موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مطلع خصوص الكلم
في معاني فصوص الحكم

تأليف: الشيخ داود القيصري

فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية


11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

لما كان ( الفتوح ) عبارة عن حصول شئ عما لم يتوقع ذلك منه ، نسب حكمته إلى صالح ، عليه السلام ، لخروج الناقة التي هي معجزته من الجبل ، وهو مما لم يتوقع خروجها منه .
وأيضا لما كان ( الفتوح ) مأخوذا من ( الفتح ) - إذ هو جمعه كالعقول للعقل والقلوب للقلب - وصالح مظهر اسم ( الفتاح ) ، لذلك انفتح له الجبل فخرج منه الناقة ، وهو من جملة مفاتيح الغيب ، قرن ( الحكمة الفتوحية ) إلى كلمته ، وبين فيها الإيجاد ، وكونه مبنيا على الفردية . وفي بعض النسخ : ( حكمة فاتحية ) . وهي يؤيد ما ذكرناه .
(من الآيات آيات الركائب ) أي ، من جملة الآيات والمعجزات ، آيات الركائب ، كالناقة لصالح و ( البراق )
لنبينا ، صلى الله عليه وسلم وأضاف ( الآيات ) إلى ( الركائب ) ، وإن كانت
هنا نفس ( الآيات ) ، باعتبار المغايرة التي بينهم : فإن ( الآيات ) ليست منحصرة في ( الركائب ) ، ولا كل ( الركائب ) من ( الآيات ) .
وهذه ( الركائب ) في الحقيقة صورة النفوس الحيوانية ، وهي مراكب النفوس الناطقة ، كما أن الأبدان مراكب النفوس الحيوانية ، لأنها جمع ( ركيبة ) - كقبائل جمع قبيلة . وهي ما يركب عليه للوصول إلى المقصود ، وما تحصل مقاصد النفوس الناطقة ولا تكمل إلا بها ، فهي مراكبه .
(وذلك لاختلاف في المذاهب ) .
أي ، وكون ( الركائب ) من ( الآيات ) الدالة على صدق الأنبياء ، إنما هو لاختلاف
في المذاهب ، أي ، في السلوك والسير إلى الله ، إذ ( المذهب ) هو الطريق ، كما يقال :
مذهب الشافعي كذ . أي ، طريقه الذي ذهب إليه كذ .
وذلك الاختلاف مستند إلى اختلاف الاستعدادات ، فإن بعض النفوس
يسير عليها سيرا لا تزيغ أبصارهم إلى غير المطلوب ، كما قال تعالى في نبيه ،
صلوات الله عليه : "م زاع البصر وما طغى ". فيصل إليه . وبعضهم لا يسيرون
عليها نحو المطلوب ، فيتيهون في السباسب ويبقون في ظلمات الغياهب ، كم
قال :
(فمنهم قائمون بها بحق .... ومنهم قاطعون بها السباسب )
أي ، فمن أصحاب تلك المذاهب ، طائفة قائمة بتلك الركائب ، أي ، أقاموها في
طاعة الحق والسير إليه باستعمالها فيه بالحق ، لا بأنفسهم .
ف‍ ( الباء ) الأولى للتعدية ، والثانية للاستعانة .
( ومنهم قاطعون به ) أي ، بتلك الركائب ( السباسب ) . وهو جمع ( سبسب ) . وهو البيداء والصحراء . أي ، يقطعون به البراوي والصحاري التي تاهوا فيها ولم يخرجوا عنه .
وهي براري عالم الظلمات والأجسام .
فالطائفة الأولى هم الذين علموا الأمر على ما هو عليه ، وسعدو .
والثانية هم الذين بقوا في ظلمات الجهل ، وبعدو .
وإليه أشار بقوله : (فأما القائمون فأهل عين ) أي ، أهل الشهود والعيان .
(وأما القاطعون هم الجنائب)
أي ، هم المحجوبون البعداء عن الحضرة ومعرفة حقائق الأشياء ، وإن قطعو
براري عالم الملك بالاستدلال من الأثر إلى المؤثر بعقولهم المشوبة بالوهم المحجوبة
عن حقيقة العلم . إذ هي جمع ( جنيبة ) . وهي فعيلة من ( الجنوب ) ، وهي البعد ،
كما قال :
(هواي مع الركب اليمانين مصعد .... جنيب وجثماني بمكة موثق)
وكان الحق أن يقول : فهم الجنائب . ب‍ ( الفاء ) ، جواب ( أم ) ، لكنه حذف للضرورة .
ولو قال : فهم جنائب ، لكان أنسب .
(وكل منهم يأتيه منه ..... فتوح غيوبه من كل جانب )
أي ، كل واحد من القائمين ، يأتيه من عند الله فتوح الأسماء الإلهية والتجليات الذاتية من جوانب الحضرات الروحانية والجسمانية . فضمير ( منه ) و ( غيوبه ) عائد إلى ( الحق ) .
و ( الفتوح ) يجوز أن يكون مفردا بالمعنى المشهود المذكور . ويجوز أن يكون جمع للفتح ، كالقلوب للقلب .
ويجوز أن يحمل ( وكل منهم ) على ( القائمين ) و ( القاطعين ) .
لأن المحجوبين أيضا لهم فتوح غيوب الحق من حضرات الأسماء التي تربهم وتختص بهم .
( اعلم ، وفقك الله ، أن الأمر مبنى في نفسه على الفردية ) . لما كانت ( الحكمة الفتوحية ) حاصلة من مفاتيح الغيب التي هي سبب الإيجاد ، قال : ( إن الأمر ) أي ، أمر الإيجاد .
( مبنى في نفسه على الفردية ) أو الشأن الإلهي وظهوره في نفسه بصورة خلقه مبنى عليه . أو أمره بقوله : ( كن ) مبنى عليه .
والمراد ب‍ ( الفرد ) هنا ما يقابل الزوج ، ل ( الفرد ) الذي هو اسم من أسماء الذات بمعنى ( الواحد ) .
( وله التثليث ، فهي من الثلاثة فصاعدا ؟ فالثلاثة أول الأفراد . وعن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ) . أي ، وعن الحضرة الفردية وجد العالم .
وهي باعتبار العالم الذي هو الحق ، والمعلوم الذي هو العين ، والعلم الذي هو الرابطة بينهما ، إذ لو نقص شئ منها ، لما أمكن وجود العالم .
ولما كان باعتبار آخر يستدعى وجود العالم الفردية من كل من الطرفين ، طرف الفاعل والقابل ، أثبت من طرف الفاعل الفردية ، وكذلك من طرف القابل ، ليقابل كل منهما الآخر .
( فقال تعالى : " إنما قولن لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" ) . فهذه ذات ، ذات إرادة وقول . فلولا هذه الذات وإرادتها ، وهي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما ، ثم لولا قوله عند هذا التوجه ( كن ) لذلك الشئ ، ما كان ذلك الشئ ) . أي ، لولا هذه الأشياء الثلاثة ، التي هي ( الذات ) و ( الإرادة ) و ( القول ) ب‍ ( كن ) ، ما حصل ذلك الشئ .
( ثم ، ظهرت الفردية الثلاثة أيضا في ذلك الشئ ) . أي ، الشئ الكائن .
( وبه ) أي ، وبتلك ( الفردية ) الحاصلة . ( من جهته ) أي ، من جهة الشئ . ( صح تكوينه ) . التكوين ، جعل الشئ مكون . فمعناه : أن الحق إذا أمر بالشئ بقوله : ( كن ) ، يجعل ذلك الشئ نفسه موجود .
ويجوز أن يكون بمعنى ( التكون ) ، أي ، بها صح تكونه . والمعنى واحد في الحقيقة .
(واتصافه بالوجود ، وهو شيئيته وسماعه وامتثاله أمر مكونه بالإيجاد ، فقابل ثلاثة بثلاثة ، فإنه الثابتة في حال عدمها في موازنة ) أي ، في مقابلة .
( ذات موجدها ، وسماعه في موازنة إرادة موجده وقبوله بالامتثال لما أمره به من التكوين في مقابلة قوله : " كن " ، فكان هو ) . أي ، فحصل ذلك الشئ بامتثال أمر موجده .
( فنسب ( التكوين ) إليه ) .
فلول ( أنه في قوته التكوين من نفسه عند هذ القول ، ما تكون ) . أي ، الحق نسب
( التكوين ) إلى الشئ الذي يوجد في قوله : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) . أي ، فيكون هو بنفسه .
فلولا أنه مستعد للتكوين وله قابلية لذلك من نفسه ، ما تكون عند سماع هذا القول . وذلك الاستعداد والقابلية مركوز كامن فيه حاصل له ب‍ ( الفيض الأقدس ) .
وإليه أشار قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) . فإن الحق أمرهما بالإتيان إلى الوجود العيني ،والإتيان صدر منهم.
(فما أوجد هذ الشئ بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إل نفسه ، فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشئ نفسه ) ( نفسه ) ، بالجر ، تأكيد ( للشئ ) .
( لا للحق . والذي للحق فيه أمره خاصة .
وكذا أخبر عن نفسه في قوله : ( إنما أمرن لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . فنسب ( التكوين ) لنفس الشئ ) . أي ، إلى نفس الشئ .
ف‍ ( اللام ) بمعنى ( إلى ) . ( عن أمر الله وهو الصادق في قوله . وهذا هو المعقول في نفس الأمر . كما يقول الآمر ، الذي يخاف فلا يعصى ) على البناء للمفعول .
( لعبده : قم . فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده . فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام . والقيام من فعل العبد ، لا من فعل السيد ) . معناه ظاهر .
فإن قلت : الأشياء قبل وجوده معدومة ، فكيف تتصف بالامتثال والقبول للأمر والانقياد ؟
وهذه المعاني إنما تحصل مما له الوجود ، وكيف يمكن أن يتكون الشئ الذي وجوده مستفاد من غيره بنفسه ؟
وكيف يقاس ما ليس بموجود إلى ما هو موجود ، كمثال العبد والسيد ؟
قلت : إنها موجودة بالوجود العلمي الإلهي أزل وأبدا ، وإن كانت معدومة بالنسبة إلى الوجود الخارجي .
وهذه الصفات التي للأشياء ليست من لوازم الوجود الخارجي فقط ، بل من لوازم الوجود العلمي ، فهي متصفة بها أيضا حال كونها متصفة بالوجود العلمي .
غاية ما في الباب ، أن هذه الصفات يتفاوت ظهورها بحسب عوالمها التي هي فيها ، كما يتفاوت الأعيان باللطافة والكثافة في عالم الأرواح والأجسام .
وسر نسبة ( التكوين ) إلى الأعيان وتحقيقها ، أن تلك الأعيان لكونها عين الحق من حيث الحقيقة لها الظهور والإظهار لنفسه في جميع مراتب الوجود ، لاتصافها بالصفات الإلهية حينئذ . ومن حيث إنها متعينة بتعينات خاصة مستمدة ممن لا تعين له ، محتاجة إليه ، لها العجز والضعف والنقص وغيرها من الصفات الكونية .
فنسبة ( التكوين ) و ( الإيجاد ) إليها ، بالاعتبار الأول ، والعجز والفقر والمسكنة ، بالاعتبار الثاني . فلا تضيق صدرك بم سمعت ، واحمد ربك على ما فهمت .
( فقام أصل التكوين ) أي ، الأعيان التي تتكون . ( على التثليث ، أي ، من الثلاثة من الجانبين : من جانب الحق ، ومن جانب الخلق . ثم ، سرى ذلك ) أي ، حكم ذات التثليث .
( في إيجاد المعاني بالأدلة ، فلا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة ) وهو موضوع النتيجة ، ومحموله ، والحد الأوسط .
( على نظام مخصوص ) وهو نظم الشكل الأول وما يرجع إليه عند الرد ، كالأشكال الثلاثة الأخر . (
(وشرط مخصوص ) وهو أن تكون الصغرى موجبة ، كلية كانت أو جزئية ، والكبرى كلية ، سواء كانت موجبة أو سالبة . هذا في الشكل الأول .
وأما في الأشكال الباقية ، فالشرط أن يكون الكبرى والصغرى بحيث إذا ردتا إلى الأول
بطريق مثبتة في علم المنطق ، يحصل شرط الشكل الأول .
( وحينئذ ينتج من ذلك . وهو ) أي ، النظام المخصوص .
( أن يركب الناظر دليله من مقدمتين : كل مقدمة تحوي على مفردين ، فتكون أربعة . واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين ، ليربط أحديهما بالأخرى كالنكاح ) .
شبه اجتماع المعاني الثلاث بحصول النتيجة ، بالنكاح الصوري ، على أن هذا الاجتماع العيني صورة ذلك الاجتماع الغيبي والثلاثة التي في النكاح وهي أركانه :
الزوج ، والزوجة ، والولي العاقد . والباقي شروط الصحة .
( فيكون ثلاثة ) أي ، فتحصل ثلاثة . ( لا غير لتكرار الواحد فيهما ، فيكون المطلوب ) أي ، فيحصل المطلوب .
( إذا وقع هذا الترتيب على هذا الوجه المخصوص ، وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد ) على صيغة اسم الفاعل من ( الإفراد ) . أي ، الواحد الذي يجعل
موضوع النتيجة ومحموله بتكراره فرد .
وفي بعض النسخ : ( الوجه المفرد ) . ويؤيد هذه النتيجة قوله آخر :
(فالوجه الخاص . وهو تكرار " الحادث " ) .
(الذي صح به التثليث . والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة ،
أو مساوي لها ، وحينئذ يصدق . وإن لم يكن كذلك ، فإنه ينتج نتيجة غير صادقة) .
المراد هنا ب‍ ( الحكم ) المحكوم به في النتيجة . ومثال الأعم ، قولن : الإنسان حيوان ، وكل حيوان جسم ، فالإنسان جسم . فالجسم هو ( الحكم ) ، وهو أعم من الحيوان .
ومثال المساواة : الإنسان حيوان ، وكل حيوان حساس ، فالإنسان حساس . والحساس مساو للحيوان . أو هو بعينه ما شرط في المنطق من كلية الكبرى .
وإنما سمى الأوسط ب‍ ( العلة ) ، لأنه كالعلة الصورية للقياس ، بل علة حصول النتيجة ، إذ لو لم يكن الحد الأوسط ، لم يحصل النتيجة .
قوله : ( وإن لم يكن كذلك ) أي ، وإن لم يكن على نظام مخصوص ، لا ينتج ، أو ينتج نتيجة غير صادقة .
(وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله . أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلق ) . أي ، معراة عن نسبته إلى عين العبد .
( والحق ما أضافه إلا إلى الشئ الذي قيل له : " كن " ) أي ، هذا الذي ينتج نتيجة غير صادقة ، هو مثل إسناد الفعل إلى العبد بأنه هو فاعله ، فإنه نتيجة غير صادقة .
لأن العبد قابل ، والقابل لا يكفي في حصول النتيجة ، بل لا بد من فاعل ، والفاعل هو الله ، لأن العبد مجردا عن الوجود هو العدم ، ولا يتأتى منه فعل ، ومع الوجود يقدر على ذلك ، و (القدرة) من لوازم الوجود ، والوجود هو الحق ، فرجع الفعل إليه .
والمثال الثاني ، هو إضافة ( التكوين ) إلى الله معراة عن عين العبد ، فإنه أيضا نتيجة غير صادقة .
لأن ( الأمر ) من الله ، و ( التكون ) والامتثال للأمر من العبد ، فإضافة الإيجاد إلى الله مطلقا من غير اعتبار عين العبد ، غير صادقة .
(ومثاله إذا أردنا أن ندل على أن وجود العالم عن سبب ، فنقول : كل حادث فله سبب ، فمعنا الحادث والسبب .
ثم نقول في المقدمة الأخرى : والعالم حادث . فتكرر ( الحادث ) في المقدمتين .
والثالث قولن : ( العالم ) . فأنتج أن العالم له سبب ) . أي ، مثال ما قلنا من أنه لا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ليكون له نتيجة صادقة ، إنا إذا أردنا أن نذكر دليلا على أن وجود العالم حاصل عن سبب موجد له .
نقول : كل حادث فله سبب ، والعالم حادث ، فالعالم له سبب .
وهذا هو الشكل الرابع . ويرد إلى الشكل الأول بجعل المقدمة الثانية ، وهي : العالم حادث ، صغرى ، والمقدمة الأولى ، وهي : كل حادث فله سبب ، كبرى ، فيصير : العالم حادث ، وكل حادث فله سبب ، ينتج فالعالم له سبب .
وقوله : ( والثالث قولنا العالم ) أي ، ومعنا أيضا الثالث ، وهو ( العالم ) .
( فظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة ، وهو ( السبب ) ) أي ، وهو قوله : (فله سبب).
( فالوجه الخاص ، هو تكرار ( الحادث ) ) أي ،الحد الأوسط في المثال المذكور ،هو (الحادث) المكرر . وإنما سماه ب‍ ( الوجه ) ، لأن المحمول من حيث إنه مغائر للموضوع ، نسبة من نسبه ووجه من وجوهه .
( والشرط الخاص هو عموم العلة ) . أي ، الشرط الخاص في هذا المثال المذكور ، هو عموم علة الوجود وسببه ، لأن كل ما هو حادث محتاج في وجوده إلى علة وسبب .
فالمراد ب‍ ( العلة ) هن الأكبر ، وهو قوله : ( فله سبب ) لا الحد الأوسط الذي هو علة نسبة الأكبر إلى الأصغر .
لذلك قال : ( لأن العلة في وجود الحادث " السبب " ) . أي ، لأن العلة في الوجود الخارجي للحادث ، السبب الذي يوجده . ( وهو ) أي ،السبب . ( عام في حدوث العالم عن الله ) .يعنى،
ماله السبب ، أعم من العالم وحدوثه ، من الله . فإن الأسماء والصفات الإلهية
ليست من العالم ، لكونها غير موجودة في الخارج ، مع أنها في فيضانها من الله تحتاج
إلى سبب .
قوله : ( أعني الحكم ) أي ، أعني بقولي ، وهو عام الحكم ، أي ، الحكم بأن كل ما هو حادث فله سبب ، حكم عام كلي ، سواء كان الحادث حادثا بالحدوث الزماني كالمخلوقات ، أو الذاتي كالمبدعات.
لذلك أردفه بقوله : ( فنحكم على كل حادث بأن له سببا ، سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم ، أو يكون الحكم أعم منه ، فيدخل تحت حكمه ، فتصدق النتيجة .
المراد ب‍ ( السبب ) في قوله : ( سواء كان السبب مساوي ) ، الحد الأوسط ، لأنه سبب الربط بين محمول النتيجة وموضوعه . كما عبر عنه ب‍ ( العلة ) في قوله : ( والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة ، أو مساويا له ) . والمراد ب‍ ( الحكم ) الأكبر .
ولا ينبغي أن يتوهم أن المراد ب‍ ( السبب ) هنا السبب المذكور في المثال ، لأنه لا يمكن أن يكون الحكم أعم منه ، وإن كانت المساواة ممكنة بينهما ، لأن المراد بالحكم حينئذ المحكوم عليه ، وهو قولن : كل حادث .
إذ لا يمكن حمل الحكم هنا على النسبة الحاصلة بين الموضوع والمحمول ، لأنها لا توصف بأنها أعم من طرفيها ، أو أخص أو مساو ، بل يوصف بذلك بحسب نسبة أخرى حين يلزم
من صدقها ، صدقها ، كما يقال ، إذا كان الشئ حادثا ، كان له سبب .
فبين الحادث وبين ما له السبب ، مساواة . وذلك في الشرطية ل الحملية .
والمحكوم عليه إن كان أعم من قوله : ( فله سبب ) ، يلزم حمل الأخص على الأعم ، وهو محال ، لعدم صدق قولن : الحيوان إنسان ، والجسم حيوان .
اللهم إلا أن يقال ، هذا المثال ( مثال المساواة ) فحينئذ يكون صحيحا ومثال المساواة بين ( السبب ) و ( الحكم ) ، أي المحكوم به ، قولن : كل حادث فله سبب .
إذا أردنا ب‍ ( الحادث ) الحدوث الذاتي ، لصدق قولن : كل ماله سبب فهو الحادث بالحدوث الذاتي . فبينهما مساواة .
ومثال كون الحكم ، أي المحكوم به ، أعم من السبب الذي هو الحد الأوسط .
قولن : كل حادث فله سبب . إذا أردنا ب‍ ( الحادث ) الحدوث الزماني ، لأن ماله سبب ، قد يكون حادثا بالحدوث الذاتي ، وقد يكون حادثا بالحدوث الزماني ، فيدخل ( الأوسط ) في الحالين تحت حكم الأكبر ، فتصدق النتيجة .
( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة) . تقدير الكلام : فهذا حكم التثليث ، قد ظهر أيضا في إيجاد المعاني التي يكتسب بالأدلة . ( فهذ ) مبتدأ ، ( حكم التثليث ) مبتدأ خبر ما بعده خبره ، والجملة خبر الأول . كقولك : هذا زيد يكرمني .
ويجوز أن يكون ( حكم التثليث ) بيان ( هذ ) .
أو بدلا منه . أي ، فهذا حكم التثليث قد ظهر . فيكون المجموع جملة واحدة .
( فأصل الكون التثليث ) . أي ، فأصل الوجود الخارجي الذي للعالم ، التثليث .
( ولهذا كانت حكمة صالح ، عليه السلام ، التي أظهر الله ) أي ، أظهرها الله .
( في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب ) . أي ، لما كان أصل الكون مبنيا على التثليث ، كان حكمة صالح ، عليه السلام ، في إهلاك قومه أيضا مبنية عليه ، فأهلكهم الله في ثلاثة أيام ، ليناسب الفساد الكون .
وقوله : ( في تأخير ) متعلق بقوله : ( كانت ) . وقوله : ( ثلاثة أيام ) منصوب على أنه مفعول ( التأخير ) . وقوله : ( وعد ) منصوب على أنه خبر ( كانت ) .
وفي بعض النسخ : ( وعد غير مكذوب ) . كما في القرآن . أي ، ذلك وعد غير مكذوب ، أورده على الحكاية .
( فأنتج صدقا وهي الصيحة التي أهلكم به ) . ( فأنتج ) أي ، الوعيد بثلاثة أيام حال كونه صادقا نتيجة . أو : نتج ذلك التثليث نتيجة صادقة ، وهي الصيحة التي أهلكهم به .
( "فأصبحوا في دارهم جاثمين") أي ، فأصبحوا هالكين في ديارهم حيث لم يستطيعوا القيام .
(فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم ، وفي الثاني ، احمرت ، وفي الثالث اسودت . فلما كملت الثلاثة ، صح الاستعداد ) . أي ، استعداد الوصول إلى العالم
الأخروي .
( فظهر كون الفساد فيهم ، فسمى ذلك الظهور " هلاك " ) أي ، فظهر الوجود الذي هو مشروط بهلاكهم وفسادهم . وهو الوجود البرزخي والأخراوي .
وإنما أضاف ( الكون ) إلى ( الفساد ) ، لأن كل فساد يستلزم كونا آخر لم يكن قبل ، لذلك قال : ( فسمى ذلك الظهور هلاك )
(فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعال : ( وجوه يومئذ مسفرة ) . من ( السفور ) وهو الظهور .
كما كان ( الاصفرار ) في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح . ثم جاء في موازنه ( الاحمرار ) القائم بهم ، قوله تعالى في السعداء : "ضاحكة" ) أي ، ( وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة ) .
(فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه . فهي في السعداء إحمرار
الوجنات . ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : ( مستبشرة )
وهو ما أثره السرور في بشرتهم ، كما أثر السواد في بشرة الأشقياء . ولهذا قال ) أي ،
الحق .
( في الفريقين بالبشرى ، أي ، يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم ، فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة يتصف به قبل هذ . فقال في حق السعداء : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم ) . وقال في حق الأشقياء : ( فبشرهم بعذاب اليم ) .
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذ الكلام ، فما ظهر عليهم في ظواهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم ) . أي ، من مفهوم ( الكلام ) .
( فما أثر فيهم سواهم ، كما لم يكن ( التكوين ) إلا منهم فلله الحجة البالغة ) . هذ ( الكلام )
رجوع إلى ما كان في تقريره أولا ، أي ، هم الذين يؤثرون في أنفسهم بحسب استعداداتهم وقبولهم لفيض الحق وأمره لا غيرهم ، كما لم يكن ( التكوين ) إلا منهم . فلله الحجة البالغة على الناس في كونهم سعداء وأشقياء : ( فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . لأن الحق يعطى الوجود : فإن استحقو خيرا ، أعطاهم وجوده ، وإن استحقوا شرا ، أعطاهم وجود ذلك . ( فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له ، أراح نفسه من التعلق بغيره .
وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه . وأعنى بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه
ومزاجه ، وأعنى بالشر مالا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه . ويقيم صاحب
هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم تعتذروا ، ويعلم أنه منه )
أي ، من نفسه . ( كان ) أي ، حصل . ( كل ما هو فيه ، كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم ، فيقول لنفسه إذ جاءه مالا يوافق غرضه : ( يداك أوكت وفوك نفخ ) .
هذا مثل مشهور أي ، يداك كسبت .
"" يحكى ان : أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر. فأراد أن يعبر على زق، قد نفخ فيه، فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر. خرجت من زقه الريح، وغرق
. فلما غشيه الموت، استغاث برجل. فقال له الرجل: يداك أوكت وفوك نفخ
. يضرب مثلا لمن يجنى على نفسه بعمله ""
كما قال تعالى : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " .
( والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ) .
.

LptqkGQgKnI

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!