موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


مقدمة

اعلم نوّر اللّه بصيرتك أن الممكن هو الذي لا يقتضي الوجود ولا العدم لذاته بل لغيره، والواجب هو الذي يقتضي الوجود لذاته ولا يصح أن يكون أزيد من واحد، والمحال هو الذي يقتضي العدم لذاته. فالواجب لا يصح أن يكون عين الممكن ولا عين المحال، والمحال لا يصح أن يكون عين الممكن البتة. هذا لا يقول به من شم رائحة من العلم فكيف يقول به أهل اللّه وخاصته ؟ واعلم أنّا نظرنا في الواجب سبحانه فوجدنا وجوده عينه لأنه لو كان غيره لكان من المحالات أو الممكنات فيلزم من هذا ما لا يقول به إلا معتوه، فعلمنا أنه سبحانه عين الوجود لا غيره، ونظرنا في الممكنات فوجدناها لم تكن ثم كانت فعلمنا أن لعدمها تقدما على وجودها وعلمنا أنه سبحانه كان ولا هي، وساعدنا على ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «كان اللّه ولم يكن معه شيء» «1»، ونظرنا في العدم فوجدناه ما هو بأمر زائد على ذات المعدوم حتى يقوم به كما قامت الصفة بالموصوف، ونظرنا في أنفسنا فوجدناها موجودة، فقلنا نحن كنا قبل هذا من جملة المعدومات ونحن الآن متصفون بالوجود، ومفهوم الوجود واحد لا تعدد فيه وقد صح عندنا أنه عين الواجب، فلا يجوز أن يخلق الواجب مثله حتى يكون قد خلق وجودا وجعله صفة لنا ولو كان فهو واحد منا والكلام فيه مثل الكلام فينا، وإن كان من جملة المعدومات كما يقول به بعض الناس، فلا بد أن يعرض لنا حتى نوجد وإلا فنحن على حالنا في العدم، ولا معنى لعروض معدوم لمعدوم في الخارج، وإن كان عروضه لنا في الذهن لا في الخارج، فنحن على حالنا في الخارج ما شممنا رائحة من الوجود، ولا أثر الفاعل إلا في ذواتنا فذواتنا مجعولة في الخارج والخارج ظرف لها لا لوجودها، ولا يجوز أن ينفصل من الواجب قطعة من الوجود فتقوم بنا، ولا يجوز أن نقوم بالواجب حتى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) العجلوني ( كشف الخفاء، حديث رقم 2009 ) طبعة دار الكتب العلمية.

"***"

يكون محل الحوادث، وقد تقرر عندنا أن وجودنا ما هو من ذواتنا، فمن أين هذا الوجود الذي ندعي أنه صفة لنا، فقيل لنا أنتم من جملة معلومات الواجب فلكم وجود أزلي في علمه لأن الجهل عليه محال، قلنا: فهل لنا وجود خارج عن ذواتنا ؟

قيل: لا، لأن الخارج موهوم صرف، لأنه إن كان من جملة الممكنات الموجودة فالكلام فيه مثل الكلام فينا، وإن كان من جملة الممكنات المعدومة أو المحالات، فمعنى قولكم نحن في الخارج أي نحن في العدم فلا يصح أن يكون عين الواجب، وما ثم أمر رابع. قلنا: فعلى هذا ليس للواجب وجود في الخارج، قيل لنا: أنتم لا تعقلون كنه الواجب حتى تعرفوا كيفية وجوده لأنه ليس بينه وبينكم مناسبة أصلا وقد نهيتم عن التفكر في ذات اللّه، وقد حذركم اللّه نفسه. وكما أن ذاته لا تشبه الذوات فوجوده لا يشبه الوجودات فاشتغلوا بمعرفة أنفسكم ودعوا ما لا تقدرون على معرفته ويكفيكم أن تقولوا إن الواجب موجود بذاته ولا يتوقف وجوده على اعتبار معتبر ولا على تعقل متعقل.

قلنا: فعلى هذا لا وجود لنا إلا في العلم وأما الوجود الخارجي فلم نعقله، قيل لنا: نعم الأمر كما قلتم. قلنا: نحن نشهد الحوادث الزمانية ومعلومات الواجب قديمة، قيل: نعم ما سألتم عنه، اسمعوا وعوا وخذوا جوابكم وزيادة، قد سمعتم اللّه سبحانه وتعالى يقول: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( / ( 82 ) [ يس: الآية 82 ]

فأسند كينونتكم إليكم وما أسند إلى نفسه سوى الأمر خاصة، وهو ما توجه إلا على أعيانكم الموجودة في علمه، لأن الأمر لا يتوجه على العدم الصرف، ولولا أنكم متصفون في علمه بالسمع والعلم والإرادة والقدرة ما أمركم، وإذا ثبتت لكم هذه الصفات في الوجود العلمي شرعا فلا مانع أن تثبت لكم جميع الصفات مثل الشم والذوق واللمس والخيال وأخواتها، بل هو واجب لأنكم ما وجدتم ههنا إلا على طبق ما كنتم عليه في علمه من غير زيادة ولا نقصان، وقد صح عندكم أن صاحب علم السيميا والأوهام إذا أراد أن يظهر أمرا عند شخص ما أمسك ذلك الأمر في خياله وخطف بصر ذلك الشخص بخاصية اسم أو حرف أو كلام أو نور أو بخاصية اكتسبها برياضة مخصوصة ورده إلى خيال ذلك الشخص وقد أظهر بتلك الخاصية ما أمسكه في خيال نفسه في خيال ذلك الشخص فيبصره ذلك الشخص في خياله على وفق ما أمسكه صاحب علم السيميا في خيال نفسه وإن المسحور يرى بعينه ما لا وجود له إلا في خياله وإن النائم يرى بعين خياله ما لا وجود له إلا في خياله وهو لا يشك في تلك الحالة أن لجميع ما يراه حقيقة في نفس الأمر حتى إذا

"***"

استيقظ وغاب عنه ما كان يبصره قال هذا خيال لا حقيقة له وما يدريه أن اليقظة وما يراه فيها مثل ما كان يراه في النوم ؟ فإذا كشف عنه غطاء جسمه واحتد بصره واستيقظ من النوم بالموت علم أن جميع ما كان يراه في عالم الحس في اليقظة بمثابة الرؤيا وأن ما هو عليه بعد الموت هو الأمر المعتبر في نفس الأمر وما يعلم المسكين أنه نائم هناك أيضا فإذا انتبه من ذلك النوم بنفخ إسرافيل في الصور قال: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [ يس: الآية 52 ] . وجزم بأن ما كان عليه في البرزخ من قبيل الرؤيا وما يعلم أنه في الحشر نائم بالنسبة إلى الجنة والنار، كذلك هو في الجنة نائم بالنسبة إلى رؤية الحق سبحانه على الكثيب، فإنه في حالة الرؤية منتبه ولا نوم بعد هذا الانتباه أبدا وهنا سر لطيف فافحص عنه وهو أن الشمس أضعاف الأرض في المقدار وأنتم ترونها على قدر الترس وأنها في كل طرفة عين تقطع مسافة عظيمة والبصر يراها ساكنة، وأن من نظر صورته في مرآة يراها على حسب ما تكون المرآة عليه، وما هذه المدركات معدومة من جميع الوجوه وإلا لم تدرك ولا هي موجودة من جميع الوجوه وإلا لكانت كذلك في نفس الأمر، فلم يبق إلا أن تكون موجودة عند الإدراك لا غير، وصح عندكم أنكم متصفون بجميع الصفات في الوجود العلمي الأزلي. وبعد أن تقررت هذه الأصول فاعلموا أن اللّه سبحانه وتعالى كما خاطبكم وأنتم موجودون في علمه بلا واسطة بقوله الأزلي وكلامه السرمدي، كذلك تجلى لكم وأنتم موجودون في علمه فأبصرتموه ببصركم الثبوتي فظهر لكم بصوركم على اختلافها وتنوعاتها كما يبصر أحدكم الشيء الأبيض مثلا من مسافة بعيدة أسود أو أغبر وهو في نفسه على خلاف ذلك اللون، ولا قام هذا اللون به ولا عرض له ولا تغير ذلك الشيء عما كان عليه، وإنما ظهر هذا اللون في قوة الإدراك بواسطة ذلك الشيء والبعد عنه، فالحق سبحانه لما تجلى لكم وأنتم موجودون في علمه لم تستطع أبصاركم الثبوتية أن تدركه على ما هو عليه لغاية بعده عنكم، فأدركتموه على ما أنتم عليه فما أدركتم إلا نفوسكم، وغاية ما في الباب أن تجليه كان سببا لإدراككم لأنفسكم لأنكم قبل هذا التجلي كنتم في ظلمة العدم بالنسبة إلى نفوسكم لا بالنسبة إلى الحق، فلما تجلى لكم اللّه الذي هو نور السماوات والأرض نفّر تلك الظلمة فشهدتم نفوسكم على ما هي عليه في حضرة العلم الأزلي، فكان ذلك الشهود تجلي عين وجودكم الخارجي، ولا معنى للوجود الخارجي إلا هذا، ولا تنكروا قولنا إن الحق تجلى لكم وأنتم موجودون في علمه فأبصرتموه لأن نفس التجلي والرؤية ممكن عقلا وشرعا وكشفا لأن الرؤية في الآخرة لا شك فيها وقد

"***"

شهد القرآن أن اللّه تعالى تجلى للجبل «1» وليس في الكتاب والسنة ما يحيل ذلك أصلا، وغايتكم إن جئتم بأمر يمنعه أن يكون بالنسبة إلى الدار الدنيا، وإذا أمكنت الرؤيا في الجنة لسائر أهلها فلا مانع لإمكان ذلك في الحضرة العلمية، ونحن موجودون فيها متصفون بالسمع والبصر. ولعل الرؤية الواقعة في الدار الآخرة فرع هذه الرؤية فاعلم ذلك وانظر إلى ما قلته بعين الإنصاف ودع عنك العداوة والغضب والتعصب فإنها تعمى عين الإدراك: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [ طه: الآية 114 ] ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [ يوسف: الآية 76 ] . فلا تك ممن طيشته دروسه * بحيث استقلت عقله واستفزت

فثم وراء النقل علم يدق عن * مدارك غايات العقول السليمةوإذا علمتم هذا علمتم أنكم صور مشهودة في مرآة الوجود الحق وأنه ما وقع إدراككم إلا على أنفسكم وأنتم في حضرة العلم، فما استفدتم إلا علما بكم لم تكونوا تعلمونه، لا حالة لم تكونوا عليها. فصل

من أدرك ما أشرنا إليه آنفا من وجود الممكنات علم أن اللّه سبحانه وتعالى عالم بالجزئيات على الوجه الكلي والجزئي معا، وخلص من هذيانات الفلاسفة في هذا المبحث ولم يحتج أن يقول بحدوث التعلق لأنه لا طائل تحته كما لا يخفى عن التدبر، ولا إلى أن يلتزم ما قيل من أن العلم بأن الشيء سيوجد وموجود ووجد واحد لأنه لا محصل له، والبديهة تحكم بخلافه، وقد أشار الشيخ رضي اللّه عنه إلى ما ذكرناه بقوله: وأما انتقالات العلوم الإلهية فهو الاسترسال الذي ذهب إليه أبو المعالي إمام الحرمين والتعلقات التي ذهب إليها عمر بن الخطيب الرازي. وأما أهل القدم الراسخة من أهل طريقتنا فلا يقولون هنا بالانتقالات، فإن الأشياء عند الحق مشهودة معلومة الأعيان والأحوال على صورها التي تكون عليها، ومنها إذا وجدت أعيانها إلى ما لا يتناهى فلا يحدث تعلق على مذهب ابن الخطيب فلا يكون استرسال على مذهب الإمام أبي المعالي إمام الحرمين رحمه اللّه رحمة واسعة، والدليل العقلي الصحيح يعطي ما ذهبنا إليه. وهذا الذي ذكره أهل اللّه ووافقناهم عليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) يشير الإمام الجيلي إلى قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [ الأعراف: الآية 143 ] .

"***"

يعطيه الكشف من المقام الذي وراء طور العقل فصدق الجميع وكل قوة أعطت بحسبها، فإذا أوجد اللّه الأعيان فإنما أوجدها لها لا له وهي على حالتها بأماكنها وأزمانها على اختلاف أمكنتها وأزمنتها فيكشف لها عن أعيانها وأحوالها شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى على التتالي والتتابع فالأمر بالنسبة إلى اللّه تعالى واحد كما قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [ القمر: الآية 50 ] .

والكثرة في نفس المعدودات، وهذا الأمر قد حصل لنا في وقت فلم يختل علينا فيه شيء فكان الأمر في الكثرة واحدا عندنا ما غاب ولا زال، وهكذا يشهده كل من ذاق هذا، فهم في المثال كشخص واحد له أحوال مختلفة، وقد صورت له صورة في كل حال يكون عليه، هكذا كل شخص وجعل بينك وبين هذه الصور حجابا، فكشف لك عنها وأنت من جملة من لك فيها صورة فأدركت جميع ما فيها عند رفع الحجاب بالنظرة الواحدة، فالحق سبحانه وتعالى ما عدل بها عن صورها في ذلك الطبق بل كشف لها عنها وألبسها حالة الوجود لها فعاينت نفسها على ما تكون عليه أبدا، وليس في حق نظرة الحق زمان ماض ولا مستقبل بل الأمور كلها معلومة له في مراتبها بتعداد صورها في مراتبها التي لا تتصف بالتناهي ولا تنحصر ولا حد لها تقف عنده، فهكذا هو إدراك الحق للعالم ولجميع الممكنات في حال عدمها ووجودها، فعليها تفرعت الأحوال في خيالها لا في علمها فاستفادت من كشفها لذلك علما لم يكن عندها، لا حالة لم تكن عليها، فتحقق فإنها مسألة دقيقة خفية تتعلق بسر القدر القليل من أصحابنا من يعثر عليها، وقد صدق رضي اللّه عنه فإن جماعة كثيرة من القائلين بوحدة الوجود أجمعوا على أن الأشياء موجودة في الخارج كما هو مذهب النظار، غير أنهم قالوا هي موجودة بوجود واحد هو الحق سبحانه، لا أنها موجودة بوجود زائد على الوجود الحق سبحانه وليس هذا مذهب الكمل أصحاب الكشف التام، وما صدرت هذه المقالات إلا من جماعة مزجت الحكمة بكلام أهل اللّه وأخذت أقوالهم على حسب ما استحسنته أفكارهم، وأنت تعلم إن كنت من أرباب القلوب أن اللّه كان ولا شيء معه وأنه لا وجود للممكنات في تلك المرتبة إلا في الحضرة العلمية لا غير، وهي بهذا الاعتبار قديمة بأسرها لأن الجهل محال على اللّه، وأنه لا يحدث في علم اللّه ما لم يكن فيه وأن علمه عين ذاته وعين معلومه في الخارج، ولا امتياز لهذه الثلاثة عن بعضها إلا في التعقل، فمن هو هذا الذي يعرض لوجود الحق فيوجد في الخارج به وما ثم إلا الذات، والمعلومات المتحدة بها لا تعرض لها في الخارج لأنها عينها فيه، ولا في علم الباري، ولو كان لما صح إلا في الدائمات لأنه قد تقرر أن

"***"

معلومات الباري قديمة بأسرها، ومع هذا فإن الشيخ رضي اللّه عنه لا يقول بقدم فرد من أفراد العالم أصلا وما ثم غير الحق حتى يكون هذا العروض في علمه، ولو كان على طريق فرض المحال لما أفاد العروض في علمه إلا وجود الأشياء في علمه لا في الخارج، والأشياء ما عرضت للذات في الخارج ولا في علم اللّه، فتعلق علم هذا الغير بالعروض خلاف الواقع، والقول المطابق للواقع هو ما أوردناه من كلام الشيخ في ذلك بعبارتنا وعبارته الشريفة من أن الأشياء لا وجود لها في غير العلم القديم وإن وجودها الحادث إنما هو بالنسبة إلى شعورها بما هي عليه في علم باريها على التتالي إلى غير نهاية دنيا وآخرة، وعلى هذا فما حدث إلا الشعور لا غير وأما ماهيات الممكنات فما حدثت أصلا لأنها قديمة في العلم وما شمت رائحة من الوجود الخارجي أصلا، ومن هنا تعلم قول الشيخ رضي اللّه عنه أنه لم يحدث للّه صفة ولا نسبة من إيجاده العالم لم يكن عليها، ويعضد ذلك قول الشيخ رضي اللّه عنه في التخلي، التخلي عند القوم اختيار الخلوة والإعراض عن كل ما يشغل عن الحق، وعندنا التخلي عن الوجود المستفاد لأنه في الاعتقاد هكذا وقع، وفي نفس الأمر ليس إلا وجود الحق والموصوف باستفادة الوجود، هو على أصله ما انتقل من إمكانه فحكمه باق وعينه ثابتة والحق شاهد ومشهود، فإنه تعالى لا يصح أن يقسم بما ليس هو لأن المقسم به هو الذي تنبغي له العظمة، فما أقسم بشيء ليس هو وقد ذكرنا ذلك في باب النفس بفتح الفاء، فمما أقسم بهوَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ( 3 ) [ البروج:

الآية 3 ] . فهو الشاهد والمشهود وهو ما استفاد الوجود بل هو الوجود فإن قلت: فمن هذا الذي جهل الأمر حتى تعلمه ولا يقبل الإعلام إلا موجود قلنا: الجواب عليك من نفس اعتقادك فإنك المؤمن بأنه تعالى قال: للشيء كن فما خاطب إلا من يسمع ولا وجود له عندك في حال الخطاب فقد أسمع من لا وجود له فهو الذي نعلمه ما ليس عنده فيعلمه وهو في حال عدمه يقبل التعليم كما سمع الخطاب عندك فقبل التكوين وما هو عندنا قبوله للتكوين كما هو عندك وإنما قبوله للتكوين أن يكون مظهرا للحق فهذا معنى يكن لا أنه استفاد وجودا إنما استفاد حكم المظهرية، فيقبل التعليم كما قبل السماع لا فرق، ولقد نبهتك على أمر عظيم إن عقلته فهو عين كل شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه وتعالى بل هو هو والإشياء أشياء، فبعض المظاهر لما رأت حكمها في الظاهر تخيلت أن أعيانها اتصفت بالوجود فلما علمنا أن ثم في الأعيان الممكنات من هو بهذه المثابة من الجهل بالأمر تعين علينا من كوننا على حالنا في العدم مع ثبوتنا أن نعلم من لا يعلم من أمثالنا ما

"***"

هو الأمر عليه ولا سيما وقد اتصفنا بأنا مظهر فتمكنا بهذه النسبة من الإعلام لمن لا يعلم فأفدناه ما لم يكن عنده فقبله، فأعلمناه أنه ما استفاد وجودا بكونه مظهرا فتخلى عن هذا الاعتقاد لا عن الوجود المستفاد لأنه ليس ثم.

وقوله رضي اللّه عنه عند مخاطبته للنبي صلى اللّه عليه وسلم في مكاشفة قلبية: فلما أنشأ العالم على غاية الإتقان ولم يبق أبدع وجه كما قال الإمام أبو حامد في الإمكان «1» [ وأبرز ] «2» جسدك صلى اللّه عليك للعيان أخبر عنك الراوي أنك قلت يوما في مجلسك أن اللّه كان ولا شيء معه وهو على ما عليه كان وهكذا هي صلى اللّه عليك حقائق الأكوان فما زادت هذه الحقيقة على هذه الحقائق إلا بكونها سابقة وهن لواحق إذ من ليس مع شيء فليس معه شيء، ولو خرجت الحقائق على غير ما كانت عليه في العلم لامتازت عن الحقيقة المنزهة بهذا الحكم، فالحقائق الآن في الحكم على ما كانت عليه في العلم فلنقل كانت ولا شيء معها في وجودها وهي الآن على ما كانت عليه في علم معبودها، فقد شمل هذا الخبر الذي أطلق على الحق جميع الخلق، ولا تعترض بتعدد الأسباب والمسببات فإنه ترد عليك بوجود الأسماء التي للحق والصفات وأن المعاني التي تدل عليها مختلفات، فلو لا ما بين البداية والنهاية سبب رابط ونسب صحيح ضابط ما عرف كل واحد منهما بالآخر، ولا قيل على حكم الأول يأتي الآخر وليس إلا الرب والعبد وكفى، وفي هذا غنية لمن أراد معرفة نفسه في الوجود وشفا.

وقوله رضي اللّه عنه في باب الغربة عن الأوطان: وأما العارفون المكملون فليس عندهم غربة أصلا فإنهم أعيان ثابتة في أماكنهم لم يبرحوا.

ولما كان الحق مرآة لهم ظهرت صورهم فيه ظهور الصور في المرآة فما هي تلك الصور أعيانهم لكونهم يظهرون بحكم صور المرائي، ولا تلك الصور عين المرآة لأن المرآة ما في ذاتها تفصيل ما ظهر فيهم وأما هم فما اغتربوا وإنما هم أهل شهود فوجود، وإنما أضيف إليهم الوجود من أجل حدوث الأحكام، إذ لا تظهر إلا من موجود، فمرتبة الغربة ليست من منازل الرجال فهي منزلة دنية ينزلها المريدون والمتوسطون، وأما الأكابر فما يرون أنه اغترب شيء عن موطنه بل الواجب واجب والممكن ممكن والمحال محال، فتعين وطن كل مستوطن، ولو قامت غربة بهم لا نقلبت الحقائق

"***"

وعاد الواجب ممكنا والممكن واجبا والمحال ممكنا وليس الأمر كذلك، فالغربة عند العلماء بالحقائق في هذا المقام غير موجودة ولا واقعة. فصل

لا شك أنك إذا فهمت ما أوردناه من كلام الشيخ رضي اللّه عنه وأسلفناه من كلامنا علمت أن الممكنات ما برحت من الحضرة العلمية وإنما ظهرت صورها في مرآة الوجود الحق فتلك الصور الظاهرة في مرآة الوجود لا وجود لها إلا في شعور الأعيان الثابتة بل هي هي، ألا تراك إذا أبصرت صورتك في المرآة تتخيل أنه قد وجد في المرآة صورة تماثلك، وإذا دققت النظر علمت أنه الشعاع لما خرج من الباصرة واتصل بالمرآة الصقيلة انعكس لصلابتها إلى الناظر فأبصر نفسه في مكانه، لا أنه أبصر نفسه في المرآة بل المرآة كانت سبب إبصاره لنفسه في مكانه وعلى حالته التي هو عليها، ولهذا إذا بعد الناظر عن المرآة يرى صورته تبعد في داخل المرآة بقدر ما بعد عنها، فالناظر هو الموجود العلمي والمرآة هو الحق سبحانه وتعالى، والشعاع الخارج من الباصرة إلى المرآة المنعكس إليه لكثافتها هو الإدراك الثبوتي الذي صح به توجه الأمر على الموجود العلمي، الذي كان في ظلمة العدم عند نفسه لا عند الحق، فإنه بالنسبة إلى الحق موجود وهذا معنى قول الشيخ رضي اللّه عنه إن الحق أوجد الأشياء لأنفسها لا له. مطلب في بيان أن الموجود العلمي إنما اتّصف بالإدراك في حضرة العلم لأنه عين الذات

اعلم أن الموجود العلمي إنما اتّصف بالإدراك في حضرة العلم لأنه عين الذات العالمة المتصفة بالسمع والبصر والإرادة والقدرة، فهو عالم بعلمها سميع بسمعها بصير ببصرها مريد بإرادتها قدير بقدرتها، غير أن ظهور هذه الصفات فيه يخالف ظهورها في الذات لأنه مقيد، فلا يظهر فيه إلا ما يماثله، وهي مطلقة فلا يظهر فيها إلا المطلق. ولما أراد الحق سبحانه إيجاد الأشياء في العين ظهرت إرادته في ذوات الأعيان الثابتة من حيث إنها عينه، فأرادت وجود أعيانها، فلجأت إلى الأسماء التي هي أربابها وطلبت منها إيجاد أعيانها، فلجأت الأسماء إلى الذات فجادت بما أرادوه منها. وهذا كما تقول سمع اللّه مني وأبصر مني وأراد مني، وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: لما شاء الحق من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها. فإن الأسماء الحسنى هي التي شاءت وجود العالم بمشيئة الحق لأنه كل اسم

"***"

من الأسماء ينعت بجميع الأسماء، كما أشار إليه ابن قسيّ وصرح به الشيخ رضي اللّه عنه. ولما جادت الذات بما طلبته الأسماء وتجلت من الاسم النور للأعيان الثابتة، أبصرت الأعيان الثابتة ذواتها في مرآة الحق كما يبصر الناظر صورته في المرآة، فتخيلت أنها وجدت في المرآة، وإنما يظهر في المرآة غير ما هو في العلم، فهو موجود آخر غير الموجود العلمي حدث عند هذا التجلي وعرض لذات الحق في الخارج جلّ جناب الحق عن ذلك، وما علمت أنه تعالى لما تجلى لها وهي موجودة في علمه لم تستطع إدراكاتها التي هي بمنزلة الشعاع للأبصار أن تنفذ في هذه المرآة تعالت عن ذلك فانعكست إلى ما صدرت عنه كما ينعكس الشعاع من المرآة إلى الناظر فأدركت نفسها في حضرة العلم كما يدرك الناظر نفسه خارج المرآة، وهو يتخيل أنه أدركها في المرآة وليس صورته في المرآة أصلا فما أدركت الأعيان الثابتة عند تجلي الحق إلا أنفسها وذواتها المعدومة، وإذا صح أنه ما أدرك مدرك إلا ما هو معدوم صح أن الوجود الذي يدرك أولا عند إدراك الأشياء هو اللّه سبحانه الذي هو مرآة ظهرت بها لا فيها الأشياء،

وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: فما ترى عين ذي عين سوى عدم * فصح أن الوجود المدرك اللّهولما كان إدراكنا للوجود الحق إنما هو ببصر الحق كما أشرنا إليه آنفا قال رضي اللّه عنه: فلا يرى اللّه إلا اللّه فاعتبروا قولي ليعلم منحاه ومعناه. ثم إنا إذا أدركنا الوجود أولا عند إدراكنا الأشياء فإنما ندركه في آن واحد ثم ينتقل الإدراك إلى ذلك الشيء، فإذا انتقل فلا يدرك إلا هو، وذلك لأن الذي الآن تدرك فيه الوجود هو وصول الشعاع إلى المرآة، ثم إذا انعكس إلى الصورة لم يمكن إبصار جرم المرآة أصلا، ولا يرى إلا الصورة لأن الشعاع قد انعكس إليها، وغير أهل الكشف من حذّاق النظّار إذا اطّلعوا أنه أول ما يدرك من الشيء وجوده فإذا أدركوا الأشياء فأول ما يدركون وجوداتها، ولا يدوم لهم هذا الإدراك بل يمر بهم مثل البرق، فإذا انقضت بقية صورته في أذهانهم فيتخيلون أنهم باقون على إدراكه ولا علم لهم أن ما أدركوه في الزمان الثاني ليس ما أدركوه في الزمان الأول، وإنما هو صورته التي هي في أذهانهم، بل إنما هو وجود آخر لأن الإدراك الأول غير الإدراك الثاني لأن الزمان الأول غير الزمان الثاني، ووجود الأشياء تابع للإدراك كما سبق، وإليه أشار الشيخ رضي اللّه عنه بقوله: اعلم أن النور المنبسط على الأرض الذي في شعاع الشمس الساري في الهواء ليس له حقيقة وجودية إلا بنور البصر المدرك لذلك، فإذا اجتمعت العينان عين الشمس وعين البصر استنارت المبصرات وقيل قد انبسطت الشمس

"***"

عليها، ولهذا يزول ذلك الإشراق بوجود السحاب لأن العين فارقت مشاهدة العين الأخرى بوجود السحاب، وهي مسألة في غاية الغموض لأني أقول لو أن الشمس في جو السماء وما في العالم عين تبصر من حيوان ما كان لها شعاع منبسط في الأرض أصلا، فإن نور كل مخلوق مقصور على ذاته لا يستنير به غيره، فوجود أبصارنا ووجود الشمس معا أظهر النور المنبسط، ألا ترى الألوان تنقلب في الجسم الواحد الملون بالخضرة مثلا أو الحمرة إذا اختلفت منك كيفيات النظر إليه من الاستقامات والانحرافات كيف يعطيك ألوانا محسوسة تدركها ببصرك ولا وجود لها في الجسم المنظور إليه، ولا تقدر تنكر ذلك ولا سيما إذا كان الجسم المنظور في الشمس، فقد أدركت ما لا وجود له حقيقة بل نسبة، كذلك النور المنبسط على الأرض، وكتقلب الحرباء في لون ما هي عليه من الأجسام على التدريج شيئا بعد شيء، ما هي كالمرآة تقبل الصورة بسرعة ولا هي جسم صقيل، وإدراك تقلبها في الألوان محسوس مع علمك بأن تلك الألوان لا وجود لها في أعيانها، وهذا الذي أشار إليه الشيخ رضي اللّه عنه لا يختص بنور الشمس لأنه سار في جميع المدركات، وإنما خص نور الشمس بالذكر لأنه كان في صدد بيان التجلي الشمسي الذي هو عبارة عن التجلي الذاتي، وعلى هذا لا وجود للعالم إلا في الإدراك وذلك من قبيل الأغاليط الحسية. قال الشيخ رضي اللّه عنه: فإن أردت أن تعرف صورة نشىء العالم وظهوره وسرعة نفوذ الأمر الإلهي فيه وما أدركته الأبصار والبصائر منه، فانظر إلى ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجمرة النار في يد المحرك لها إذا أدارها فتحدث في عين الرائي دائرة أو خطّا مستطيلا إن أخذ بالحركة طولا أو أي شكل شاء، ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار ولا تشك أنه ما ثم دائرة، وإنما أنشأ ذلك في نظرك سرعة الحركة وهو قوله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 ) [ القمر: الآية 50 ]

فإدراك الدائرة وما هي دائرة فذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة للعين، فتحكم من حيث نظرك ببصرك وبصيرتك وفكرك أنه خلق، وبعلمك وكشفك أنه حق مخلوق به ما ظهر لعينك مما ليس هو، فهذا عدم في عين وجود، فانظر ما ألطف هذا الإدراك مع كون الحدث محلّا لظهوره على تقييده وكثافته وقصوره، فما ظنك بما هو الأمر عليه بالنسبة إلى جناب الحق، فسبحان من يكلم نفسه بنفسه في أعيان خلقه، كما قال: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [ التّوبة: الآية 6 ] فإن اللّه قال على لسان عبده: سمع اللّه لمن حمده. فهو المتكلم والقائم لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

"***"

حقّق يا أخي نظرك في سرعة البرق إذا برق فإنّ برق البرق إذا برق كان سببا لانصباغ الهواء به وانصباغ الهواء سببا لظهور أعيان المحسوسات به وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها، والزمان في ذلك واحد مع تعقلك تقدم كل سبب على مسببه، فزمان إضاءة البرق عين زمان انصباغ الهواء به، عين زمان ظهور المحسوسات به، عين زمان إدراك الأبصار لما ظهر منها، فسبحان من ضرب الأمثال ونصب الأشكال ليقول القائل ثمّ وما ثم فوعزة من له العزة والجلال والكبرياء ما ثمّ إلا اللّه الواجب الوجود الواحد بذاته الكثير بأسمائه وأحكامه القادر على المحال، فكيف الإمكان والممكن وهما من حكمه، فو اللّه ما هو إلا اللّه فمنه وإليه يرجع الأمر كله.

انتهى كلام الشيخ رضي اللّه عنه: فإن قلت قد تحققت أن مذهب الشيخ رضي اللّه عنه هو أن الممكنات ما شمت رائحة من الوجود، وأنها على حالها في الحضرة العلمية، وأنّ وجودها العيني عبارة عن ظهورها لها وشعورها بذواتها وأحوالها ولوازمها، وما هي عليه في حضرة علم معبودها، ولا يلزم من هذا كونها في الخارج، وأنت قد صرحت أنّ معلومات اللّه قديمة بأسرها وأنه تعالى يعلم جميع المعلومات على الوجه الكلي والجزئي، فما قولك في ظهور الممكنات الثابتة في العالم القديم لأنفسها ؟ هل علم الباري متعلق به أم لا ؟

فإن لم يكن فما صح قولك أنه تعالى يعلم جميع الأشياء بأسرها ؟

وإن تعلق فإن كان تعلقه قديما فيلزم قدم جميع الموجودات العينية وأنت لا تقول بذلك، والبديهة تحكم بحدوث الزمانيات. وإن لم يكن فقد حدثت بعض معلومات اللّه وأنت لا تقول بذلك. قلت: هذا السؤال ما صدر إلا عن عاقل عديم الكشف تكلم من مقام العقل ولا قدم له في المقام الذي وراء طور العقل.

والجواب الذي يقبله مثل هذا الرجل لا أقدر عليه لأن الجواب عن هذا السؤال من طريق العقل العادي لا يتصور وأما صاحب العقل الفطري فلا يتصور منه هذا السؤال لأنه قد خرج من جب الزمان ووصل إلى مصر الملأ الأعلى وحبسته زليخا الذات في سجن الأسماء سبعة أعوام، وهي عبارة عن الصفات الذاتية، فلما أخرجه الملك التي هو الآله من ذلك السجن وأصطفاه لنفسه واستخلفه على خزائن الأرض التي هي عبارة عن أرض الإمكان لأنه على صورة الملك فإنه حفيظ عليم.

نظر الوجود فكان تحت فعاله * من مستواه إلى قرار الماء

ما فوقه من غاية يعنو لها * إلا وفيه مصرف الأشياء

"***"

وعلم عند ذلك أن أمر اللّه واحدة كمثل لمح بالبصر «1» واطلع على حقيقة الزمان، فإنه من أغمض المعلومات. حكى الشيخ رضي اللّه عنه عن الجوهري أنه ذكر عن نفسه أنه خرج بالعجين من بيته إلى الفرن وكانت عليه جنابة، فجاء إلى شط النيل ليغتسل فرأى وهو في الماء كأنه في بغداد وقد تزوج وأقام مع امرأته ست سنين وأولدها أولادا غاب عني عددهم، ثم رد إلى نفسه وهو في الماء ففرغ من غسله وخرج ولبس ثيابه وجاء إلى الفرن فأخذ الخبز وجاء إلى بيته وأخبر أهله بما أبصره في واقعته، فلما كان بعد أشهر جاءت تلك المرأة التي رأى أنه تزوجها في الواقعة تسأل عن داره، فلما اجتمعت به عرفها وعرف الأولاد وما أنكرهم، وقيل لها متى تزوج بك ؟ قالت: منذ ست سنين وهؤلاء أولاده مني انتهى. وأعجب من هذه القصة أمر الساعة فإنه كلمح البصر، أو هو أقرب مع كثرة الخلائق وطول حسابهم ووقوفهم في المواقف خمسين ألف سنة مما تعدون، فإن زمان وصول الساعة كلمح البصر أو هو أقرب، وعين وصولها عين حكمها وعين حكمها عين نفوذ المحكم في المحكوم عليهم وعين نفوذه عين تمامه وعين تمامه عين عمارة الدارين فريق في الجنة وفريق في السعير. وحكى الشيخ عن أبي القاسم بن قسيّ رضي اللّه عنهما أنه قال في قوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ الأعراف: الآية 29 ] إن اللّه إذا أراد حشر الناس في القيامة الكبرى خلق آدم من تراب كما خلقه أول مرة وأخرج زوجه من ضلعه القصيرى، فإذا تم خلقهما تناكحا فولدت حواء ما كانت ولدته أول مرة وتناكحت الأولاد وأولاد الأولاد إلى آخر مولود كما كان أول مرة على التدريج والتتالي من غير زيادة ولا نقصان، وهذا كله في آن واحد مع أنه كان في المرة الأولى في آلاف من السنين، وهذه أمور لا يدركها العقل ولا يذوقها ولا تسعها العبارة ولا تصل إليها الإشارة، ومن خرج من مطمورة الزمان وذاق قوله صلى اللّه عليه وسلم: «كان اللّه ولا شيء معه» «2» وهو الآن على ما عليه كان هان عليه الاطّلاع على هذه الأسرار والإبصار في الليل والنهار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) يشير إلى قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 ) [ القمر: الآية 50 ] .

( 2 ) العجلوني ( كشف الخفاء 2 / 129 حديث رقم ( 2009 ) ) وعزاه إلى ابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة، وقال القاري: ثابت. والزبيدي ( اتحاف السادة المتقين 2 / 94 ). ورواه البخاري في صحيحه بلفظ: كان اللّه ولم يكن شيء غيره». وبلفظ: «كان اللّه ولم يكن شيء قبله». صحيح البخاري بدء الخلق، باب ما جاء في قول اللّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. . . [ الروم: الآية 27 ] حديث رقم ( 3198 ) وكتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، حديث رقم ( 7418 ).

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!