موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


42- القصيدة الثانية والأربعين وهي أحد عشر بيتاً من البحر الرمل

وقال رضي الله عنه:

1

يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، يَا أُولِي النُّهَى

***

هِمْتُ مَا بَيْنَ المَهَاة وَالمَهَ

2

مَنْ سَهَا عَنِ السُّهَا فَمَا سَهَ

***

مَنْ سَهَا عَنِ المَهَاة قَدْ سَهَ

3

سِرْ بِهِ بِسِـرْبِهِ لِسِـرْبِهِ،

***

فَالْلُّهَى تَفْتَحُ بِالْحَمْدِ الْلَّهَ

4

إِنَّهَا مِنْ فَتَيَاتَ عُرْبٍ،

***

مِنْ بَنَاتِ الْفُرْسِ أَصْلاً إِنَّهَ

5

نَظَمَ الْحُسْنُ مِنَ الدُّرِّ لَهَ

***

أَشْنَباً أَبْيَضَ صَافٍ كَالمَهَ

6

رَابَنِي مِنْهَا سُفُورٌ رَاعَنِي

***

عِنْدَهُ مِنْهَا جَمَالٌ وَبَهَ

7

فَأَنَا ذُو المَوْتَتَيْنِ مِنْهُمَا،

***

هٰكَذَا الْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِهَ

8

قُلْتُ: مَا بَالُ سُفُورٍ رَاعَنِي

***

مَوْعِدُ الْأَقْوَامِ إِشْرَاقُ المَهَ

9

قُلْتُ: إِنِّي فِي حِمًى مِن فَاحِمٍ

***

سَاتِراً فَلْتُرْسِلِيهِ عِنْدَهَ

10

شِعْرُنَا هٰذَا بِلَا قَافِية

***

إِنَّمَا قَصْدِيَ مِنْهُ حَرْفُ هَ

11

غَرَضِي لَفْظَة هَا مِنْ أَجْلِهَ

***

لَسْتُ أَهْوَى الْبَيْعَ هَا وَهَ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، يَا أُولِي النُّهَى

***

هِمْتُ مَا بَيْنَ المَهَاة وَالمَهَ

2

مَنْ سَهَا عَنِ السُّهَا فَمَا سَهَ

***

مَنْ سَهَا عَنِ المَهَاة قَدْ سَهَ

قال تعالى: ﴿يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَ﴾ [الطلاق: 12]، ففي ذلك وقع الهيمان بهذا العارف، و"المَهاة": الشمس، و"المها": بقر الوحش، فهذا سماوي وهذ أرضي، وبينهما وقع الهيمان لهذا العارف، وهو الذي أردنا بقوله تعالى: ﴿اللهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَ﴾ [الطلاق: 12]، ثم قال (تعالى): ﴿يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَ﴾ [الطلاق: 12].

وقوله: "من سهى عن السّها فما سها"، يقول: من غابت عنه الأمور الخفيفة فلم يدركها فما يقال فيه: "سهى عنها"، بل هي عزَّت عليه فلم يدركها، كالمَشاهد البرقية الذاتية، وإنما يقع السهو فيمن لا يُدرِك الأمور الجليَّة لشغله عنها بأمورٍ أُخر، إيثاراً لهُ عليها، كمن لا يرى الشمس وهو فيها يمشي، فبهذا يسمى ساهيا.

شرح الأبيات الثالث والرابع والخامس:

ثم قال:

3

سِرْ بِهِ بِسِـرْبِهِ لِسِـرْبِهِ،

***

فَالْلُّهَى تَفْتَحُ بِالْحَمْدِ الْلَّهَ

4

إِنَّهَا مِنْ فَتَيَاتَ عُرْبٍ،

***

مِنْ بَنَاتِ الْفُرْسِ أَصْلاً إِنَّهَ

5

نَظَمَ الْحُسْنُ مِنَ الدُّرِّ لَهَ

***

أَشْنَباً أَبْيَضَ صَافٍ كَالمَهَ

لما ذكر "المها" ذكر "السرب"، وهو أيضا من العالم الترابي الأرضي، فقال: "سِر به"، من السير، "بِسِربه"، يعني بنفسه، "لسِربه"، من أجل هؤلاء الأحباب الذين شبههم بالسِّرب، ويعني بنفسه، أي: قدِّم نفسك بين أيديهم قُرْبة وهديَّة، فإنك إذ فعلت ذلك أحبوك وأثنوا عليك، فـ"اللُّهى": الأُعطيات، "تفتح بالحمد"، الثنا، "اللها": جمع لهاة.

وقد قيل في ذلك: "تهدي الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي".

وقلنا في ذلك:

وأهدي عن القربان نفسا معيبة

***

وهل رُئي خلق بالعيوبتقرَّب

وكان بعض الفقراء يوما بمنى رأى الناس يقربون قرباناتهم، وكان فقيرا ل شيء له في الدنيا، فقال: يا رب كلٌّ قد وهبته شيئاً يتقرَّب به إليك، وليس عند عبدك الفقير سوى نفسه، وقد جعلتها في هذا اليوم قرباناً إليك فاقبلها مني ولا تردَّ قرباني في وجهي، إنك جوادٌ كريم، فمات من حينه وهو واقف!

وقوله: "إنها من فتيات"، البيت بكماله؛ يقول: إنها من المعارف المحمدية - وإن كان أصلها أعجميا - فإن الله يقول لَمَّا ذكر الأنبياء في القرآن، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، والعُجمة في الوضع بالأصل أقدم من العربية، ويجمعهم الكلام، والعبارة المُعجمة متقدمة، فلهذا قال: "من بنات الفرس أصلا إنها".

وقوله: "نظم الحسن"، البيت بكماله؛ يقول: إنّ فهوانيتها معشوقة (من معنى كلمة: "أشنب"، وهو جمال الثغر وصفاء الأسنان)، لها نور عظيم عندما تتجلى لمناجيها، و"المها": هنا حجر شفاف أبيض، شبَّهَ الثغر به لَمَّا وصفها وصف الجواز.

شرح البيتين السادس والسابع:

ثم قال:

6

رَابَنِي مِنْهَا سُفُورٌ رَاعَنِي

***

عِنْدَهُ مِنْهَا جَمَالٌ وَبَهَ

7

فَأَنَا ذُو المَوْتَتَيْنِ مِنْهُمَا،

***

هٰكَذَا الْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِهَ

كانت العرب إذا حسرت المرأة النقاب عن وجهها لأحد لغير شيء، عرف ذلك أنّ الشرّ ورائها في حقه، فيحذر وينظر لنفسه، وقال الشاعر: "وقد رابني منها الغداة سفورها". يقول: إنّ هذه النكتة، التي قد تعشَّق بها العلوية، ذاتقد أقام منازعها (أي مخالفها) في حضرة التمثيل ما يناسبها في الصورة، ميزاناً بالميزان، فعلِمَتْ أنه يريد أن تخدعه بذلك ليتعشَّق بتلك الصورة (المنازعة)، فيُحجب عن هذه (النكتة الحقيقية) التي فيها سعادته، فغارَت عليه لأمرين: شفقة عليه لئلا يجهل فيشقى، ولأنها أيضاً يتعطَّلُ أثرها إذا راحت عنه بقبوله لتلك (الصورة المنازعة)، فإنّ العلم بالشيء يقابل الجهل به ويضادُّه؛ فتُسفِرُ عن وجهها إعلاماً (له بهذه الصورة المنازعة) وليزيد تعشُّقا (بالصورة الحقيقة لَمَّا رآها سافرة عن جمالها الذي كان مستوراً)، فلهذا قال: "جمالٌ وبَها".

وقوله: "ذو الموتتين"؛ الموتة الأولى عن الأغيار، والثانية عن نفسه، فيبقى معها بها لا به، وقوله عن مجيء القرآن بها (أي بهذا المعنى أنه ذو الموتتين)، يريد قوله تعالى: ﴿أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: 11].

شرح البيتين الثامن والتاسع:

8

قُلْتُ: مَا بَالُ سُفُورٍ رَاعَنِي

***

مَوْعِدُ الْأَقْوَامِ إِشْرَاقُ المَهَ

9

قُلْتُ: إِنِّي فِي حِمًى مِن فَاحِمٍ

***

سَاتِراً فَلْتُرْسِلِيهِ عِنْدَهَ

في البيت الأول ضمير محذوف دل عليه المفهوم، كأنه يقول: قالت موعد الأقوام إشراق المها، يعني ظهور الشمس، نبَّهت على أنّ العدو الذي ذكرناه، المُعدُّ له صورة مثلها، مستعدٌّ عند تجلى ذات هذه المحبوبة له، (كي) يقيم هو تلك الصورة، وهو الذي كنّى عنها بإشراق المها، يعني ظهور ذاتها له من حيث يريد تحصيلها، فقال لها: "م عليّ منهم فإني في حمى عصمتك" (وهي ما أشار إليه بكلمة "فاحم"، أي معتم ساتر)، فتخفيني في سرادقات غيبك، فلا يصلون إليّ، كما قيل في حقِّ الرسول عليه السلام: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ [الجن: 27]، كل هذا حتى لا يلتبس عليه في الإلقاء، وهو الذي أردنا بقولنا:

تَنَزَّلَتِ الْأَمْلَاكُ لَيْلاً عَلَى قَلْبِي

***

وَدَارَتْ عَلَيْهِ مِثْلَ دَائِرَةِ الْقُلْبِ

شرح البيتين العاشر والأحد عشر:

ثم قال:

10

شِعْرُنَا هٰذَا بِلَا قَافِية

***

إِنَّمَا قَصْدِيَ مِنْهُ حَرْفُ هَ

11

غَرَضِي لَفْظَة هَا مِنْ أَجْلِهَ

***

لَسْتُ أَهْوَى الْبَيْعَ هَا وَهَ

يقول: ما لنا تعلق إلا بها، ولا بالكون إلا من أجلها، بشرط أن تكون ظاهرة فيه بأية مناسبة كانت، كما قال (الشاعر) الأول:

أُحُبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّ

***

أُحُبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ

وكما قلنا في صاحبٍ لنا حبشيّ اسمه بدر (الحبشي، وهو أحد من طلب كتابة هذ الشرح):

أحبّ لحبك الحبشان طرّاً

***

وأعشق لاسمك البدر المنير

وأما قولنا: "بلا قافية"، فإنّ القافية عند أكثر أهل هذا الشأن في القصيدة التي يكون أواخر أبياتها هاء الإضافة أو كافهاإنما هي في الحروف التي قبلها، وهنا لم نلتزم ذلك؛ فعلى هذا المذهب قلنا إنه بغير قافية، وقد قيل غير ذلك.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!