موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


4- القصيدة الرابعة وهي ستة أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

سَلامٌ عَلى سَلْمَى وَمَنْ حَلَّ بِالْحِمَى

***

وَحُقَّ لِمِثْلِي رِقَّة أَنْ يُسَلِّمَا

2

وَمَاذَا عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ تَحِيَّة

***

عَلَيْنَا وَلٰكِنْ لا احْتِكَامٌ عَلى الدُّمَى

3

سَرُوا وَظَلامُ الْلَّيْلِ أَرْخَى سُدُولَهُ

***

فَقُلْتُ لَهَا صَبَّا غَرِيباً مُتَيَّمَا

4

أَحَاطَتْ بِهِ الْأَشْوَاقُ سُوراً وَأَرْصَدَتْ

***

لَهُ رَاشِقَاتُ النُّبْلِ أَيَّانَ يَمَّمَا

5

فَأَبْدَتْ ثَنَايَاهَا وَأَوْمَضَ بَارِقٌ

***

فَلَمْ أَدْرِ مَنْ شَقَّ الْحَنَادِسِ مِنْهُمَا

6

وَقَالَتْ: أَمَا يَكْفِيهِ أَنِّي بِقَلْبِهِ

***

يُشَاهِدُنِي فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمَا، أَمَا!

شرح البيت الأول:

1

سَلامٌ عَلى سَلْمَى وَمَنْ حَلَّ بِالْحِمَى

***

وَحُقَّ لِمِثْلِي رِقَّة أَنْ يُسَلِّمَا

يشير بـ"سلمى" إلى حالة سُليمانية وردت عليه من مقام سليمان عليه السلام، ميراثاً نبويا.و"مَن حلّ بالحمى" يعني أشباهها. وقوله: "بالحمى"، أي أنها في مقام لا يَنالُه، وهو النبوة، فإنَّ بابها مسدود (لقوله عليه الصلاة والسلام: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» [كنز العمال: 38360])، فنعَتَه بالحمى؛ فذوقُ هذه الحكمة لسليمان عليه السلام، من كونه نبيًّا، خلافُ ذوقِه لها من كونه وليًّا، وهو المقام الذي شاركْنَاه فيه بذوقنا لها، من الولاية التي هي الدائرة العُظمى.

"وحُقَّ لمثلي"، يعني أنه في مقام المحبَّة والرِّقَّة، إشارةً إلى الانتقال إلى عالم اللطف، فإن الكثيف غليظ الحاشية؛ يقول: أن يسلِّم على الوارد عليه (بخلاف العادة)؛ فإنَّ السلام في هذه الواردة إنما يتقدم المورودَ عليه، ل الوارد، وسببه: لأنه الطالب، وليس في قوته المعراج في الحقائق الإلهية، فلم وَرَدَت عليه بدأ هو بالسلام عليها، يشير أنه (هو) الطالب لها وهو أولى بالقدوم، لو أعطت الحقائق العروج (له)، وسبب عدم العروج: الجهل الذاتي بالمكانة الإلهية؛ فل تُعرف، فلا تُقصد بالمعراج، لكن بالسؤال.

شرح البيت الثاني:

2

وَمَاذَا عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ تَحِيَّة

***

عَلَيْنَا وَلٰكِنْ لا احْتِكَامٌ عَلى الدُّمَى

يقول: إن ردَّت التحيَّة علينا فمن باب المِنَّة، لا من باب أنه يَجِب عليها ذلك، فإن الله لا يَجِب عليه شيء، تعالى عن ذلك؛ فكل ما يكون لنا منه ابتداء أو إعادة إنما ذلك منه منّة سبحانه. وكنّى عن هذه النكتة الإلهية السليمانية النبوية بـ"الدُّمى"، التي هي صور الرخام (أي التماثيل المصنوعة منه)، صفةً جمادية، أي لا تردُّ بلسان نطق، لأنه لو ردَّتبلسان نطق لكان نطقها غير ذاتها، فتكون مركبة، وهي وحدانية الذات، من جميع الجهات، فورودُها عينُ كلامها، وعينُ شهودها، وعينُ سماعها، وهكذا جميع الحقائق الإلهية والنِّسَب الربانية؛فلو كنّى عنها بالصورة الحيوانية (بدلاً من "الدمى") لَم يتبين هذا المقام الذي هو مرادٌ لهذا القائل.

شرح البيت الثالث:

ثم قال:

3

سَرُوا وَظَلامُ الْلَّيْلِ أَرْخَى سُدُولَهُ

***

فَقُلْتُ لَهَا صَبَّا غَرِيباً مُتَيَّمَا

قوله: "سَرُوا"، الإسراء لا يكون إلا بالليل، وكذا معارج الأنبياء لم تكن قطُّ إلا بالليل، لأنه محل الإسرار والكتم وعدم الكشف، وقوله: "وظلام الليل"، أي حجاب الغيب، أرخى حجابه، الذي هو وجود الجسم الكثيف، فهو ليلُ هذه النشأة الحيوانية، لَمَّا كان ستراً على ما تحويه من اللطائف الروحانية والعلوم الشريفة، فلا يُدرِكُ جليسه ما عنده إلا بَعدَ العبارة عن ذلك والإشارة إليه. أي: كانَ سُراه بالأعمال البدنية والهِمم النفسية، وذلك لَمَّا سَرَت ورحلت هذه الحكمة عن قلبه، وقتَ شغله بتدبيره بعض عالَمه الكثيف، فلمَّا عاد إلى سِرِّه وجدها قد رحلت! فأسرى خلفها بهممه يطلبها وهو يقول لها: "ارحمي صبَّا"، أي مائلا إليك بالمحبة، والصَّبَابة التي هي رقة الشوق. "غريبا"، من أرض وجوده، "متيَّماً"، أي قد تيَّمَه الحب؛ يقول: تَعبَّدَهُ وتذلَّلَـه.

شرح البيت الرابع:

4

أَحَاطَتْ بِهِ الأَشْوَاقُ سُوراًوَأَرْصَدَتْ

***

لَهُ رَاشِقَاتُ النُّبْلِ أَيَّانَ يَمَّمَا

يقول: إنّ الأشواق لما أحاطت بهذا المحِب ولزمته في حال بُعدٍ وقُرب؛ وَصَفها بالشوق إليه، ولَمَّا كانت التجلِّيات في أوقات تقع في الصور الجميلة الحسنة في عالم التمثُّل، كما قال تعالى: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]؛ وصف هذه الصور بأنها ترشُقُ قلبه بسهام اللحظ حيث توجَّهَ القلب، يَصِف قلبَه بعمارته بالشهود، كما قال تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّو فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ [البقرة: 115].

شرح البيت الخامس:

ثم قال:

5

فَأَبْدَتْ ثَنَايَاهَا وَأَوْمَضَ بَارِقٌ

***

فَلَمْ أَدْرِ مَنْ شَقَّ الْحَنَادِسِ مِنْهُمَا

لَمَّا كان التبسُّم كشفاً يُسرع إليه السَّتْر (بخلاف الضحك الذي قد يطول)، وكان البرقُ (سريعاً) مثلَ ذلك، لذلك قَرَنه به، ووجد هذا المحبُّ ذاتَه كلَّها نوراً، كما يستنيرالليل عند وميض البرق، من قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ [النور: 35]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا»، وذكر الشعرَ، والبَشَرَ والقلبّ، والعظْمَ، وجميع الأعضاء، إلى أن قال: «وَاجْعَلْنِي كُلِّي نُورً» [كنز العمال: 3616]، يعني بهذا التجلِّي.

والتجلي الذاتي هو "البارق" لعدم ثبوته، فكأنه يقول: لَمَّا أضاءت زواي كوني كلُّها، وأضاء هيكل طبيعتي، وأنا في مقام حِكمةٍ متجلِّيَةٍ من حقيقة إلهية في صورة مثالية في مقام بسط، وتبسَّمَت هذه الصورة، فأشرقت أرضي وسمائي بنورها، واسْتَنَار ليلي، واتفق معها تجلٍّ ذاتي مقارن لتبسُّمِها؛ لم أدر مِمَّنْ أشْرَقَ كوني منهما، ولا مَن شقَّ حندَسَ ذاتي من هذين التجلِّيَين بنوره، يقول: الْتبس عليّ الأمر في ذلك.

شرح البيت السادس:

ثم قال:

6

وَقَالَتْ: أَمَا يَكْفِيهِ أَنِّي بِقَلْبِهِ

***

يُشَاهِدُنِي فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمَا، أَمَا!

يقول: قالت هذه الحقيقة الإلهية في هذه الصورة المثالية بلسانها: "ل يطلبني من خارج، ويكفيه تنزلي عليه بقلبه"، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193، 194]، فهو يُشاهدُني في ذاته بذاته، في كلِّ وقت، يعني بالأوقات: أيام الله،التي يقول تعالى (فيها): ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، فتلك أيامه سبحانه التي يوقِع الشؤونفيها.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!