موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


18- القصيدة الثامنة عشر وهي أحد عشر بيتاً من البحر الكامل

وقال رضي الله عنه:

1

قفْ بِالمَنَازِلِ وَانْدُبِ الْأَطْلَالَ

***

وَسَلِ الرُّبُوعَ الدَّارِسَاتِ سُؤَالَا:

2

أَيْنَ الْأَحِبَّة، أَيْنَ سَارَتْ عِيْسُهُمْ

***

هَاتِيكَ تَقْطَعُ فِي الْيَبَابِ أَلَالَا

3

مِثْلَ الْحَدَائِقِ فِي السَّـرَابِ تَرَاهُمُ

***

الْآلُ يَعْظُمُ فِي الْعُيُونِ الآلَا

4

سَارُوا يُرِيدُونَ الْعُذَيْبَ لِيَشْـرَبُو

***

مَاءً بِهِ مِثْلُ الْحَيَاة زُلَالَا

5

فَقَفَوْتُ أَسْأَلُ عَنْهُمُ رِيحَ الصَّبَ:

***

هَلْ خَيَّمُوا أو اِسْتَظَلُّوا الضَّالَا

6

قَالَتْ تَرَكْتُ عَلى زَرُودَ قِبَابَهُمْ

***

وَالْعِيسُ تَشْكُو مِنْ سُرَاهُ كَلَالَا

7

قَدْ أَسْدَلُوا فَوْقَ الْقِبَابِ مَضَارِباً

***

يَسْتُرْنَ مِنْ حَرِّ الْهَجِيرِ جَمَالَا

8

فَانْهَضْ إِلَيْهِمْ طَالِباً آثَارَهُمْ

***

وَارْفُلْ بِعِيسِكَ نَحْوَهُمْ إِرْفَالَا

9

فَإِذَا وَقَفْتَ عَلى مَعَالِمِ حَاجِرٍ

***

وقَطَعْتَ أغواراً بها وجِبالا

10

قَرُبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَلَاحَتْ نَارُهُمْ

***

نَاراً قَدَ اشْعَلَتِ الْهَوَى إِشْعَالَا

11

فَأَنِخْ بِهَا لَا يَرْهَبَنَّكَ أُسْدُهَا،

***

الاِشْتِيَاقُ يُرِيكَهَا أَشْبَالَا

شرح البيت الأول:

1

قفْ بِالمَنَازِلِ وَانْدُبِ الْأَطْلَالَ

***

وَسَلِ الرُّبُوعَ الدَّارِسَاتِ سُؤَالَا

يقول: "قف بي"، لداعي الحق من قلبه، "بالمنازل"، يريد المقامات التي ينزلها العارفون بالله في سيرهم إلى ما لا يتناهى من علمهم بمعبودهم. وقوله: "واندب الأطلالا"؛ وابك على ما بقي فيها من آثارهم، حيث لم يكن لي معهم قدم فيما نزلو فيه. ثم يقول: "وسل الربوع"، يعني المنازل، إذ لم تر عيناًفيها للنازلين، حتى تخبرك المنازل عنهم بما كانوا عليه معها من الآداب وسنيّ الأحوال ليكون لك بذلك تأديب ومعرفة. وسمّاها "دارسات" لتغيرها عن الحال التي كانت عليه حين نزلوها، فإنّ المنازل بعد فراق النازلين يذهب الأنس بها لذهابهم، إذ ل وجود لها من كونها منازل إلاّ بهم.

شرح البيت الثاني:

ثم ذكر السؤال ما هو، فقال:

2

أَيْنَ الْأَحِبَّة، أَيْنَ سَارَتْ عِيْسُهُمْ

***

هَاتِيكَ تَقْطَعُ فِي الْيَبَابِ أَلَالَا

يقول: أين درجوا؟ وأين سارت بهم هممهم، التي كنّى عنها بالعيس. فأجابته بقولها: هاتيك، أي انظر إليهم يسيرون في مقام التجريد، الذي كنّى عنه باليباب، وهو القفر يقطعون فيه الدلائل على مطلوبهم، فإنها مرتبطة بوجود المطلوب عندهم، كما قال تعالى: ﴿وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ﴾ [النور: 39].

شرح البيت الثالث:

ثم شبهها فقال:

3

مِثْلَ الْحَدَائِقِ فِي السَّـرَابِ تَرَاهُمُ

***

الْآلُ يَعْظُمُ فِي الْعُيُونِ الآلَا

يقول: انظر إليهم في السراب مثل الحدائق، جمع حديقة، وقد أورثهم دخول هذ المقام حال العظمة، وهو الآلالأول (وهو خيال الشخص الذي يحدثه السراب على الرمل الساخن)، والآل الثاني هو شخص الماشي في السراب بهذا الشرط، وسبب عظمه كونه دليلا فيعظم لدلالته على عظيم الذي هو مطلوبه، ولذا قال: حتى يفنىما لم يكن، وهو "أنت"، ويبقى من لم يزل، وهو "هو"، وقال تعالى: ﴿كَسَرابٍ بِقِيعَة﴾، مقام التواضع، ﴿(يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئًا﴾، فدلَّ على شيء، وهو قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ﴾ [النور: 39] لانقطاع الأسباب عنه، وهو مقام شريف، فلهذ قال: "الآلُ يعظم في العيون الآلَا"، أي أنّ العظمة التي كانت للإنسان على غيره من الممكنات، لأنه أقوى في الدلالة على الحق، لكونه على النشء الأكمل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام إنَّهُ مخلوقٌ «عَلَى صُورَةِ الرَّحْمٰنِ» [كنز العمال: 1146، 1148، 1149]، فلهذا كان أقرب الأدلة وأقواها وأعظمها.

شرح البيت الرابع:

ثم أخذ يذكر ما قصد الأحبة بسيرهم:

4

سَارُوا يُرِيدُونَ الْعُذَيْبَ لِيَشْـرَبُو

***

مَاءً بِهِ مِثْلُ الْحَيَاة زُلَالَا

يقول: ساروا طالبين سرَّ الحياة بمقام الصفا من عين الجود، لتحيا بذلك نفوسهم، فكنّى عنه بالشرب، وهو ثاني مرتبة من مقام التجلي، فإن الذوق أول مبادئ التجلي.

شرح البيت الخامس:

ثم أخذ يصف حاله في طلبه آثارهم والتفحص عن أخبارهم:

5

فَقَفَوْتُ أَسْأَلُ عَنْهُمُ رِيحَ الصَّبَ:

***

هَلْ خَيَّمُوا أو اسْتَظَلُّوا الضَّالَا

يقول: فتبعت آثارهم، أتفحص أخبارهم من ريح الصّبا، وهي الريح الشرقية - يريد عالَم (أي رجال) الأنفاس، الذين كانوا بعين التجلي، يقول: أسأل هؤلاء أصحابنا: هل نزلوا مستظلين بما كسبوا، أو استظلوا بما وُهبوا؟ فإنّ "الخيام" من عملهم، و"الضّال" ما لهم فيه تعمُّل، وقصد (شجر) الضال دون غيره لأن فيه معنى الحيرة (لأن مصدر الكلمة من فعل: ضلَّ).

شرح البيتين السادس والسابع:

ثم أخذ يذكر ما أجابته ريح الصّبا عنهم، فقال:

6

قَالَتْ تَرَكْتُ عَلى زَرُودَ قِبَابَهُمْ

***

وَالْعِيسُ تَشْكُو مِنْ سُرَاهُ كَلَالَا

7

قَدْ أَسْدَلُوا فَوْقَ الْقِبَابِ مَضَارِباً

***

يَسْتُرْنَ مِنْ حَرِّ الْهَجِيرِ جَمَالَ

يقول: قالت حين سألتها عنهم: تركتهم نازلين في قبابهم، يشير أنهم في ظلِّ كسبهم، على حالة التزلزل وعدم الثبوت، فكنّى عن ذلك بـ"زرود"؛ رملة عظيمة في قفر، ولَمَّا كان الرمل كثيرا ما تنقله الرياح عن حالاته وعن أماكنه، شبَّه (به) حالة التزلزل وعدم الثبوت على أمر واحد به.

وقوله: "والعيس تشكو من سراها"، يعني من تعلقها مطلوبها، "كلالا": أي إعياءً، والعياء الذي ينسب إليها من كونها تطلب من لا ينضبط (بصورة حسية) ولا يتصور (بالخيال)، ولا يحصل في النفس منه إلا آثاره، لا هو (عينه).

ثم أخذ ينبه على قوله (صلى الله عليه وسلم): «لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ (مِنْ خَلْقِه)» [القصيدة الثانية: البيت السادس]، لكن جعل الحجاب عليهم وفي حقهم، لا على الوجه، فقال: إنّ سطوات أنوار هذ المقام، إن لم يكن على وجوههم، أي حقائقهم - فإنّ وجه الشيء حقيقته - ما يسترها، وإلا ذهب هذا النور بمحاسنهم، كما تغيِّرُ الشمس محاسن الوجوه في المعتاد.

شرح البيت الثامن:

ثم أخذ يحثه على الرحيل خلفهم وما يفعله إذا لقيهم، فقال:

8

فَانْهَضْ إِلَيْهِمْ طَالِباً آثَارَهُمْ

***

وَارْفُلْ بِعِيسِكَ نَحْوَهُمْ إِرْفَالَا

يقول: تأدب مع المتقدم عليك ولا تزاحمه في مقامه، فإنه ليس لك فيه شيء؛ يريد بذلك مقامات الأنبياء عليهم السلام، وهم العارفون المذكورون في (البيت الأول من) هذه القطعة، الذين كنّى عنهم بـ"الأحبة"، يقول: فاطلب آثارهم، أي: اقتفِ على مدرجتهم وزاحمهم بالهمَّة - التي كنّى عنها بالعيس - لا بالحال، فإنَّ الحال محجوب في هذا المقام على غير النبي صلى الله عليه وسلم. وقد حكي عن أبي يزيد وغيره في هذ المقام حكايات معروفة، فإنه فتح له من مقام النبي صلى الله عليه وسلم قدر خرم الإبرة، تجليا لا دخولا، فاحترق،ومثل هذا كثير. والهمة لا تعجز عن الطلب ولا عن التعلق، ولكن ما كلُّ ما يُراد ويُتَعلَّق به يُنال! فلهذا لا يحجر على تعلق الهمم؛ والفائدة في تعلقها - وإن لم يحصل لصاحبها قدم في ذلك - نيل الإشراف على المطلوب (كما تمنَّى في البيت الأخير من القصيدة السابقة) والتنزه فيه، كمن يتنزه فيما هو خارج عنه بجسمه، وبصرُه يدركه، كتفرُّجِنا في زينة الكواكب في السماء، ونحن بذواتنا في الأرض، (أو كما كنَّى عن ذلك في القصيدة السابقة بالإشراف على المدينة المنورة من حاجر أو سلع أو أجياد، وتمنى أن يموت فيها كمداً!).

شرح البيت التاسع:

ولهذا قال:

9

فَإِذَا وَقَفْتَ عَلى مَعَالِمِ حَاجِرٍ

***

وقَطَعْتَ أغواراً بها وجِبالا

يقول: فإذا وقفت على موضع الحِجْر – الذي ذكرناه - الحائل بيننا وبين حصولنا فيه بالحال، وقطعت المواضع الغيبية، التي هي "الأغوار"، والسبل، التي هي "الجبال"، التي يهدينا الحق إليها بعد الجهاد، من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾ [العنكبوت: 69]، يقول: فإذا حصلت هذه الحالات تقرُبُ من المنازل العلية.

شرح البيت العاشر:

فقال:

10

قَرُبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَلَاحَتْ نَارُهُمْ

***

نَاراً قَدَ اشْعَلَتِ الْهَوَى إِشْعَالَا

يقول: "قربت منازلهم" لك (حينئذٍ). وقوله: "ولاحت نارهم"، أي المكاره التي اقتحموها حتى أوصلتهم إلى هذه المنازل العلية، «فَإِنَّ الْجَنَّةُ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ» [كنز العمال: 6805]. كما ذكر لي بعض المكاشفين بالموصل - وكان من الصادقين - أنه رأى معروفا الكرخيّ رضي الله عنه في وسط النار قاعداً، فهاله ذلك وما عرف معناه! فلما ذكره لنا قلت له: تلك النار هي الحمى على منزله الذي رأيته فيه قاعدا، فمن أراد أن ينال ذلك المنزل الذي هو فيه فليقتحم إلى هذه النار والغمرات! فسررته بذلك وعرف أنه الحق. فهذا هو النار الذي أراد به (الشيخ محي الدين) صاحب هذ القول (في هذا البيت).

وقوله: "قد أشعلت الهوى إشعالا"؛ يقول: أضرمت في القلب نار الحب لنيل هذ المقام، ليكون تأييدا له وقوة على اقتحام الشدائد في نيل المطلوب الذي تعلق به قلبه.

شرح البيت الحادي عشر:

ثم قال:

11

فَأَنِخْ بِهَا لَا يَرْهَبَنَّكَ أُسْدُهَا،

***

الاِشْتِيَاقُ يُرِيكَهَا أَشْبَالَا

يقول: «حبك الشيء يعمي ويصم» [كنز العمال: 44104] (فهو "يعمي") فلا تقع عينك على ما تخاف منه مما يحول الخوف بينك وبين مطلوبك، و"يصم" عن سماع ما يتخوف به كلّ طالب في طريق مطلوبه. يقول له: إن كنت صادقا في حبك فلا يرهبنَّك ما ترى من الشدائد، التي كنّى عنها بالأُسْد، فإنّ الصدق في الشوق إلى ذلك يردُّها في عينك بمنزلة الأشبال، الذين هم صغار أولاد الأَسَد، الذين لا يُخاف منهم؛ أي يهوِّنُ عليك (ذلك الحب الصادق) الشدائد والأمور الصعاب، (بسبب) ما تجده من الشوق إليهم.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!