موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


مطلب في بيان كيفية تلقّي العلوم من اللّه

وتعلم بعد هذا كيفية تلقّي العلوم الإلهية من الله تعالى، وما ينبغي أن يكون عليه المتلقي من الاستعداد، فاعلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذاته، ولما كانت ذاته متحركة حركة دورية وضعية ظهرت الزيادة والنقصان فيها بالنسبة إلينا، فبقدر ما ينقص من النور من وجهه البدري يزيد في الوجه الآخر، وبقدر ما يزيد فيه ينقص منه من الطرف الآخر ويقوم مقام ما نقص من الوجه البدري هذا لا شك فيه عند من فكر في خلق السماوات والأرض، فكلما نقص من وجهه الظاهر أعني الوجه البدري أخذه الوجه الباطن أعني الوجه الممحوق على ميزان مخصوص لا ينخرم أصلا، وهكذا الليل والنهار وهما الظاهر والباطن فبقدر ما ينقص من الليل يزداد في النهار وبقدر ما ينقص في النهار يزداد في الليل على نسبة واحدة لا تنخرم أبدا، واليوم الذي هو مجموع الليل والنهار ما زاد ولا نقص وهكذا في المقادير فإنك إذا أخذت شمعة ومددتها فبقدر ما يزداد في طولها ينقص من عرضها، وبقدر ما ينقص من طولها إذا بسطتها يزداد في عرضها على نسبة واحدة، والمقدار هو بعينه ما زاد ولا نقص فسبحان من جعل العالم علامة عليه لأنه خلقه على صورته، هذا في الكمال الذاتي، وأما الكمال الصفاتي فإن كماله بوجود النقص فلو لا النقص ما صح الكمال للكمال، وإليه أشار الشيخ رضي اللّه تعالى عنه بقوله:

شعروإني لأهوى النقص من أجل من أهوى * لأن به كان الكمال لمن يدري

وما جاء بالنقصان إلا مخافة * من العين مثل البدر في آخر الشهر

وما نقص البدر الذي تصرونه * ولكنه بدر لمن غاص في الفكر

يراه تماما كاملا في ضيائه * على أكمل الحالات في البطن والظهر

فلو لم يكن في الكون نقص محقق * لكان وجود الحق ينقص في القدر

فبي كان للحق الإله كماله * مع النقص فانظر ما تضمنه شعريمطلب في بيان كيفية تلقّي العلوم من اللّه وما ينبغي للمتلقّي أن يكون عليه من الاستعداد وآداب الأخذ والعطاء والقبض والبسط وكيف يحفظ القلب من الهلاك المحرق وأن الطرق كلها مستديرة وما ثم طريق خطي ( وتعلم بعد هذا كيفية تلقي العلوم الإلهية من اللّه تعالى وما ينبغي أن يكون عليه المتلقي من الاستعدادات ) هل ينبغي أن يكون المتلقي في حالة التلقي متوجها إلى

"***"

ومن آداب الأخذ والعطاء والقبض والبسط، وكيف يحفظ القلب، الذي هو مورد الأحوال من الهلاك المحرق، وأن الطرق كلها مستديرة، وما ثم طريق خطي، وغير ذلك مما تضيق هذه الرسالة عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اللّه تعالى معرضا عن غيره فلا يتوجه إلى ما يتلقاه، وذلك سوء أدب من وجه، أو ينبغي أن يتوجه إلى ما يتلقاه فقط وهو سوء أدب أيضا، أو يتوجه إليهما والحال أنه لا يمكن التوجه إلى اللّه تعالى حالة التوجه إلى غيره وهذا مقام حيرة ( فاعلم ) أنه ينبغي للمتلقي أن يتوجه إلى ما يلقى إليه من حيث أنه مظهر من مظاهر الحق، وهو غاية الأدب لأنه ما توجه إلى الحق فقط حتى يفوته ما هو المقصود من الإلقاء، فإن اللّه تعالى يريد من العبد حالة الإلقاء أن يعلم ما يلقى إليه وما يراد منه، فيبادر إليه من غير تثبط ولا إلى غيره فيكون من المطرودين، ولا إليهما بوجه لا يصح.

( ومن ) هنا تعلم ( آداب الأخذ ) من غير اللّه ( والعطاء ) لغيره ما هي وهل ينبغي للمعطي أن يعطي بيد اللّه أو بيد نفسه والأول هو الأولى وهكذا الأخذ ( و ) تعلم آداب ( القبض والبسط ) هل ينبغي أن تتوجه بالقبض إلى الجلال وبالبسط إلى الجمال أو بالعكس وقد مرّ تحقيق ذلك فيما نلقناه من كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه ( و ) تعلم ( كيف ) ينبغي أن ( يحفظ القلب الذي هو مورد الأحوال من الهلاك المحرق ) الذي يفسد عينه وهو ملاحظة الأغيار وملاحظة الأسباب والعلل وعدم شهود وجه الحق فيها، هل ينبغي أن يحفظ بالإعراض عنها فقط ؟ أو بالتوجه إلى اللّه فقط أو بهما، والثاني هو الأولى والأول حرمان ( و ) تعلم ( أن الطرق كلها مستديرة ) سواء كانت حقية أو خلقية ( و ) أنه ( ما ثم طريق خطي ) مستقيم لا ميل فيه ( وغير ذلك مما تضيق هذه الرسالة عنه ).

اعلم رحمك اللّه تعالى أن الطائفة تقول الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق، وهذا الكلام دقيق في غاية الغموض، وما رأيت من يتفطن له والذي ظهر لي من بركة التوجه نحو أنفاس الشيخ رضي اللّه تعالى عنه التي تهب من توجه إليها سر الربوبية هو أن إيجاد العالم مستند إلى العالم من حيث القبول وإلى اللّه من حيث التأثير، فإنه أعني العالم لولا ما هو قابل وممكن ما أثرت فيه القدرة، لأنها لا تنفذ في الممتنعات وهي التي لا تقبل التأثير، فالعلة التامة لوجود العالم إنما هي مجموع التأثير والتأثر وهو نفس الإمكان، والإمكان أمر موهوم لأن الماهيات إما معدومة أو موجودة ولا واسطة وصلاحية العالم لقبول التأثير غير مجعولة فهي قديمة فما كان

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العالم لا يقبل التأثير فيكون من الممتنعات ثم قبله حتى يلزم من ذلك انقلاب الحقائق، وإذا كان الأمر على هذا فالعالم قديم أعني في علم القديم سبحانه فإني لا أقول بقدم فرد من أفراد العالم في الخارج، وذلك لأن للعالم قبولا للوجود العلمي وهو قبول أول، وقبول للوجود الخارجي وهو قبول ثان، وبالنظر إلى قبوله الأول يصح القول بأن اللّه أوجد الأشياء بالفيض الأقدس لا عن شيء فهو البديع سبحانه، وبالنظر إلى الثاني يصح القول بأن اللّه تعالى أوجد الأشياء عن الوجود.

مطلب في معنى قول الشيخ الحمد للّه الذي أوجد الأشياء عن عدم وإليه الإشارة بقول الشيخ رضي اللّه تعالى عنه الحمد للّه الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه، فإن الفيض الأقدس لا يختص بالممكنات وذلك لسعة فلك الوجود وإطلاق عمومه بخلاف الفيض المقدس فإنه مخصوص بالممكنات، واعلم أن الطرق وإن كثرت فإنها ترجع إلى طريقين هما أصل جميع الطرق ؛ طريق من العدم إلى الوجود وأعني بالعدم العدم المطلق وبالوجود الوجود الإضافي وسلاك هذه الطرق الممتنعات والممكنات، وطريق من الوجود الإضافي، وإن شئت قل العدم جميع الوجود الإضافي إلى الوجود ممكن الوجود الإضافي وسلاك هذه الطريق الممكنات، وهذه الطرق تحتوي على طرق منها الطريق الموصل من العلم القديم إلى حقيقة العقل الأول، ومنها الطريق الموصل من العقل إلى النفس ومن النفس إلى العرش وهكذا إلى آخر سلسلة الوسائط، وكل طريق من هذه الطرق تحتوي على طرق ليس في القوة البشرية الإحاطة بها من حيث التفصيل. ثم اعلم أن سلاك الطريق الأول ما سافر من سافر منه إلا من العدم المطلق إلى الوجود المطلق، وعلى هذا فلا يصح القول باستدارة طريقها إلا أن الممكنات إذا سلكت على الطريق الثاني الذي هو أحد الطريقين المذكورين آنفا فإن البداية التي يفارقونها هي الحق وليس إلا نفس امتيازهم عنه في الخارج، فلو خرجوا على خط مستقيم لم تكن له غاية يقصدونها فكانوا إذا صدروا عن اللّه تعالى لا يعودون إليه بل لا تكون الحركة إلا لتحصيل كمال هو بالقوة عند المتحرك وهو يريد أن يحصله بالفعل فلا يتصور التوجه بالحركة إلى العدم المطلق أو الوجود المطلق، وما هو عند المتحرك بالقوة لا يتصف بالعدم المطلق ولا بالوجود المطلق بل بالوجود الإضافي والعدم الإضافي، والوجود من حيث هو أعم

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من الوجود الإضافي، والحقيقي وهو حقيقة واحدة لا تعدد فيها، فغاية هذا الطريق الثانية عين بدايتها من وجه فما فارقته الممكنات إلا حضرة من حضرات الوجود وما توجهت إلا لحضرة من حضراته، فمنه صدرت وإليه رجعت، ولا يصح أن ترجع من الطريق الذي سلكت عليه حالة صدورها عنه لأنه لا تكرار في التجلي، وإذا ثبت هذا صح أن الطريق دوري، ولما كانت عين مفارقة الممكنات للغاية عين وصولها للنهاية لاتحادهما لهذا لم تلبث في الطريق، إلا أن وجودها هو عين امتيازها ثم تعود إلى ما منه صدرت، وإن فهمت ما أشرنا إليه علمت معنى الخلق الجديد وأن كل موجود سوى اللّه في كل آن يعدم ويوجد مثله كما تقول الأشاعرة في الأعراض وظهور هذه الأمثال هو أنفاس الخلائق، ولا تتوهم أن مراد الطائفة بأنفاس الخلائق غير هذا فإنه لا يصح فلكل موجود سوى اللّه في كل آن نفس هو عين وجوده ثم ينعدم ويوجد مثله ووجوده عين تنفسه، فإن اللّه تعالى نفس عن حقائق الممكنات بنفسه لما كانت تجده من كربة العدم ونفسه عين وجودهم الإضافي، فهو سبحانه وتعالى في كل آن متنفس والممكن في كل آن متنفس، واعلم أن كل سالك إلى اللّه سواء كان سلوكه بالفكر أو الذكر فإنه في كل آن ينعدم ويوجد مثله فله في كل آن طريق، لأنه لا يصح من شخصين أن يتفقا من جميع الوجوه ولو اتفقا لما امتاز كل واحد عن الآخر، وإذا كان اختلاف الأشخاص واجبا فالاستعدادات مختلفة، وإذا كانت الاستعدادات مختلفة فالتجلي مختلف، وإذا كان التجلي مختلفا فالطريق الموصلة إليه مختلفة وهو عين ما أشارت إليه الطائفة، فالحق بالنسبة إلى هذا الطريق كما قالكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍيَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) [ الرحمن: الآية 29 ] والخلق بالنسبة إلى الطريق الذي قبله في «خلق جديد» وما يظهر ما قلناه إلا لقلب شهيد وبصر حديد، وإلى هذا أشار الشيخ رضي اللّه تعالى عنه بقوله: إن الشؤون التي يتقلب فيها الحق عين أحوال الخلق فافهم. وإن تأملت في الحقائق وجدتها جميعها مائلة إلى الاستدارة سواء كانت حسية أو معنوية، ألا ترى إلى طريق أرباب الفكر كيف هي مستديرة لأنهم إذا أرادوا الوصول إلى أمر بترتيب أمور فلا بد أن يكون ذلك الأمر معلوما عندهم من وجه ومجهولا من وجه، فإذا رتّبوا المقدمات وصلوا إلى وجهه المجهول فكانت نهايتهم عين بدايتهم، وذلك عين استدارة الطريق فافهم، وإذا علمت ما ذكرناه من أمر الاستدارة وعدمها في الطريق وحصلت ذلك من طريق الكشف.

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!