موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأسرار

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي)

والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

 

 


خطبة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أحمد اللّه الذي نوّر قلوب العارفين بنبراس معرفته، وأشهدهم جمال جلاله في حقائق مبدعاته بمنّته، وحجبهم عن شهود غيره لغيرته، وزيّن ذواتهم بحلل شريعته، وعرف مشام أسرارهم بنفحات عرف حضرته، واصطفاهم لنفسه من بين خليقته، وأصلّي على أقربهم إليه بذاته ومرتبته، من خصّه بمقام محبته، وهداه إلى حقيقة ذاته وصفاته، سيد ولد من خلقه بيده، وشرّفه بذلك على ملائكته، وعلى آله الذين ورثوا أسرار حقيقته ودقائق طريقته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم بعثته.

أما بعد فاعلم أن اللّه سبحانه وتعالى لمّا حجب خاصّة حضرته وخلاصة أهل محبته بحجاب غيرته، جهلت مقاديرهم، فلم يعرفهم سواه، كما أنهم لا يشهدون إلا إياه، ونسب إليهم ما يحلّ شأنهم عنه، فكانوا بذلك على صفة مولاهم، لأنه سبحانه لما احتجب عن الخلق جهل قدره كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ الأنعام: الآية 91 ] فنسب إليه ما يجل جناب عزّته عنه سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، ولولا حلمه وفضله، لما دبّ على البسيطة أحد، ولا تعقل والد وولد. هذا ولمّا كانت طائفة الفقهاء رضي اللّه تعالى عنهم من خواص حملة الشريعة المحمدية، وقد أقام اللّه بهم الكلمة العليا، ودحض بهم الكلمة السفلى، لأن إظهار الدين بالسّنان واللسان، وهم رضوان اللّه تعالى عليهم أهل الحجة والبرهان، ووزعة أهل الإلحاد والخسران، وأيم اللّه لولا هذه الطائفة السعيدة لطغى الإلحاد وفسدت عقائد العباد.

ولمّا كانت غيرتهم وحميّتهم في غاية الكمال، اشتغلوا بدقة النظر في جميع الأقوال والأحوال، أدّاهم ذلك إلى أن سحبوا ذيل الإنكار على الأخيار والأشرار، وكفّروا كل من لم يقل بجميع ما أنتجه فكرهم، وقالوا: نظرنا موافق الكتاب والسّنّة، فمن خالفه خالفهما، ومن خالفهما كفر، وانجر الأمر إلى أن كفّروا طائفة الصوفية التي هي زبدة خلاصة صفوة خاصّة الخاصّة، لمّا سمعوا منهم ما يخالف رأيهم،

"***"

فقالت لهم هذه الطائفة: نحن ما أخذنا هذا الذي أنكرتم به علينا إلا من الكتاب والسّنّة بطريق عرفناه منهما، وهو طريق التقوى، قال اللّه تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [ البقرة: الآية 282 ] وقال صلى اللّه عليه وسلم: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم» «1». فلما سمعنا هذا الكلام، وثبت عندنا أن كلامه حق وقوله صدق، وأنه لا يخلف الميعاد، اتقينا اللّه ووقفنا عندما رسم لنا وما تعدّينا حدوده، فرزقنا علما بمراده في كلامه ومراد رسله في كلامهم، فهذا الذي جئنا به أخذناه من الكتاب والسّنّة بالتعليم الإلهي لا بالفكر والنظر، وليس هو من قبيل المحالات، ولا يهدم ركنا من أركان الشريعة، ولا يخالف نص كتاب ولا سنّة، بل لنا من الكتاب والسّنّة ما يقوّيه ويعضده، فغايته أنه خالف بعض ما أدركتموه وفهمتموه من معاني الكتاب والسّنّة، وهذا لا يدل على أنه خالف الكتاب والسّنّة، وكيف يخالفهما ونحن ما أخذناه إلا عن اللّه تعالى بطريق الإلهام، ولو كانت جميع أفكاركم مطابقة للكتاب والسّنّة لما اختلفتم أصلا، وبينكم من الخلاف ما لا يعدّ ولا يحصى، أين مذهب الأشعري من مذهب الماتريدي، بل أين مذهب الأشعري من مذهب بعض أتباعه، هذا ونحن ما تكلمنا معكم بهذا الكلام إلا بعد أن خبرنا طريقكم ووقفنا على دقائقه وخفاياه، وصرنا فيه كما لكم، فلا يليق بكم أن تردّوا أقوالنا وتكفّرونا بها، وأنتم لم تسلكوا طريقنا ولا شممتم لها رائحة ولا عرفتم ما اصطلحنا عليه من العبارات والألفاظ كما هو عادة أهل كل فن، وكيف يليق ذلك بكم وأنتم مؤمنون عقلا، وسمعتمونا نقول: نحن لا نأخذ علومنا إلا عن اللّه تعالى، ولا يأخذ عن اللّه تعالى إلا أولياء اللّه، وسمعتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: «إن اللّه سبحانه وتعالى يقول من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب» «2». هذا وأنتم قائلون بأن أولياء اللّه تعالى يصدر عنهم من خوارق العادات ما لا تقدرون عليه أبدا، بل لا تعقلون حكمته أصلا، وتقولون: إن اللّه تعالى خصهم بذلك، فلم لا تجوزون أن اللّه تعالى يخصهم بعلوم لا تصلون إليها بأمر أفكاركم من غير تعليم إلهي، وكيف لا ؟ وقد حكمتم أن بعض العلوم لا تنال بمجرد الكسب، لأنها تطلب معه قابلية خاصة، مثل علم الموسيقى، ما هذا إلا غاية التعصب، وإذا سلكتم على طريقتنا، ووصلتم إلى غايتها، فإن شئتم فأنكروا وإن شئتم فاعتقدوا، وأما الإنكار قبل ذلك فما هو من شيم العقلاء. دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فإذا عشقت فبعد ذلك عنف.

شيم العقلاء. دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فإذا عشقت فبعد ذلك عنف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

( 1 ) السيوطي ( الدر المنثور 1 / 372 )، والقرطبي ( تفسير 13 / 364 ).

( 2 ) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع، حديث رقم ( 6502 ). ورواه غيره.

"***"


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!