موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[مطلب في بيان القطب الأكبر وهو إدريس عليه السلام ]

فإن لم تقف معه، رفع لك عن المواضع القطبية، وكل ما شاهدته قبل هذا، فهو من عالم اليسار لا من عالم اليمين، وهذا الموضع هو القلب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في عين ما هم بها وليس إلا القهر فيما يريد كل واحد من صاحبه، دليل ذلك قولها الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه، وما جاء في السورة قط أنه راودها عن نفسها، فأراه اللّه تعالى البرهان عند إرادته القهر في دفعها عنه فيما تريده فكان البرهان الذي رآه أن يدفع عن نفسه بالقول اللين كما قال لموسى عليه السلام وهارون عليه السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [ طه: الآية 44 ] أي لا تعنف عليها وسسها إنها امرأة موصوفة بالضعف على كل حال فقلت له: أفدتني أفادك اللّه تعالى. انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

مطلب في السماء الرابعة واعلم أنك إن لم تقف مع ما يكشف لك في هذه السماء، وارتقيت إلى السماء الرابعة التي هي قلب العالم ومكان القطب الأكبر، الذي هو إدريس عليه السلام، ونزلت عنده وأتت الغزالة إلى خدمتك، فإنك ستعلم منه علم تقلب الأمور الإلهية، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن». وترى في هذه السماء غشيان الليل النهار، والنهار الليل وكيف يكون كل واحد منهما لصاحبه ذكرا وقتا وأنثى وقتا، وسر النكاح والاحتلام بينهما، وما يتولد فيهما من المولدات بالليل والنهار، والفرق بين أولاد الليل وأولاد النهار، فكل واحد منهما أب لما يولد في نقيضه، وأم لما يولد فيه، وتعلم من هذه السماء علم الغيب والشهادة، وعلم السر والتجلي، وعلم الحياة والموت، واللباس والمسكن، والمودة والرحمة وما يظهر من الوجه الخاص من الاسم الظاهر في المظاهر الباطنة، ومن الاسم الباطن في الظاهر من حكم استعداد المظاهر، فتختلف على الظاهر الأسماء لاختلاف الأعيان، هذا كله تعلمه من هذه السماء ( فإن لم تقف معه رفع لك ) في هذه السماء التي هي محل القطب الأكبر.

مطلب في بيان القطب الأكبر وهو إدريس عليه السلام ( عن المواضع القطبية وكل ما شاهدته قبل هذا ) في السماء الأولى والثانية والثالثة ( فهو من عالم اليسار ) أي يسار القطب وهو الوجه الشمالي الذي يدبر صور العالم بأجمعه ( لا من عالم اليمين ) أي يمين القطب وهو الوجه الجنوبي الذي يدبر

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أرواح العالم. اعلم أن الشيخ رضي اللّه تعالى عنه يقول في هذا المقام: اعلم أن الأمور كثيرة مختلفة في العالم فكل شيء يدور عليه أمر ما من الأمور فذلك الشيء قطب ذلك الأمر وما من شيء إلا هو مركب من روح وصورة، فلا بد أن يكون لكل قطب روح وصورة، فروحه تدور عليه أرواح ذلك الأمر الذي هذا قطبه، وصورة ذلك القطب تدور عليه صورة ذلك الأمر الذي هذا قطبه، يسمى الوجه الواحد من القطب جنوبيّا وهو الروح، والآخر شماليّا وهو الصورة انتهى. ولما كانت حقيقة القطب جامعة بين الروح والصورة لأنه قلب العالم ورئيسه وسبب حياته وخلاصته والقلب حقيقة جامعة بين القوى الروحانية والجسمانية كان موضع القطب قلب العالم وهو السماء الرابعة التي هي أعلى الأمكنة والمكان الذي كان يدور عليه رحى عالم الأفلاك، لأن فوقها سبعة أفلاك وتحتها سبعة أفلاك كما صرح به الشيخ رضي اللّه تعالى عنه في الفص الأدريسي، والشمس هي التي تربي عالم الكون والفساد وتفيض النور على العالم السفلي والعلوي على مذهب، وقد ذهب الشيخ رضي اللّه تعالى عنه إلى أن نور جميع الكواكب من نور الشمس، وإن كان قد صرح في موضع بخلافه في هذه السماء فهي بأحوالها كالقطب المدبر للعالم المفيض عليه نور الوجود وإلى هذا

أشار الشيخ رضي اللّه تعالى عنه بقوله: ( وهذا الموضع ) أي الموضع الذي إذا وصلت إليه رفع لك عن مرافع القطبية ( هو القلب ) الذي للعالم وما تحته عالم اليسار وهو السماوات الثلاثة والأطلس والعرش والكرسي، وهو جامع لحقائق ما فوقه وما تحته، وفلك المنازل والقطب الذي هذا موضعه هو إدريس عليه الصلاة والسلام، وبعد أن علمت أنه لا بد للقطب من روح وجسد طبيعي حتى يدبر الأجسام بجسمه ويدبر الأرواح بروحه، ولا يصح عليه اسم القطب إلا إذا كان له روحانية وجسمانية كما ستقف عليه فيما تنقله من كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه فاعلم: أن القطب هو خليفة اللّه في أرضه، أعني عالم الإمكان لأنه أرض، وعالم الوجوب سماؤه، ولا بد للخليفة من أن يكون على صورة من استخلف، وإلا فما هو خليفة له خصوصا هذا النوع من الاستخلاف، فإنه استخلاف في إفاضة الوجود وحفظه، ولا بد أن يكون بين المفيض والمستفيض مماثلة يعبر عنها بالمناسبة حتى يحصل الفيض، والعالم مخلوق على صورة الحق، فلا بد أن يكون الخليفة على صورة الحق، وقد ورد «أن اللّه تعالى خلق آدم على 

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صورته» «1» ولو لم يخلقه على صورته لما قبل تعليم الأسماء، وقد بسطنا القول في معنى الصورة في رسالة السبحات لنا، ولما كان القطب على صورة الحق لم يصح أن يكون أزيد من واحد، لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [ الأنبياء: الآية 22 ]

ولم يصح أن يموت بعد وصوله إلى مقام القطبية، لأن اللّه تعالى حي لا يموت، ولهذا مات قبل رقيه إلى السماء، وقصته معروفة، ولهذا لا ينبغي له أن يلبث بعد القطبية في عالم الكون والفساد، وهو المستثنى في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [ الزّمر: الآية 68 ]

وهو القطب وهو على قلب محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم، وجميع الأقطاب التي تأتي وتذهب وتتوارث القطبية كما هو المعلوم عند العامة نوابه وهو القطب الأكبر. قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: اعلم أن للّه تعالى في كل نوع من المخلوقات خصائص، وهذا النوع الإنساني هو من جملة الأنواع وللّه فيه خصائص وصفوة، وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم الصلاة والسلام ولهم مقام النبوة والولاية والإيمان، فهم أركان بيت هذا النوع، والرسل أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا، أي المقام الذي يرسل منه أعلا منزلة عند اللّه تعالى من سائر المقامات، وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذي يحفظ اللّه تعالى بهم العالم كما يحفظ البيت بأركانه، فلو زال ركن منها زال كون البيت بيتا، إلا أن البيت هو الدين إلا أن أركانه هي الرسالة والنبوة والولاية والإيمان، إلا أن الرسالة هي الركن الجامع للبيت وأركانه، إلا أنها هي المقصودة من هذا النوع، فلا يخلو هذا النوع أن يكون فيه رسول من رسل اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما لا يزال الشرع الذي هو دين اللّه تعالى فيه، إلا أن ذلك الرسول هو القطب المشار إليه الذي ينظر الحق إليه فيبقى به هذا النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع، إلا أن الإنسان لا يقع عليه هذا الاسم إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح.

ويكون موجودا في هذه الدار الدنيا بجسده وحقيقته، فلا بد أن يكون الرسول الذي يحفظ به هذا النوع الإنساني موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى، وهو مجلى الحق من آدم إلى يوم القيامة، ولما كان الأمر على ما ذكرناه، ومات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل ودخلت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) هذا الحديث سبق تخريجه.

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرسل كلهم في هذه الشريعة يقومون بها، والأرض لا تخلو من رسول حي بجسده فإنه قطب العالم الإنساني، ولو كانوا ألف رسول لا بد أن يكون الواحد من هؤلاء هو الإمام المقصود، فأبقى اللّه تعالى بعد رسوله صلى اللّه عليه وسلم من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار الدنيا ثلاثة وهو إدريس عليه الصلاة والسلام بقي حيّا بجسده وأسكنه اللّه تعالى السماء الرابعة، والسماوات السبع هن من عالم الدنيا وتبقى ببقائها وتفنى صورتها بفنائها، وهي جزء من الدار الدنيا، فإن الدار الآخرة تبدل فيها السماوات والأرض بغيرها، كما تبدل هذه النشأة الترابية منا بنشأة أخرى غير هذه كما وردت الأخبار في السعداء من الصفاء والرقة واللطافة، فهي نشأة طبيعية جسمية لا تقبل الأثقال فلا يغوطون ولا يبولون ولا يتمخطون كما كانت هذه النشأة الدنيوية، وهكذا أهل الشقاء وأبقى في الأرض أيضا الياس وعيسى عليهما السلام وكلاهما من المرسلين وهما قائمان بالدين الحنيفي الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم، فهؤلاء ثلاثة من الرسل المجمع على أنهم رسل، وأما الخضر عليه السلام وهو الرابع فهو من المختلف فيه عند غيرنا لا عندنا، فهؤلاء باقون بأجسامهم في الدار الدنيا وكلهم الأوتاد والاثنان منهم الإمامان وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم، فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن لم يبعثوا بشرع ناسخ ولا هم على غير شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فالواحد من هؤلاء الأربعة الذين هم عيسى والياس وإدريس والخضر عليهم الصلاة والسلام هو القطب وهو أحد أركان بيت الدين وهو ركن الحجر الأسود، واثنان منهم هما الإمامان، وأربعتهم الأوتاد، فبالواحد يحفظ اللّه تعالى الإيمان، وبالثاني يحفظ اللّه تعالى الولاية، وبالثالث يحفظ اللّه تعالى النبوة، وبالرابع يحفظ اللّه تعالى الرسالة، وبالمجموع يحفظ الدين الحنيفي، فالقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق، وهذه المعرفة التي أبرزنا عينها للناظر من لا يعرفها من أهل طريقنا إلا الأفراد منا، ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلوبهم مع وجودهم، فهم نوابهم فأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون أن القطب والإمام والوتد إلا النواب لهؤلاء المرسلين الذين ذكرناهم، ولهذا يتطاول كل واحد من هذه الأمة لنيل هذه المقامات فإذا حصلوا وخصوا بها عرفوا عند ذلك أنهم نواب لذلك القطب ونائب الإمام يعرف أن الإمام غيره وأنه نائب عنه

"***"

…………………………………………. . . . . . . . .

وكذلك الوتد، فمن كرامة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محمد أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا كمن ذكرنا فهم من أهل المقام الذي منه يرسلون. وقد كانوا أرسلوا فاعلم ذلك، ولهذا صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة إسرائه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات لتصح له الإمامة على الجميع حسّا بجسمانيته وروحه، فلما انتقل صلوات اللّه وسلامه عليه بقي الأمر محفوظا لهؤلاء الرسل، فثبت الدين قائما بحمد اللّه ما أنهد منه ركن وإذ كان له حافظ يحفظه، وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث اللّه تعالى الأرض ومن عليها وهذه ( نكتة ) فاعرف قدرها فإنك لست تراها في كلام أحد منقول عن أسرار هذه الطريقة غير كلامنا، ولولا ما ألقي عندي في إظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه اللّه ما أعلمنا به ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم خاصة لا غيرهم من الأولياء، فاحمدوا اللّه يا إخواننا حيث جعلكم اللّه تعالى ممن قرع سمعه أسرار اللّه تعالى المحفوظة في خلقه التي اختص اللّه بها من شاء من عباده فكانوا لها قابلين مؤمنين بها ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها، قال أبو يزيد البسطامي رضي اللّه تعالى عنه وهو أحد النواب لأبي موسى الدبيل. يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة.

انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!