موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


46- القصيدة السادسة والأربعين وهي أربعة عشر بيتاً من البحر البسيط

وقال رضي الله عنه:

1

بَيْنَ الْحَشَا وَالْعُيُونِ النُّجْلِ حَرْبُ هَوًى

***

وَالْقَلْبُ مِنْ أَجْلِ ذَاكَ الْحَرْبِ فِي حَرَبِ

2

لَـمْيَاءُ لَعْسَاءُ مَعْسُولٌ مُقُبَّلُهَ

***

شَهَادَة النَّحْلِ مَا يَلْقَى مِنَ الضَّـرَبِ

3

رَيَّا المُخَلْخَلِ، دَيْجُورٌ عَلَى قَمَرٍ،

***

فِي خَدِّهَا شَفَقٌ، غُصْنٌ عَلَى كُثُبِ

4

حَسْنَاءُ حَالِيَة لَيْسَتْ بِغَانِيَة،

***

تَفْتَّرُ عَنْ بَرَدٍ ظَلْمٍ وَعَنْ شَنَبِ

5

تَصُدُّ جِدًّا، وَتَلْهو بِالْهَوَى لَعِباً،

***

وَالمَوْتُ مَا بَيْنَ ذَاكَ الْجِدِّ وَالْلَّعِبِ

6

مَا عَسْعَسَ الْلَّيْلُ إِلَّا جَاءَ يَعْقُبُهُ،

***

تَنَفُّسُ الصُّبْحُ مَعْلُومٌ مِنَ الْحِقَبِ

7

وَلَا تَمُرُّ عَلَى رَوْضٍ رِيَاحُ صَبَ

***

تَحْوِي عَلَى كَاعِبَاتٍ خُرَّدٍ عُرُبِ

8

إِلَّا أَمَالَتْ وَنَمَّتْ فِي تَنَسُّمِهَا،

***

بِمَا حَمَلْنَ مِنَ الْأَزْهَارِ وَالْقُضُبِ

9

سَأَلْتُ رِيحَ الصَّبَا عَنْهُمْ لِتُخْبِرَنِي،

***

قَالَتْ: وَمَا لَكَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ أَرَبِ

10

فِي الْأَبْرَقَيْنِ، وَفِي بِرْكِ الْغِمَادِ، وَفِي

***

بِرْكِ الغَمِيمِ تَرَكْتُ الْحَيَّ عَنْ كَثَبِ

11

لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ أَرْضٌ، فَقُلْتُ لَهَ:

***

أَيْنَ المَفَرُّ، وَخَيْلُ الشَّوْقِ فِي الطَّلَبِ

12

هَيْهَاتَ لَيْسَ لَهُمْ مَعْنًى سِوَى خَلَدِي

***

فَحَيْثُ كُنْتَ يَكُونُ الْبَدْرُ فَارْتَقِبِ

13

أَلَيْسَ مَطْلِعُهَا وَهْمِي، وَمَغْرِبُهُ

***

قَلْبِي، فَقَدْ زَالَ شُؤْمُ الْبَانِ وَالْغُرُبِ

14

مَا لِلْغِرَابِ نَعِيقٌ فِي مَنَازِلِنَ

***

وَمَا لَهُ فِي نِظَامِ الشَّمْلِ مِنْ نَدَبِ

شرح الأبيات الأول والثاني والثالث:

1

بَيْنَ الْحَشَا وَالْعُيُونِ النُّجْلِ حَرْبُ هَوًى

***

وَالْقَلْبُ مِنْ أَجْلِ ذَاكَ الْحَرْبِ فِي حَرَبِ

2

لَـمْيَاءُ لَعْسَاءُ مَعْسُولٌ مُقُبَّلُهَ

***

شَهَادَة النَّحْلِ مَا يَلْقَى مِنَ الضَّـرَبِ

3

رَيَّا المُخَلْخَلِ، دَيْجُورٌ عَلَى قَمَرٍ،

***

فِي خَدِّهَا شَفَقٌ، غُصْنٌ عَلَى كُثُبِ

يقول: بين عالَم الأخلاط والتداخل والمناظر العلى حرب هوى، لافتقار هذ العالَم إليها وتعشُّقها بها، إذ لا حياة لها إلا بنظرها إليها، ولا حجاب لقلوب العارفين عن إدراك المناظر العلى إلا هذا العالم الطبيعي، والمناظر العلى متأهبة لإدراكات قلوب العارفين، وعالَم الطبيعة يحجبها عن إدراك تلك المناظر؛ فلا تزال المحاربة بينهما، لكنَّ القلب بين ذلك في حَرَب (وهو الويل والهلاك)، وفي شدة، لفقده وعدم وجوده مع وجود وجْده.

وقوله "لمياء": يشير إلى حكمة علوية من تلك المناظر، وصفها بسمرة الشفة، إشارة إلى ما عنده من الأمور الغيبية طيِّبة المذاق، وذكر شهادة النحل لأنها من الجنس الذي له ذوق في الوحي الذي هو مطلوب القلوب، والضَّرَب: العسل الأبيض، فجعل العسل دليلا على ما تدعيه النحل من الوحي إليها، المُشاكل لما تلقيه.

وقوله: "ريَّا المخلخل"، يقول: ممتلئة الساق، أي عظيمته، من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [القلم: 42]، أي عن أمرٍ فظيع، فوصفها بالعظمة.

وقوله: "ديجورٌ على قمر"، أي غيبٌ وراء مشاهدة، "في خدها شفق"، يشير إلى مقام الحياء، "غصن على كثب"، يريد القيومية الظاهرة في كتب التجليات.

شرح البيتين الرابع والخامس:

4

حَسْنَاءُ حَالِيَة لَيْسَتْ بِغَانِيَة،

***

تَفْتَّرُ عَنْ بَرَدٍ ظَلْمٍ وَعَنْ شَنَبِ

5

تَصُدُّ جِدًّا، وَتَلْهو بِالْهَوَى لَعِباً،

***

وَالمَوْتُ مَا بَيْنَ ذَاكَ الْجِدِّ وَالْلَّعِبِ

يقول: لها مقام الجمال، من اسمه الجميل، مزينة بالأسماء الإلهية، "ليست بغانية"، يقول: لم يفتضّهاأحد لأنّ الغانية هي المرأة التي لها زوج، (كما يقول تعالى): ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: 56].

وقوله: "تفتَرُّ عن بُرُدٍ"، يقول: تمتَنُّ بما يبرِّد الأكباد من لهب الشوق، و"الظَّلْم": بريق الأسنان، يريد صافية المشهد، و"الشنب": طيب ذلك المشهد وحسنه.

وقوله: "تصدّ جِدًّا"، لَمَّا كانت عزيزة المنال عن الإدراك كنّى عن ذلك بالصّد، ولَمَّا كان الأمر حقيقة في نفسه، أعني عزَّتَها، جعله جِدًّا لا هزْلا. وقوله: "وتلهو بالهوى"؛ أي تجعله في قلوب المحبين وتعلِّقه بها، مع كونها تعرف أنه ما يحصل لهم منها شيء، فأنزلَتْهُ منزلة اللهو. وقوله: "والموت ما بين ذاك الجدّ واللّعب"؛ يقول: إنّ المحبّ يموت ويقاسي الآلام بين هاتين الحالتين.

شرح الأبيات السادس والسابع والثامن:

ثم قال:

6

مَا عَسْعَسَ الْلَّيْلُ إِلَّا جَاءَ يَعْقُبُهُ،

***

تَنَفُّسُ الصُّبْحِ مَعْلُومٌ مِنَ الْحِقَبِ

7

وَلَا تَمُرُّ عَلَى رَوْضٍ رِيَاحُ صَبَ

***

تَحْوِي عَلَى كَاعِبَاتٍ خُرَّدٍ عُرُبِ

8

إِلَّا أَمَالَتْ وَنَمَّتْ فِي تَنَسُّمِهَا،

***

بِمَا حَمَلْنَ مِنَ الْأَزْهَارِ وَالْقُضُبِ

يقول: ما يبطُن أمرٌ إلَّا ويظهرُ مقابله، ولا يظهر أمرٌ إلَّا ويبطُن مقابله؛ أبد الآباد، ولا سيما وقد يُسمَّى الحقُّ سبحانه أزلًا بأنه الظاهر الباطن، ولا يُحمل على محمل النِّسب والإضافات، هذا هو حدِّ النظر العقلي من طريق التنزيه، وإنما ينبغي أن يُحمل على أنه أمرٌ ذاتي؛ هو عين المطلوب الموصوف بالوجه الذي يليق، ويعرفهمن نفسه.

وقوله: "ولا تمر"، أرواح التجليات على روض القلوب الحاوي على الحكم اللطيفة والمعارف الحسية الحاصلة من مقام الحياء والجمال، "إلا أمالت"، يريد عطف القيومية على القائمين بالأكوان، "ونَمَّت"، أي وصلت إلى أسماع القلوب ما عندها من لطائف الحكم، "في تنسمها": في هبوبها، "بما حملن من الأزهار"، يريد نشر المعارف، و"القضب": مراتب القيومية، من قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33].

شرح الأبيات التاسع والعاشر والحادي عشر:

ثم قال:

9

سَأَلْتُ رِيحَ الصَّبَا عَنْهُمْ لِتُخْبِرَنِي،

***

قَالَتْ: وَمَا لَكَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ أَرَبِ

10

فِي الْأَبْرَقَيْنِ، وَفِي بِرْكِ الْغِمَادِ، وَفِي

***

بِرْكِ الغَمِيمِ تَرَكْتُ الْحَيَّ عَنْ كَثَبِ

11

لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ أَرْضٌ، فَقُلْتُ لَهَ:

***

أَيْنَ المَفَرُّ، وَخَيْلُ الشَّوْقِ فِي الطَّلَبِ

يقول: سألت الأرواح التي تعطي الشروق لتخبرني عن منازل الأحبة، كما قال (في البيت الثامن): "ونَمَّت في تنسمِّها"، فقالت: "وما لك" بذلك من حاجة، والجواب: محذوف، ثم قالت هذه الريح: "تركتهم في الأبرقين"، مشهدين للذات؛ من حيث الشاهد ومن حيث المشهود، فمن حيث الشاهد يحصل في القلب أثر معرفة، ومن حيث المشهود لا يجد عند الرجوع أمراً ينضبط له، بل يزول بزوال التجلي. وقوله: "في برك الغماد" و"الغميم"، يريد المقاصد (أي: الحجَّ)، لأنها أماكن بأرض الحجاز، والحجُّ: القصد على التكرار، وقوله "عن كثب": عن قرب، كما قال عليه الصلاة والسلام في المطر لما نزل؛ ظهر له بنفسه صلى الله عليه وسلم حتى أصابه منه، وقال: «إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» [مسلم: 898]، فهذا معنى عن كثب.

وقوله: "لا تستقلُّ بهم أرض"؛ أي لا يثبتون على حال، يشير إلى التمكُّن في مقام التلوين وهو أرفع المقامات عند المحققين، وقوله تعالى: ﴿أَيْنَ اَلْمَفَرُّ﴾ [القيامة: 10]، يقول: إن كان عدم الثبوت لهم على حال، حتى أعجز وأرجععن الطلب، فلا أفعل! فإنّ "خَيْلَ الشوق مني في طلبهم" ما دمت وداموا، والدوام لن دائم، فالشوق والطلب دائم، سواء ثبتوا بمقام، أو لم يثبتوا.

شرح الأبيات من الثاني عشر إلى الرابع عشر:

12

هَيْهَاتَ لَيْسَ لَهُمْ مَعْنًى سِوَى خَلَدِي

***

فَحَيْثُ كُنْتَ يَكُونُ الْبَدْرُ فَارْتَقِبِ

13

أَلَيْسَ مَطْلِعُهَا وَهْمِي، وَمَغْرِبُهُ

***

قَلْبِي، فَقَدْ زَالَ شُؤْمُ الْبَانِ وَالْغُرُبِ

14

مَا لِلْغِرَابِ نَعِيقٌ فِي مَنَازِلِنَ

***

وَمَا لَهُ فِي نِظَامِ الشَّمْلِ مِنْ نَدَبِ

قوله: "هيهات ليس لهم معنى"، البيت بكماله، يريد قوله عليه الصلاة والسلام عن ربه: «مَا وَسِعَنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِن» [القصيدة الثانية: البيت السابع]، فهو (أي: القلب) محلُّ المعرفة بالله، ومجلى التجلي الإلهي.

وقوله: "أليس مطلعها وهمي!"، يريد حين تجليها في الصور في عالم التمثل، "ومغربها قلبي"، يريد السعة التي ذكرناها (في الحديث المشار إليه آنفاً)، وهي المعرفة بالله.

وقوله: "فقد زال شؤم البان والغُرُب"، فإنّ العرب تتشاءم بالبان لأنه من البَيْن، والغراب من الغربة، كما قال (سَوَّار بنُ المُضَرَّبِ السعدي، انظر شرح البيت الأول من القصيدة الحادية عشر):

تَنَادى الطائرانِ بِبَيْنِ سَلْمى

***

على غُصْنَيْنِ مِنْ غُرُبٍ وبَانِ

فكانَ البانُ أنْ بانَتْ سُليْمى

***

وفي الغُرُب اغْتِرَابٌ غَيْرُ دانِ

وقوله: "ما للغراب نعيق في منازلنا"، البيت بكماله، يقول: وإن الناس يتشاءمون بنعيق الغراب، وأنه من مبشّرات البين وشتات الشّمل، وهنا لا يُتصور، فإنّ الذي أهواه في قلبي، فليس لأسباب البين فيه ندب، أي ليس له أثر في تفريق الشّمل، فإنّ الحقائق تعطى أن لا حجاب بعد التجلي، ولا محو بعد الكتابة في القلب.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!