موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


7- القصيدة السابعة وهي ثمانية أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

وَزَاحَمَنِي عِنْدَ اسْتِلامِي أَوَانِسٌ

***

أَتَيْنَ إِلى التَّطْوَافِ مُعْتَجِرَاتِ

2

حَسَـرْنَ عَنْ أَنْوَارِ الشُّمُوسِ وَقُلْنَ لِي:

***

تَوَرَّعْ، فَمَوْتُ النَّفْسِ فِي الْلَّحَظَاتِ

3

وَكَمْ قَدْ قَتَلْنَا، بِالمُحَصِّب مِنْ مِنىً،

***

نُفُوساً أَبِيِّاتٍ لَدَى الْجَمَرَاتِ

4

وَفِي سَرْحَة الْوَادِي وَأَعْلامِ رَامَة

***

وَجَمْعٍ وَعِنْدَ النَّفْرِ مِنْ عَرَفَاتِ

5

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحُسْنَ يَسْلُبُ مَنْ لَهُ

***

عَفَافٌ، فَيُدْعَى سَالِبَ الْحَسَنَاتِ

6

فَمَوْعِدُنَا بَعْدَ الطَّوَافِ بِزَمْزَمٍ،

***

لَدَى الْقُبَّة الْوُسْطَى لَدَى الصَّخَرَاتِ

7

هُنَالِكَ مَنْ قَدْ شَفَّهُ الْوَجْدُ يَشْتَفِي

***

بِمَا شَاءَهُ مِنْ نِسْوَة عَطِرَاتِ

8

إِذَا خِفْنَ أَسْدَلْنَ الشُّعُورَ فَهُنَّ مِنْ

***

غَدَائِرُهَا فِي أَلْحُفِ الظُّلُمَاتِ

شرح البيت الأول:

1

وَزَاحَمَنِي عِنْدَ اسْتِلامِي أَوَانِسٌ

***

أَتَيْنَ إِلى التَّطْوَافِ مُعْتَجِرَاتِ

يقول: لَمَّا امتدَّت اليمين المقدَّسة إليّ لأبايعها البيعة الإلهية، من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، (وذلك "عند استلامي" ركن الحجر الأسود الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «يمين الله فمن مسحه فقد بايع الله» [كنز العمال: 34729، 34730]، فعند استلامي هذا الركن)، جاءت الأرواحُ الحافُّون ﴿مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: 75]، ويطلبون يبايعونه هذه البيعة في هذه الحال التي أُقمت فيها.

وسماهم "أوانس"، لوقوع الأُنس بهنَّ، وأنَّثَهم لأنّ اللفظة التي تُطلق عليهم تقتضي التأنيث، وهو الملائكة والجِنَّة، ولهذا جعلهم مَن جعلهم بناتاً وإناثاً (إشارة لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19]). وقوله: "معتجرات"، أي غير مشهودة له سُبُحات وجوههم، لأنهم غيبٌ لنا، لا نراهم.

شرح البيت الثاني:

ثم قال:

2

حَسَـرْنَ عَنْ أَنْوَارِ الشُّمُوسِ وَقُلْنَ لِي:

***

تَوَرَّعْ، فَمَوْتُ النَّفْسِ فِي الْلَّحَظَاتِ

يقول: ظهرْنَ له، وارتفع الحجاب، فسطعت أنوارُهنَّ لعينه مثل "الشموس"، واختصَّ ذكر الحافِّين حول العرش لمناسبة الطائفين، فإنهم حافُّون من حول الكعبة. وقوله: "تورّع"، يقول: اجتنِبْ الملاحَظَةَ لئلَّا تذهبَ بنور بَصَرِك المقيَّد، كما جاء (في الحديث): «لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» [انظر الحديث القدسي في شرح البيت السادس من القصيدة الثانية].

فيقول: هذه الأرواح تقول له "لا تنظر إلينا فتتعشَّقَ بنا حالًا ومقامًا، وأنت إنما خُلقت له لا لنا، فإن احتجبتَ بنا عنه أفناك عن وجودك به، فَمُتَّ، فتكونَ عليك لحظة مشؤومة"؛ فنصحوه بقولهم: "تورَّعْ!"، تنبيها.

شرح البيت الثالث:

3

وَكَمْ قَدْ قَتَلْنَا، بِالمُحَصِّب مِنْ مِنىً،

***

نُفُوساً أَبِيِّاتٍ لَدَى الْجَمَرَاتِ

يقول: كم مِن نفْس أبيَّة - يعني بالنُّفوس الأبية: هي التي تحب معالي الأمور، وتكره مذامَّ الأخلاق والتعلُّق بالأكوان - ومع ذلك حجبهم وتيَّمهم جمالُ الأكوان في أوقاتٍ ما وفي مقاماتٍ ما؛ فتحفَّظ لئَلَّا تلحقَ بهم! ولَم يريدو أنفسهم خاصة بهذا الخطاب، فإنّ هؤلاء الأرواح ما لهم دخولٌ في المحصّب ولا غيره، فإنَّهم حافُّون (حول العرش أو حول الكعبة)، وليس لهم مناسبة إلاّ مع الطائفين، وإنما تعني أمثالَها من الأرواح في كلِّ مقام، كما قال (تعالى): ﴿كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الروم: 28]، يعني أمثالَكم (أو ابناء جِنسكم)، لا يُريد عينَ نفْس الخائف.

شرح البيت الرابع:

4

وَفِي سَرْحَة الْوَادِي وَأَعْلامِ رَامَة

***

وَجَمْعٍ وَعِنْدَ النَّفْرِ مِنْ عَرَفَاتِ

يقول: في هذه المواطن المذكورة كلُّها، ماتت نفوسٌ أبيّاتٌ كانت تزعم أنْ لا تعلُّقَ لها ولا تعشُّقَ إلا بالنور المحض المطلق، فلمَّا تجلَّى (لها النور المقيَّد) عند مفارقتها ظلمة الطبيعة والهباء، وارتفعت عن حضيضها إلى أنوار الروحانيات العلى في هذه المواطن وأمثالها، بهرها حسنُ ذلك النور وجمالُه وبهاؤه، فوقفت معه عن مقصودها (وهو النور المطلق)، لجهلها به، فلا تكنمثلهم فتندم!

شرح البيتين الخامس والسادس:

5

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحُسْنَ يَسْلُبُ مَنْ لَهُ

***

عَفَافٌ، فَيُدْعَى سَالِبَ الْحَسَنَاتِ

6

فَمَوْعِدُنَا بَعْدَ الطَّوَافِ بِزَمْزَمٍ،

***

لَدَى الْقُبَّة الْوُسْطَى لَدَى الصَّخَرَاتِ

يقول: إنّ الجمال محبوبٌ لذاته، ومَن مَلَكه شيءٌ كان لِما مَلَكَه، والحسَنَة مشتقَّةٌ من الحُسْن، والحُسْن معشوقٌ لذاته، والحَسَنَة ما لها قوة الحُسْن، فإنها معنوية؛ من باب الإيمان، غيبٌ في الشهود، وهو من نتائج الأعمال الشاقَّة وتحمُّل المكاره، فهي نتائج مضافات ومكارم؛ فلهذا كان الحُسْنُ المشهود غالباً عليها، حاكماً على من شاهده، فلهذا يقال له: "سَالِبَ الحَسَنَات". أي: ل يتركك التلذذ بمشهد الحُسن فيمن كان (لا) يفعل إلا ما يشير به حاملُ ذلك الحسن، وقد يشير بما يحول بينك وبين معالي الأمور، من حيث التوصُّل إليها، لا من حيث هي، فإنّ التوصل إليها بالمكاره، كما قال عليه الصلاة والسلام: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» [كنز العمال: 6805]، وكما رأى بعض المشاهدين (في المنام) معروفاً (الكرخي) في النَّارِ في وسطها وقد حَفَّت به، وكانت المكارهُ التي جازهاإلى مكانه الذي رآه فيه، يشير له في كشفه أنه لا يصل إلى مقامه إلا بعد أن يخوض غمرات تلك النيران.

ثم قالت له: "فَمَوْعِدُنَا بَعْدَ الطَّوَافِ بِزَمْزَمٍ"، البيت بكماله، يقول (أنها) تقول له: هذه الروحانيات أُشهدناها من مقامات الحياة، التي تحنُّلها، فإنها أرواح، والمناسبة بينها وبين الماء: الحياة (لذلك قالت له أنَّ الموعد "بِزَمْزَمٍ"). وقوله: "لَدَى الْقُبَّة الْوُسْطَى"، يعني البرزخ، "لَدَى الصَّخَرَاتِ"، يقول: تنزُّل المعاني النفيسة في القوالب المحسوسة، وكنّى عنها بالصخرات، التي هي الجمادات الخيالية، للعادةوالعُرْف، أي أنّ هذه الأرواح، في هذه الصور الخيالية، معانٍ لا ثبات لها، فإنه سريعة الزوال؛ من النائم باليقظة، ومن المكاشف بالرجوع إلى حِسِّه، كما أنّ النساء اللائي يصِلْنَ إلى ذلك الموضع (وهو "القبة الوسطى") إنما يعمُرْنه ساعة ثم ينصرفن إلى أماكنهنَّ، فلهذا أوقع التشبيه بذلك؛ يقول: لا تغترَّ بتجلِّي حُسْنِ الأكوان العلوية والسفلية لعينِك، فإنَّهُ كلُّ ما خلا الله باطل،أي: عدمٌ مثلُك، فكأنك ما زِلْتَ عنك، فكن له ليكون لك، لا تكن لك! فقد نصحوا صلوات الله عليهم.

شرح البيت السابع:

7

هُنَالِكَ مَنْ قَدْ شَفَّهُ الْوَجْدُ يَشْتَفِي

***

بِمَا شَاءَهُ مِنْ نِسْوَة عَطِرَاتِ

يقول: في عالم البرزخ يشتفي من أراد التلذُّذَ بالمعاني القدسية في القوالب الحسية من عالم الأنفاس والأرواح، وسبب ذلك (أنه في البرزخ يكون) الجمع بين الصورتين: المعنى والصورة، فيلتذَّ عيناً وعِلماً.

شرح البيت الثامن:

8

إِذَا خِفْنَ أَسْدَلْنَ الشُّعُورَ فَهُنَّ مِنْ

***

غَدَائِرُهَا فِي أَلْحُفِ الظُّلُمَاتِ

يقول: هذه الصور الجليلة، إذا خِفن في تجسُّدِهنَّ مِن تقييدِهِنَّ بالصورة عمَّا هي عليه من الإطلاق، أَشْعَرْنَك بأنَّهنَّ حِجابٌ على أمرٍ هو ألطف مما رأيت، فعندما تُحسُّ أنت بذلك الشُّعور ارتفعتْ همَّتُك لذلك، فانْسَتَرَت عنك، فَأخْليْنَ الصُّوَر واسْتَرَحْنَ من التَّقيِيد، وانْفَسَحْنَ في مراتِبِهِنَّ المُنَزَّهة.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!