موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[مطلب في بيان الفناء والفرق بين المشاهدة والنومة ]

فإذا أفناك عن الذكر به فتلك عين المشاهدة، أو النومة. وسبيل التفرقة بينهما، أن المشاهدة تترك شاهدها، وتقع اللذة عقيبها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مطلب في بيان الفناء والفرق بين المشاهدة والنومة ( فإذا أفناك ) تجليه الصفاتي عن تعينك الروحي و ( عن الذكر به ) الضمير يعود إلى المذكور ( فتلك عين المشاهدة أو النومة ) وقد نقلنا كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه في المشاهدة فيما تقدم فلينظر هناك، واعلم أن المشاهدة والنومة يشتركان في الغيبة عن الإحساس بل عن الأنانية، ولهذا يتوهم صاحب النومة أنه صاحب مشاهدة ( وسبيل التفرقة بينهما أن المشاهدة ) إذا غيبت المشاهد عن نفسه فإنها ( تترك ) بعد انقضاء الغيبة في المحل الذي أثرت فيه ( شاهدها وتقع اللذة عقبها ) أي عقيب المشاهدة، فإن اللذة بالشهود لا تحصل للمشاهد قبل المشاهدة، وذلك ظاهر ولا في حالة المشاهدة لأنه في تلك الحالة فان عن نفسه بمشهوده ولا بد من الاستلذاذ به، فلم يبق إلا أن تكون عقيب المشاهدة، وأما الشاهد الذي تتركه المشاهدة في المحل، فاعلم أن الشيخ رضي اللّه تعالى عنه يقول: لما كان الشاهد حصول صورة المشهود فيعطي خلاف ما تعطيه الرؤية، فإن الرؤية لا يتقدمها علم بالمرئي والشهود يتقدمه علم بالمشهود وهو المسمى بالعقائد، ولهذا يقع الإنكار والإقرار في الشهود ولا يكون في الرؤية إلا الإقرار ليس فيها إنكار، وإنما سمي شاهدا لأنه يشهد له ما يراه بصحة ما اعتقده، فكل مشاهدة رؤية وما كل رؤية مشاهدة، ولكن لا يعلمون فما يرى الحق إلا الكمل من الرجال، ويشهده كل أحد ولا يكون عن الرؤية شاهد، وقال تعالى في إثبات الشاهد: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [ هود: الآية 17 ] .

ويتلوه شاهد منه فيكون العبد على كشف من اللّه تعالى لما يريده به أو منه، وذلك لا يكون له إلا بإخبار إلهي أو إعلام بالشيء قبل وقوعه وهو قول الصديق رضي اللّه عنه: «ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه قبله»، ثم إن ذلك الأمر لا يكون له عين إلا من اسم إلهي يكون ذلك أثر ذلك الاسم، فيقوم الاسم في قلب العبد ويحضر فيه فيشهده العبد، ثم يرى ظهور ذلك الأثر ووجوده في نفسه أو في الآفاق من الذي تقدم له به الإعلام، فيسمى ذلك الاسم شاهدا حيث شهده هذا العبد متعلق ذلك الأثر المعلوم عنده، وهذا لا يكون إلا للكمل من الرجال فهم أصحاب شهود في كل أثر يشهدونه بعد العلم الإلهي لهم به على طريق الخبر. وقال رضي اللّه تعالى عنه: الشاهد ما تعطيه المشاهدة من الأثر في قلب المشاهد فذلك هو الشاهد وهو على حقيقة ما يضبطه القلب من صور المشهود انتهى.

والنومة لا تترك شيئا، فيقع التيقظ عقيبها، والاستغفار والندم.

ثم إن اللّه عزّ وجلّ يعرض عليك مراتب المملكة ابتلاء، بأن رتب لك الفرض،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( والنومة ) إذا غيبت السالك عن نفسه فإنها ( لا تترك ) بعد انقضاء الغيبة ( شيئا ) لأنها ذهول وهو عدمي وأثره عدمي مثله بخلاف المشاهدة فإنها وجودية وأثرها مثلها ولما كانت النومة ذهولا لهذا قال الشيخ رضي اللّه عنه ( فيقع التيقظ عقيبها والاستغفار والندم ) فإنه من سلك حتى وصل إلى حضرة الأسماء لغلبة عشقه وحبه لتلك الحضرة وغفل فيها فقد غفل في الحضرة التي يجب فيها كمال الشعور لأنها حضرة حاضرة لا بد أن يندم بعد انقضاء الذهول على فوت الزمان الذي انقضي في الغفلة عن محبوبه، ويستغفر اللّه من كل ذلك لأنه ذنب عظيم، ولا تظن أن الذهول لا يكون إلا للمتوسطين فإنه يقع للكمل أيضا، قال سيد الكل في الكل: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في كل يوم مائة مرة» «1»، أو كما قال.

( ثم إن اللّه عزّ وجلّ ) بعد أن يذيقك حلاوة مشاهدته لا بد أن يمتحنك حتى يعلم هل أنت ممن يليق بجنابه أو ممن يطرد من بابه، فإن كنت الأول اصطفاك لنفسه وإن كنت الثاني ردك إلى شهود نفسك وذلك عين طرده إياك عن بابه، وما قدم المشاهدة على الامتحان إلا لتقوم له الحجة عليك، فإنه ربما لو قدم الامتحان على المشاهدة لقلت عند طرده إياك عن بابه لتوجهك إلى غيره: يا رب لم طردتني لأجل توجهي إلى غيرك وأنت لم تذقني حلاوة مشاهدتك حتى تأخذني عن سواك واشتغل بها عن غيرها، فلما قدم المشاهدة على الامتحان لم يكن لك أن تقول مثل هذا القول، وصورة امتحانه لك بعد المشاهدة هو أن ( يعرض عليك مراتب المملكة ابتلاء ) وهو كما أذكره إن شاء اللّه وذلك ( بأن ) عرض عليك جميع مملكته على الوجه الذي سنذكره و ( رتب لك الفرض ) على وفق الترتيب الواقع في المملكة من التقدم والتأخر وذلك ليحصل لك العلم بحقيقة الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات، فتعرف حقائقها وما تستحقه ذواتها لمراتبها، وهذا من رحمته بك، واحذر أن تلتفت إلى ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) رواه مسلم في صحيحه كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، حديث رقم ( 41 - 2702 ). ورواه أبو داود في سننه، كتاب الوتر، باب في الاستغفار، حديث رقم ( 1515 ). ورواه غيرهما.


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!