المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص
للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي
وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
النص الثاني عشر
![]() |
![]() |
قال رضي اللّه عنه : [ نص شريف ] لما ذكر في النص السابق : الأتم معرفته تكون الإجابة إليه أسرع ، شرع في بيان كمال المعرفة ، وبيّن فيها أيضا كمال الإنسان أن يكون مظهر الحق على
نحو ما يعلم نفسه بنفسه في نفسه ، وأنه يكون مرآة لما يريد الحق بالإرادة الأولى الكلية ، وما يترتب على ذلك مع بيان كيفيتها ، وهي أمور عظيمة ، فلهذا عبر عنه بأنه نص شريف .
قال رضي اللّه عنه : [ اعلم أن أعلى درجات العلم بالشيء أي شيء كان وبالنسبة إلى أي عالم كان ، وسواء كان المعلوم شيئا واحدا أو أشياء ، إنما تحصل بالاتحاد بالمعلوم وعدم مغايرة العالم له ؛ لأن سبب الجهل بالشيء المانع من كمال إدراكه ، ليس غير غلبة حكم ما به يمتاز كل واحد منهما عن الآخر ، فإن ذلك بعد معنوي والبعد حيث كان مانع من كمال إدراك العبد البعيد وتفاوت درجات العلم بالشيء بمقدار تفاوت غلبة حكم ما به يتحد العالم بالمعلوم ، وأنه القرب الحقيقي الرافع للفصل الذي هو البعد الحقيقي المشار إليه بأحكام ما به المباينة والامتياز ] .
الفرق بين هذا ، وبين ما تقدم في التفريع الثالث من تفاريع النصوص الأول ، أن المذكور ثمة بيان كمال الإحاطة بالشيء وأنه محال ، وهنا بيان سبب العلم ، وكيف تحصيله إلى حد ليس فوقه إمكان إدراك . أي إنما يحصل أعلى درجات العلم بالشيء حتى لو كان المعلوم به تعالى ؛ لأجاب من توجه إليه في دعوته ، لكنه أي : شيء كان من الحق أو الخلق ، وبالنسبة إلى أي عالم من الحق أو الخلق ، وسواء كان شيئا واحدا بالذات كالبسائط أو بالعرض كالمركبات أو أشياء كثيرة من حيث هي كثيرة ، فهذه ثمانية أقسام : أن يعلم الحق نفسه وحدها ، أو مع العالم ، أو شخصا من العالم وحده . أن مع غيره من العالم .
أو يعلم أحد من الخلق الحق وحده ، أو مع العالم ، أو نفسه وحدها . أو مع آخر من العالم بالاتحاد بالمعلوم وعدم مغايرة العالم له . وهذا في الأول والسابع ظاهر ، وأما في بقية الأقسام ؛ فلأن المعلوم لا بدّ وأن يحصل للعالم مثاله وينتقش في مرآة علمه صورة بحيث لا يتميز غير المرآة في رأي العين ، وهذا هو المراد بالاتحاد ، على أن كل شيء متحد بالكل من حيث الإطلاق ، وهو الغاية في التجرد كمال علمه ، إذ لا مغايرة في مقام الإطلاق .
ثم استدل على ذلك بأن سبب الجهل إنما احتاج إلى السبب ؛ لأنه عارض بالنسبة إلى الوجود ؛ لأنه يستلزم صفة العلم على ما مر ، فلهذا فسره بالمانع من كمال الإدراك ، ولم يجعله مانعا من نفس الإدراك ؛ لأن كل شيء مدرك بوجه من الوجوه كالشيئية والوجودية ، وذلك من آثار الاتحاد في الإطلاق الأصلي ، وليس ذلك السبب غير غلبة
حكم ما به يمتاز كل واحد من العالم والمعلوم عن الآخر .
ولما أوهم هذا النوع مصادرة على المطلوب ، نية بأنه بعد معنوي ، فيوجب الجهل ؛ لأن البعد حيث كان أي : سواء كان في الأمور الحسية أو المعنوية مانع من كمال إدراك البعيد ؛ إذ لا يعرف معه جميع عوارضه من الكيفيات والمقادير .
هذا في البعد الحسي ظاهر ، وأما في المعنوي ، فبطريق القياس المسمى بالتمثيل في الظاهر وبطريق التحقيق في الحقيقة ، أن البعد المعنوي موجب لعدم حصول أمثال المعلوم للعالم على الكمال ، كما أن البعد الحسي مانع من تمثيل المرئي في حاسة الرائي على الكمال ، وإذا علم أن البعد سبب الجهل ، فالقرب سبب العلم . ولما كانا أمرين إضافيين غير متحدين بل مختلفين اختلافا غير منضبط ، فلهما درجات تفاوت درجات العلم بالشيء والجهل به من حيث الإحاطة بمقدار تفاوت غلبة حكم ما به يتحد العالم بالمعلوم .
وسمي رضي اللّه عنه حكم ما به الاتحاد بالقرب الحقيقي ؛ لأن القرب في المسافة والزمان والصفات قرب بالواسطة ، وهنا لا واسطة وإذا كان قربا حقيقيّا ، كان رافعا للفصل ، أي الفرق والمباينة الذي هو البعد الحقيقي أعم من الحسي والمعنوي ، والبعد الحقيقي هو المشار إليه بأحكام ما به المباينة والامتياز ، وقد أوهم كلامه الأول اختصاصه بالمعنوي ، لكن ذلك الوهم مرتفع بأنه رضي اللّه عنه قصد أولا ، أن البعد المعنوي مانع من كمال الإدراك بالقياس على الحسي ، ثم بيّن بالدليل على أن البعد حسيّا أو معنويّا ، مانع فسمي جميع أحكام المباينة والامتياز بالبعد الحقيقي ، بمعنى أن فيه حقيقة البعد ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ وإذا شهدت هذا الأمر وذقته بكشف محقق علمت أن سبب كمال علم الحق بالأشياء إنما هو من أجل استجلائه إياها في نفسه ، واستهلاك كثرتها وغيريتها في وحدته ، فإن كينونية كل شيء في أي شيء كان ، سواء كان المحل صوريّا أو معنويّا ، إنما يكون ويظهر بحسب ما تعين وظهر فيه ، ولهذا نقول : الحق علم نفسه بنفسه ، وعلم الأشياء في نفسه بعين علمه بنفسه ] .
أي : إذا شهدت بالبصيرة الباطنة المفيدة للوجدان الذي هو ذوق ، بكشف محقق الذي يجعله بديهيّا أن أعلى درجات العلم للشيء بالنسبة إلى كل عالم ، إنما هو بالاتحاد بالمعلوم .
قيد حصوله بالشهود المذكور ؛ لأن الدليل السابق إنما يدل على اعتبار القرب في الجملة ؛ لأن القرب الحقيقي ، إنما يوجد بالكشف والذوق ، وقيد الكشف بالمحقق ؛ لأن الصورة لا تدل على ذلك ، إذ لا صورة بهذا القرب حتى يكون لها مثال ، بل هذا القرب يكون وراء طور العقل علمت أن سبب كمال علم الحق بالأشياء مع أنها كثيرة ممكنة وعلمه واحد واجب ، إنما هو من أجل استجلائه إياه ، أي : إظهاره في نفسه بحسب تعيناته بحيث مرآتها ، والمرآة متحدة بالمرئي ، وإذا اتحدت بمرآته استهلاك كثرتها وغيريتها في وحدته الوجودية ، فصارت واحدة واجبة .
ولهذا قيل : الوحدة تساوق الوجود ، وكل ممكن محفوف بوجوبين : سابق ولا حق ، وإنما استهلك كثرتها وغيريتها في وحدة الحق إذا أتت في علمه مع أن حقائقها على الكثرة ، والإمكان الموجب للغير ؛ لأن كون كل شيء في شيء بحسب محله لا بحسب نفسه ، سواء كان المحل معنويّا كالعلم أو صوريّا ، كالمرايا المتعارفة يكون تعينه وظهوره بحسب المحل الذي تعين فيه فظهر فيه . فالأشياء لما ظهرت في علم الحق ، كان ظهوره على الوحدة والوجوب .
ولما ظهر الوجود في الحقائق ، كان ظهوره على الكثرة والإمكان ، وإنما كانت الأشياء على الوحدة والوجوب في علم الحق ؛ لكونه في غاية الوحدة حتى اتحد فيه المعلوم والعالم والعلم . ولهذا القول علم الحق نفسه بنفسه بعلم نفسه ، لا بمثال زائد ، ولا بمغايرة العالم للمعلوم ، وذلك كمال علمه بالأشياء باعتبار علمه بنفسه باستجلائه إياها فيه ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ ولما ورد الإخبار الإلهي بأن اللّه تعالى : كان ولم يكن معه شيء انتفت غيرية الأشياء بالنسبة إلى الوحدة التي هي محلها العيني ، وثبتت أولية الحق من حيث الوحدة ] .
استدلال على وجوب الأشياء ، وعدم غيريتها للحق باعتبار انتقاشها في العلم الأزلي بالإخبار النبوي الذي هو وجود إلهي لقوله تعالى : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ النجم : 4 ] ، لكنه وحى خفي ب : إن اللّه كان ولم يكن معه شيء مع أن حقائق الأشياء كانت في علمه بالإجماع ، فلا بد من تأويله بأنه ، لم يكن معه شيء يغايره ، فانتفت غيرية
الأشياء بالنسبة إلى الوحدة التي هي ، أو هو محل لكون الأشياء بالنسبة إلى الوحدة التي هي أو هو محل ؛ لكون الأشياء عين الحق والنسبة العلمية متعلقة به .
ومن هنا ثبتت أولية الحق للأشياء ، بمعنى أنها كانت حقّا أولا ، وأن الحق أولها من حيث الوحدة التي للأشياء ، وإلا فمن حيث كثرة حقائقها لم تكن حقّا ، ولا الحق أولها ، وهي كثيرة مع وحدته ، لما يذكر بعد من أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، لكن الأشياء من حيث الوجود العام واحد ، فالحق أولها ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ وبامتياز كثرة الأشياء المتعلقة ثانيا الكامنة من قبل في ضمن الوحدة والجمع بينهما وبين الوحدة بالفعل ، ظهر الكمال المستجن في الوحدة أولا ، فانفتح بذلك باب كمال الجلاء والاستجلاء الذي هو المطلوب الحقيقي ، وظهرت أحكام الوحدة في الكثرة ، والكثرة في الوحدة ] .
بيان كمال علمه تعالى التفصيلي بالأشياء الكثيرة ، أي لما كانت الأشياء كامنة في ضمن الوحدة المذكورة التي هي التعين الأول ، ولها كثرة اعتبارية من حيث تعلق العلم الذاتي بها ، صارت متعلقة ثانيا من حيث الكثرة ، والتعقل بهذه الحيثية يقتضي امتياز تلك الأشياء بعضها من بعض ، فاجتمع هذا الامتياز مع الوحدة الحقيقية في العلم الذاتي بالفعل ، فبهذا الجمع ظهر الكمال الذي كان للوجود مستجنّا في الوحدة ، وهو الكمال الأسمائي ، ولا يظهر إلا في المظاهر ،
فانفتح بذلك الجمع باب كمال الجلاء ، وهو ظهور الذات المقدسة لذاته في ذاته ،
وكمال الاستجلاء ظهورها لذاته في تعيناته ، أي اجتمع له الظهوران معا ، والجمع بين الظهورين مطلوب حقيقي للذات ؛ إذ قال : “ كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف “ ، وظهرت عند ذلك أحكام من الصفات الوجوبية في الكثرة ، أو صارت بالفعل ، فاتصفت بالوجود بالفعل لا يكون بلا وجوبين ، سابق ولا حق على ما تقرر في الحكمة وظهرت أحكام الكثرة من الصفات الإمكانية في الوحدة ؛
لأنها لما تعلقت بالكثرة ، فظهرت في مراياها انصبغت بصبغتها ، فاتصفت الوحدة بصفاتها ، فيما يلوح للناظرين ، وهي في الواقع صفات الكثرة ، وكانت أيضا في الوحدة من حيث اشتمالها على الكثرة .
.......................................
( 1 ) تقدم تخريجه .
قال رضي اللّه عنه : [ فوحدت الوحدة الكثرة ؛ لكونها صارت قدرا مشتركا بين المتكثرات المتميزة بالذات بعضها عن بعض ، فوصلت فصولها ؛ لأنها جمعت بذاتها كما ذكرنا ، وعددت المتكثرات الواحد من حيث التعينات التي هي سبب تنوعات ظهور الواحد بالصبغ والإصباغ ، والكيفيات المختلفة التي اقتضتها اختلافات استعدادات المتكثرات القابلة للتجلي الواحد فيها ] .
أي : لما ظهرت أحكام الوحدة في الكثرة ، جعلت الوحدة الكثرة أيضا واحدة ، لشمول الوحدة جميع أفرادها شمول الكلي على جزئياته .ففي كلّ شيء له آية * تدلّ على أنّه واحدوذلك لكون الوحدة صارت عند اتصاف أفراد الكثرة بها قدرا مشتركا بين المتكثرات التي هي أفراد الكثرة ، فلا تتميز من حيث الوحدة ، بل إنما يتميز بعضها عن بعض بذواتها وماهياتها ويتميز ذواتها أيضا ،
وتميز ذواتها ليست بمجرد أنها ذوات ، لجواز تشاركها ، بل بفصول مميز لها عرضت لأجناسها ، وهي وجودية لتقويمها الأجناس ، فهي من حيث الحقيقة عين الوحدة التي هي الوجود ، فوصلت الوحدة فصول الكثرة ؛ لأن الوحدة جامعة بذاتها ذوات الكثرة ؛ لأنها شؤون الوحدة ، كما ذكرنا .
فالعلم بالكثرة الفعلية كمال من حيث تعلق أحكام الوحدة بها ، وأما من جهة الكثرة نفسها فلا ؛ لأنه لما ظهرت أحكام الكثرة في الوحدة ، جعلت المتكثرات الوحدة الظاهرة فيها متعددة بحسب تعينات عرضت للوحدة بالنسبة إلى ظهورها في الكثرة ، فصارت التعينات سبب تنوعات ظهور الواحد بحسب الظاهر بصبغ للمظهر الظاهر بلون أحكام الإمكان ، وانصباغ الظاهر يظهر بلون أحكام الوجوب ،
فحصلت كيفيات مختلفة بحسب اختلاف استعدادات في ماهيات المتكثرات التي كلها قابلة للتجلي الواحد الذاتي ، فتكثر الواحد بحسب هذه الاختلافات منصبغا بصبغها تكثر صور الوجه الواحد في المرايا المختلفة ، وانصباغ الزجاجات المختلفة الألوان بنور الشمس ، وانصباغ نوره المنعكس في ذاتها بألوانها ، فيعلم هذه الصور من حيث أنها متحدة بصورة في الحقيقة ، مخالفة لها بهيئات بحسب استعدادات المظاهر ، فهاهنا يتجدد نسبة لعلمه إلى تلك الهيئات لا تجددا زمنيّا ، بل بحسب الرتبة من حيث أن هذه الصور تابعة لصورته الأصلية المعلومة
بالذات .
كما قال رضي اللّه عنه : [ فتجددت معرفة أنواع الظهورات والأحكام اللازمة لها التي هي عبارة عن تأثير بعضها في البعض بالإبرام والنقض ظاهرا وباطنا ، علوّا وسفلا ، مؤقتا وغير مؤقت ، مناسبا وغير مناسب . كل ذلك بالاتصال الحاصل بينها بالتجلي الوجودي الوجداني الجامع شملها كما ذكرنا ] .
أي : لما عددت المتكثرات الواحد بنوع ظهوراته في تعيناته مختلفة الاستعدادات ، اختلفت صور الواحد ، وبحسب ذلك تجددت ، أي ترتبت ترتبا طبيعيّا على معرفة الوحدة معرفة أنواع ظهورات الواحد ، لاتحاد الظاهر بالمظهر من حيث الوجود والظاهر صورة المظهر اسم الفاعل ، وهي بالحقيقة عينه ، وغيريتها من حيث أنها مثاله ، فأوجبت ترتب معرفتها على معرفة الوحدة الذاتية ، ولما كانت لهذه الظهورات أحكام لازمة من كون بعضها مؤثرا في البعض بالإبرام ، كتأثير المطر في إنبات الزرع والنقص ، كتأثير النار في إحراق الحطب ظاهرا ،
كما ذكرنا وباطنا كتأثير المقدمتين الموجبتين في إيجاب النتيجة ، وتأثير مقدمتين أحدهما سالبة في سلبها علوّا كتأثير العقول في النفوس ، وتأثير هما فيما دونهما إبراما ونقضا وسفلا كتأثير العناصر بعضها في بعض بالكون والفساد ، ومؤقتا كتأثير العقول في العناصر ، وتأثير العناصر بعضها في بعض ، وغير مؤقت كتأثير العقول في النفوس مناسبا ، كتأثير الأعمال الصالحة في إفادة السعادة ، وغير مناسب ، كتأثير الأعمال الفاسدة في إفادة الشقاوة والعذاب .
فهذه كلها علوم مختلفة متجددة أي : مترتبة على الحكم بالوحدة وبالاتصال الحاصل بين تلك الأمور ، وإن كان بينها تضاد بالتجلي الوجودي الوحداني المشترك بينها الجامع شملها في علم أزلي أبدي مع تغير النسب التي بينه ، وبين هذه الأشياء من حيث تضادها ، فافهم .
قال المصنف في العظيم رضي اللّه عنه : [ فالعلم والنعيم والسعادة على اختلاف ضروب الجميع ، إنما هو بحسب المناسبة والجهل والعذاب والشقاء بحسب قوة أحكام المباينة والامتياز ، وأما امتزاج أحكام ما به الاتحاد وأحكام ما به الامتياز ، فأبدى السلطنة ومحتد كل جملة من تلك الأحكام بضروب ما من المناسبة ، ومرجعها من حيث الإضافة ،
ومستندها هو المسمى بمرتبة ، فافهم ] .
أي : إذا كانت أعلى درجات العلم بالشيء الاتحاد بالمعلوم ، فمطلق العلم على اختلاف ضروبه ، وما يناسبه من النعيم والسعادة على اختلاف ضروبها بحسب المناسبة التي هي نوع اتحاد بين العالم والمعلوم ، وبين المتنعم والمتنعم به والسعيد وما يسعد به ، والمعرفة والإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة لتحصل تلك المناسبة ، ولزم من عكسه كون الجهل والعذاب والشقاء بحسب قوة أحكام المباينة ، والامتياز بين الجاهل والمجهول والمتعذب وما يتعذب به ، والشقي وما يشقى به ، والامتناع عن الكفر والأخلاق الرديئة والمعاصي ؛ لئلا تغلب أحكام المباينة ، والامتياز بين العبد وبين ما يتعذب ويتنعم به .
وإنما أوجب قوة أحكام المباينة ذلك ؛ لأنها مقابلة لأحكام المناسبة ، فتعمل ما يقابل عملها ، فلو ضعفت ، ثم تقابل المناسبة الأصلية من حيث اتحاد الكل بالوجود ، وأما امتزاج أحكام ما به الاتحاد من الأوصاف الوجوبية ، وأحكام ما به المباينة من الأوصاف الإمكانية بحيث يكونان على استواء أو يتقاربان ،
فأبدي السلطنة ما دام موجودا ، فمن امتزجا فيه ، فهو عالم سعيد ، متنعم من وجه دون وجه ، كأهل جنة الأفعال سعداء حيث نجوا عن النار ، أشقياء بالنسبة إلى أهل الجنة الصفات والذات .
وأما الذي يدخل النار أولا ، ثم الجنة فمن غلبة أحكام المباينة عليه أولا ، ثم غلبة أحكام الاتحاد ؛ وذلك لأن قوة الإيمان كانت بأرواحهم ، وقوة الأعمال الرديئة بظواهرهم ، وما على الظاهر يمكن زواله ، بخلاف ما على الباطل .
ويمكن أن يقال : الجهل والعذاب والشقاء بحسب قوة أحكام المباينة والامتياز لا غير ، فإنها إذا لم تقو فلا أثر لها في مقابلة المناسبة الأصلية ، ثم نفي ما يتوهم من الاتحاد أنه لا يكون معه من أحكام ما به المباينة والامتياز ، أصل فعال ، بل الأمران دائمان بعد الظهور ، فهو من حيث الوجوب حق واجب واحد في الكل دائما ومن حيث التعينات والصفات الممكنة خلق دائما .
ثم ذكر أن محتد ، أي : أصل كل جملة من أحكام ما به الاتحاد ، وأحكام ما به المباينة والامتياز ، بضرب ما من المناسبة مع الوحدة الحقيقية هو المسمى بالمرتبة ، فلذلك علمها الحق سبحانه وتعالى علما كاملا ، فأثرت تلك المناسبة من جهته عزّ وجلّ فيهم ؛ لأنها أصلية ولم
تؤثر مناسبتهم في تحصيل ذلك العلم لهم ؛ لأنها فرعية فيهم ، فضعفت ؛ وذلك لأن المناسبة وإن كانت أمرا مشتركا ، لكنها في كل شيء بحسب مرتبته ، فلذلك كان مرجعهم من حيث الإضافة ، أي مناسبة الحق للخلق أو مناسبة الخلق للحق هو المسمى بالمرتبة ، فأثرها في رتبة الحق الذي وحدته أصلية أعلى من أثرها في مرتبة الخلق الذي وحدته عارضة باعتبار الوجود .
ولولا اعتبار هذا التفاوت ، لتساوى العلمان بوجود المناسبة المشتركة بين العالمين الحق والخلق ، فافهم .
قال رضي اللّه عنه : [ ولما شرعت في كتابة هذا النص ، قيل لي في باطني في أثناء الكتابة الأحكام المضافة إلى الوحدة والواحد الحق والمعبر عنها بأحكام الوجوب ، أصلها من حيث الوحدة ، حكم واحد هو حقيقة القضاء والمقادير أثر تعددات المعلومات لذلك الحكم الواحد ، وظهور الوجود بموجب تلك التعديدات تأثرا أولا ، وتأثيرا ثانيا في المعدودات بإعادة أثرها عليها ، فاعلم ذلك وتدبر غريب ما نبهت عليه تفز بالعلم العزيز ، واللّه المرشد ] .
زيادة بيان لكمال العلم الإلهي إجمالا وتفصيلا ، مع بيان أن الأول هو المسمى بالقضاء ، والثاني بالقدر مع شمول الذات للكل ؛ وذلك لأن الأحكام المضافة إلى الوحدة التي هي التعين الأول والواحد ، الذي هو التعين الثاني أعني مرتبة الألوهية ، وهي الأحكام المعبر عنها بأحكام الوجوب ، وأصل جميع تلك الأحكام من حيث الوحدة حكم واحد ، هو حقيقة القضاء ، وهو العلم الإلهي بذاته في ذاته ، ولا تعدد لها في مرتبة التعين الأول بالفعل ، فالاتحاد بالمعلومات هناك أشد ؛ ولذلك وجب الرضا به ، والمقادير وقوع كل معلوم منها بقدره زمانا ومكانا ، واكتنافا لسائر العوارض أثر تعديدات تلك المعلومات التي اشتملت عليها تلك الوحدة بالقوة لذلك الحكم الواحد من حيث تعلقه لها بعد تعلقه بالذات الشاملة عليها ، وذلك الأثر طلب كل معلوم ما يقبله بذاته أو بواسطة أمر آخر ، والاتحاد هاهنا دون الأول ، وهو العلم التفصيلي محل القدر .
ثم ظهور وجود الواحد الحق من حيث أسماؤه على تلك المعلومات بموجب تلك التعديدات تأثيرا في المراتب العالية من العقول والنفوس ، وتأثيرا ثانيا فيما دونها من
الأجسام والجسمانيات ، إنما يكون في تلك المعدودات بإعادة آثارها التي هي عليها حال ثبوت أعيانها ، فكمل العلم الأزلي بها أيضا من حيث أنها لا تغاير ما في محل القدر ، مع أنها متحدة بالوجود الواحد من وجه ، وإن اعتبر معها تلك الآثار ، فإنها عين تلك المعلومات أيضا ، إذ هي معادة لا مستقلة من كل وجه .
فاعلم ذلك ، هو علم غريب لا يوجد في الكتب ، وفيه معرفة القضاء والقدر على وجه ما لم يسبق إليها ، واللّه المرشد إلى تحقيق أمثال هذه العلوم التي لا تنالها الأفكار ، ولا تدركها الأبصار .
![]() |
![]() |