موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف

لأبي بكر الكلاباذي رحمه الله

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


54. الباب الرابع والخمْسُون: قولهم في الغَلَبَة

الغَلَبَة: حال تبدو للعبد لا يمكنه معها ملاحظة السبب، ولا مراعاة الأدب، ويكون مأخوذا عن تمييز ما يستقبله، فربما خرج إلى بعض ما يُنْكِر عليه من لم يعرف حاله، ويرجع على نفسه صاحبه إذا سكنت غلبات ما يجده.

ويكون الذي غلب عليه: خوف، أو هيبة، أو إجلال، أو حياء، أو بعض هذه الأحوال؛ كما جاء في الحديث عن أبي لبابة بن عبد المنذر حين استشارة بنو قريظة لما استنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقة - أنه ذبح -، ثم ندم على ذلك، وعلم أنه قد خان الله ورسوله، فانطلق على وجهه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: "لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت "؛ فهذا لما غلب عليه الخوف من الله عز وجل ، حال بينه وبين أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وكان هو الواجب عليه لقول الله عز وجل : {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول} الآية، وليس في الشريعة ارتباط بالسواري والعمد! وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أن استبطأه: {أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه}، فلما علم الله صدقه، وأن ذلك صدر عنه لغلبة الخوف عليه غفر له، فأنزل الله توبته، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم . >

فأبو لبابة رضي الله عنه : لما أن غلب عليه الخوف، لم يمكنه ملاحظة السبب (وهو: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية)، ولم يمكنه مراعاة الأدب (والأدب: أن يعتذر إلى من أذنب إليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ).

وكما غلب على عمر رضي الله عنه حمية الدين: حين اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصالح المشركين عام الحديبية، فوثب عمر حتى أتى أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، أليس هذا برسول الله "؟ قال: بلى! قال: ألسنا بالمسلمين "؟ قال: بلى! قال: أليسوا بالمشركين "؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا "؟ فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله. فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله "، ثم غلب عليه ما يجد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم كما أجابه أبو بكر، حتى قال: أنا أعبد الله، ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ". فكان عمر يقول فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق وأصلي من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً. >

وكاعتراضه على النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: حين صلى على عبد الله ابن أبي، قال عمر: فتحولت حتى قمت في صدره، وقلت: يا رسول الله، أتصلي على هذا، وقد قال يوم كذا كذا، يعدد أياما له؟! حتى قال له: {أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت}، وصلى عليه، فقال عمر: فعجب لي! وجرأتي على رسول الله!

ومنه: حديث أبي طيبة: حين حجم النبي صلى الله عليه وسلم فشرب دمه؛ وذلك محظور في الشريعة، ولكن فعله في حال الغلبة، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لقد احتَظَرْتَ بحظائرَ من النار}.

فهذه كلها، وأمثالها كثيرة، تدل على أن "حالة الغلبة": حالة صحيحة، ويجوز فيها ما لا يجوز في حال السكون، ويكون الساكن فيها بما هو أرفع منه في الحال: أمكن وأتم حالة؛ كما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه . >



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!