موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب العزلة ]

فلا بد لك من العزلة عن الناس وإيثار الخلوة على الملأ ثانيا، فإنه على قدر بعدك من الخلق يكون قربك من الحق ظاهرا وباطنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إنما هو بنفوسهم لا باللّه، إذ قد علموا أنهم ما يرون من اللّه سوى صورتهم ولا يقع أنس إلا بما يرون، وغير العارفين ما يرون الأنس إلا بالغير فيستوحشون مع الانفراد بنفوسهم، وكذلك الاستيحاش إنما يستوحشون من نفوسهم لأن الحق مجلاهم فهم بحسب ما يرونه فيه من أحوالهم فيقع الحكم فيهم بالأنس أو بالوحشة، أو حقيقة الأنس إنما يكون بالمناسب، فمن يقول بالمناسبة يقول بالأنس، ومن يقول بارتفاع المناسبة يقول لا أنس باللّه ولا وحشة منه، وكلّ بحسب ذوقه، فإنه الحاكم عليه، ومن له الإشراف مثلنا على المقامات والمراتب ميز وعرف كل شخص من أين تكلم ومن أنطقه وأنه مصيب في مرتبته غير مخطىء بل لا خطأ مطلقا في العالم، انتهى كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه.

وإذا علمت معنى الدخول إلى حضرة الحق والأخذ منه بترك الوسائط والأنس به علمت ( أنه لا يصح لك ذلك وفي قلبك ربانية لغيره ) واستيلاء لسواه بوجه من الوجوه، فإن القلب الذي يليق لتجلي الحق هو القلب المقدس المطهر المعمور باللّه لا الملوث المدنس بغيره،

قال تعالى لإبراهيم الروح وإسماعيل النفس: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ [ البقرة: الآية 125 ] ،

يعني القلب من غيري لِلطَّائِفِينَ [ البقرة: الآية 125 ]

وهم الواردات الإلهية، وَالْعاكِفِينَ [ البقرة: الآية 125 ]

وهم الأسماء الإلهية، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ البقرة: الآية 125 ] وهم الحقائق الكونية من حيث إنهم عين في الظهور ( فإنك محكوم لمن حكم عليك سلطانه ) واستولى عليك قهره وإحسانه ( هذا لا شك فيه ) عند كل عاقل سليم الفطرة.

وإذا كان حصول هذه الأمور يتوقف على ما ذكرناه ( فلا بد لك من العزلة عن الناس ) كما يأتي:

مطلب العزلة ( فلا بد لك من العزلة عن الناس ) أولا قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه:

إذا اعتزلت فلا تركن إلى أحد * ولا تعرج على أهل ولا ولد

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولا توالي إذا وليت منزلة * وغب عن الشرك والتوحيد بالأحد

وانزع إلى طلب العلياء منفردا * بغير فكر ولا نفس ولا جسد

وسابق الهمة العلياء تحظ بمن * سمّى بأسمائه الحسنى بلا عدد

واعلم بأنك محبوس ومكتنف * بالنور حسّا خليّا لا إلى أمد

وقال الشيخ رضي اللّه عنه ولتقدم أولا قبل دخولك إلى الخلوة رياضة وعزلة عن الخلق وصمتا وتقليلا من الطعام وترك شرب الماء جملة أجهد فيه فإنه يسير المؤنة، فإذا أنست النفس بالوحدة عند ذلك تدخل الخلوة. وقال رضي اللّه تعالى عنه: اعلم أن العطش جرّبناه فوجدناه من الشهوات الكاذبة وجرّبه غيرنا فوجده كذلك، فعوّد نفسك أن تمسكها عن الماء وإن عطشت فإنك إن جاهدتها قليلا تنعّمت بها كثيرا وتقيم واللّه الشهور الكثيرة نعم والسنين وأكثر لا تشرب فيها ماء ولا تشتهيه ولا يؤثر في مزاجك ولا في بدنك، وتقنع الطبيعة بما تستمده من الرطوبات التي في الغذاء، ولهذا نستحبّ بل نوجب المجاهدة والرياضة في العزلة قبل الخلوة حتى يصير ذلك طبعا وعادة لا تحس النفس به كما لا تحس بالعادات فتدخل الخلوة عقيب ذلك مستريحا نشيطا طيب النفس فارغا من المجاهدة خالي المحل من المكابدة مهيأ فارغا للذكر والمذكور والتجلي والمطلوب والوارد الآتي عليك، فإن المجاهدة في الخلوة تذهب بجمعية الخلوة التي هي روحها لأنها شغل في الوقت فتحفظ من ذلك جهدك، وقدم العزلة ولا بد واجعل مجاهدتك فيها حتى تأنس النفس بذلك وتدرج منها إلى الخلوة المطلوبة ليسرع إليك الفتح إن شاء اللّه، ومهما تكلّفت شيئا في خلوتك من سهر أو جوع أو عطش أو برد أو حديث نفس أو وحشة فأخرج منها إلى عزلتك حتى تستحكم ذلك. وقال رضي اللّه عنه: العزلة سبب لصمت الإنسان، فمن اعتزل عن الناس لم يجد من يحادثه فأداه ذلك إلى الصمت باللسان. والعزلة على قسمين: عزلة المريدين وهي بالأجسام عن مخالطة الأغيار، وعزلة المحقّقين وهي بالقلوب عن الأكوان، فليست قلوبهم محلا لشيء سوى العلم باللّه تعالى الذي هو شاهد الحق فيها الحاصل من المشاهدة. وللمعتزلين نيات ثلاثة نية اتقاء شر الناس ونية اتقاء شره المتعدّي إلى الغير وهو أرفع من الأول، فإن في الأول سوء الظن بالناس وفي الثاني سوء الظن بنفسه، وسوء الظن بنفسك أولى لأنك بنفسك أعرف، ونية إيثار صحبة المولى عن جانب الملأ، فأعلى الناس من اعتزل

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بنفسه إيثارا لصحبة ربه، فمن آثر العزلة على المخالطة فقد آثر ربه على غيره، ومن آثر ربه لم يعرف أحد ما يعطيه اللّه من الأسرار والمواهب، ولا تقع العزلة أبدا في القلب إلا من وحشة تطرأ على القلب من المعتزل عنه وآنس بالمعتزل إليه وهو الذي يسوقه إلى العزلة، فمن لازم العزلة وقف على سر الوحدانية الإلهية، هذا ينتج له من المعارف ومن الأسرار أسرار الأحدية التي هي الصفة وحال العزلة التنزيه عن الأوصاف سالكا كان المعتزل أو محققا، وأرفع أحوال العزلة الخلوة فإن الخلوة عزلة في العزلة فنتيجتها أقوى من نتيجة العزلة العامة، فينبغي للمعتزل أن يكون صاحب يقين مع اللّه تعالى حتى لا يكون له خاطر متعلق خارجا عن بيت عزلته، فإن حرم اليقين فليستعد لعزلته قوت زمان عزلته حتى يتقوى يقينه بما يتجلى له في عزلته لا بد من ذلك، هذا شرط محكم من شروط العزلة والعزلة تورث معرفة لدنية ( و ) لا بدّ لك من ( إيثار الخلوة على الملأ ثانيا، فإنه على قدر بعدك من الخلق يكون قربك من الحق ظاهرا وباطنا ).

مطلب في الخلوة قال الشيخ رضي اللّه عنه: اعلم وفّقك اللّه تعالى وإياي أن الخلوة أصلها في الشرع «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» «1» وأصل الخلوة من الخلاء الذي وجد فيه العالم.

شعرفمن خلا ولم يجد فما خلا * فهي طريق حكمها حكم البلادوقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «كان اللّه ولا شيء معه» «2». وسئل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق ؟ قال: «كان في عماء ما فوقه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) هذا الحديث القدسي روي بألفاظ كثيرة متقاربة منها ما رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء. . . ، حديث رقم ( 2 - 2675 ) ولفظه عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه: «يقول اللّه عزّ وجلّ: أنا عند ظن عبدي بي. وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ هم خير منهم. وإن تقرّب مني شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت منه باعا. وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة».

( 2 ) هذا الحديث سبق تخريجه.

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هواء وما تحته هواء، ثم خلق الخلق وقضى القضية وفرغ من أشياء وهو كل يوم في شأن وسيفرغ من أشياء ثم يعمر المنازل بأهلها إلى الأبد» «1». الخلوة أعلى المقامات وهو المنزل الذي يعمره الإنسان ويملؤه بذاته فلا يسع معه فيه غيره، فتلك الخلوة ونسبتها إليه ونسبته إليها نسبة الحق إلى قلب العبد الذي وسعه ولا يدخله حتى لا يكون فيه غيره فيكون خاليا من الأكوان كلها، فيظهر فيه بذاته، ونسبة القلب إلى الحق أن يكون على صورته فلا يسع سواه، وأصل الخلوة في العالم الخلاء الذي ملأه العالم، فأول شيء ملأه الهباء وهو جوهر مظلم ملأ الخلاء بذاته، ثم تجلى له الحق في اسمه النور فانصبغ به ذلك الجوهر وزال عنه حكم الظلمة وهو العدم، فاتصفت بالوجود فظهر لنفسه بذلك النور المنصبغ به وكان ظهوره به على صورة الإنسان، ولهذا تسميه أهل اللّه الإنسان الكبير، وتسمى مختصره الإنسان الصغير، لأنه موجود أودع اللّه فيه حقائق العالم الكبير كلها فخرج على صورة العالم مع صغر جرمه، والعالم على صورة الحق، فالإنسان على صورة الحق وهو قوله: «إن اللّه تعالى خلق آدم على صورته» «2». ولما كان الأمر على ما قررناه

ولذلك قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 57 ) [ غافر: الآية 57 ] لكن يعلم ذلك قليل من الناس، فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير، ثم انفتحت في العالم صور الأشكال من الأفلاك والعناصر والمولدات، فكان الإنسان آخر مولود في العالم أوجده اللّه تعالى جامعا لحقائق العالم كله ليجعله خليفة فيه، فأعطاه قوة كل صورة موجودة في العالم، فذلك الجوهر الهبائي المنصبغ بالنور هو البسيط، وظهور صورة العالم فيه هو الوسيط، والإنسان الكامل هو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) القسم الأول من الحديث رواه أحمد في المسند عن أبي رزين العقيلي. ورواه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة هود، حديث رقم ( 3109 ). ورواه غيرهما. ونص رواية أحمد هي عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول اللّه، أين كان ربنا عزّ وجلّ قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال: في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء». والقسم الثاني من الحديث لم أجده فيما لديّ من مصادر ومراجع.

( 2 ) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير، حديث رقم ( 28 - 2841 ). ورواه أحمد في المسند عن أبي هريرة، حديث رقم ( 8191 ). ورواه غيرهما.

"***"

الوجيز، قال اللّه تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [ فصّلت: الآية 53 ] أن الإنسان عالم وجيز من العالم فيه الآيات التي في العالم، فأول ما يكشف لصاحب الخلوة آيات العالم قبل آيات نفسه لأن العالم قبله كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [ فصّلت: الآية 53 ] ، ثم بعد هذا يريه الآيات التي أبصرها في العالم في نفسه، فلو رآها أولا في نفسه ثم رآها في العالم ربما تخيل أنه رأى ما في نفسه في العالم، فرفع عنه هذه الأشكال بأن قدم له رؤية الآيات في العالم، كالذي وقع في الوجود فإنه أقدم من الإنسان، وكيف لا يكون أقدم وهو أبوه فأبانت له رؤية تلك الآيات في الآفاق وفي نفسه أنه الحق لا غيره وتبين له ذلك، فالآيات هي الدلالات على أنه الحق الظاهر في مظاهر أعيان العالم، فلا يطلب على أمر آخر صاحب هذه الخلوة فإنه ما ثم جملة واحدة، ولهذا تمّم تعالى في التعريف فقال: أَ وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ [ فصّلت: الآية 53 ] .

من أعيان العالم شهيد على التجلّي فيه والظهور، وليس في قوة العالم أن يدفع عن نفسه هذا الظاهر فيه ولا أن لا يكون مظهرا، وهو المعبر عنه بالإمكان، فلو لم تكن حقيقة العالم الإمكان لما قبل النور وهو ظهور الحق فيه الذي تبين له بالآيات ثم تمم وقال: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ [ فصّلت: الآية 54 ]

من العالم مُحِيطٌ [ البقرة: الآية 19 ] ، والإحاطة بالشيء تستر ذلك الشيء فيكون الظاهر المحيط لا ذلك الشيء، فإن الإحاطة به تمنع من ظهوره، فصار ذلك الشيء وهو العالم في المحيط كالروح للجسم والمحيط كالجسم للروح الواحد شهادة وهو المحيط الظاهر والآخر غيب وهو المستور بهذه الإحاطة وهو عين العالم،

ولمّا كان الحكم للموصوف بالغيب في الظاهر الذي هو الشهادة وكانت أعيان شيئيات العالم على استعدادات في أنفسها حكمت على الظاهر فيها بما تعطيه حقائقها، فظهرت صورها في المحيط وهو الحق فقيل عرش وكرسي وأفلاك وأملاك وعناصر ومولدات وأحوال تعرض وما ثم إلا اللّه،

فالحق تعالى من كونه محيطا كبيت الخلوة لصاحب الخلوة، فيطلب صاحب الخلوة فلا يوجد فإن البيت يحجبه فلا يعرف منه إلا مكانه، ومكانه يدل على مكانته، فقد أعلمتك مرتبة الخلوة التي ترد في هذا الكتاب لا الخلوة المعهودة عند أصحاب الخلوات.

وإذا لم يعمر الخلاء إلا العالم فهو في الخلوة بنفسه هذا أصله، ثم لما انصبغ بالنور كان في خلوة بربه وبقي في تلك الخلوة إلى الأبد لا يتقيد بالزمان لا بأربعين يوما ولا بغير ذلك، فالعارف إذا 

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عرف ما ذكرناه عرف أنه في خلوة بربه لا بنفسه ومع ربه لا مع نفسه، فيرى من حيث أثره في المحيط بالصورة التي ظهر بها المحيط نفسه ومن حيث تعدّد أعيانه يرى منه به كل عين مغايرة لصاحبتها، ولذلك اختلفت صور العالم وإن كان واحدا كما اختلفت صور الإنسان في نفسه وإن كان واحدا، فالخلوة من المقامات المستصحبة دنيا وآخرة إلى الأبد، من حصلت له لا تزول فإنه لا أثر بعد عين. وأما الخلوة المعروفة المعهودة فليست مقاما ولا تصح إلا لمحجوب، وأما أهل الكشف فلا تصح لهم خلوة أبدا فإنهم يشاهدون الأرواح العلوية والأرواح النارية ويرون الكائنات ناطقة أكوان ذاته وأكوان بيت خلوته، فهو في ملأ كما هو في نفس الأمر، فإذا أخذ اللّه عن بصره هذه المدركات وفصل بين الحيوان والجماد والملكية وعالم الصمت من عالم الكلام وعالم السكون من عالم الحركات وجب أن يخلو بربه حتى لا يشغله عنه نطق كون ولا حركة كون، فمنهم من يطلب الخلوة لمزيد علم باللّه من اللّه لا من نظره وفكره. وهذا أتم المقاصد فإنه مأمور بذلك والعمل على الأمر الإلهي هو غاية كمال العمل واللّه يقول له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [ طه: الآية 114 ]

فمن تحدّث في خلوته في نفسه مع كون من الأكوان فما هو في خلوة قال بعضهم لصاحب خلوة: اذكرني عند ربك في خلوتك.

فقال له: إذا ذكرتك فلست معه في خلوة. ومن هنا تعرف قوله: أنا جليس من ذكرني»، فإنه لا يذكره حتى يحضر المذكور في نفسه، إن كان المذكور ذا صورة أحضره في خياله وإن كان من غير عالم الصور أو لا صورة له أحضرته القوة الذاكرة، فإن القوة الذاكرة من الإنسان تضبط المعاني، والقوة المتخيلة تضبط المثل التي أعطتها الحواس، وما ركبت القوة المصورة من الأشكال الغريبة التي استفادت جزئياتها من الحس لا بد من ذلك، لأنها ليس لها تصرف إلا فيه، فمن شرط الخلوة في هذا الطريق الذكر النفسي لا الذكر اللفظي، فأول خلوة الذكر الخيالي وهو تصور لفظة الذكر من كونه مركبا من حروف رقمية أو لفظية يمسكها الخيال سمعا أو رؤية فيذكر بها من غير أن يرتقي إلى الذكر المعنوي الذي لا صورة له وهو ذكر القلب، ومن الذكر القلبي ينقدح له المطلوب والزيادة من المعلوم وبذلك العلم الذي انقدح له يعرف ما المراد بصور المثل إذا أقيمت له وأنشأها الحس في خياله في نوم أو يقظة أو غيبة أو فناء، فيعلم ما رأى وهو علم التعبير للرؤيا. ومنهم من يأخذ الخلوة لصفاء الفكر ليكون صحيح النظر

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فيما يطلبه من العلم، وهذا لا يكون إلا للذين يأخذون العلم من أفكارهم فهم يتخذون الخلوات لتصحيح ما يطلبونه إذا ظهر لهم بالموازين المنطقية وهو ميزان لطيف أدنى هواء يحركه فيخرجه عن الاستقامة، فيتخذون الخلوات ويسدون منافذ الأهوية لئلا تؤثر في الميزان حركة تفسد عليهم صحة المطلوب، ومثل هذه الخلوة لا يدخلها أهل اللّه تعالى وإنما لهم الخلوة بالذكر وليس للفكر عليهم سلطان ولا له فيهم أثر،

وأي صاحب خلوة استحكمه الفكر في خلوته فليخرج ويعلم أنه لا يراد لها وأنه ليس من أهل العلم الإلهي الصحيح، إذ لو أراده اللّه تعالى لعلم الفيض الإلهي لحال بينه وبين الفكر.

ومنهم من يأخذ الخلوة لما غلب عليه من وحشة الإنس بالخلق فيجد انقباضا في نفسه برؤية الخلق حتى أهل بيته حتى أنه ليجد وحشة الحركة فيطلب السكون فيؤديه ذلك إلى اتخاذ الخلوة.

ومنه من يتخذ الخلوة لاستحلاء ما يجده فيها من الالتذاذ وهذه أمور كلها معلولة لا تعطي مقاما ولا رتبة، وصاحب الخلوة لا ينتظر واردا ولا صورة ولا شهودا وإنما يطلب علما بربه، فوقتا يعطيه ذلك في غير مادة ووقتا يعطيه ذلك في مادة، ويعطيه العلم بمدلول تلك المادة، الخلوة لها الدعوى وصاحبها مسبول الحجاب الأقرب وهي نسبة ما هي مقام أعني الخلوة المعهودة عند القوم لا الخلوة التي هي مقام التي ذكرناها في أول الباب، وهذه وإن لم تكن مقاما فإنها تحصل لصاحبها بالذكر مقامات.

وقال رضي اللّه تعالى عنه: ثم ليكن بيت خلوتك على ما أذكره لك ولتكن فيه أنت على حسب ما نحدّه لك، فأما صفة البيت المخصوص بهذه الخلوة فينبغي أن يكون لكل خلوة إن أمكن أن يكون ارتفاعه قدر قامتك وطوله قدر سجودك وعرضه قدر جلستك ولا يكون فيه ثقب ولا كوة أصلا ولا يدخل عليك ضوء رأسا وتكون بعيدا، من أصوات الناس ويكون بابه قصيرا وثيقا في غلقه ولكن في دار معمورة فيها ناس، وإن يمكن أن يبيت أحد بقرب باب الخلوة فهو أحسن.

وأما صورتك فيها ابتدأ فهو أن تغتسل بها وتنظف ثيابك، ولا بد من النية بالتقرب إلى المتوجه إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم، ولا سبيل لكثرة الحركة فيها ولا تزيد عن الفرائض والرواتب والركعتين عند كل طهارة من الحدث، والقعود على طهارة واستقبال القبلة دائما، وإذا أردت الحاجة فليكن موضع خلائك قريبا من خلوتك وتحفظ عند خروجك من الهواء الغريب فإنه يؤثر فيك تفريقا زمانا طويلا، وليكن ماؤك لا يتغير عليك، وإذا خرجت لحاجتك 

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سد عينيك وأذنيك وليكن غذاؤك معك في بيتك معدّا أو خلف باب بيتك محفوظا، ومن شرط هذه الخلوة بل كل خلوة إن قدرت أن لا يعرف أحد أنك في خلوة أصلا، وإن كان لا بد فلا يعرف ذلك منك إلا أقرب الناس إليك في خدمتك ممن يجهل ما أنت عليه ولا يعرف ما تقصده، وإنما يمنع من ذلك لتشوف النفس إلى النفوس المتشوقة لخروجه بماذا يخرج وهي علة كبيرة وفحش يحجب تقريب الفتح على الشخص وهذا يبعده، فإنه لا سبيل إلى الفتح وفي النفس أثر.

وقال رضي اللّه تعالى عنه فيما ينبغي أن يكون عليه صاحب الخلوة: ينبغي أن يكون شجاعا مقداما لا يكون جبانا خوارا، فإن كان حاكما على وهمه غير مقهور تحت سلطان تخيله زاهدا في كل ما سوى مطلوبه عاشقا بمن توجه إليه عارفا بقواطعه من قوة الأمور القواطع التي بين يديه نافذ الهمة مصدق الخاطر ثابتا عند زعقة عظيمة أو وقع جدار أو مفاجأة أمر هائل، غير طائش كثير السكون دائم الفكر غائبا على أكثر الحالات ساهيا عن لذة المدح وعن ألم الذم صاحب قوت طيب ومعنى قولي طيب، لا يجد في نفسه عند أكله أثرا يريبه من باب الورع.

فلهذا قال بعض أئمتنا: ما رأيت أسهل من الورع كل ما حاك له في نفسي شيء تركته.

وهو قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1»، قائما بما يحتاج إليه من أسباب خلوته لا يتكلف له أحد ذلك، حينئذ له أن يدخل الخلوة، وإن لم يكن على شيء من هذا فلا سبيل له إلا الخلوة لكنه يستعمل العزلة ويدرب نفسه ويهذبها ويروضها بما ذكرناه إلى أن يعتاد فإن الخير عادة، فإذا حصل هذا الأمر دخل الخلوة إن شاء اللّه، وليقدم صاحب الخلوة بين يدي خلوته صدقة إن كان له شيء ولو لم يكن له سوى ثوبين يتصدق بأحدهما أو ثوب واحد يمكن أن يباع بثوبين يستبدل له بغيره ويتصدق بالفضل. وقال رضي اللّه عنه: ثم اعرف ما يستحقه كل عالم من الحيوان الناطق وغير الناطق والنبات والجماد، ومما ينبغي أن يعامل به من الخلق الذي يوافق غرضه إن كان ذا غرض مع حفظه الشرع وهو كل الحيوان أو ما يوافق الحكمة في عالم الأغراض له كالنبات والجماد، وهي ترك العبث به فلا تقلع نباتا ولا تفسد نظامه وتربيته عبثا لغير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) رواه النسائي في سننه الصغرى، كتاب آداب القضاء، باب الحكم باتفاق أهل العلم حديث رقم ( 5408 ). ورواه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق. . . ، باب ( 60 )، حديث رقم ( 2518 ). ورواه أحمد في المسند ( 12106 ).

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!