موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


فصل في أن اللّه تعالى يبصر الأشياء وهي معدومة العين

لا يخفى على من اطّلع على ما قدّمناه في هذه المقدمة أن اللّه سبحانه وتعالى يبصر الأشياء وهي معدومة العين لا قدم لها في الوجود العلمي ولا العيني، كما أنه يعلمها وهي على حالها في عدمها ما شمت رائحة من الوجودين أصلا، لأنه لما تعلق علمه بها كانت معدومة في العلم وفي العين، وليس الوجود بشرط للرؤية كما ذهب إليه بعض الناس. قال الشيخ رضي اللّه عنه: إن الممكنات وإن كانت لا تتناهي وهي معدومة فإنها مشهودة للحق تعالى من كونه يرى، فإنا لا نعلل الرؤية بالوجود وإنما نعلّل الرؤية للأشياء بكون المرئي مستعدا لقبول تعلق الرؤية به، سواء كان معدوما لنفسه أو موجودا، فكل ممكن مستعد للرؤية فالممكنات وإن لم تتناه فهي مرئية للّه تعالى، لا من حيث نسبة العلم، بل من نسبة أخرى تسمى رؤية كانت ما كانت، قال تعالى: أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ( 14 ) [ العلق: الآية 14 ] ،

ولم يقل هنا ألم يعلم بأن اللّه يعلم. وقال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [ القمر: الآية 14 ] ،

وقال: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [ طه: الآية 46 ] ،

وقال الشيخ رضي اللّه عنه بعد ما ذكر ما يظهر للبصر من الألوان في الحرباء وأشباه ذلك وأنها لا وجود لها في حد ذاتها وإنما وجودها بالنسبة إلى إدراك البصر: كذلك العالم مدرك للّه تعالى في حال عدمه، فهو معدوم العين مدرك للّه يراه فيوجده لنفوذ الاقتدار الإلهي. ففيض الوجود العيني إنما وقع على تلك المرئيات في حال عدمها، فمن نظر إلى وجود تعلق الرؤية بالعالم في حال عدمه، وأنها رؤية حقيقية لا شك فيها وهو المسمى بالعالم، ولا يتصف الحقّ بأنه لم يكن يراه ثم رآه بل لم يزل يراه، فمن قال بالقدم فمن هنا قال، ومن نظر إلى وجود العالم في عينه لنفسه ولم تكن له هذه الحالة في حال رؤية الحق له قال بحدوثه، ومن هنا تعلم أن علة الرؤية للأشياء ليس كونها موجودة كما ذهب إليه أكثر المتكلمين من الأشاعرة، وإنما الحق في ذلك استعداد المرئي للرؤية سواء كان معدوما أو موجودا، فإن الرؤية تتعلق به. وأما غير الأشاعرة من المعتزلة فاشترطت في الرؤية البصرية أمورا زائدة على هذا تابعة للوجود، ولهذا صارت الرؤية للعلم خاصة انتهى كلام الشيخ رضي اللّه عنه. مطلب في بيان أن صفة العلم غير صفة البصر

وقد علم منه أن صفة العلم غير صفة البصر، وهذا خلاف ما قال به جماعة ممن يدّعي اتباع الشيخ رضي اللّه عنه، وعلم ما معنى قدم العالم وما معنى حدوثه.

"***"

والشيخ رضي اللّه عنه لا يقول بقدم العالم كما تقول به الحكماء ولا بحدوثه كما تقول أرباب الكلام، وسلك طريقة بين الطريقين وهي أقرب إلى مذهب المتكلم من مذهب الحكيم، ومن فهم ما أوردناه في هذه المقدمة لا يخفى عليه، وبعد أن علمت أن اللّه تعالى ما علم الأشياء إلا وهي في العدم المطلق علمت أن غيره لا يعلمها كما علمها الحق وإنما يعلمها من علم الحق وهي موجودة، ثم بلا شك فما يأخذ غير اللّه معلوماته إلا عن موجود، والحق يأخذ معلوماته عن العدم المطلق وعن الوجود، بل إن حققت النظر فإن الحق سبحانه لا يأخذ معلوماته إلا عن ذاته لأنها صور الشؤون المستميتة فيها وهو عين الوجود سبحانه. وبعد أن علمت هذا فإن شئت قلت يأخذ معلوماته عن عدم وإن شئت قلت يأخذها عن وجود يعني عن ذاته، فإن ذاته قبل تعلق العلم بها كانت واحدة بسيطة من جميع الوجوه وكانت جميع نسبها وإضافاتها مستهلكة فيها غير متميزة عنها بوجه من الوجوه، وكان لها الإطلاق المطلق لأنها كانت تقتضي الظهور في مرتبة العلم والعين واللاظهور، وكانت نسبتها إليها على السوية من غير ترجيح أحدهما على الآخر. ولما توجهت إلى الظهور تعلق علمها الذي هو عينها من جميع الوجوه بها، وأحاط بها إحاطة تامة لأنه عينها، وعند ذلك تعينت شؤونها التي كانت مستهلكة فيها غير ممتازة عنها بوجه من الوجوه، وامتازت عنها وعن بعضها في حضرة العلم الذاتي، وكان من جملتها الشأن العلمي، فامتاز العلم عن الذات وعن سائر الصفات في نفسه، وهذا من شرفه، فإنه حكم على كل ما عداه وما حكم عليه إلا نفسه، فله الرتبة العلية والتقدم على سائر الصفات، ولهذا جعله بعض الناس إمام الأئمة، واعترض على الشيخ رضي اللّه عنه في جعله الاسم الحي إمام الأئمة، والذي ظهر لنا أن هذا المعترض ما فهم كلام الشيخ رضي اللّه عنه لأن الشيخ يقول بتقدم العلم على سائر الأسماء من هذه الحيثية التي أشرنا إليها، وبتقدم الاسم الحي من جهة أخرى، ولولا ضيق الوقت لأوضحنا هذا البحث على أحسن الوجوه وسنومىء إليه في بعض رسائلنا إن شاء اللّه تعالى.

ولما أحاط العلم الذاتي بجميع الحقائق وعين مراتبها وميز حقائقها، ولم يشذ عنه الإحاطة بمرتبة وعلم جميع المعلومات على الوجه الكلي والوجه الجزئي بالتفصيل، وما أخذ هذه المعلومات إلا من حقيقته وذاته، لهذا قيل في الذات إنها غنية عن العالمين لأن جميع الحقائق حاضرة عندها مشهودة لها على وجه لا يتصور أبدع ولا أكمل منه، إذ نسبتها إلى جميع الموجودات العينية الزمانية والغير الزمانية والموجودات العلمية نسبة واحدة، وليس للموجودات مطلقا تقدم ولا تأخر بالنسبة

"***"

إليها ولا بالنسبة إلى بعضها أصلا، سواء كان التقدم والتأخر بالزمان أو بالذات وإذا كان الأمر على هذه بالنسبة إليها فمفهوم أوليتها عين مفهوم آخريتها لأن مفهوم الأولية عين مفهوم الآخرية، وإلى هذا أشار الشيخ رضي اللّه عنه بقوله: فأوليته عين آخريته.

ومعناه ما قلنا لا ما يقال من أن المراد أن الأول هو الآخر من جهتين مختلفتين، لأنه لا يسوغ بهذه المرتبة وإنما يسوغ بالوحدانية التي هي منبع الجهات والحيثيات المختلفة والمؤتلفة. وبعد أن علمت ما أشرنا إليه فإن شئت قلت أوليته عين آخريته، وإن شئت قلت لا أولية ولا آخرية. ثم إن الشؤون لما تفصلت وتميزت وكانت ذواتها وحقائقها تقتضي التقدم والتأخر على بعضها، لأن بعضها شأن الذات بلا واسطة، وبعض شأن الذات بواسطة شأن آخر، ولهذا كان بعض الحقائق علة وبعضها معلولا، والعلة أقرب إلى الذات من المعلول، لهذا لما أراد الحق إيجاد الأعيان الخارجية، وكان ذلك بتجليه للأعيان الثابتة، وظهورها فيه ظهور الصور في المرآة كما سبق تقريره، كان أول تجليه للعقل الأول لأنه أقرب المعلولات إليه، فلما وجد العقل الأول الذي هو الحقيقة المحمدية في الخارج، كان ألطف الموجودات وأشرفها وأكملها لأنه ظهر في مرآة الوجود الحق بلا واسطة، فكانت حقيقة العقل كالحجاب على وجود الحق، وكل من ينظر بعده في مرآة الحق فلا يرى إلا صورة العقل، فهو أول الحجب الكونية. ثم إن اللّه جعله مرآة لحقيقة النفس الكلية الثبوتية، فتجلى لها من خلف حجاب العقل، كما تجلى للعقل بلا حجاب، فرأت نفسها في مرآة العقل، فكانت حقيقتها كالحجاب على حقيقة العقل. ثم إن الحق تعالى جعل حقيقة النفس مرآة للطبيعة فتجلى لحقيقتها الثابتة في علمه من خلف حجاب العقل والنفس، فأبصرت الطبيعة نفسها في مرآة النفس، ولما كانت الطبيعة كالحجاب على النفس، تجلى الحق لحقيقة الهباء من خلف هذه الحجب، فظهرت في مرآة الطبيعة، وكذا ظهر الجسم في مرآة الهباء والشكل في مرآة الجسم، ومجموع هذه الأربعة هو العرش، فالعرش ما ظهر إلا في مرآة النفس، وهكذا مجموع السلسلة. وقد ذكرنا كيفية التنزلات في رسالة لنا سميناها بالإنسان الكامل وهي بلسان الفرس.

وإذا علمت ما أشرنا إليه، علمت أن العقل ثوب الحضرة، فهو كالقميص الذي لا حائل بينه وبين جسد الإنسان، والنفس كالجبة التي تكون فوق القميص، والطبيعة جبة أخرى وهكذا حتى الإنسان وهو الثوب الواسع الذي تضمن جميع الثياب ولبسها. فالحق سبحانه لما نزل من أوج إطلاقه إلى حضيض التقيد، متعينا بحقائق السلسلة لابسا لصورها صورة فوق صورة حتى بلغ إلى غاية التنزل التي هي حقيقة الإنسان، انحجب بنفسه

"***"

من حيث التقيد عن نفسه من حيث الإطلاق، فاشتاق إلى نفسه وأراد رفع الحجب عن حضرة قدسه حتى يتحد المطلق بالمقيد كما كان أول مرة، فأوحى إلى نفسه من حيث تقيده بكيفية رفع الحجب، فأول ما أمر نفسه بالتوحيد الصرف لأنه البداية في التنزل، فينبغي أن يكون هو البداية في الترقي لأن البداية في التنزل نهاية الترقي والنهاية والبداية واحد. ثم أمر نفسه بأنواع من الأعمال والأقوال الواقعة على طبق تنزلاته ونشآته في كل مرتبة، وأمر نفسه الترقي فيها، فكل عمل أو قول ارتقى إليه فقد ارتقى إلى ما يطابقه من نشأته، وهكذا حتى يصل إلى آخرها في الترقي وأولها في التنزل وهو العقل الأول، وكل نشأة يرتقي عنها تنقص من نشأته الجامعة حتى ينعدم بالكلية، حينئذ يبقى من لم يزل ويفنى من لم يكن. مثاله الإنسان إذا وصل إلى حيوانيته، فقد ارتقى عن إنسانيته وترك جزء نشأته وهو الناطق، وإذا وصل إلى نباتيته فقد ترك حوانيته وهي جزء نشأته، وإذا وصل إلى معدنيته فقد ترك نباتيته وهي جزء نشأته، وهكذا إلى آخر النشآت. وإلى هذا أشار الشيخ رضي اللّه عنه بقوله شعر:

وإذا أردت تعرفا بوجوده * قسمت ما عندي على الغرماء

وعدمت من عيني فكان وجوده * فظهوره وقف على إخفائي

مطلب في أن التكاليف الشرعية مطابقة لحقيقة الإنسان مطابقة النعل بالنعل

ومن علم ما نبهنا عليه علم أن التكاليف الشرعية مطابقة لحقيقة الإنسان مطابقة النعل بالنعل، وعلم أن من يدّعي العلم بالحقائق ولا يقول بالتكاليف الشرعية على الوجه المفهوم من ظاهرها ويؤول ذلك ويصرفه إلى أمور باطنة من أجهل الخلق بالحق وبنفسه، ومن رقى في الأقوال والأعمال والاعتقادات الشرعية حتى وصل إلى الحق سبحانه، فقد رجع من الطريق التي جاء منها. قال الشيخ رضي اللّه عنه من باب الإشارة: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [ المائدة: الآية 48 ]

وهو عين ما قلناه، وما رأيت من نبه على هذا السر غير الشيخ رضي اللّه عنه، إلا الحكيم الرباني والعالم الصمداني، الذي أخذ العلم من الرسل واطلع على حقيقة السبل، أستاذ الحكماء فيثاغورس رحمه اللّه رحمة واسعة حيث قال: إن النفس الإنسانية بل جميع الموجودات تأليفات عددية أو لحنية، ولهذا تلتذ النفس عند سماع التأليفات اللحنية المطابقة نشأتها، والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكاة وسائر العبادات إنما هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية.

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!