المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

رسالة النصوص
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
نصّ جلىّ وضابط كلَّى
![]() |
![]() |
يفيد معرفة المطاوعة والإجابة الإلهيّين وابائهما اعلم أن الميزان التام الصريح والبرهان الذوقي المحقق الصحيح في معرفة متى يكون العبد من المطيعين لربّه ، ومتى تسرع اليه الإجابة الإلهيّة في عين ما يسأله فيه دون تعويق ولا تأخير ، هو صحّة المعرفة وكمال المطاوعة .
فالأصح معرفة بالحق وتصورا له ، بكون الإجابة اليه في عين ما سئل فيه أسرع ، والأتم مراقبة لأوامر الحق ومبادرة إليها بكمال المطاوعة ، يكون مطاوعة الحقّ له أيضا اتمّ من مطاوعته سبحانه لغيره من العبيد ، ولهذا كان مقتضى حال الأكابر من أهل الله ، ان أكثر أدعيتهم مستجابة لكمال المطاوعة وصحّة المعرفة باللَّه والتصوّر له .
واليه الإشارة بقوله تعالى : * ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) * . فالعديم المعرفة الصحيحة الشّهوديّة السَّيئ التصور به ، ليس بداعي للحق الَّذي ضمن له الإجابة بقوله : “ ادْعُونِي ، أَسْتَجِبْ لَكُمْ “ وانّما هو متوجّه في دعائه إلى الصّورة المشخّصة في ذهنه الناتجة من نظره وخياله ، أو خيال غيره ونظره ، أو المتحصلة من المجموع المشار اليه ، فلهذا يحرم من هذا شأنه الإجابة في عين ما سئل فيه ، أو تتأخّر عنه ، اعني الإجابة ، ومتى أجيب مثل هذا فإنما سببه سرّ المعية الإلهية المقتضية عدم خلو شيء عن الحق ، أو الجمعية التامّة للمضطرّين الموعود لهم بالإجابة للاستدعاء الاضطراري ، والاستعداد الحاصل به ، اى بالاضطرار ، وحال من هذا وصفه مخالف لحال ذي التصور الصحيح ، والمعرفة المحققة ، فانّه يستحضر الحق ، ويتوجه اليه استحضارا وتوجّها محققا ، وان لم يكن ذلك من جميع الوجوه ، لكن يكفيه كونه متصورا ومستحضرا للحق في توجهه ، ولو في بعض المراتب ، ومن حيثية بعض الأسماء والصفات . فهذا حال المتوسطين من أهل الله ، والحال المتقدم ذكره حال المحجوبين . واما الكمل والافراد ، فان توجههم إلى الحق تابع للتجلى الذاتي ، الحاصل لهم ، والموقوف تحقّقهم بمقام الكمال على الفوز به ، وانّه مثمر لهم معرفة تامّة جامعة لحيثيّات جميع الأسماء والصّفات والمراتب والاعتبارات ، مع صحّة تصوّر الحق من حيث تجليّه الذاتي المشار اليه ، الحاصل لهم بالشهود الأتم ، فلهذا لا يتأخّر عنهم الإجابة .
وأيضا فانّهم اعني الكمّل ، ومن شاء الله من الافراد ، أهل الاطلاع على اللَّوح المحفوظ بل وعلى المقام القلمى ، بل وعلى حضرة العلم الإلهي ، فيشعرون بالمقدّر كونه لسبق العلم بوقوعه ، ولا بدّ فيسألون ل في مستحيل غير مقدّر الوجود ، ولا تنبعث هممهم إلى طلب ذلك ، ولا إرادة له .
وانّما قلت : ولا إرادة له ، من حيث - من أجل - خ ل ، ان ثمّة من يتوقّف وقوع الأشياء على ارادته ، وان لم يدع ، ولم يسأل الحق في حصوله ، وقد عاينت ذلك من شيخينا ، قدس الله سرّه ، سنين كثيرة في أمور لا أحصيها ، وأخبرني رضي الله عنه ، انّه رأى النبي صلى الله عليه وآله ، في بعض وقايعه ، وانّه بشّره ، وقال له : الله أسرع إليك بالإجابة منك اليه بالدعاء .
وهذا المقام فوق مقام إجابة الأدعية ، وانّه من خصايص كمال المطاوعة ، وكمال المطاوعة مقامه فوق مقام المطاوعة ، فان مقام المطاوعة يختص بما سبقت الإشارة اليه من المبادرة إلى امتثال الأوامر ، وتتبع مراضى الحق ، والقيام بحقوقه بقدر الاستطاعة ، كما أشار اليه صلى الله عليه وآله ، في جواب عمّه أبى طالب - عليه السلام - حين قال له ، ما أسرع ربّك إلى هواك يا محمّد ، لما رأى من سرعة إجابة الحق له فيما يدعوه فيه ، وجاء في رواية أخرى ، انّه قال له :
ما أطوع ربّك لك ، فقال له النّبى صلى الله عليه وآله ، وأنت يا عم ، لو أطعته أطاعك . وهذا المقام الذي قلت انّه فوق هذا ، راجع إلى كمال موافاة العبد من حيث حقيقته لما يريد الحق منه بالإرادة الأولى الكليّة ، المتعلقة بحصول كمال الجلاء والاستجلاء ، فانّه الموجب لإيجاد العالم ، والإنسان الكامل الذي هو العين المقصودة لله على التعيين ، وكل ما سواه فمقصود بطريق التبعيّة له ، ولسببه من جهة انّ ما لا يوصل إلى المطلوب الا به فهو مطلوب . فهذا هو المراد من قولي بطريق التبعيّة ، وانّما كان الإنسان الكامل هو المراد بعينه دون غيره ، من أجل أنّه مجلى تام للحق ، يظهر الحق به من حيث ذاته وجميع أسمائه وصفاته وأحكامه واعتباراته على نحو ما يعلم نفسه بنفسه في نفسه ، وما ينطوى عليه من أسمائه وصفاته ، وساير ما أشرت اليه من الأحكام والاعتبارات ، وحقائق معلوماته التي هي أعيان مكوّناته دون تغيير توجبه نقص القبول وخلل في مرآتيته ، يفضي بعدم ظهور ما ينطبع فيه على خلاف ما هو عليه في نفسه ، فانّ من كان هذا شأنه ، لا يكون له إرادة ممتازة عن إرادة الحق ، بل هو مرآت إرادة ربّه وغيرها من الصّفات ، وحينئذ يستهلك دعاؤه في ارادته التي لا يغاير ارادته ربّه وغيرها ، فيقع ما يريده ، كما قال تعالى : * ( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ . ومن تحقق بما ذكرناه ، فانّه ، ان دعا ، انّما يدعو بالسنة العالمين ومراتبهم ، من كونه مرآة لجميعهم ، كما انّه متى ترك الدّعاء ، انما يتركه من حيث كونه مجلى للحق باعتبار أحد وجهيه الذي يلي الجناب الإلهي ، ولا يغايره من كونه ، فعّالا لما يريد ، وليس وراء هذ المقام مرمى لمرام - لرام - خ ل - ولا مرقى إلى مرتبة ، ولا مقام ، ودونه متوجّه إلى الحقّ تعالى بمعرفة تامّة وتصوّر صحيح المقصود بخطاب * ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) * ، وخبر الحق صدق ، قد تيسّر ذلك لهذا العبد ، المشار اليه ، فلزمت النتيجة التي هي الإجابة ولا بدّ ، بخلاف غيره من المتوجّهين المذكور شأنهم ، فاعلم ذلك تفوز باسرار عزيزة وعلوم غريبة ، لم ينساق إليها الأفكار والأوهام ، ول رقمتها الأنامل بالأقلام ، والله المرشد .
![]() |
![]() |