موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


13- القصيدة الثالثة عشر وهي اثني عشر بيتاً من البحر الكامل

وقال رضي الله عنه:

1

نَاحَتْ مُطَوَّقَة فَحَنَّ حَزِينُ

***

وَشَجَاهُ تَرْجِيعٌ لَهَا وَحَنِينُ

2

جَرَتِ الدُّمُوعُ مِنَ الْعُيُونِ تَفَجُّعاً

***

لِحَنِينِهَا فَكَأَنَّهُنَّ عُيُونُ

3

طَارَحْتُهَا ثَكْلى بِفَقْدِ وَحِيدِهَ

***

وَالثُّكْلُ مِنْ فَقْدِ الْوَحِيدِ يَكُونُ

4

طَارَحْتُهَا وَالشَّجْوُ يَمْشِـي بَيْنَنَ

***

مَا إِنْ تَبِينُ وَإِنَّنِي لَأَبِينُ

5

بِي لَاعِجٌ مِنْ حُبِّ رَمْلَة عَالِجٍ

***

حَيْثُ الْخِيَامُ بِهَا وَحَيْثُ الْعِينُ

6

مِنْ كُلِّ فَاتِكَة الْأَلْحَاظِ مَرِيضَة

***

أَجْفَانُهَا لِظُبَى اللِّحَاظِ جُفُونُ

7

مَا زِلْتُ أَجْرَعُ دَمْعَتِي مِنْ غِلَّتِي

***

أُخْفِي الهَوَى عَنْ عَاذِلِي وَأَصُونُ

8

حَتَّى إِذَا صَاحَ الْغُرَابُ بِبَيْنِهِمْ

***

فَضَحَ الْفِرَاقُ صَبَابَة المَحْزُونِ

9

وَصَلُوا السُّـرَى، قَطَعُوا الْبُرَى، فَلِعِيسِهِمْ

***

تَحْتَ المَحَامِلِ رَنَّة وَأَنِينُ

10

عَايَنْتُ أَسْبَابَ المَنِيَّة عِنْدَمَ

***

أَرْخَوْا أَزِمَّتَهَا وَشُدَّ وَضِينُ

11

إِنَّ الْفِرَاقَ مَعَ الْغَرامِ لَقَاتِلي

***

صَعْبُ الْغَرَامِ مَعَ اللِّقَاءِ يَهُونُ

12

مَا لِي عَذُولٌ فِي هَواهَا إِنَّهَ

***

مَعْشُوقَة حَسْنَاءُ حَيْثُ تَكُونُ

شرح البيت الأول:

1

نَاحَتْ مُطَوَّقَة فَحَنَّ حَزِينُ

***

وَشَجَاهُ تَرْجِيعٌ لَهَا وَحَنِينُ

يقول: قابلت صورة قوله (تعالى): ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29، ص: 72] المتولد عنه، وهي اللطيفة الإنسانية، والتطويق المنسوب إليها (في هذ البيت)، وهو ما أخذ عليها من الميثاق الذي طوقت به، فوصف بأنّ الكل بكى على جزءيه بضرب من المقابلة، ولهذا جاء بالنوح ليجمع بين المقابلة بحالة البكاء. وقوله: "فحنَّ حزين" يريد الروح الجزئي الإنساني من هذا الشخصالمعين. وقوله: "وشجاه" أي: أحزنه، "ترجيع": وهو ما أتتبه (هذه المطوقة) من طيب نغمات الاستدعاء إلى الاتصال الذي هو الحشر الأول بالموت، والحنين من باب الرأفة، والتعطف الذي للوالد على ولده، ومن الجزءحنين الولد إلى والده، والشخص إلى وطنه. وليس يريد هنا قوله: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ على صُورَتِهِ» [كنز العمال: 1148، 15129] من أجل الطوق، وإن كان قد دخل المقام الأقدس تحت قوله (تعالى): ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَة﴾ [الأنعام: 12] وتحت قوله (صلى الله عليه وسلم) فيمن جاء بالصلوات الخمس لم يضيع من حقهن شيئ «إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا (أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّة)» [كنز العمال: 18861]، وقد أدخل الله سبحانه مع عبده نفسَه في عهود منه مِنَّة وفضلاً لا إيجاباً.

ولكن ما هو مقصود في هذا البيت من أجل الحنين، وإن كان سبق القضاء له أثر في الحكم، كما جاء التردد في قبض نسمةالمؤمن كما قلت في بعض قصائدي له:

يحنّ الحبيب إلى رؤيتي

***

وإني إليه أشدّ حنين

وتهفو النفوس ويأبى القض

***

فأشكو الأنين ويشكو الأنين

وعلمي بأنّ أصحابنا من أهل هذا الشأن يعرفون ما أشرنا إليه في هذ الإيماء، والإجمال أغنانا عن التفصيل والتصريح.

وعلم الله ما قيدت هذا القدر في هذا البيت إلا والحمى تنفضني في باطني مم أجده من قوة الوارد وازدحام تموج المعارف فيه، ولا أقدر على إذاعة ما أجده، مع القوة التي أعطاني الله على التعبير عنه وإيصاله إلى الأفهام القاصرة، فأحرىما فوقها من الأفهام، ولكن الغَيرة الإلهية وحجاب العزة الأحمى المنصوب بين عينيّ منع من ذلك، وهذه نفثة مصدور.

شرح البيت الثاني:

2

جَرَتِ الدُّمُوعُ مِنَ الْعُيُونِ تَفَجُّعاً

***

لِحَنِينِهَا فَكَأَنَّهُنَّ عُيُونُ

وصف الأرواح بالبكاء وجري الدموع، وإن كانت هذه الأوصاف مما يتعلق بالعالم الطبيعي، ولكن لما كان في قوة الأرواح التمثُّل في الصور الجسدية، كما قال تعالى: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]؛ لذلك قبلت هذه النعوت الطبيعية.

وقد ورد في الخبر: «إنّ جبريل وميكائيل يبكيان من خوف مكر الله»وكان سبب هذا البكاء من هذه الأرواح الجزئية لحنين الروح الكلي إليها الذي هو أبوها، فإنها وإن حنَّت إليه بالأصالة والتولُّد فحنينه أشدُّ إليها، فإنّ حنين الأبُوَّة أعظم، فإنّ البنوَّةمن الأبوة وليست الأبوة منها، بل هي عينها، فهو من باب حنين الشيء إلى نفسه، وشبَّهها لكثرة الدموع بعيون المياه الجارية، أي أنها لا تنقطع، وجريانها من غيب إلى شهادة، وقد يريد "تفجُّعاً لحنينها"، أي يريد أن يكون لها مَثَلا لذلك الحنين إلى المناظر العلى، ولا تحجب لتعشق الأكوان عما خلقت له.

شرح البيت الثالث:

ثم قال:

3

طَارَحْتُهَا ثَكْلى بِفَقْدِ وَحِيدِهَ

***

وَالثُّكْلُ مِنْ فَقْدِ الْوَحِيدِ يَكُونُ

الوحيد الذي فقدته هي الخاصية التي انفردت بها عن العالم، وفقدُها إياه كونها لا تعرف ما هي ولا يتعين لها، بل تعرف أنَّ ثَمَّ أمرا تنفرد به عن غيرها على الإجمال، وهي وحدانيتها، ومنها تعرف وحدانية من أوجدها، إذ لا يعرف الواحد إل الواحد، وهي التي أراد القائل (وهو أبو إسحاق العيني، المعروف بأبي العتاهية) بقوله:

وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ

***

تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدُ

يشير إلى خاصية كل أحدوهي أحديته، فجعلها علامة على أحدية الأحد الصَّمَد الذي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 1-4].

وقوله: "طارحتها"، أي بكيت مثل بكائها على مثل من بكت هي أيضاً، فإن أكثر العارفين ماتوا بحسرة فقْدِ هذه المعرفة، التي هي أحديَّتُهم، فكلُّهم عرفو واحديتهم،والأحدية لا يعرفها إلا القليل من أهل العناية والتمكين.

شرح البيت الرابع:

4

طَارَحْتُهَا وَالشَّجْوُ يَمْشِـي بَيْنَنَ

***

مَا إِنْ تَبِينُ وَإِنَّنِي لَأَبِينُ

يقول: بكيت مثل ما بكت، غير أنها لَمَّا لم تكن من عالم العبارة والتفصيل لم تبين ما بها من الشّجو للسامعين من طريق الفهوانية، وأنا أبنت لهم بما أبديت من العبارة والإيماء والإشارة والتعداد في حال البكاء، وأَخبر عما هو الأمر عليه في عينه. وقوله: "والشجو يمشي بيننا"، كما قال ابن زهير:

وقد تعب الشّوق ما بينن

***

فمنه إليّ ومني إليه

يقول: أي طارحتها مطارحة حزن لا مطارحة سرور لأنه عن فقد لا عن وجود.

شرح البيت الخامس:

5

بِي لَاعِجٌ مِنْ حُبِّ رَمْلَة عَالِجٍ

***

حَيْثُ الْخِيَامُ بِهَا وَحَيْثُ الْعِينُ

يقول: بي حرقة اشتياق من حبّ دقائق العلوم الكسبية، وهي علوم التفصيل ولهذا جعلها "رملية"، وأضافها إلى "عالج" من المعالجة، وهي من باب قوله (تعالى): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [المائدة: 66]، فهذه هي معالجة الأعمال، وهو التكسب، ثم قال (تعالى): ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: 66] إشارة إلى هذه المعارف، فما كان من فوقهم هو بمنزلة ما تشبه به العلوم من الأمطار، وفي المشاهد من البرق، وفي المناجاة من الرعود، وفي الفنا باحتراقات أعيان الحجب من الصواعق، وما كان من تحتهم بالرمال والحصى وما تحمله الأرض وتخرجه من زهرتها وزينتها، وكل علم من ذلك بما يناسبه في التشبيه على حسب ما يعرفه من تنزلت عليه.

وقوله: "حيث الخيام بها وحيث العين"، يعني المقصورات في الخيام مقامات الحجب والغيرة والصدفوالعين وما تستره هذه الخيام وتحتوي عليه من العلوم، وكل علم بحسب خيمته، فإن كان صدفاً فهو جوهر، وإن كان خيمة فهي عذراء.

شرح البيت السادس:

ثم نعت هذه العين فقال:

6

مِنْ كُلِّ فَاتِكَة الْأَلْحَاظِ مَرِيضَة

***

أَجْفَانُهَا لِظُبَى اللِّحَاظِ جُفُونُ

يقول: من العلوم التي ترد على أصحاب الخلوات فتقتلهم في خلواتهم، أي تفنيهم عن ذواتهم بسلطانها ونظرها إليهم، فإن الفتك: القتل في خلوة.

وقوله: "مريضة"، أي فيها ميل إلى أصحاب الخلوات،والمرض الميل، ونسبها إلى اللحاظ التي هي المشاهدة، فيريد أنها علوم مشاهدة وكشف ل علوم إيمان وغيب، لكنها عن تجليات صور، ولهذا قال: "لظبي اللّحاظ جفون"، أي هي بمنزلة جفون السيف، فإنه لَمَّا ذكر الفتك جاء بآلة القتل، فجاء باللحظ وشبَّهَهُ بالسيف.

شرح البيت السابع:

7

مَا زِلْتُ أَجْرَعُ دَمْعَتِي مِنْ غِلَّتِي

***

أُخْفِي الهَوَى عَنْ عَاذِلِي وَأَصُونُ

يشير إلى حالة الستر والكتمان، وهي حالة الملامتيةالذين يظهرون في كل عالَم بحسب المواطن، وهم رجال هذه الطريقة، والعذَّال هم المنكرون على أهل هذه الطريقة أحوالهم لأنهم لا يعرفون جمال من تعشقوا به، فإنه غيب لهم، وليس عندهم إيمان، فإنه يتجلى إلى قلب من شاء من عباده بضربٍ من ضروب المعرفة ليهيِّمَهم ذلك التجلي فيه، فتهون عليهم الشدائد التي تجري بها الأقدار عليهم، وسبب إخفائه عن العذولالغَيرة على عرض المحبوب لئلا يقع العاذل في جناب من يستحق التعظيم بما لا يليق بجنابه، فيفعل ذلك صيانة للمحبوب وإيثارا لا ضجرا لنفسه من اللائمة التي تعود عليه من ذلك، فإنه ملتذٌّ بسماع ذِكر محبوبه، لكن لا يجب أن يجري عليه في الذكر الألفاظ التي ل ينبغي بجلاله الأقدس، فهو من باب (قوله تعالى): ﴿وَمَا قَدَرُوا اَللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91، الحج: 74، الزمر: 67].

شرح البيت الثامن:

8

حَتَّى إِذَا صَاحَ الْغُرَابُ بِبَيْنِهِمْ

***

فَضَحَ الْفِرَاقُ صَبَابَة المَحْزُونِ

يقول: إنّ العناية إذا حانت لبعض أهل هذا المقام، وحيل بينه وبين هذه المناظر التي كانت متجلية له، وهو ناظر إليها، بفترة تلحقه أو وارد إلهي له حِكمة بالغة، ولم يُعطَ الصّبر على ذلك، أدّاه هذا الفراق إلى إظهار ما كان يخفيه من رقّة الشوق والهوى، كما اتفق لأبي يزيد لَمَّا قال له الحق: اُخرج إلى خلقي بصفتي، فعندما خطا خطوة وقام الحجاب صعق، فإذا النداء رُدُّوا إِليَّ حَبِيبي فَلَا صَبْرَ لَهُ عَنِّي.و"الغراب": هذا السبب الموجب للفراق، و"الصياح" من الفهوانية بمنزلة "كن".

شرح البيت التاسع:

9

وَصَلُوا السُّـرَى، قَطَعُوا الْبُرَى، فَلِعِيسِهِمْ

***

تَحْتَ المَحَامِلِ رَنَّة وَأَنِينُ

لما كان المقصود لا يتحيَّز ولا يتقيد بالجهات، كان الرجوع منه سيراً إليه أيضاً، فلهذا قال: "وصلوا السّرى"، أي رجوعهم منه إسراءٌ أيضا إليه، كما ورد في الخبر عن الْتقاء الأربعة الأملاك من الأربع الجهات، كلُّ واحد يقول بأنه ورد من الحق،مع قوله (تعالى): ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4]. والإسراء والتنقل إنما هو مناسم إلهي إلى اسم إلهي، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ [مريم: 85] والمتَّقيإنما هو مع الاسم الشديد البطش السريع الحساب القوي؛ فلهذا كان حشره إلى الرحمن محلِّ الأمن مما يتقي به ويحذر بالرحمة التي وسعت كل شيء.

وقوله: "قطعوا البرى"، لقوة سيرهم، والبرَّة: الحلقة التي تكون في أنف البعير تكون فيها خرمة يقاد بها، فيقال: لقوة الجذب للسير تنقصم البُرى أو تخرم الأنف، والتي تكون منها السير في هذا الباب إنما هي مراكب الأعمال، والبرة: العروة الوثقى التي لا انفصام لها، فهي تخرم الأنوف ولا تنفصم، وأما نعته بأن لها "تحت المحامل"، وهي مانحة من تكليفات المجاهدات والأعمال الشاقة، "رنّة وأنين": يريد صوت الزفير، وحنين القلوب، والأزيز المسموع من صدورهم عند التلاوة والذِّكر، كما قال تعالى: ﴿لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَة اللهِ﴾ [الحشر: 21] فوصفه بأنها تضعُف عن حمل هذه الأغيار الواردات، فإنّ الأنين لا يكون إلاّ مع الضعف، و"الرنّة": النغمة، وكأنها مطابقة لقول الهادي والحاديمن السامع.

شرح البيت العاشر:

10

عَايَنْتُ أَسْبَابَ المَنِيَّة عِنْدَمَ

***

أَرْخَوْا أَزِمَّتَهَا وَشُدَّ وَضِينُ

يقول: لما دُعيتُ إلى الرجوع إلى عالم الكون بعد أُنسي بتلك العين المقدسة، والشهود الأقدس الأحدي، وجدت من الألم على قرب من التشبيه مثل ما يجده المتعشق عند نزول الموت ومفارقة المألوفات التي كان يتأنس بها فلم يجد أعظم رزية يشبِّهها بها أعظم من المنيَّة لمن لا يحب المفارقة، و"معاينة أسباب الموت"، التي هي كرباته وغمراته، أعظم من الموت، فإنَّ الموت لا يُحسُّ به إذ لا يبقى هناك من يُحِس، فهذا أوقع التشبيه بأسباب الموت لا بالموت، وهو مجبور في الرجوع إلى عالم الأكوان، ولهذا قال: "أرخوا أزمتها"، يقول: ما لي فيها تعمُّد، وإنما رُجع بي، م أنا رجعت من ذاتي، فلم يقل: "أَرْخَيتُ أزمَّتَها" لهذا.

شرح البيت الحادي عشر:

ثم قال:

11

إِنَّ الْفِرَاقَ مَعَ الْغَرامِ لَقَاتِلي

***

صَعْبُ الْغَرَامِ مَعَ اللِّقَاءِ يَهُونُ

يقول: إنّ للغرام في الحبّ سلطانا عظيما يقتلك فيه النحول والهيمان والدموع والغليل والأنين والسّقام وجميع الآلام التي يوجبه الغرام، ثم يجتمع مع ذلك الفراق، وهو الغيبة عن مشاهدة المحبوب، برجوعه إلى كونه؛ مثل ما قال عليه الصلاة والسلام: «ما ابتُلي أحدٌ من الأنبياء بمثل ما ابتُليتُ به»يشير إلى حاله في الرؤية، ثم رجوعه إلى خطاب أبي جهل وأبي لهب (بعد مشاهدة خالقه)، فينضاف إلى آلام المحبة ألم البين، فلذا قال: "إنه (أي هذا الفراق) لقاتل"، فلو كانت تكونآلام المحبة التي يعطيها الغرام مع اللقاء، وهو ضرب من الحضور الذي ليس فيه فناء، هان عليه ما يجده من حرقة الاشتياق مع اللقاء، وحرقة الشوق أشدّ للمفارقة، ولهذ ينبغي للعارف أن لا يقف إلاّ مع الذات، ولا يتعشق باسم دون اسم، فإنه في كلِّ حال مفارقٌ لاسم مواصل لآخر.

شرح البيت الثاني عشر:

12

مَا لِي عَذُولٌ فِي هَواهَا إِنَّهَ

***

مَعْشُوقَة حَسْنَاءُ حَيْثُ تَكُونُ

يقول: جميع الهمم والإرادات والتوجهات متعلقة بها من جميع الطالبين لكونه مجهولة العين عندهم غير متميزة، فلهذا قال: "إنها معشوقة" لكل طائفة، ولا أحد يعذل في هواه، كما قد علمنا أنّ النجاة مطلوبة لكل نفس ولأهل كل ملة، فهي محبوبة للجميع غير أنهم لما جهلوها جهلوا الطريق الموصل إليها، فكل ذي نحلة وملة يتخيل أنه على الطريق الموصل إليها، فالقدْح الذي يقع بين أهل الملل والنحل إنما هو من جهة الطرق التي سلكوها للوصول إليها لا من جهتها، ولو علم المخطئ طريقَها أنه على خطأ ما أقام عليه.

فلهذا قال: "ما لي عذول في هواها"، "إنها معشوقة حسناء حيث تكون"، أي حيث يوجد لها مشهد يشهد فيه، فهم إخوان على سرر متقابلين قد نُزع ما في صدورهم من غلّ، ولَمَّا أشبهت الشمس في السعة في التجلي، فكل شخص يرى أنه قد خلا بها، وهي مع كلِّ واحد من مشاهديها بذاتها، وقد رفعت الغيرة من قلوبهم عليها والحسد، فإنّ كلَّ مُصلٍّ يناجي ربه من ازدحام، بخلاف المحصورالقريب (مثل سائر أشخاص المخلوقات) الذي إذا كان عند شخص فَقَده شخص آخر، فوقعت الغَيرة بينهم عليه، وقام العذول والعذَّال على طالبيه، معرفة ومكرا؛ والمكر من محب آخر ليزهد فيه هذا فيتمكَّنَ هو منه، والمعرفة لكونه تعلَّقَ بمحصورٍ يُحاط به.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!