موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب في الزهد والتوكل ] - ثم الزهد. - ثم التوكل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وغيره لا بترك ذلك فبينهما هذا القدر، وأما ترك ما لا شبهة فيه فذلك الحلال المحض فإن تركه أعني ترك الفضل منه لأنه لا يصح إلا ترك الفضل منه فذلك الترك زهد، لا ورع فإن الزهد في الحرام والشبهة ورع والترك في الحلال الفاضل زهد، وأما غير الفاضل هو الذي تدعو إليه الحاجة فالزهد فيه معصية وما بقي إلا توقيت الحاجة إلى ذلك، وما حد الفاضل منه الذي يصح فيه الزهد فنذكر ذلك في باب الزهد إن شاء اللّه، والورع من المقامات المشروطة وسيصحب العبد ما دام مكلفا، ولا يتعين استكماله إلا عند وجود شروطه وهو عام في جميع تصرفات المكلف وما هو مخصوص بشيء من أعماله دون شيء بل له السريان في جميع الأعضاء المكلفة في حركتها وسكونها وما ينسب إليها من عمل وترك، والجامع لباب الورع أن تجتنب في ظاهرك وباطنك وجميع أعمال أعضائك المكلفة كل عمل وترك لا يكون للّه على الحد المشروع فيه المخلص للّه الذي لا شبهة تصده ولا تقدح فيه فهذا اللام التي في للّه هو الرابط لهذا الباب.

مطلب في الزهد والتوكل ( ثم ) يجب عليك ( الزهد ) بعد الورع قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: الزهد لا يكون إلا في الحاصل في الملك والطلب حاصل في الملك، فالزهد في الطلب زهد لأن أصحابنا اختلفوا في الفقير الذي لا ملك له هل يصح عليه اسم الزهد أو لا قدم له في هذا المقام، فمذهبنا أن الفقير متمكن من الرغبة في الدنيا والتعمل في تحصيلها ولو لم تحصل فتركه لذلك العمل والطلب والرغبة عنه يسمى زهدا بلا شك، وذلك الطلب في ملكه حاصل فلهذا حددناه بما ذكرناه.

( ثم ) يجب عليك ( التوكل ) بعد الزهد وهو ركن عظيم من أركان هذا الطريق.

قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: التوكل اعتماد القلب على اللّه تعالى مع عدم الاضطراب عند فقد الأسباب الموضوعة في العالم التي من شأن النفوس أن تركن إليها، فإن اضطرب فليس بمتوكل وهو من صفات المؤمنين فما ظنك بالعلماء من المؤمنين، وإن كان التوكل لا يكون للعالم إلا من كونه مؤمنا كما قيده اللّه به وما قيده سدى فلو كان من صفات العلماء ويقتضيه العلم النظري ما قيده بالإيمان، فلا يقع في التوكل مشاركة من غير مؤمن بأي شريعة كان، وسبب ذلك أن اللّه تعالى لا يجب

"***"

وفي أول حال من أحوال التوكل، يحصل لك أربع كرامات، هي علامات وأدلة على حصولك في أول درجة التوكل، وهي طي الأرض والمشي على الماء واختراق الهواء والأكل من الكون، وهو الحقيقة في هذا الباب.

ثم بعد ذلك تتوالى عليك المقامات والأحوال والكرامات والتنزلات إلى الموت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عليه شيء عقلا إلا ما أوجبه على نفسه فيقبله بصفة الإيمان لا بصفة العلم، فإنه فعّال لما يريد فلما ضمن ما ضمن وأخبرنا بأنه يفعل أحد الممكنين اعتمدنا عليه في ذلك على التعيين وصدقناه لأنه بالدليل، والعلم النظري نعلم صدقه فسكوتنا وعدم اضطرابنا عند فقد الأسباب إنما هو من إيماننا بضمانه، فلو بقينا مع العلم اضطربنا فالعالم إذا سكن فمن كونه مؤمنا وكونه مؤمنا من كونه عالما بصدق الضامن. انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

( وفي أول حال من أحوال التوكل يحصل لك أربع كرامات هي علامات وأدلة على حصولك في أول درجة التوكل ) ودرجاته عند العارفين أربعمائة وسبعة وثمانون، درجات الملامتيين فيه أربعمائة وست وخمسون هكذا قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه، ( وهي ) أي الكرامات ( طيّ الأرض والمشي على الماء واختراق الهواء والأكل من الكون وهو ) أي التوكل ( الحقيقة ) المعتمد عليها ( في هذا الباب ) أي باب السلوك.

( ثم بعد ذلك تتوالى عليك المقامات والأحوال ) والمقام كل صفة يجب الرسوخ فيها ولا يصح التنقل عنها كالتوبة والحال، كل صفة تكون فيها وقت دون وقت كالسكر والمحو والغيبة، وكل مقام في طريق اللّه تعالى فهو مكتسب ثابت، وكل حال فهو موهوب غير مكتسب غير ثابت إنما هو مثل بارق برق، فإذا برق إما أن يزول لنقيضه وإما أن تتوالى أمثاله، فإن توالت أمثاله فصاحبه خاسر، كذا ذكره الشيخ رضي اللّه تعالى عنه. ( والكرامات ) قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: الكرامات من الحق من اسمه البرّ، ولا تكون إلا للأبرار من عباده جزاء وفاقا، فإن المناسبة تطلبها وإن لم يقيم طلب بمن ظهرت عليه، وهي على قسمين حسية ومعنوية، فالعامة لا تعرف إلا الكرامة الحسية مثل الكلام على الخاطر والأخبار بالمغيبات الماضية والكائنة والآتية والأخذ من الكون والمشي على الماء واختراق الهواء وطي الأرض والاحتجاب عن الأبصار وإجابة الدعوى في الحال فالعامة لا تعرف الكرامة إلا مثل هذا، وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إلا الخواص من عباد اللّه، والعامة لا تعرف ذلك وهي أن يحفظ

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عليه أدب الشريعة وأن يوفق لإتيان مكارم الأخلاق واجتناب سفاسفها، والمحافظة على آداء الواجبات مطلقا في أوقاتها، والمسارعة إلى الخيرات، وإزالة الغل للناس من صدره، والحسد والحقد، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة في الأنفاس، ومراعاة حقوق اللّه في نفسه في الأشياء وتفقد آثار ربه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في دخولها وخروجها فيتلقاها بالأدب ويخرجها وعليها خلعة الحضور، هذه كلها عندنا هي كرامات الأولياء المعنوية التي لا يدخلها مكر ولا استدراج، فإن ذلك كله دليل على الوفاء بالعهد وصحة المقصود والرضاء بالقضاء في الموجود، ولا يشارك في هذه الكرامات إلا الملائكة المقربون وأهل اللّه المصطفون الأخيار، وأما الكرامات التي ذكرنا أن العامة تعرفها فكلها يمكن أن يدخلها المكر، ثم إذا فرضناها كرامة فلا بد أن تكون نتيجة عن استقامة لا بد من ذلك، وإلا فليست بكرامة وإذا كانت الكرامة نتيجة استقامة فقد يمكن أن يجعلها اللّه حظ عملك وجزاء فعلك فإذا قدمت عليه يمكن أن يحاسبك بها، وما ذكرناه من الكرامات المعنوية فلا يدخلها شيء مما دعاه فإن العلم يصحبها وقوة العلم وشرفه يعطيك أن المكر لا يدخلها، فإن الحدود الشرعية لا تنصب حبالة للمكر الإلهي فإنها عين الطريق الواضحة إلى نيل السعادة، والعلم يعصمك من العجب بعملك فإن العلم من شرفه أن تستعملك ومتى استعملك جردك منه وأضاف ذلك إلى اللّه تعالى وأعلمك أنه بتوفيقه وهدايته ظهر منك ما ظهر من طاعته والحفظ لحدوده، فإذا ظهر عليه من كرامات العامة ضج إلى اللّه منها فسأل اللّه ستره بالعوائد وإن لا يتميز عن العامة بأمر يشار إليه فيه ما عدا العلم لأن العلم هو المطلوب وبه تقع المنفعة ولو لم يعمل به فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فالعلماء هم الآمنون من التلبيس، فالكرامة من اللّه لعبادة إنما تكون للوافدين عليه من الأكوان ومن نفوسهم لكونهم لم يروا وجه الحق فيهما، فأسنى ما أكرمهم من الكرامات العلم خاصة لأن الدنيا موطنه وأما غير ذلك من خرق العادات فليست الدنيا بموطن لها ولا يصح كون ذلك كرامة إلا بتعريف إلهي لا بمجرد خرق العادة، وإذا لم يصح إلا بتعريف إلهي فذلك هو العلم، فالكرامة الإلهية إنما هي ما يهبهم من العلم به سبحانه، سئل أبو يزيد رضي اللّه تعالى عنه عن طي الأرض فقال: ليس بشيء فإن إبليس يقطع من المشرق إلى المغرب في لحظة واحدة وما هو عند اللّه بمكان، وسئل عن اختراق الهواء فقال: إن الطير يخترق الهواء

"***"

فاللّه اللّه لا تدخل خلوتك حتى تعرف أين مقامك وقوتك من سلطان الوهم، فإن كان وهمك حاكما عليك، فلا سبيل إلى الخلوة إلا على يد شيخ مميز عارف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمؤمن عند اللّه أفضل من الطير، فكيف يحسب كرامة من شاركه فيها طائر، وهكذا علل جميع ما ذكر له ثم قال: إلهي إن قوما طلبوك لما ذكروه فشغلتهم به وأهلتهم له اللهم مهما أهلتني لشيء فأهلني لشيء من أشيائك أي: من أسرارك، فما طلب إلا العلم لأنه أسنى تحفة وأعظم كرامة انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه ( والتنزلات إلى الموت ) اعلم أنه كل ما عدا الوجود البحت والإطلاق فهو تنزل إلهي من أوج الإطلاق إلى حضيض التقييد، وأول التنزلات هي الوحدة وآخرها الإنسان، وبينهما تنزلات لا يتّسع الوقت لإيرادها لكثرتها، وهي تنزلات كلية، وأما التنزلات الجزئية فلا نهاية لها.

واعلم أن السالك إذا تجرد عن هيكله وانسلخ منه وارتقى عن التقيد بالطبع بالرياضات والخلوات ودوام الذكر والحضور والمراقبة، وأخذت لطيفته في المعراج في العروج الروحاني فعند اختراقه السماوات والأفلاك وتجاوزه مقامات الأرواح ومراتب الأسماء ينزل إليه الحق سبحانه وتعالى في كل منزل من هذه المنازل فيلاقيه فيه ويهبه ما شاء، وهذا هو المسمى بالمنازلة، فالتداني صفة السالك والتدلي نعت المالك، فاعلم ذلك وتحققه فإن ذلك في خلاصته علوم المكاشفة.

وإذا علمت معنى الخلوة والتوجه إلى رب العزّة مما أسلفناه لك وأردت الدخول إلى الخلوة ( فاللّه اللّه لا تدخل خلوتك حتى تعرف أين مقامك وقوتك من سلطان الوهم فإن كان وهمك حاكما عليك ) بأن تفزع من صيحة عظيمة تسمعها على غفلة، أو تخاف من المشي في الظلمة، أو من مشاهدة صورة هائلة تقبل عليك، أو شرر تبصره يتطاير ويسقط عليك فتخاف منه، أو من المبيت مع ميت في قبر ( فلا سبيل ) لك ( إلى الخلوة ) أصلا لأنه قد يظهر لك في الخلوة من الأمور الهائلة ما يختلّ به عقلك وينحرف له مزاجك ولا يرجى صلاحك بعده إلا بعناية الفاعل المختار سبحانه وتعالى ( إلا على يد شيخ ) كامل وأصل قد سلك الطريق وملك أزمة التحقيق ( مميز ) بين الواردات الشيطانية والرحمانية والتجليات الإلهية والكونية ( عارف ) بما يراد منها وبما يتقي به ضرر بعضها وما يكون سببا للعبور عنها صاحب قوة ربانية يربيك بها ويحفظك بهمته من جميع الآفات التي تعرض للسالك في سلوكه.

"***"

فإن كان وهمك تحت سلطانك، فخذ الخلوة ولا تبالي


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!