موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


[مطلب الموطن الثالث ] - والثالث: البرزخ الذي نصير إليه بعد الموت الأصغر والأكبر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مطلب الموطن الثالث والموطن ( الثالث ) هو ( البرزخ ) الحائل بين الدنيا والآخرة، قال الشيخ رضي اللّه تعالى عنه: اعلم أن البرزخ عبارة عن أمر فاصل بين أمرين، كالخط الفاصل بين الظل والشمس، وكقوله تعالى في اختلاط البحرين: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ( 20 ) [ الرّحمن: الآية 20 ] .

ومعنى لا يبغيان أي لا يختلط أحدهما مع الآخر لهذا الحاجز الذي فصل بينهما، ولا يدركه حسّ البصر، فإذا أدركه فليس ببرزخ، ولمّا كان البرزخ بين معلوم ومجهول، ومعدوم وموجود، ومنفي ومثبت، ومعقول وغير معقول، سمّي برزخا، وهو الخيال، فإنك وإن أدركته، وكنت عاقلا تعلم أنك أدركت شيئا وجوديّا وقع بصرك عليه، وتعلم قطعا أنه ما ثم شيء جملة واصلا، فما هو هذا الذي أثبت له شيئية ونفيتها عنه في حال إثباتك إياها، فالخيال لا موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا غير معلوم، ولا منفي ولا مثبت وإلى مثل هذه الحقيقة يصير الإنسان في نومه وبعد موته، فيرى الأعراض صورا قائمة متجسّدة، ولا يشك فيها، والمكاشف يرى في يقظته ما يراه النائم في حال نومه، وما يراه الميت بعد موته، ثم أن الشارع وهو الصادق سمى هذه الحضرة البرزخية التي تنتقل إليها بعد الموت ونشهد نفوسنا فيها بالصور والناقور، وهو جمع صورة فينفخ في الصور وينقر في الناقور، وهو بعينه اختلفت عليه الأسماء.

مطلب في بيان الصور اعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن الصور ما هو فقال عليه الصلاة والسلام: «هو قرن من نور ألقمه إسرافيل» «1»، فأخبر أن شكله شكل القرن، فوصفه بالسّعة والضيق، فإن القرن واسع ضيق، وهو عندنا على خلاف ما يتخيله أهل النظر في الفرق بين ما هو أعلى القرن وأسفله، ونذكره إن شاء اللّه. فاعلم أن سعة هذا القرن لا شيء أوسع منه، وذلك أنه يحكم بحقيقته على كل شيء وعلى ما ليس بشيء، ويصوّر العدم المحض والمحال والواجب والإمكان، ويجعل الوجود عدما والعدم وجودا، وفيه يقول النبي صلى اللّه عليه وسلّم: «اعبد اللّه كأنك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) رواه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب ذكر البعث والصور، حديث رقم ( 4742 ). ورواه أحمد في المسند عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، حديث رقم ( 6514 ). ورواه غيرهما.

"***"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تراه»، «1»، أي: تخيّله في قلبك وأنت تواجهه لتراقبه وتستحي منه وتلزم الأدب معه في صلاتك، فقد صور الخيال ما تستحيل عليه الصورة والتصوّر، فلهذا كان واسعا، وأما ما فيه من الضيق فإنه ليس في وسع الخيال أن يقبل أمرا من الأمور الحسية والمعنوية والنسب والإضافات وجلال اللّه وذاته إلا بالصورة، ولو رام أن يدرك شيئا من غير صورة لم تعط حقيقته، ذلك لأنه عين الوهم لا غيره، فمن هنا هو ضيق في غاية الضيق، فإنه لا يجرد المعاني عن المواد أصلا، ولهذا كان الحس أقرب شي إليه، فإنه من الحس أخذ الصور وفي الصور الحسية تجلّي المعاني، فهذا من ضيقه، وإنما كان هذا أي ضيقا حتى لا يتّصف بعدم التقيّد وبإطلاق الوجود وبالفعال لما يريد إلا اللّه تعالى وحده ليس كمثله شيء، فالخيال أوسع المعلومات ومع هذه السعة العظيمة التي يحكم بها على كل شيء قد عجز أن يقبل المعاني مجردة عن المواد كما هي في ذاتها، فيرى العلم في صورة لبن وخمر ولؤلؤ، ويرى الإسلام في صورة قبة وعامود، ويرى القرآن في صورة عسل وسمن، ويرى الشرع في صورة قيد، ويرى الحق في صورة إنسان، فهو الواسع الضيق واللّه واسع على الإطلاق. وأما كون القرن من نور فإن النور سبب الكشف والظهور، إذ لولا النور ما أدرك البصر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الإيمان. . . ، حديث رقم ( 50 ). ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . . ، حديث رقم ( 1 - 8 ). ورواه غيرهما. ولفظ رواية مسلم هو: عن عبد اللّه بن عمر قال: حدّثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينا نحن عند رسول اللّه ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلس إلى النبي، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول اللّه: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، إن استطعت إليه سبيلا».

قال: صدقت. قال: فعجبنا له، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان !. قال: «أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه». قال: صدقت.

قال: فأخبرني عن الإحسان ؟ قال: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك».

قال: فأخبرني عن الساعة ؟. قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: «أن تلد الأمة ربّتها. وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشّاء، يتطاولون في البنيان». قال ثم انطلق. فلبثت مليّا. ثم قال لي: «يا عمر ! أتدري من السائل ؟». قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: «فإنه جبريل، أتاكم يعلّمكم دينكم».

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!