موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف

لأبي بكر الكلاباذي رحمه الله

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


26. الباب السادس والعشرون: قوْلهم في كرامات الأولياء

اجمعوا: على إثبات كرامات الأولياء، وإن كانت تدخل في باب المعجزات، كالمشي على الماء، وكلام البهائم، وطي الأرض، وظهور الشيء في غير موضعه ووقته.

وقد جاءت الأخبار بها، وصحت الروايات، ونطق بها التنزيل: من قصة الذي عنده علم من الكتاب في قوله تعالى {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}، وقصة مريم حين قال لها زكريا: {أني لك هذا؟ قالت: هو من عند الله}، وقصة الرجلين اللذين كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرجا فأضاء لهما سوطاهما، وغير ذلك.

وجواز ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وغير عصره واحد؛ وذلك أنه إذا كانت في عصر النبي للنبي صلى الله عليه وسلم على معنى التصديق له، كان في غير عصره على معنى التصديق؛ وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - حين نادى سارية - قال لسارية: يا سارية بن حصن، الجبل، الجبل "، وعمر بالمدينة على المنبر، وسارية في وجه العدو على مسيرة شهر. والأخبار في هذا كثيرة وافرة. >

وإنما أنكر جواز ذلك من أنكر: لأن فيه زعم إبطال النبوات؛ لأن النبي لا يظهر عن غيره إلا بمعجزة يأتي بها، تدل على صدقه، ويعجز عنها غيره، فإذا ظهرت على يدي غيره لم يكن بينه وبين من ليس بنبي فرق، ولا دليل على صدقه، قالوا: وفيه تعجيز الله عن إظهار نبي عن من ليس بنبي "!

وقال أبو بكر الوراق: النبي لم يكن نبيا للمعجزة، وإنما كان نبيا بإرسال الله تعالى إياه، ووحيه إليه، فمن أرسله الله وأوحى إليه فهو نبي كانت معه معجزة أو لم تكن، ووجب على من دعاه الرسول الإجابة له وإن لم يره معجزة، وإنما كانت المعجزات: لإثبات الحجة على من أنكر، ووجوب كلمة العذاب على من عاند وكفر، وإنما وجبت الإجابة للنبي بدعوته: لأنه يدعوه إلى ما أوجب الله عليه: من توحيده، ونفي الشركاء عنه، وإتيان ما ليس في العقل استحالته، بل وجوبه أو جوازه ".

والأصل في ذلك: أنهما عينان: نبي ومتنبي، فالنبي صادق، والمتنبي كاذب، وهما يشتبهان في الصورة والتركيب.

وأجمعوا: أن الصادق يؤيده الله بالمعجزة، والكاذب لا يجوز له ما يكون للصادق؛ لأن في هذا تعجيز الله عن إظهار الصادق من الكاذب.

فأما إذا كان ولي صادق وليس بنبي: فإنه لا يدعي النبوة، ولا ما هو كذب وباطل، وإنما يدعو إلى ما هو حق وصدق، فإن أظهر الله عليه كرامة لم يقدح ذلك في نبوة النبي، ولا أوجب شبهة فيها؛ لأن الصادق: يقول ما يقوله النبي، ويدعو إلى ما يدعوا إليه النبي، فظهور الكرامة له تأييد للنبي، وإظهار لدعوته، وإلزام لحجته، وتصديقه فيما يدعوه ويدعيه من النبوة، وإثبات توحيد الله عز وجل .

وجوز بعضهم أن يرى الله أعداءه في خاصة أنفسهم وفيما لا يوجب شبهة: ما يخرج من العادات، ويكون ذلك استدراجا لهم، وسببا لهلاكهم؛ وذلك أنها تولد في أنفسهم تعظما وكبرياء، ويرون أنها كرامات لهم استأهلوها بأعمالهم، واستوجبوها بأفعالهم، فيتكلون على أعمالهم، ويرون لهم الفضل على الخلق، فيزرون بعباده، ويأمنون مكره ويستطيلون على عباده.

وأما الأولياء: فإنهم إذا ظهر لهم من كرامات الله شيء، ازدادوا لله تذللا وخضوعا، وخشية واستكانة، وإزراء بنفوسهم، وإيجابا لحق الله عليهم، فيكون ذلك زيادة لهم في أمورهم، وقوة على مجاهداتهم، وشكرا لله تعالى على ما أعطاهم.

فالذي للأنبياء: معجزات، وللأولياء: كرامات، وللأعداء: مخادعات. >

وقال بعضهم: إن كرامات الأولياء تجري عليهم من حيث لا يعلمون، والأنبياء تكون لهم المعجزات وهم بها عالمون، بإثباتها ناطقون؛ لأن الأولياء قد يخشى عليهم الفتنة مع عدم العصمة، والأنبياء لا يخشى عليهم الفتنة بها؛ لأنهم معصومون "، قالوا: وكرامة الولي: بإجابة دعوة، وتمام حال، وقوة على فعل، وكفاية مؤنة، يقوم لهم الحق بها، وهي مما يخرج عن العادات. ومعجزات الأنبياء: إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وتقليب الأعيان ".

وجوز بعض المتكلمين وقوم من الصوفية: إظهارها على الكذابين من حيث لا يعلمون وقت ما يدعونها فيما لا يوجب شبهة، كما روى في قصة فرعون: من جرى النيل معه، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الدجال: أنه يقتل رجلا ثم يحييه فيما يخيل إليه، قالوا: إنما جاز ذلك لأنهما ادعيا ما لا يوجب شبهة؛ لأن أعيانهما تشهد على كذبهما فيما ادعياه من الربوبية ".

واختلفوا في الولي: هل يجوز أن يعرف أنه ولي أم لا؟ >

فقال بعضهم: لا يجوز ذلك؛ لأن معرفة ذلك تزيل عنه خوف العاقبة، وزوال خوف العاقبة يوجب الأمن، وفي وجوب الأمن زوال العبودية؛ لأن العبد بين الخوف والرجاء: قال الله تعالى: {ويدعوننا رغبا ورهبا} ".

وقال الأجلة منهم والكبار: يجوز أن يعرف الولي ولايته؛ لأنها كرامة من الله تعالى للعبد، والكرامات والنعم يجوز أن يعلم ذلك فيقتضي زيادة الشكر ".

والولاية ولايتان: ولاية تخرج من العداوة، وهي لعامة المؤمنين، فهذه لا توجب معرفتها والتحقق بها للأعيان، لكن من جهة العموم، فيقال: المؤمن ولي الله ولاية اختصاص واصطفاء واصطناع.

وهذه توجب معرفتها والتحقق بها، ويكون صاحبها محفوظا عن النظر إلى نفسه فلا يدخله عجب، ويكون مسلوبا من الخلق (بمعنى النظر إليهم بحظ) فلا يفتنونه، ويكون محفوظا عن آفات البشرية، وإن كان طبع البشرية: قائما معه، باقيا فيه، فلا يستحلى حظا من حظوظ النفس استحلاء يفتنه في دينه واستحلاء الطبع قائم فيه، وهذه هي خصوص الولاية من الله للعبد. >

ومن كان بهذه الصفة: لم يكن للعدو إليه طريق (بمعنى الإغواء)؛ لقوله عز وجل : {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}، وهو مع هذا ليس بمعصوم من صغيرة ولا كبيرة، فإن وقع في أحديهما قارنته التوبة الخالصة. والنبي معصوم: لا يجري عليه كبيرة بإجماع، ولا صغيرة عند بعضهم.

وزوال خوف العاقبة ليس بممتنع، بل هو جائز؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنهم من أهل الجنة، وشهد للعشرة بالجنة، والراوي له: سعيد ابن زيد (وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة)، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم : توجب سكونا إليها، وطمأنينة بها، وتصديقا لها، وهذا يوجب: الأمن من التغيير، وزوال خوف التبديل لا محالة.

والروايات التي جاءت في خوف المبشرين: من قول أبي بكر رضي الله عنه : يا ليتني كنت تمرة ينقرها الطير "، وقول عمر رضي الله عنه : يا ليتني كنت هذه النبتة، ليتني لم أك شيئا "، وقول أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه : وددت أني كبش، فيذبحني أهلي ويأكلون لحمي ويحسون مرقي "، وقول عائشة رضي الله عنه : يا ليتي كنت ورقة من هذه الشجرة "، وهي من شهد لها عمار بن ياسر على منبر الكوفة، فقال: أشهد أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ". >

إنما كان ذلك منهم: خوفا من جريان المخالفات عليهم، إجلالا لله تعالى، وتعظيما لقدره، وهيبة له، وحياء منه؛ بأنهم أجلوا الحق أن يخالفوه وإن لم يعاقبهم، كما قال عمر رضي الله عنه : نعم المرء صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه "، يعني: أن صهيبا ليس يترك المعصية لله خوف عقوبته، ولكنه يتركها إجلالا له، وتعظيما لقدره، وحياء منه.

فخوف المبشرين: لم يكن خوفا من التغيير والتبديل؛ لأن خوف التغيير والتبديل مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم يوجب شكا في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كفر. ولم يكن ذلك خوف عقوبة في النار دون الخلود فيها؛ لعلمهم بأنهم لا يعاقبون بالنار على ما يكون منهم، لأنها إما أن تكون صغائر فتكون مغفورة باجتناب الكبائر، أو بما يصيبهم من البلوى في الدنيا.

قال عبد الله بن عمر فيما روى عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزلت هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ألا أقرئك آية أنزلت عليَّ}؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأقرأنيها، فلا أعلم ما أصابني، إلا أني وجدت انقصاما في ظهري، فتمطيت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ما شأنك يا أبا بكر}؟ فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! وأينا لم يعمل سوءا؟ وإنا لمجزون بما عملنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون: فتجزون بذلك في الدنيا، حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب. وأما الآخرون: فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة} "، أو تكون كبائر فتقارنها التوبة لا محالة، فتصح بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة. على أن هذا الحديث: قد بين أنه يأتي يوم القيامة ولا ذنب له، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: {وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}. >

ولو كان كما قال بعض الناس: إنهم بشروا بالجنة، ولم يبشروا بأنهم لا يعاقبون، فكان خوفهم من النار وإن علموا أنهم لا يخلدون فيها "! لكان المبشرون وغيرهم من المؤمنين في ذلك سواء؛ لأنهم لا محالة مخرجون منها.

ولو جاز دخول أبي بكر وعمر النار مع قول النبي صلى الله عليه وسلم هما سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، جاز دخول الحسن والحسين مع قوله هما سيدا شباب أهل الجنة؛ فإن كانت سادة أهل الجنة يجوز أن يدخلهم الله النار، ويعذبهم بها، لم يجز أن يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يعذب بالنار.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : {إن أهل الدرجات العلى: ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما}، فإن كان هذان يدخلان النار ويخزيان فيها؛ لأن الله تعالى قال: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته}! فكيف بغيرهما؟!! >

وقال ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، وأبو بكر وعمر أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما، وقال: {هكذا نبعث يوم القيامة}، فإن جاز دخولهما النار جاز دخول الثالث.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : {يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب}، فقال عكاشة بن محصن الأسدي: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {أنت منهم}، وأبو بكر وعمر أفضل من عكاشة لا محالة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : {هما سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين}، فكيف يجوز أن يدخل عكاشة الجنة بغير حساب وهو دونهما في الفضل، وهما في النار؟! فهذا غلط كبير.

فقد صح بهذه الأخبار: أنهما لا يجوز أن يكونا معذبين بالنار مع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهما بالجنة، فقد تبين أمنهما، فمهما قيل فيهما وفي غيرهما من المبشرين، كان ذلك قولا فيمن سواهما من الأولياء من جواز الأمن.

وأما طريق معرفة سائر الأولياء دون المبشرين - إذ كان المبشرون إنما علموا ذلك بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لم يكن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرهم -: فإنهم إنما يعرفون بما يحدث الله فيهم من اللطائف التي يخص بها أولياءه، وبما يورد على أسرارهم من الأحوال التي هي أعلام ولايته: من اختصاصه لهم به، وجذبه لهم مما سواه إليه، وزوال العوارض عن أسرارهم، وفناء الحوادث لهم، والصوارف عنه إلى غيره، ووقوع المشاهدات والمكاشفات التي لا يجوز أن يفعلها الله تعالى إلا بأهل خاصته ومن اصطفاه لنفسه في أزله، مما لا يفعل مثلها في أسرار أعدائه؛ فقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه : {أنه لم يفضلكم بكثرة الصوم والصلاة، ولكن فضلكم بشيء وقر في صدره} أو {في قلبه}، فهذا معنى الحديث.

ويؤمنهم أن يجدوا في أسرارهم كرامات ومواهب، وأنها على الحقيقة، وليست بمخادعات كالذي كان للذي آتاه آياته فانسلخ منها، ومعرفتهم أن أعلام الحقيقة لا يجوز أن يكون كأعلام الخداع والمكر؛ لأن أعلام المخادعات تكون في الظاهر: من ظهور ما خرج من العادة مع ركون المخدوع بها إليها، واغترارهم بها، فيظنوا أنها علامات الولاية والقرب، وهو في الحقيقة خداع وطرد. ولو جاز أن يكون ما يفعله بأوليائه من الاختصاص كما يفعله بأعدائه من الاستدراج، لجاز أن يفعل بأنبيائه ما يفعل بأعدائه: فيبعد أنبياءه ويلعنهم كما فعل بالذي آتاه آياته! وهذا لا يجوز أن يقال في الله عز وجل . ولو جاز أن يكون للأعداء: أعلام الولاية، وأمارات الاختصاص، ويكون دلائل الولاية لا تدل عليها، لم يقم للحق دليل بته. وليست أعلام الولاية من جهة حلية الظواهر، وظهور ما خرج من العادة لهم فقط، لكن أعلامها: إنما تكون في السرائر، بما يحدث الله تعالى فيها: مما يعلمه الله تعالى ومن يجده في سره. >



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!