه فهم فيها على ما نحن عليه قد قامت لهم شواهد التحقيق على ذلك من عند ربهم في نفوسهم، وإن كان يتصور على جميع ما أوردناه احتمالات كثيرة، فذلك راجع إلى ما تعطيه الألفاظ من القوة في أصل وضعها، لا ما هو الأمر عليه في نفسه، انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

"***"

فاصرف الهمّة في الخلوة للوراثة الكلية المحمدية


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!