موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[ مطلب في بيان أن الدنيا سجن الملك لا داره ]

فإن الدنيا سجن الملك لا داره، ومن طلب الملك في سجنه من غير ترحيل عنه رحلة كلية، فقد أساء الأدب، وفاته أمر كبير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الراحة والمشاهدة، فالزمان الذي تصرفه في الدنيا في المشاهدة يفوتك فيه علم لو حصلته لزادت مشاهدتك في الدار الآخرة فتكون بالمشاهدة الدنيوية الموجبة لعدم حصول هذا العلم لك ناقص المرتبة في دار الآخرة عند المشاهدة لأن المشاهدة على قدر العلم، فما شهدته في الدنيا حين شهدته إلا بعد أن علمته بوجه ما فما شاهدت إلا صورة علمك فقد اشتغلت بعلمك الحاصل لك عن تحصيل علم لو حصلته لعظمت مشاهدتك في دار الآخرة، فإن فاتتك المشاهدة في الدنيا لتحصيل العلم لم تفتك في الآخرة وإن فاتك العلم في الدنيا للمشاهدة فإنها فناء لا يكون معه شعور فاتتك المشاهدة في الآخرة هذا نقص المرتبة عند الرؤية، وأما نقصها عند المحق فاعلم أن الظهور بالنيابة والخلافة لا يصلح إلا لدار الآخرة لأنه لا تكليف ولا تحجير فيها وفيها يقول الإنسان للشيء كُنْ فَيَكُونُ [ الأنعام: الآية 73 ] .

كذا ورد أن اللّه يرسل إلى أهل الجنة بكتاب مضمونه هذا واللّه أعلم. هذا كتاب من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت، أما بعد. . . فإني أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتكم تقولون للشيء كن فيكون فما يقولون لشيء كن إلا ويكون. وهذا هو عين الظهور بالخلافة والدنيا لا تصلح لذلك لأنها دار محنة وتكليف، وبقدر ما يظهر من الخلافة في الدنيا ينقص منها في الآخرة قال تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا [ الأحقاف: الآية 20 ] ،

فهذا إذا لم يكن الظهور بالخلافة في الدنيا عن أمر إلهي، وأما إذا كان عن أمر إلهي كما هو للرّسل فلا، وانفوا من ذلك لما فيه من ( معاملة المتوطّن ) الذي هو دار الدنيا ( بما لا يليق به ) وهو الظهور بالخلافة وترك تحصيل العلم.

مطلب في بيان أن الدنيا سجن الملك لا داره ( فإن الدنيا سجن الملك ) الحق سبحانه، وهو محل الحجاب والبعد فالذي ينبغي أن يظهر فيه هو الذل والعبودية والمجاهدة والمكابدة، والذي ينبغي أن يطلب فيه هو التقرّب إلى الملك بالعلم به وحضرته ( لا داره ) أي دار الملك التي هي محل المشاهدة ورفع الحجب والظهور بالعزة وأطوار الربوبية، ( ومن طلب ) من ( الملك ) أن يأتيه ( في سجنه ) ومحل قهره وحجابه ويباسطه فيه ويتجلى له ( من غير ترحيل عنه )، أي: عن السجن ( رحلة كلية ) بالموت الطبيعي لا رحلة ما بالموت الإرادي، ( فقد

"***"

فإن زمان الفناء في الحق زمان ترك مقام أعلا مما هو فيه، لأن التجلي على قدر العلم وصورته، فما حصل لك من العلم به منه في مجاهدتك وتهيئك في الزمان الأول مثلا، ثم شهدت في الزمان الثاني، فإنما تشهد منه صورة عملك المقررة في الزمان الأول.

فما زدت سوى انتقالك من علم إلى عين، والصورة واحدة، فقد حصلت ما ينبغي لك أن تؤخره لموطنه، وهو الدار الآخرة التي لا عمل فيها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أساء الأدب ) في هذا الطلب ( وفاته أمر كبير ) من المشاهدة في دار الملك إذا صار إليها.

( فإن زمان الفناء ) بالمشاهدة والمحق ( في الحق ) في دار الدنيا ( زمان ترك مقام ) من مقامات المشاهدة في دار الآخرة لترك تحصيل العلم الموجب للمشاهدة في دار الآخرة بالفناء والمحق في الحق في الدنيا وذلك المقام الذي تركه ( أعلا مما هو فيه ) من المشاهدة ( لأن التجلي ) الإلهي الواقع في دار الآخرة لا يكون إلا ( على قدر العلم ) الحاصل في الدنيا ( و ) على قدر ( صورته ) يقع التجلي. وإذا كان الأمر على هذا ( فما حصل لك ) أيها المشاهد في دار الدنيا ( من العلم به )، أي بالحق ( منه )، أي من الحق من باب قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [ البقرة: الآية 282 ] ( في مجاهدتك ) الجسمانية والنفسانية ( وتهيّئك ) بالذكر والخلوة ونفي الخواطر لما يرد عليك من الحق سبحانه ( في الزمان الأول مثلا، ثم شهدت ) الحق سبحانه وتعالى ( في الزمان الثاني فإنما تشهد منه ) أي من الحق ( صورة عملك المقررة ) عندك الثابتة لديك الحاكمة عليك ( في الزمان الأول ) لا غير لأن تجلي الحق من حيث الإطلاق عن الاستعدادات محال، وإنما يتجلى بحسب استعداد المتجلي له فهو كالماء لا لون ولا شكل له، ويظهر بالأشكال والألوان بحسب الأواني، وإذا كان أمر التجلي على هذا الأسلوب.

( فما زدت ) أيها المشاهد في الدنيا على علمك ( سوى انتقالك من علم ) حصلته بالتقوى ( إلى عين والصورة ) المعلومة والمشهودة ( واحدة فقد حصلت ) أيها المشاهد في الدنيا التي هي دار العمل وتحصيل العلم لا دار التجلي والمشاهدة ( ما ) كان ( ينبغي لك أن تؤخره لموطنه وهو الدار الآخرة التي لا عمل ) يكون سببا لحصول علم ( فيها ) لأنها دار التجلي والمشاهدة لا دار المجاهدة والمكابدة، وكان الواجب عليك

"***"

فإن زمان مشاهدتك، لو كنت فيه صاحب عمل ظاهر وتلقي علم باللّه باطن كان أولى بك لأنك تزيد حسنا وجمالا في روحانيتك الطالبة ربها بالعلم الذي تلقته منه بالأعمال والتقوى، وتزيد حسنا في نفسانيتك الطالبة جنتها.

فإن اللطيفة الإنسانية تحشر على صورة علمها، والأجسام تحشر على صورة عملها من الحسن والقبح، وهكذا إلى آخر نفس، فإذا انفصلت من عالم التكليف، وموطن المعارج والارتقاءات، فحينئذ تجني ثمرة غرسك.


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!