موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


23- القصيدة الثالثة والعشرين وهي سبعة عشر بيتاً من البحر المتقارب

وقال رضي الله عنه:

1

سُحَيْراً أَنَاخُوا بِوَادِي الْعَقِيقِ

***

وَقَدْ قَطَعُوا كُلَّ فَجٍّ عَمِيقِ

2

فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَقَدْ

***

رَأَوْا عَلَماً لَائِحاً فَوْقَ نِيقِ

3

إِذَا رَامَهُ النَّسْـرُ لَمْ يَسْتَطِعْ،

***

فَمِنْ دُونِهِ كَانَ بَيضُ الْأنُوقِ

4

عَلَيْهِ زَخَارِفُ مَنْقُوشَة

***

رَفِيعُ الْقَواعِدِ مِثْلُ الْعَقُوقِ

5

وَقَدْ كَتَبُوا أَسْطُراً أَوْدَعُوهَا،

***

أَلَا مَنْ لِصَبٍّ غَرِيبٍ مَشُوقِ

6

لَهُ هِمَّة فَوْقَ هٰذَا السِّمَاكِ،

***

وَيُوطَأُ بِالْخُفِّ وَطْأَ الْحَرِيقِ

7

وَمَسْكِنُهُ عِنْدَ هٰذَا الْعُقَابِ،

***

وَقَدْ مَاتَ فِي الدَّمْعِ مَوْتَ الْغَرِيقِ

8

قَدَ أسْلَمَهُ الْحُبُّ لِلْحَادِثَاتِ،

***

بِهٰذَا الَمكَانِ بغَيْرِ شَفِيقِ

9

فَيَا وَارِدِينَ مِيَاهَ الْقُلِيْبِ،

***

وَيَا سَاكِنِينَ بِوَادِي الْعَقِيقِ

10

وَيَا طَالِباً طَيْبَة زَائِراً،

***

وَيَا سَالِكَينَ بِهٰذَا الطَّرِيقِ

11

أَفِيقُوا عَلَيْنَا، فَإِنَّا رُزِئْنَ

***

بُعَيْدَ السُّحَيْرِ قُبَيْلَ الشُّـرُوقِ

12

بِبَيْضَاءَ غَيْدَاءَ بَهْتَانَة،

***

تُضَوِّعُ نَشْـراً كَمِسْكٍ فَتِيقِ

13

تَمَايَلُ سَكْرَى، كَمِثْلِ الْغُصُونِ،

***

ثَنَتْهَا الرِّيَاحُ كَمِثْلِ الشَّقِيقِ

14

بِرِدْفٍ مَهُولٍ كَدِعْصِ النَّقَ

***

تَرَجْرَجَ مِثْلَ سَنَامِ الْفَنِيقِ

15

فَمَا لَامَنِي فِي هَوَاهَا عَذُولٌ،

***

وَلَا لَامَنِي فِي هَوَاهَا صَدِيقِي

16

وَلَوْ لَامَنِي فِي هَواهَا عَذُولٌ

***

لَكَانَ جَوَابِي إِلَيْهِ شَهِيقِي

17

فَشَوْقِي رِكَابي، وَحُزْنِي لِبَاسِي،

***

وَوَجْدِي صَبُوحِي، وَدَمْعِي غَبُوقِي

شرح البيتين الأول والثاني:

1

سُحَيْراً أَنَاخُوا بِوَادِي الْعَقِيقِ

***

وَقَدْ قَطَعُوا كُلَّ فَجٍّ عَمِيقِ

2

فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَقَدْ

***

رَأَوْا عَلَماً لَائِحاً فَوْقَ نِيقِ

يقول: إن أهل هذه المعرفة لَمَّا أُدْلجوا (من الدُّلْجَة، وهي السير في الليل) في معارجهم، وسروا لنيل مقاصدهم، وقطعوا كل مسلك بعيد في نفوسهم، بالسفر البعيد الذي ندبهم الحق إليه، وأمرهم في قوله (تعالى): ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ [الذاريات: 50]، وذمّ من يتربَّص عن هذا السفر، بقوله (تعالى): ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ [التوبة: 24] الآية إلى قوله (تعالى): ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا﴾ [التوبة: 24]، فجعل البركة في الحركة منه، وإليه نزلوا في السَّحَر، نزول المسافر إذا أُدلج ليستريح، وتُسمَّى تلك النومة: "العُسِّيلة"، لما فيها من اللذة، فهو نزولهم للاستراحة في آخر طريق معرفة ما أودع الله في ليل هياكلهم من الحكمة المتعلقة بالحقائق الإلهية، وجعل السَّحَر موضع الفصل بين هذه الحقائق الليلية الهيكلية، وبين حقائق الأرواح النورية المعبَّر عنها بالمل الأعلى. فأناخوا في هذا المقام - وهذا يسمى الوقوف - وثميسلك سلوكا آخر لتحصيل فوائد أخر، فإنّ الله تعالى (أمر بمتابعة السلوك حين) قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه: 114]. وجعل (الشاعر) الإناخة بمطايا الهمم في وادي العقيق، الذي هو موضع الإحرام بالحج والعمرة، فجعله مناخ حُرْمة محمدية، لأنها ميقات أهل المدينة الذين نبَّه عليهم بلسان الإشارة أن لا نهاية لِما يطلبون؛ فليرجعوا، فإنّ رجوعهم سفر لاقتناص علوم لم ينالوها في العروج، فما لهم غاية يقفون عندها، وللتنبيه في ذلك بهم (الإشارة في) قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ [الأحزاب: 13]، وأهل يثرب هم المحمديون من العارفين، ولكن من باب الإشارة بالآية، لا من باب النصِّ والتفسير، فلا نغلط فيما أشرنا إليه في ذلك.

ثم قال: لَمَّا أخذوا تلك الراحة في السَّحر طلع الفجر، أي: ظهر الأمن من عالَم الأمر لِناظري، ولكن ظهرعَلَمٌ من ذلك، أي إشارة دليل، ولكن في محل النفع والرفعة، وهو "النيق" (وهو أعلى مكان في الجبل).

يقول: فما ظهر لي (هذا الأمن) في عالَم الأمر لنفسه (أي من تلقاء نفسه)، وإنما لاح لي عَلَماً، أي دليلاً، على ما يناسب ذلك الإبداع اللطيف من الحقائق الإلهية، والجبل (أي النيق) المذكور هنا في هذا البيت الذي هذاالعَلَم عليه هو الجسم، وذلك (السالك) هو الروح، أي ظهر له (الأمن) في عالَم الأمر من نفسه، فإنه أتم في المعرفة.

شرح البيتين الثالث والرابع:

3

إِذَا رَامَهُ النَّسْـرُ لَمْ يَسْتَطِعْ،

***

فَمِنْ دُونِهِ كَانَ بَيضُ الْأنُوقِ

4

عَلَيْهِ زَخَارِفُ مَنْقُوشَة

***

رَفِيعُ الْقَواعِدِ مِثْلُ الْعَقُوقِ

يقول "الأنوق": الرخم، و"العقوق": قيل: هو قصر عظيم فوق جبل عال، وقيل غير ذلك. وقوله: "إذا رامه النسر لم يستطع"، إشارة إلى الروح البرزخي الذي هو أقرب إلى الملأ الأعلى من غيره من الأرواح المدبِّرة، يقول: هذا العَلَم الذي لاح له لا يستطيع الرُّقيَّ إليه هذا الروح المكنّى عنه بالنَّسْر والأنوق. لَمَّا لم يكن في الطير من يفرخ في موضع أعلى منه ولا أحمى، خوفا على بيضه، كانت العرب تضرب به الأمثال في كلامها لعلوه وارتفاعه، وكنّى عنه بالبَيْض، أي صفة النتاج التي تكون عنه هذه الأرواح البرزخية، ثم وصف العَلَمَ بأنَّ عليه زخارف منقوشة؛ يريد بها التجلي بالخُلُق الإلهية، و"منقوشة": ثابتة، وشبَّهَه بالعَقوق لارتفاعه وعلوه.

شرح الأبيات الخامس والسادس والسابع:

5

وَقَدْ كَتَبُوا أَسْطُراً أَوْدَعُوهَا،

***

أَلَا مَنْ لِصَبٍّ غَرِيبٍ مَشُوقِ

6

لَهُ هِمَّة فَوْقَ هٰذَا السِّمَاكِ،

***

وَيُوطَأُ بِالْخُفِّ وَطْأَ الْحَرِيقِ

7

وَمَسْكِنُهُ عِنْدَ هٰذَا الْعُقَابِ،

***

وَقَدْ مَاتَ فِي الدَّمْعِ مَوْتَ الْغَرِيقِ

شَرْحُه بلسان الأدب: يقول هذا العاشق إنَّ همَّته - على علوها - أنزل عن الحب عليه وسلطانه عليه من الذل أن يوطأ بالخف، ثم تغالى في ذكر كثرة دموعه أنه مات غريقا فيها مع سكناه في هذا الموضع (العالي!).

المقصد: يقول: وقد كتبوا أسطرا أودعوها، يريد الكتابة الإلهية من (قوله تعالى): ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة ﴾ [الأنعام: 12] بكم في مقام العزة الأحمى. وقوله: "ألا مَن لصبٍّ"، يريد مائلٍ إلينا بالمحبة، "غريب"، من قوله عليه الصلاة والسلام: «(بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا) فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي» [كنز العمال: 1192، 1194]، والغربة مفارقة الوطن، ووطن الكون عبارة عن وجوده لربِّه، وغربته نزوحه عنه إلى وجوده لنفسه، مع مفارقة العين، لابدَّ من ذلك، وقد أشرنا في المفاريدلنا في هذا المعنى بقولنا:

إذا ما بدا الكون الغريب لناظري

***

حننت إلى الأوطان حنّ الركائب

وقوله: "مشوق"، طالبا للقاء المحبوب بضرب من الهيجان.

وقوله: "له همة فوق هذا السّماك"؛ يقول: إن همته فوق الكون، أي لا تعلُّق لها به، ولكنه مع هذا يوطأ بالخف؛ إشارة إلى ما نُدب إليه من التواضع طلبا للرفعة، في قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَوَاضَعَ للهِ»، أي: من أجل الله، «رَفَعَهُ الله» [كنز العمال: 5730].

وقوله: "ومسكنه فوق هذا العُقاب"، البيت؛ يقول: وإن كان محله في هذا الوقت من الرفعة، بمثل ما وقعت به الكناية في عالم الأجسام، فإنّ المعارف المشهدية من باب الحب قد طمى سيلها حتى غطى هذا المقام الأحمى على رفعته عن هذا المُقيم فيه، وأفناه عن مشاهدة نفسه بهذا المشهد، فكنّى عنه بالغرق والموت.

شرح البيت الثامن:

8

قَدَ أسْلَمَهُ الْحُبُّ لِلْحَادِثَاتِ،

***

بِهٰذَا الَمكَانِ بغَيْرِ شَفِيقِ

يقول: قد أسلمه مقام الصفاء للحادثات، فإن البلاء إنما يرد على الأمثل فالأمثل. وقوله: "بهذا المقام"، يعني المقام الذي تقدم ذكره. وقوله: "بغير شفيق"، أي ما له مؤنس هناك إلا عارف مبتَّلٌ مثله، فشُغْلُه بنفسه لسروره بذلك، أو صبره يحول بينه وبين رؤية غيره، بحكم الشفقة أو شبهها.

شرح البيتين التاسع والعاشر:

ثم قال:

9

فَيَا وَارِدِينَ مِيَاهَ الْقُلِيْبِ،

***

وَيَا سَاكِنِينَ بِوَادِي الْعَقِيقِ

10

وَيَا طَالِباً طَيْبَة زَائِراً،

***

وَيَا سَالِكَينَ بِهٰذَا الطَّرِيقِ

يقول: يا أهل الحياة المنشأة من الأعمال (1)، يريد حياة العلم، من قوله تعالى: ﴿أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]، وقال (تعالى): ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، وجعله (علماً) مكتسبا من أجل أنه نسبه للقُلِيب، وهو البئر، وللإنسان فيه تعمُّلٌ، وهو حفره لاستخراج الماء.

ثم خاطب القُطَّان بوادي العقيق (2)، وهم الذين اكتسبوا العلم من الحرمة التي قامت للحق بقلوبهم (لكونه مكان الإحرام في الحج والعمرة)، وأشار إلى الوادي لأمرين: لانخفاضه، يريد التواضع، ولأنه مسيل الماء، فهو مسيل الحياة العلمية، وإنم قلنا: "من الحرمة":لأنه ميقات المحرمين بالحج والعمرة.

ثم خاطب طلاب المقامات اليثربية باسم طَيبة (3)، مِن طاب يطيب، وقوله (تعالى): ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ [الرعد: 29] هو من ذلك.

وقوله: "زائرا"، أي مائلا إليها، لعلمه بشرفها على غيرها، لأنه الميراث الأكمل.

ثم خاطب السالكين (4)، وهم أهل السلوك بهذا الطريق، يريد الصراط المستقيم، الذي قال فيه تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ [الأنعام: 153].

فخاطب أربعة أصناف من الخلق، لأرفع مقامات.

شرح البيت الحادي عشر:

فقال لهم:

11

أَفِيقُوا عَلَيْنَا، فَإِنَّا رُزِئْنَ

***

بُعَيْدَ السُّحَيْرِ قُبَيْلَ الشُّـرُوقِ

يقول: لا تشغلكم أحوالكم التي أضعفتكم وأفنتكم عن أن تفيقوا للنظر من حالنا، لتعلقنا بكم وطلبنا المعونة على ما نحن بصدده بهمَّتِكم ودعائِكم، وقوله: "فإنا رزئنا"، من الرزية (وهي المصيبة العظيمة)، يقول: أُخذنا عنا ولم نصل إليه وصول من حصل بيده شيء لمكانة العزة.

وقوله: "بعيد السّحير قبيل الشّروق"، وهو زمان العروج من النزول الإلهي إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل إلىطلوع الفجر [كنز العمال: 3353]. يقول: انقضى الوقت ولم نحصل على المطلوب، وجعل ذلك رزية (أي مصيبة عظيمة).

شرح البيت الثاني عشر:

فقال:

12

بِبَيْضَاءَ غَيْدَاءَ بَهْتَانَة،

***

تُضَوِّعُ نَشْـراً كَمِسْكٍ فَتِيقِ

يقول: رزئنا بفقد بيضاء، أي ما فيها شك، يريد هذه الصفة الذاتية التي هي مطلوبه.

وقوله: "غيداء"، يقول: مع كونها جليلة القدر لها ميل إلينا، وهو النزول (إلى سماء الدنيا [كنز العمال: 3353]) الذي ذكرناه، ومع هذا فلا نحصل منه ما يضبطه علم، أو عقل، أو وهم، أو خيال. و"البهتانة": الطيبة الريح.

يقول: إنّ لهذه الصفة في قلوبنا طِيباً ونشراً، يقول: وإن لم نشهد ذاته فإنّ لنا منها ما لنا من المسك (من) رائحة، وإن لم نشهد عينه، وهي هذه الآثار الإلهية التي في قلوب العباد، غير أنّ كلَّ واحدٍ ليس له مَشمٌّ لإدراك ما هي عليه من العطرية والنشر الطيِّب. وشبَّهها بالمسك لأنه أطيب الطيب، ولا سيما إذا كان مُفتَّتاً، فهو أطيب وأليق بالمشامِّ الإنسانية، ولو كان ثَمَّ ما هو أطيب من تلك الرائحة أوقع التشبيه به.

شرح البيت الثالث عشر:

فقال:

13

تَمَايَلُ سَكْرَى، كَمِثْلِ الْغُصُونِ،

***

ثَنَتْهَا الرِّيَاحُ كَمِثْلِ الشَّقِيقِ

يقول: "تمايل سكرى"، أراد: تتمايل، وهو النزول (إلى سماء الدنيا [كنز العمال: 3353]) كما ذكرناه. وقوله: "سكرى" يشير إلى مقام الحيرة لأنّ السكران حيران، فإنّ الميل إلينا لا يكون إلاّ بقدر ما يقع به التفهُّم عندنا مما يناسب، كأحاديث الضحك والفرح والتبشيش وما أشبه ذلك. وقوله: "كمثل الغصون"، لأنها محلَّ الثمر، أي ميلها للإفادة.

وقوله: "ثنتها الرياح"؛ أي أمالتها الهمم بطلبها إياها، فإنه تعالى يقول (تعالى): ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، و«مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» [البخاري: 7405]، فقُرْبُك شبرا أدَّى تقرُّبه إليك ذراعا، (والذراع شبرين:) شبراً لشبر جزاء، والشبر الآخر الزائد للمِنَّة الإلهية والفضل الخارج عن الكسب.

وقوله: "كمثل الشقيق"، وهو الحرير الخام الذي لم تدخله صنعة الآدمي يقول: أي أنها على ما هي عليه.

شرح البيت الرابع عشر:

14

بِرِدْفٍ مَهُولٍ كَدِعْصِ النَّقَ

***

تَرَجْرَجَ مِثْلَ سَنَامِ الْفَنِيقِ

يشير إلى ما أردفه من النعم المعنوية وغير المعنوية على عباده. وقوله: "مهول"، فمن فكَّرَ في ذلك عظم عليه وهاله ما أردفه سبحانه من جسيم مِننه التي ل طاقة للعبد على القيام بشكرها. وشبَّهَها بكثيب الرمل لارتكاب بعضها على بعض وتصرُّفها وكثرتها وتمييز بعضها من بعض، كما تنفصل دقيقة الرمل من الرمل، أي ل تمزج فتختلط فلا تعرف.

ثم شبه حركتها في قلوب العارفين بها مثل سنام الجمل العظيم في الرفعة والسِّمن، فإنه دُهنٌ كله، والدهن ممدُّ الأنوار للبقاء، فكذلك هذه العلوم إذا قامت بقلوب من قامت بها، أورثتها البقاء الأبدي في النعيم الأبدي.

شرح البيت الخامس عشر:

15

فَمَا لَامَنِي فِي هَوَاهَا عَذُولٌ،

***

وَلَا لَامَنِي فِي هَوَاهَا صَدِيقِي

يقول: لاتساعها لا تتعلق غيرة العباد بها، لأنها مع كلِّ أحد كالشمس، لو اتفق أن تهواها القلوب لقطعت يأسها من مماسة ذاتها، لنزاهتها وعلوها عن مقام محبيها، ولنالت منها مقصودها بمجرد النظر على الانفراد، لأنها متخيلة لكلِّ عين، فلهذا ل تصحُّ الغَيرة على محبوبٍ بهذه الصفة، فإنّ المصلي يناجي ربه [كنز العمال: 19674]، وكلُّ شخص في رؤيته على انفراده يناجي ربه بقلبه، فلا يقع في ذلك ازدحام، فل غَيرة، فلا لوم من عاذِل ولا من صديق أصلا.

شرح البيت السادس عشر:

ثم قال:

16

وَلَوْ لَامَنِي فِي هَواهَا عَذُولٌ

***

لَكَانَ جَوَابِي إِلَيْهِ شَهِيقِي

يقول: ولو تصور اللوم من أحد إليّ في حبي إياها لكان جوابي الإعلان بالبكاء والزفير، يريد أنّ الحال مني محبة بأني لا أسمع عذلك فيما جئتَ به.

شرح البيت السابع عشر:

ثم قال:

17

فَشَوْقِي رِكَابي، وَحُزْنِي لِبَاسِي،

***

وَوَجْدِي صَبُوحِي، وَدَمْعِي غَبُوقِي

يقول: فشوقي ركابي إليها وهو الذي ينزلني عليها بقول الحق تعالى: «أين المشتاقون إليّ أنزِّههم في وجهي، وأرفع لهم الحجاب حتى يروني فطوبى لهم ثم طوبى». ما أحسن تلك المناظر العلى بالمقام الأجلى والمكانة الزلفى.

ثم قال: إنّ وجدي وغذائي الذي هو سبب حياتي، و"الصبوح": شرب الغَداة، و"الغبوق": شرب العشي: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 62]، كما للمحجوبين: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46].



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!