موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب في الفرق بين الأنبياء والرّسل والأولياء وبيان عالم الخيال في عالم الحس ]

والثاني في الفعل بالهمة فيما جرت العادة أن لا يفعل إلا بالجسم، أو لا قدرة للجسم عليه.

والثالث في رؤية عالم الخيال في عالم الحس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مطلب في الفرق بين الأنبياء والرّسل والأولياء وبيان عالم الخيال في عالم الحس ( والثاني في الفعل بالهمة فيما جرت العادة أن لا يفعل إلا بالجسم ) مثل تحريك حجر أو قلع شجر ( أو لا قدرة للجسم عليه ) مثل تحريك جبل ودكه وإجراء شطوط وتثوير رياح عاصفة.

( والثالث في رؤية عالم الخيال في عالم الحس ) بالبصر في اليقظة فإن النبي والولي يبصران عالم الخيال بالبصر في اليقظة، كما نبصره نحن في المنام. اعلم أن الشيخ رضي اللّه تعالى عنه قد بسط القول في هذا المقام في كثير من كتبه والوقت لا يسع إلا لإيراد النزر اليسير منه، وحيث كان الأمر على هذا فلا نورد من كلامه في هذا المقام إلا ما يكون كالشرح له بطريق الإجمال.

قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: اعلم أن النبي هو الذي يأتيه الملك بالوحي من عند اللّه تعالى، يتضمن ذلك الوحي شريعة يتعبده بها في نفسه، فإن بعث بها إلى غيره كان رسولا ويأتيه الملك على حالتين: إما ينزل بها على قلبه على اختلاف أحواله في ذلك التنزل، وإما على صورة جسدية من خارج يلقيها على أذنه فيسمع، أو يلقيها على بصره فيبصر، فيحصل له من النظر مثل ما يحصل له من السمع سواء، وكذلك سائر القوى الحساسة،

وهذا الباب قد أغلق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلا سبيل إلى أن يتعبد اللّه أحدا بشريعة ناسخة لهذه الشريعة المحمدية، وإن عيسى عليه السلام إذا نزل ما يحكم إلا بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهو خاتم الأولياء فإنه من شرف محمد صلى اللّه عليه وسلم أن ختم اللّه تعالى ولاية أمته بنبي مكرم ختم به مقام الولاية، فله يوم القيامة حشران: يحشر مع الرسل، ويحشر معنا وليّا تابعا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وكرمه اللّه تعالى بهذا المقام على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأما حالة أنبياء الأولياء في هذه الأمة فهو كل شخص أقامه الحق في تجل من تجلياته، وأقام له مظهر محمد عليه الصلاة والسلام، ومظهر جبرائيل عليه السلام، فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام لمظهر محمد عليه الصلاة والسلام، حتى إذا فرغ

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من خطابه عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام الظاهرة في هذه الأمة المحمدية عليه الصلاة والسلام، فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي الذي حصل له في هذه الحضرة مما أمر به ذلك المظهر المحمدي من التبليغ لهذه الأمة، فيرد إلى نفسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد عليه الصلاة والسلام، وعلم صحته علم يقين بل عين،

فأخذ حكم هذا النبي ويعمل به على بينة من ربه، فرب حديث ضعيف قد ترك العمل به لضعف طريقه من أجل واضع كان في رواته، يكون صحيحا في نفس الأمر، ويكون هذا الواضع مما صدق في هذا الحديث ولم يضعه وإنما رده المحدث لعدم الثقة بقوله في نقله، وذلك إذا انفرد به ذلك الواضع أو كان مدار الحديث عليه، وأما إذا شاركه فيه ثقة سمعه معه قبل ذلك الحديث من طريق ذلك الثقة،

وهذا الولي قد سمعه من الروح يلقيه على حقيقة محمد عليه الصلاة والسلام في كشفه، فهو فيه مثل الصاحب الذي سمعه من فم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علما لا يشك فيه، بخلاف التابع فإنه يقبله على طريق غلبة الظن لارتفاع التهمة المؤثرة في الصدق، ورب حديث يكون صحيحا من طرق رواته يحصل لهذا المكاشف الذي قد عاين هذا المظهر، فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن هذا الحديث الصحيح فأنكره وقال لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفه، فيترك العمل به على بينة من ربه،

وقد عمل بهذا أهل النقل لصحة طريقه، وهو في نفس الأمر ليس كذلك، وقد يعرف هذا المكاشف من وضع هذا الحديث الصحيح طريقه إما أن يسمى له أو يقام له صورة الشخص، فهؤلاء هم أنبياء الأولياء، ولا ينفردون بشريعة ولا يكون لهم الخطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم، ويشاهد التنزيل عليه بذلك الحكم في حضرة التمثيل الخارج عن ذاته والداخل المعبر عنه بالمباشرات في حق النائم، غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما يدركه العامة في النوم في حال يقظته سواء، وقد أثبت هذا المقام للأولياء أهل طريقتنا، والفعل بالهمة والعلم من غير معلم غير اللّه، وهو العلم اللدني، فإن آتاه اللّه العلم بهذه الشريعة التي تعبده بها على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بارتفاع الوسائط كان العلم اللدني، ولم يكن من أنبياء هذه الأمة، فلا يكون من يكون من الأولياء وارثا إلا على هذه الحالة الخاصة من مشاهدة الملك عند الإلقاء على حقيقة الرسول فافهم.  

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال رضي اللّه تعالى عنه: اعلم أن الهمة يطلقها القوم بإزاء تجريد القلب للمعنى، ويطلقونها بإزاء أول صدق المريد، ويطلقونها بإزاء جمع الهمم بصفاء الإلهام فيقولون: مطلب في الهمم وأقسامها الهمة على ثلاثة مراتب:

همة تنبيه، وهمة إرادة، وهمة حقيقة،

فاعلم أن همة التنبيه هي تيقظ القلب لما تعطيه حقيقة الإنسان مما يتعلق به المنى، سواء كان محالا أو ممكنا، فهي تجرد القلب للمنى.

وأما همة الإرادة وهي أول صدق المريد، فهي همة جمعية لا يقوم لها شيء، وهذه الهمة توجد كثيرا في قوم يسمون بإفريقيا الغرابية يقتلون بها من يشاؤون، فإن النفس إذا اجتمعت أثرت في أجرام العالم وأحواله، ولا يعتاص عليها شيء حتى أرى من علم ذلك ممن ليس عنده كشف ولا قوة إيمان أن الآيات الظاهرة في العالم على أيدي بعض الناس إنما ذلك راجع إلى هذه الهمة، ولها من القوة بحيث إن لها إذا قامت بالمريد أثرا في الشيوخ الكمل، فيتصرفون فيهم بها،

وقد يفتح على الشيخ في علم ليس عنده ولا هو مراد به بهمة هذا المريد الذي يرى أن ذلك عند هذا الشيخ، فيحصل ذلك العلم في الوقت للشيخ بحكم العرض ليوصله إلى هذا الطالب صاحب الهمة، إذ لا يقبله إلا منه.

وأما همة الحقيقة التي هي جمع الهمم بصفاء الإلهام، فتلك همم الشيوخ الأكابر من أهل اللّه، الذي جمعوا هممهم على الحق وصيروها همة واحدة لأحدية المتعلق هربا من الكثرة وطلبا لتوحيد الكثرة وللتوحيد، فإن العارفين أنفوا من الكثرة لا من أحديتها، في الصفات كانت أو في النسب أو في الأسماء. انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

واعلم أن الإنسان من حيث تحققه بحقيقته التي هي نسخة العالم، هو كل العالم، لا بل هو كل الممكنات، لا بل هو كل الأسماء، وعلى هذا كل فرد من أفراد العالم بالنسبة إلى النفس الناطقة، وكما أن النفس الناطقة تتصرف في بدنها وما هو تحت حيطته، كذلك الإنسان المتحقق بحقيقته الجامعة للكل يتصرف في الكل،

وههنا لطيفة وهو أن هذا المتحقق لا يتصرف في أمر من الأمور الآفاقية إلا من الوجه الذي ذلك الأمر به في الأنفس فافهم،

فإنه سر لطيف وقد أدرك الفعل بالهمة، أعني الهمة الثانية التي ذكرها الشيخ رضي اللّه تعالى عنه وهي همة الإرادة جماعة من

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

علماء الهند يقال لهم أرباب الفكر والوهم وأخالهم الغرابية، نقل محمد الشهرستاني عنهم أنهم يعظمون أمر الفكر، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول، فالصور في المحسوسات ترد عليه، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضا، فهو مورد العلمين في العالمين، فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة، حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم، فيخبر عن المغيبات، وربما يقوى على حبس الأمطار، وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال.

قال محمد الشهرستاني رحمه اللّه تعالى، ولا يستبعد ذلك، فإن للوهم آثرا عجيبا في التصرف بالأجسام والتصرف في النفوس، أليس الاحتلام في النوم تصرف الوهم في الجسم، أليس الرجل يمشي على جدار مرتفع ويسقط في الحال، ولا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه على الأرض المستوية، والوهم إذا تجرد عمل الأعمال العجيبة، ولقد كانت الهند تغمض عينها أياما كي لا يشغل الفكر والوهم بالمحسوسات، ومع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل خصوصا إذا كانا متفقين غاية الاتفاق، ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلا من المتدينين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة فينجلي عنهم ذلك الأمر الذي يهمهم، وهذا الذي نقله صاحب الملل والنحل عن أرباب الوهم هو السيمياء، وهو على ثلاثة أنواع، الواحد هو الذي ذكره محمد الشهرستاني، وهي تربية الوهم بالرياضة،

والثاني: لا يكون إلا عن حروف تذكر أو ترقم، وإن فعلت بالتخيل فهو لاحق بالقسم الأول.

والثالث: ما يكون عن خاصية بخور ودم، ولا تتوهم أن خوارق العادات التي تصدر عن الكمل من هذا القبيل، فإن الأمر ليس كذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون ما يصنع بهم ولا بأممهم، ولا تصرف لهم في شيء من العالم أصلا، لأنهم في أعلا درجات العبودية التي لا ينالها إلا من له مقام في النبوة،

ولهذا قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي» «1» الحديث.

فهذا الحديث أشد ما جرعت الأمة مرارته، فإنه قاطع للوصلة بين الإنسان وبين عبوديته، وإذا انقطعت الوصلة بين الإنسان وبين عبوديته من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) هذا الحديث سبق تخريجه.

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أكمل الوجوه، انقطعت الوصلة بين الإنسان وبين اللّه تعالى، فإن العبد على قدر ما يخرج به من عبوديته ينقصه تقربه من سيده، لأنه يزاحمه في مرتبته، وأقل المزاحمة المزاحمة الإسمية فأبقى علينا اسم الولي، وهو من أسمائه سبحانه، وكان هذا الاسم قد نزعه من رسوله وخلع عليه أسماء أخر فسماه بالعبد والرسول، ولا يليق باللّه أن يسمى بالرسول فهذا الاسم من خصائص العبودية انتهى.

وإذا كانت الأنبياء والرسل في أعلا مقامات العبودية، وهو يقتضي عدم التصرف مطلقا إلا إذا أمروا، وأما إذا خيروا، فيقتضي عدم التصرف، وإذا أمر وتصرف وكان في المحق وقد علمته وهو فناء العبد في الحق، فيكون العبد باطن الحق والحق ظاهر العبد، فلا يكون المتصرف إلا الحق كما قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ الأنفال: الآية 17 ]

وإذا ظهرت خوارق العادات على يدي من هذه حاله، فقد يعرفه اللّه تعالى إياه قبل وقوعه، ويطلعه على سره وحكمته، وقد لا يكون كذلك كعصى موسى عليه الصلاة والسلام، فإنه خاف منها حين صارت حية تسعى، عندما ألقاها، ولذلك ولّى مدبرا، وما كان خوفه عند مشاهدة عصي السحرة وحبالهم على صور الحيات لجهله بحقيقة حالهم، وإنما كان لإشفاقه على من بعث إليهم أن يلتبس عليهم الأمر بحيث لا يفرقون بين انقلاب عصى موسى وانقلاب عصا السحرة فيتخيلون أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام من قبيل ما جاءت به السحرة، ولما أشفق من ذلك قال له ربه تعالى: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [ طه:

الآية 68 ]

لأن ما جئت به تمثيل في العماء وهو الخيال المطلق، وما جاءت به السحرة تمثيل في الخيال المقيد، والخيال المطلق فوق الخيال المقيد، لوجوه منها:

أنه علته، ومنها: أنه أكمل منه لأنه الأمر المحقق، ومنها: أنه فعل الحق وهو أول الأينيات الإلهية، والدليل على أن ما جاءت به السحرة من قبيل التمثيل في الخيال المقيد قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [ الأعراف: الآية 116 ]

ووصفه الحق سبحانه بالعظيم لأنه يماثل إيجاد الحق للعالم فهو من خواص الألوهية، ولهذا يكفر الإنسان باعتقاد السحر أنه حق، لأن الخلق لا يكون إلا للّه، وإذا أضيف إلى غيره كانت إضافته باطلة، وقد تكون خوارق العادات التي تصدر عن الأنبياء عليهم السلام من قبيل الخيال المقيد، ولا دليل لمن حصر، وقيد تكون من قبيل الخيال المطلق، وهو الأكثر، وإذا علمت هذا فاعلم: أن الفعل بالهمة هو أن صاحب الهمة إذا أراد

"***"

يفترقان بمجرد الخطاب. فإن مخاطبة الوليّ غير مخاطبة النبي. ولا تتوهّم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ظهور أمر ما في الخارج صور ذلك الأمر في نفسه، وقابل ذاته بمرآة العماء الذي هو الخيال المطلق، فينطبع ما في نفسه بمرآة العماء، فيوجد في الخارج، ولكن متى ما غفل عنه عدم، وقد يقابل ذاته بمرآة الخيال المقيد فافهم. قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام، والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ولا يؤودها حفظه، أي حفظ ما خلقته، فمتى طرأت غفلة على العارف عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد له من حضرة يشهدها، فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة، ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور تحفظ بعضها بعضا، فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات، وهو شاهد حضرة ما من الحضرات حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظ تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص. انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

وبعد أن علمت أن النبوة والولاية يشتركان فيما ذكرناه فاعلم أنهما ( يفترقان بمجرد الخطاب فإن مخاطبة الوليّ غير مخاطبة النبي ) لأن الولي يخاطب من وراء ظهره بمتابعته، والنبي يخاطب من بين يديه بحكم الأصل لا بالتبعية، والولي يخاطب من خلف حجاب نبيه والنبي يخاطب بلا حجاب أي بلا واسطة نبي آخر، فمخاطبة الأنبياء عليهم السلام شهادة، ومخاطبة الأولياء غيب.

واعلم أن هذا الاشتراك والافتراق إنما هو بين ولاية الأولياء الأتباع والنبوة لا بين ولاية الأنبياء والنبوة، وعلى هذا فنبوة الأنبياء عليهم السلام أفضل من ولاية أتباعهم بلا شك، لأنهم ما حصلوها إلا من اتباعهم الأنبياء من حيث هم أنبياء، والتابع لا يلحق درجة المتبوع أبدا، لأن الترقي يصحبه في جميع المواطن مع الآنات، وأما ولاية الأنبياء فهي أفضل من نبوتهم، لأن ولايتهم هي الوجه الذي لهم إلى الحق، ونبوتهم هي الوجه الذي لهم إلى الخلق، ولأن اللّه تعالى تسمى بالولي وما تسمى بالنبي والرسول، فهي أي الولاية لا تنقطع لا في الدنيا ولا في البرزخ، وأما في الجنة فهي فيها إلى أبد الآباد، بخلاف النبوة فإنها تنقطع بانقطاع الدنيا، ولا حكم لها في البرزخ ولا في الجنة لأن محل التكليف هو الدنيا لا غير ( ولا تتوهّم

"***"

أن معارج الأولياء على معارج الأنبياء ليس الأمر كذلك، لأن المعارج تقتضي أمورا، ولو اشتركوا فيها بحكم العروج عليها لكان للوليّ ما للنبي، وليس الأمر عندنا على هذا، وإن اجتمعا في الأصول وهي المقامات. لكن معارج الأنبياء بالنور الأصلي ومعارج الأولياء بما يقتضي من النور الأصلي. وإن جمعهما مقام التوكل، فليست الوجوه متحدة، والفضل ليس في نفس الحصول،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أن معارج الأولياء على معارج الأنبياء ليس الأمر كذلك، لأن المعارج تقتضي أمورا ) عامة لتشمل جميعها، وتقتضي أمورا يختص كل واحد منها بما يمتاز عن غيره، ولا يصح أن تشترك المعارج في هذه الأمور المميزة

( ولو اشتركوا بها بحكم العروج عليها ) لما امتازت المعارج عن بعضها و ( لكان للوليّ ما للنبي وليس الأمر عندنا على هذا ) لأن التابع من حيث هو تابع لا يحصل له مقام المتبوعية أصلا وما هو ولي إلا من حيث هو تابع، فولايته عين تابعيته، ولو كان يعرج من حيث هو ولي لكان التابع يصح أن يكون في مرتبة المتبوع من حيث إنه تابع، فالفرق بين النبي والولي هو الفرق بين التابع والمتبوع، فلا جامع بين النبي والولي من هذه الحيثية ( وإن اجتمعا في الأصول وهي المقامات ) مثل الإسلام والإيمان والإحسان والتوكل والرضا والتسليم وأخواتها ( لكن معارج الأنبياء بالنور ) أي العلم الوهبي ( الأصلي ) أي المفاض عليهم بحكم الأصل لا بالتبعية، وما هم أنبياء إلا بالعروج بهذا النور

( ومعارج الأولياء بما يقتضي ) استعداد مقام الولاية ( من النور الأصلي ) أن يحصل لمن قام فيه، فليس لمقام الولاية من النور الأصلي إلا حصة، عينها استعداد مقام الولاية لا غير، واستعداد مقام الولاية مجعول بالكسب، فما يعرج الولي إلا بقدر ما يحصل له من النور الأصلي المناسب لكسبه، وإنما كان العروج بالنور لأن معارج الحق مظلمة بالنسبة إلى أبصار العارفين، وهذا النور هو العلم الوهبي ينورها لهم، وهو يوهب للأنبياء من غير استعداد، ولهذا كانت النبوة غير مكتسبة، وهو القول الصحيح، وهو مذهب الشيخ رضي اللّه تعالى عنه، ويوهب للأولياء بواسطة استعدادهم المكتسب بالأعمال التي أخذوها عن الأنبياء فقط، فلا دخل لأعمال الفكر في حصول هذا الاستعداد، فالولاية مكتسبة من حيث الأعمال الشرعية غير مكتسبة من حيث الأعمال الفكرية

( وإن جمعهما ) أي الأولياء والأنبياء ( مقام التوكل ) مثلا ( فليست الوجوه ) التي لهذا المقام ( متحدة ) حتى يكون كل متوكل في رتبة واحدة بل مختلفة متفاوتة متفاضلة ( والفضل ) بين أرباب المقام ( ليس في نفس الحصول ) في ذلك المقام لأنه لا يصح، لأنه أعني

"***"

وإنما هو في الوجوه، والوجوه راجعة للمتوكلين، وهكذا في كل حال ومقام، من فناء وبقاء وجمع وفرق واصطلام وانزعاج وغير ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقام من حيث هو ذلك المقام واحد ( وإنما هو في الوجوه ) المنزلة إلى الحاصلين فيه ( والوجوه راجعة للمتوكلين ) فتفاضل بتفاضل المتوكلين، أين توكل الجنيد من توكل الصحابة رضي اللّه عنهم ؟ وأين توكل بعض الصحابة من توكل الخلفاء الأربعة ؟ وأين توكل الصحابة بل وجميع الرسل من توكل سيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم ؟ ( وهكذا ) الأمر ( في كل حال ومقام ) وقد عرفتهما ( من فناء ) وقد عرفت بعض أنواعه ( وبقاء ) وقد عرفته ( وجمع وفرق واصطلام وانزعاج ) وستعرفها إن شاء اللّه ( وغير ذلك ) مثل الوصل والفصل والأنس والهيبة وأخواتهما.

مطلب في بيان الجمع وجمع الجمع قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: الجمع عندنا أن تجمع ما له عليه مما وصفت به نفسك من نعوته وأسمائه، وتجمع ما لك عليك مما وصف الحق به نفسه من نعوتك وأسمائك، فتكون أنت أنت وهو هو.

وجمع الجمع: أن تجمع ما له عليه وما لك عليه فيرجع الكل إليه وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود: الآية: 123 ] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [ الشّورى: الآية 53 ]

فما في الكون إلا أسماؤه ونعوته، غير أن الخلق ادعوا بعض تلك الأسماء والنعوت ومشى الحق دعواهم في ذلك، فخاطبهم بحسب ما ادعوه، فمنهم من ادعى في الأسماء المخصوصة به تعالى في العرف، ومنهم من ادعى ذلك في النعوت الواردة في الشرع مما لا يليق عند علماء الرسوم إلا بالمحدثات، وأما طريقنا فما ادعينا في شيء من ذلك كله، بل جمعناها عليه، غير أنا نبهنا أن تلك الأسماء حكم آثار استعداد أعيان الممكنات فيه، وهو سر خفي لا يعرفه إلا من عرف أن الحق هو عين الوجود، وإن أعيان الممكنات على حالها ما تغير عليها وصف في عينها، ويكفي العاقل السليم العقل قولهم الجمع، فإنه لفظ مؤذن بأكثره، والتميز بين الأعيان الكثيرة فمن حيث التميز كان الجمع عين التفرقة، وليست التفرقة عين الجمع إلا تفرقة أشخاص الأمثال، فإنه جمع وتفرقة معا، فإن الحد والحقيقة تجمع الأمثال كالإنسانية، وأشخاص ذلك النوع يتصفون بالتفرقة، فزيد ليس بعمرو وإن كان كل واحد منهما إنسانا، وهكذا جميع الأمثال وأشخاص النوع الواحد،

قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى: الآية 11 ]

على وجوه كثيرة، قد علم اللّه تعالى ما يؤول إليه قول كل متأول في هذه الآية وأعلاها قولا أي

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ليس في الوجود شيء يماثل الحق أو هو مثل الحق إذ الوجود ليس غير عن الحق، فما في الوجود شيء سواه يكون مثلا له وخلاف هذا ما لا يتصور، فإن قلت فهذه الكثرة المشهودة قلنا: هي نسب أحكام استعدادات الممكنات في عين الوجود الحق، والنسب ليست أعيانا ولا أشياء وإنما هي أمور عدمية بالنظر إلى حقائق النسب، فإذا لم يكن في الوجود شيء سواه فليس مثله شيء لأنه ليس ثم فافهم وتحقق ما أشرنا إليه، فإن أعيان الممكنات ما استفادت إلا الوجود والوجود ليس غير الحق، لأنه يستحيل أن يكون أمرا زائدا، ليس الحق لما يعطيه الدليل الواضح، فما ظهر في الوجود بالوجود إلا الحق، فالوجود الحق وهو واحد فليس ثم شيء هو له مثل، لأنه لا يصح أن يكون ثم وجودان مختلفان ومتماثلان، فالجمع على الحقيقة كما قررناه أن يجمع الوجود عليه فيكون هو عين الوجود، ويجمع حكم ما ظهر من العدد والتفرقة على أعيان الممكنات لأنها عين استعداداتها، فإذا علمت هذا فقد علمت معنى الجمع وجمع الجمع، ووجود الكثرة في العين الواحدة، وألحقت الأمور بأصولها وميزت بين الحقائق، وأعطيت كل شيء حكمه كما أعطى الحق كل شيء خلقه، فإن لم تفهم الجمع كما ذكرناه فما عندك خبر منه.

وقال رضي اللّه تعالى عنه: اعلم أن أصل الأشياء كلها التفرقة، وأول ما ظهرت في الأسماء الإلهية فتفرقت أحكامها لتفرق معانيها، حتى لو نظر الإنسان فيها من حيث دلالتها كلها على العين مع الفرقان المعلوم بين معانيها الذي يعقل فيها من أنه سميت هذه العين بكذا لكذا ولا سيما إذا كانت الأسماء تجري مجرى النعوت على طريق المدح، فالتفرقة أظهر وبالتفرقة تعرّف إلينا سبحانه

فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى: الآية 11 ]

وقال: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [ النّحل: الآية 17 ]

ففرق بين من يخلق ومن لا يخلق، وحدود الأشياء أظهرت التفرقة بين الأشياء، وبالتفرقة ظهرت المقامات والأحوال، وكثرت مراتب الخلق وتميزت بها، فللّه ثمانون عبدا حققهم بحقائق الإيمان، وللّه مائة عبد حققهم بحقائق النسب الإلهية والأسماء، وللّه ستة آلاف عبد أو يزيدون حققهم بحقائق النبوة المحمدية، وللّه ستمائة عبد حققهم بحقائق الأخلاق الإلهية، ففرق سبحانه بين عباده بالمراتب، وعين الجمع هو عين التفرقة إذ هو دليل على الكثرة، وإنما سمي جمعا من أجل العين الواحدة التي تجمع هذه الكثرة.

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مطلب في بيان الاصطلام وهو الجذب وقال رضي اللّه تعالى عنه: الاصطلام في اصطلاح القوم وله يرد على القلب سلطانه قوي، فيسكن من قام به تحته، وهو أن العبد إذا تجلى له الحق في سره في صورة الجمال أثر في نفسه هيبته، فإن الجمال نعت الحق، والهيبة نعت العبد، والجلال نعت الحق، والأنس نعت العبد،

فإذا اتصف العبد بالهيبة لتجلي الجمال، فإن الجمال مهوب أبدا كان للهيبة أثر في القلب وخدر في الجوارح، وحكم ذلك الأثر اشتعال نار الهيبة، فيخاف لذلك سطوته فيسكن، وعلامته فيه في الظاهر خدر الجوارح وموتها،

فإن تحرك من هذا صفته فحركته دورية حتى لا يزول عن موضعه، فإنه يخيل له أن تلك النار محيطة به من جميع الجهات، فلا يجد منفذا فيدور في موضعه كأنه يريد الفرار منه إلى أن يخف ذلك عنه بنعت آخر يقوم به، وهو حال ليس هو بمقام،

ولما كان هذا الاصطلام نعت الشبلي كان يدور لضعفه وخوفه غير أن اللّه تعالى كان له به عناية فكان يرد إلى إحساسه في أوقات الصلوات، فإذا أدى صلاة الوقت غلب عليه سلطان الاصطلام،

فقيل: للجنيد عنه، فقال: أيرد في أوقات الصلوات فقيل: نعم. قال الحمد للّه الذي لم يجر عليه لسان ذنب، فما أحسن قول الجنيد لسان ذنب فإنه أخيذ وليس بصاحب ذنب، والغريب يشهده تاركا للصلاة.

ومن أعجب حكم الاصطلام الجمع بين الضدين، فإن الخدر يبقي الحركة، فهو مخدور الجوارح متحرك، بل هو محرك يدار به، وهو صاحب خدر هكذا يحس من نفسه.

وقال رضي اللّه عنه: الانزعاج عند الطائفة حال انتباه القلب من سنة الغفلة والتحرك للأنس والوجد، فالانزعاج حكم العلة على هذا أي العلة أورثته هذا الانزعاج، وهو اندفاع النفس من حالها إلى أصلها الذي خرجت عنه، لأنه من ذلك الأصل دعاها، والأصل ظاهر فهو اندفاع بشدة وقوة، ولهذا الانزعاج أسباب مختلفة، منهم من تزعجه الرغبة، ومنهم من تزعجه الرهبة، ومنهم من يزعجه التعظيم. انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه، وكلامه في حال الانزعاج في غاية البسط، وما أوردناه منه مثل الأم له.

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!