موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مطلع خصوص الكلم
في معاني فصوص الحكم

تأليف: الشيخ داود القيصري

فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية


12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي


شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي


قد مر في المقدمات أن ( القلب ) يطلق على النفس الناطقة إذا كانت مشاهدة للمعاني الكلية والجزئية متى شاءت . وهذه المرتبة مسماة عند الحكماء ب‍( العقل المستفاد ) .
وقد يطلق على ناطقة من اتصف بالأخلاق الحميدة ، وجعلها ملكة .
وإنما تسمى بالقلب لتقلبها بين العالم العقلي المحض ، وعالم النفس المنطبعة ، وتقلبها في وجوهها الخمسة التي لها إلى العوالم الكلية الخمسة وله أحدية الجمع بين الأسماء الإلهية والظهور بحكم كل منها على سبيل العدالة .
وهو برزخ بين الظاهر والباطن ، ومنه يتشعب القوى الروحانية والجسمانية ، ومنه الفيض على كل منها ، وهو صورة المرتبة الإلهية ، كما أن الروح صورة المرتبة الأحدية ، لذلك وسع كل شئ حتى الحق .
ولما كان كثير الشعب والنتائج ، وكان شعيب ، عليه السلام ، كثير النتائج والأولاد متحققا بمقام القلب - مشاهدا للمعاني الكلية والجزئية متخلقا بالأخلاق الإلهية قائما بالعدل الذي هو سبب وجود العالم آمرا بإيفاء الحقوق في المكيال والميزان والقسطاس المستقيم بمقتضى استعداد كل من الناس - أضاف ( الحكمة القلبية ) إلى كلمته .



قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم ، أن القلب ، أعني قلب العارف بالله ، هو من رحمة الله ، وهو أوسع منها ، فإنه وسع الحق جل جلاله ، ورحمته لا تسعه ) .
إنما قال : ( أعني قلب العارف ) لأن قلب غيره ليس مصطلحا عند الخواص ، بل عند العوام ، كما يسمى ( لب ) الشئ واللحم الصنوبري أيضا ب‍ ( القلب ) .
وإنما قال : ( بالله ) - دون غيره من الأسماء - لأنه مجمع الأسماء ، و ( القلب )
قابل لفيضها كلها ، والعارف به عارف بغيره ، والعارف لغيره لا يكون عارفا به ،
إذ العارف بالأفعال وأحكامه ليس عارفا بالله وظهوراته وأسمائه .
وليس المراد هنا ب‍ ( الرحمة ) الوجود ، إذ القلب ليس أوسع من الوجود ،
بل ما به يتعطف على عباده ويشفق عليهم ويرحمهم فيهب لهم الوجود . لذلك
قال : ( هو من رحمة الله ) أي ، صادر منها .
وقال : ( فان الحق راحم ليس بمرحوم ) . ولو كان بمعنى الوجود ، لصدق أنه ( مرحوم ) كما يصدق أنه موجود .
وقوله : ( فإنه وسع الحق ) إشارة إلى ما نقله النبي ، صلى الله عليه وسلم ،
عن الله تعالى أنه قال : " ما وسعني أرضى ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى
النقي "
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا لسان عموم من باب الإشارة ، فإن الحق راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه ) .
أي ، كون الرحمة لا تسعه لسان عموم الخلائق وعلماء الظاهر ، والإشارة إلى معتقدهم ، فإن الحق راحم مطلقا عندهم ، ليس بمرحوم بوجه من الوجوه ، فلا حكم للرحمة فيه . وأما بلسان الخواص والمحققين ، فإنه هو ( الراحم ) وهو ( المرحوم ) ، إذ لا غير والأعيان المسماة ب‍ ( العالم ) عينه ، فما يرحم الحق إلا نفسه . فهو ( راحم ) في مقام جمع الأحدية ، ( مرحوم ) في مقام التفصيل والكثرة .



وإليه أشار بقوله : ( وأما الإشارة من لسان الخصوص ، فإن الله وصف نفسه ب‍ ( النفس ) ، بفتح الفاء ، وهو من باب ( التنفيس ) )
أي ، وصف لسان نبيه نفسه بأن له ( النفس ) . وهو مأخوذ من ( التنفيس ) ، لأنه إرسال الهواء الحار من الباطن ، وإيراد الهواء البارد لترويح المتنفس عن الكرب ، فالتنفس إنم
يتنفس دفعا للكرب . فشبه النفس الإلهي بالنفس الإنساني .
وأضاف ( الكرب ) إليه ل من حيث إنه غنى عن العالمين ، بل من حيث إنه رب لهم . وكربه طلب الأسماء الإلهية الباقية في الذات الأحدية بالقوة ظهورها وعيانها ، فتنفس وأوجد أعيان تلك الأسماء ، فظهرت الإلهية .
( وأن الأسماء الإلهية عين المسمى ) . أي ، من حيث الوجود وأحدية الذات ، وإن كانت غيرا باعتبار كثرتها . ( وليس إلا هو ) .

أي ، وليس المسمى إلا عين هوية الحق ، أو وليس ذلك النفس إلا عين الهوية السارية في الموجودات كله .

( وإنها طالبة ما تعطيه من الحقائق ) . أي ، وإن الأسماء طالبة وجود ما تعطى الحقائق الكونية للحق من الأحكام والصفات الكونية .
وفي بعض النسخ : ( ما تعطيه من الحقائق ) . أي ، وإن الأسماء طالبة للحقائق .
وفاعل ( تعطى ) ضمير ( الأسماء ) .
ويؤكد الثاني قوله رضي الله عنه : ( وليست الحقائق التي يطلبه الأسماء إلا العالم ، فالألوهية
تطلب المألوه ، والربوبية تطلب المربوب ) .
واعلم ، أن الشيخ رضي الله عنه يستعمل في جميع كتبه ( المألوه ) ويريد به (
العالم ) .
واللغة يقتضى أن يطلق على الحق ، إلا في بعض معانيه . لأنه مشتق من ( أله ) وله معان متعددة :
يقال : أله ، يأله ، إلهة . أي ، عبد عبادة ، فالمألوه هو المعبود .
وثانيها ، ( الفزع ) و ( الالتجاء ) . يقال : أله إلى زيد . أي ، إلتجاء إليه ، فأجأره.
وقال : تأبط شرا . شعر : ( ألهت إليها والركائب وقف ) . فالمألوه المفزع والملج .
وثالثها ، ( الثبات ) .
يقال : ألهنا بمكان كذا . أي ، أقمنا . قال الشاعر : ( ألهنا بدار ما تبيد رسومها ) . فالمألوه المثبت .
ورابعها ، ( السكون ) . يقال : ألهت إليه . أي ، سكنت إليه . فالمألوه المسكون إليه .
وخامسها ، ( التحير ) . يقال : أله زيد . إذا تحير . فالمألوه المتحير فيه .
ولا شك أن ( المعبود ) و ( المفزوع إليه ) و ( المسكون إليه ) هو الحق و ( المتحير )
و ( المثبت ) هو العالم .
ويمكن أن يستعمل لغة في معان آخر يليق ب‍ ( العالم ) .
و ( الألوهية ) اسم المرتبة الإلهية ، أي ، هذه المرتبة تطلب وجود العالم ،
وهو المألوه ، لأن كل واحد من أسماء الصفات والأفعال يقتضى محل ولايته ليظهر
به ، كالقادر للمقدور ، والخالق للمخلوق ، والرازق للمرزوق ، وهكذا غيره .
والفرق بين ( الألوهية ) و ( الربوبية ) :
أن ( الألوهية ) حضرة الأسماء كلها - أسماء الذات والصفات والأفعال ، و ( الربوبية ) حضرة أسماء الصفات والأفعال فقط لذلك تأخرت عن المرتبة الإلهية .

قال تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) .

( وإلا ) أي ، وإن لم تكن ( الألوهية ) و ( الربوبية ) طالبة للمألوه والمربوب ، لا يكون شئ منها متحققا ، كما ل يتحقق الأبوة إلا بالإبن ، والبنوة إلا بالأب ، لأنهما من قبيل المتضايفين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فل عين لها إلا به وجودا وتقديرا ) أي ، فلا عين للألوهية أو الربوبية إلا بالعالم ، سواء كان موجودا بالوجود الحقيقي ، أو مقدرا .
فقوله : ( فلا عين ) جواب الشرط المقدر . أي ، إذا كان تحقق الألوهية والربوبية موقوفا على المألوه والمربوب ، فلا عين للألوهية إلا بالمألوه ، ولا للربوبية إلا بالمربوب .
وجواب ( إلا ) محذوف ، لدلالة قوله : ( فلا عين لها إلا به ) عليه . ولا يجوز أن يكون هو جوابا ، لفساد المعنى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والحق من حيث ذاته غنى عن العالمين ، و ( الربوبية ) ما لها هذا الحكم ) . إذ لا غناء لها عن المربوب .



قال الشيخ رضي الله عنه : (فبقى الأمر بين ما تطلبه الربوبية ، وبين ما يستحقه الذات من الغنى عن العالم ) .
أي ، بقي الشأن بين الغنى الذاتي ، والافتقار الأسمائي . فيجب أن ينزل كل منهما على مقامه. فنقول : ( الغنى ) من حيث الذات ، لأن العالم ، كان أو لم يكن ، لا يحصل التغير في الذات ، فهي على حالها أزلا وأبدا عند وجود العالم وعدمه . و(الافتقار) من حيث الربوبية والألوهية . ولما كانت الربوبية صفة الذات الغنية ، والصفة عين الموصوف في الأحدية ،
فقال : ( وليست الربوبية على الحقيقة والإنصاف إلا عين هذه الذات ) .
فللذات الغنى عن العالمين من وجه ، وهو وجه الأحدية المتعالية عن النسب والإضافات ،
ولها الافتقار إليهم من وجه آخر ، وهو الوجه الواحدية الطالبة للنسب ومظاهرها.



قال الشيخ رضي الله عنه : (فلم تعارض الأمر بحكم النسب ، ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده ) .
أي ، فلما تعارض الأمر الإلهي بحكم النسب والإضافات - من الصفات الحقيقية والإضافات المتقابلة كالقهر واللطف والرحمة والنقمة - أضاف الشفقة على عباده إلى نفسه .
كما ورد : ( الله رؤوف بالعباد ) . و ( الشفقة ) هي الرحمة .
فرحم بها عباده وأسماءه التي يطلب العباد بإظهارها ، وإظهار ما عليه سلطنتها من أعيان العالم ، لأنها سبب ظهور كمالات الأسماء ، والربوبية لا تتم به .
(فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى ( الرحمن ) بإيجاده العالم الذي
تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية )
أي ، فأول شئ نفس عنه الحق وأزال الكرب إنما كان صفة الربوبية عن جميع الأسماء ، لذلك قدمها ، وعطف ( جميع الأسماء الإلهية ) عليها .
وذلك لأن ( الربوبية ) وجميع الأسماء الإلهية اقتضت وجود المربوبات ومظاهر الأسماء والصفات ، وذلك ( التنفيس ) كان بإيجاد العالم في الخارج ، لكن بواسطة ( النفس الرحماني ) . ( فأول ) مبتدأ ، خبره ( عن الربوبية ) .
ويجوز أن يكون خبره : ( بإيجاده العالم ) . أي ، أول ما نفس عن الربوبية ، إنما كان بإيجاد أعيان العالم .
ويجوز أن يكون ( ما ) في قولهما ( ما نفس ) مصدرية .
فمعناه : فأول تنفيسه عن الربوبية بإيجاد الأعيان ، ثم بإظهار كمالاتها ، ثم بإنزال كل منها في مقام يليق بحاله في الآخرة .
( فيثبت ) وفي بعض النسخ : ( فثبت ) . ( من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل
شئ ، فوسعت الحق ، وهي أوسع من القلب ، أو مساوية له في السعة ) .
أي ، لما كان الغرض من قوله : ( وأما الإشارة بلسان الخصوص ) إلى هنا ، إثبات أن الحق
كما هو ( راحم ) كذلك هو ( مرحوم ) من وجه آخر ، صرح هنا بالمقصود وهو أن
رحمته وسعت كل شئ ، اسما كان ذلك الشئ أو عينا .
وإذا كانت كذلك ، وسعت الحق أيضا ، لأنه عين هذه الأسماء والأعيان . فرحمته أوسع من القلب ، لأن الحق ، من حيث أسمائه ، والقلب وكل ما يطلق عليه اسم الشيئية ، داخل فيها ، والقلب لا يسع نفسه وإن وسع غيره من الحق والأعيان ومظاهرها .
ولما كان القلب أيضا يسع نفسه من حيث الإحاطة العلمية ، قال : ( أو مساوية له
في السعة . هذا مضى ) .
واعلم ، أن الذي يسع كل شئ ثلاث : العلم ، والرحمة ، والقلب .
قال الله تعالى : ( ربن وسعت كل شئ ) . ( رحمة وعلما ) وأحاط بكل شئ علما ،
( وسعت رحمتي كل شئ ) .
وقال : ( ما وسعني أرضى ول سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ) .
ولما تكلم في سعة الرحمة جعله أوسع أو مساويا للقلب ، قال : (هذا مضى ) .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم ، لتعلم أن الحق تعالى ، كما ثبت في الصحيح ، يتحول في الصور عند التجلي ، فإن الحق تعالى إذا وسعه القلب ، لا يسعه معه غيره من المخلوقات ، فكأنه يملأه ) .
يريد أن يبين اتساع القلب ويؤمي إيماء لطيفا إلى أصل يستند تقلب القلب إليه ، وهو التحول الإلهي في صور تجلياته ، كما ثبت في الحديث .
ولما كان التجلي بحسب استعداد المتجلى له ، فالقلب الذي يسع الحق ل يكون إلا لمن له استعداد جميع التجليات الإلهية الذاتية والأسمائية ، وإذا وسعه ، لا يسع معه غيره من المخلوقات - وذلك إما لفناء غير الحق عند تجليه في نظر المتجلى له ، كما إذا تجلى بالأحدية ، فإن الكثرة تضمحل وتفنى عنده فالمتجلى له لا يشعر لنفسه فضلا على غيره ولا يرى ذاته أيضا إلا عين الحق حينئذ ، أو لاختفاء الأغيار عند ظهور أنوار الحق في نظر المتجلى له ، كاختفاء الكواكب عند طلوع الشمس مع بقاء أعيانها - ولما كانت السعة مقتضية للإثنينية - إذ لا يقال :
الشئ يسع نفسه - فسر بالمعنى الثاني : ( ومعنى هذا ) أي ،
ومعنى قولنا : ( إذا وسعه القلب ، لا يسع معه غيره ) ،
( أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له ، ل يمكن معه أن ينظر إلى غيره ) .
لاشتغال القلب بكليته إلى الله تعالى واختفاء الأغيار بنور الواحد القهار .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقلب العارف من السعة ، كما قال أبو يزيد البسطامي : " لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به " . )
لأن القلب يحصل له السعة الغير المتناهية عند تجلى من هو غير متناه .
والعرش وما فيه ، على أي مقدار يفرض ، يكون متناهيا ، ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي .
(وقال الجنيد في هذا المعنى : ( إن المحدث إذا قرن بالقديم ، لم يبق له أثر ،
وقلب يسع القديم ، كيف يحس بالمحدث موجودا ) . )
هذا تأكيد لقول أبى يزيد قدس الله روحه . أي ، أن الحق إذا تجلى ، يفنى ما سواه ، فلا يبقى لغيره وجود فضلا عن أثره .
وإن قلنا إنه باق عند تجلى القديم ، فكيف يحس بالمحدث قلب تجلى له الحق ونوره بأنواره وشغله لذاته ؟
قوله ( موجودا ) حال من ( المحدث ) . أو مفعول ثان لقوله : ( يحس ) .



قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذ كان الحق يتنوع تجليه في الصور ، فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي ، فإنه لا يفضل عن القلب شئ عن صورة ما يقع فيها التجلي ، فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم
من الخاتم لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة ، إن كان الفص مستديرا ، أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال ، إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا ، أو ما كان من الأشكال . فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير ) .
أي ، إذا ظهر الحق في صور شؤونه المتنوعة وتجلى تجليا ذاتيا بما في الغيب المطلق ، يتنوع بحسب استعدادات القلب ، فيتسع ، ويضيق بحسب الصورة التي وقع التجلي فيها ، لأنها تهب للقلب استعداد يناسبها وتجعله بحيث لا يفضل عنها .
وهذا القلب المتجلى له ، ل يكون إلا للعارف الكامل ، لأن قلبه مرآة الذات الإلهية وشؤونها جميعا ، لخلوه عن الأحكام الجزئية المقيدة له .
فينصبغ انصباغا تقتضيه الصورة المتجلية له ، لأنها حاكمة عليه .
وقلب غيره مرآة الذات من حيثية معينة وشأن مقيد ، وليس فارغا من الأحكام الجزئية الأسمائية، فينصبغ التجلي بصبغه ، ولا يبقى على طهارته الأصلية وإطلاقه .
وتلخيصه : أن للمرآة حكما في ظهور الصور بحسبها ، وللصورة حكم
في المرأة التي تظهر الصورة فيها . ولكل منهما أحكام بحسب الظاهر والباطن .
ولما ذكر أن القلب لا تفضل عن الصورة المتجلية ، شبه القلب بمحل الفص والصورة
المتجلية بالفص .
وهو إذا كان مستديرا ، يجعل المحل مستديرا ، وإذا كان مربعا أو مسدسا أو مثمنا ، فمحله أيضا كذلك .
وإنما شبه المعقول المحض بالمحسوس الصرف ، لأن كلا منهما نسخة من الآخر ، إذ الظاهر صورة الباطن ، والباطن معنى الظاهر .
وفي التشبيه ب‍ ( المستدير ) و ( المربع ) و ( المسدس ) لطيفة أخرى .
وهي أن المعنى المتجلي قد يكون معنى بسيطا ، لا تعدد فيه ولا تكثر ، فصورته أيضا يكون مستديرة .
وقد يكون مركبا ، وله جهات متعددة بحسب الظهور والخفاء والقرب والبعد ، فصورته أيضا يكون مشتملة على جهات متعددة متفاوتة في القرب والبعد إلى المركز .
فإن زوايا المربع والمسدس وأمثالهما أبعد من الوسط من غيرها من الأضلاع .



قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذ عكس ما تشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد ، وهذا ليس كذلك . فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق).
لما ذكر حكم الصورة في المرأة ، ذكر عكسه ، وهو حكم المرأة في الصورة .
كما أشار إليه أهل الحق في كتبهم من أن الحق يتجلى على قلوب العباد بحسب استعداداتهم .

وهذان الحكمان بعينهما حكم ( الفيض الأقدس ) و ( الفيض المقدس ) : فإن ( الفيض الأقدس ) يعطى الاستعداد للعين ، و ( الفيض المقدس ) يعطى ما يترتب على الاستعداد . كذلك التجلي الغيبي من الباطن يعطى القلب استعدادا بحسب الصورة التي يتجلى فيها ، والتجلي من الظاهر يترتب على استعداد العين بحسب الباطن . وكلاهما حق .

لذلك قال رضي الله عنه : ( وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين : تجلى غيب ، وتجلى شهادة . فمن تجلى الغيب يعطى الاستعداد الذي يكون عليه القلب ) .
أي ، تحقيق هذه المسألة : أن لله بحسب الاسم ( الباطن )و ( الظاهر ) تجليين :
تجلى غيب ، وهو التجلي الذاتي الذي تظهر هوية الحق به ، فتصير عينا ثابتة مع استعداداتها . وتجلى شهادة ، وهو تجلى الاسم الظاهر . وهذا التجلي يترتب على التجلي الأول .
( وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته ) أي ، تجلى الغيب هو التجلي الذاتي ألذ الغيب المطلق نعته .
قال رضي الله عنه : ( وهو الهوية التي يستحقها عن نفسه هو ) . أي ، التجلي الغيبي هو الهوية الإلهية التي يستحق الحق تلك الهوية عن نفسه .
فقوله : ( هو ) فاعل (يستحقه ) .
قال رضي الله عنه : ( فلا يزال ( هو ) له دائم أبدا ) . أي ، فلا تزال هوية الحق له ثابتا دائما ابدا في مقام أحديته وجمعه ، وكذلك في مقام تفصيله ، لأن لكل عين هوية هي بها هي .
قال رضي الله عنه : ( فإذا حصل له ، أعني للقلب ، هذا الاستعداد ، تجلى ) أي ، الحق .
( له التجلي الشهودي في الشهادة ، فرآه ) أي ، فرأى القلب الحق في ذلك التجلي .
( فظهر ) أي ، القلب . ( بصورة م تجلى له كما ذكرناه . فهو تعالى أعطاه الاستعداد ) كما أشار إليه بقوله : ( ( أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) . ثم رفع ) أي ، الحق .
( الحجاب بينه وبين عبده ، فرآه )أي ، رأى العبد الحق . ( في صورة معتقده . فهو عين اعتقاده ) . أي ، فالمرئي عين اعتقاد العبد ، لا غير ، لأنه رأى الحق من حيث اعتقاد خاص ، والحق عين اعتقاده ، كما قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ) .
قال رضي الله عنه : ( فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق ) . أي ، فلا يشهد القلب بعين البصيرة الحق ولا العين أبدا الحسية إياه ، إلا على صورة ما يعتقده في الحق .
وهذا تعميم للحكم ، ليشمل الكامل وغيره : فالكامل يشهده في مقامي الإطلاق والتقييد بالتنزيه والتشبيه ، وغير الكامل إما منزه فقط ، وإما مشبه فقط ، وإما جامع بينهما لكن يقيده ببعض الكمالات دون البعض ، فيرى الحق بحسب اعتقاده .
قال رضي الله عنه : ( فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ) . أي ، فالحق الذي وسعه القلب ، هو الحق المتجلي في صورة الاعتقادات ، ( وهو الذي يتجلى له ، فيعرفه ) . أي ، هو الذي يتجلى للقلب بحسب اعتقاده ، فيعرفه . وإذا تجلى بحسب اعتقاد غيره ، لا يعرفه وينكره .
( فلا يرى العين ) في الدنيا والآخرة عند التجلي .
( إلا الحق الاعتقادي ) . أي ، الثابت في الاعتقادات .



قال الشيخ رضي الله عنه : (ولا خفاء في تنوع الاعتقادات : فمن قيده ، أنكره في غير ما قيده به وأقر به فيما قيده به إذا تجلى ) . كأصحاب الاعتقادات الجزئية .
( ومن أطلقه عن التقييد ، لم ينكره وأقر له في كل صورة يتحول فيها ) .
كأصحاب الاعتقادات الكلية والجزئية ، كالكمل والعارفين .
قال رضي الله عنه : ( ويعظمه من نفسه قدر صورة م تجلى له فيها إلى مالا يتناهى ، فإن صور التجلي ما لها نهاية يقف عندها ) . أي ، يعظم تلك الصورة التي تجلى له الحق فيها ، وينقاد لأحكامها ويعبدها عبادة يليق بمقامه .
وغير تلك الصورة من الصور التي يتجلى الحق فيها له ، أو لغيره من العباد إلى مالا يتناهى ، فلا ينكر الحق في جميع صور تجلياته ، ولا ينكر لمن حصل له ذلك التجلي ، فيعظمها ويعظم أصحابها ، سواء كان من أصحاب الظاهر ، أو الباطن ، إذ لا نهاية لتجليات الحق وصورها ليقف عندها . وفي بعض النسخ : ( تقف عنده ) .
أي ، تقف أنت عند ذلك التجلي الذي ما بعده تجلى آخر . أو تقف صور التجليات عنده .
قال رضي الله عنه : ( وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارفين يقف عندها ) . أي ، العلم بالله أيضا ليس له غاية في قلوب العارفين ليقف العارف عندها . ( بل العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به : " رب زدني علما ، رب زدني علما ، رب زدني علما " . فالأمر لا يتناهى من الطرفين ) .
أي ، الذي هو العارف يطلب الزيادة من العلم في كل زمان من الأزمنة ، كما قال لنبيه : ( وقل رب زدني علم ) .
فالأمر الإلهي لا يتناهى من طرف الحق بالتجلي ، ومن طرف العبد بالعلم بالله .
( هذا إذا قلت حق وخلق ) . أي ، إذا نظرت إلى مقام الجمع والتفصيل ، وميزت بينهما .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا نظرت في قوله تعالى : " كنت رجله التي يسعى به ، ويده التي يبطش به ، ولسانه الذي يتكلم به" . إلى غير ذلك من القوى ومحلها الذي هو الأعضاء ، لم تفرق ) . أي ، بين المرتبتين .

( فقلت الأمر حق كله ، أو خلق كله ، فهو خلق بنسبة ، وهو حق بنسبة ) . ( الأمر ) بمعنى المأمور . أي ، الموجود كله حق بحسب ظهوره في مرآيا الأعيان الثابتة ، وهي على حالها في عدمها .
أو خلق كله باعتبار ظهور الإنسان في مرآة الوجود الحق ، وهو على غيبه الذاتي .
أو قلت : خلق بنسبة ، وهي من حيث تعين الوجود وتقيده . أو : حق بنسبة .
وهي باعتبار الوجود بدون التعين الموجب للخلقية .
( والعين واحدة ) . أي ، يعتبر هذه الاعتبارات كلها ، والحال أن الذات التي عليها تطرأ هذه الاعتبارات واحدة ، لا تعدد فيها ول تكثر .
قال رضي الله عنه : (فعين صورة ما تجلى ، عين صورة ما قبل ذلك التجلي ، فهو المتجلي والمتجلى له ) . فعين الصورة المتجلية على القلب ، بعينها عين الصورة القلبية في الحقيقة ، وإن اختلفت بالقابلية والمقبولية ، فالحق هو المتجلي والمتجلى له .
قال رضي الله عنه : (فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته ، ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق الأسماء الحسنى ) .
أي ، فانظر ما أعجب أمر الله أنه من حيث هويته واحدة ، ومن حيث نسبته إلى العالم وحقائق الأسماء الحسنى ، التي تطلب العالم ، متكثرة .
قال الشيخ رضي الله عنه شعرا :

( فمن ثم وما ثمة .... وعين ثم هو ثمة )

( من ) و ( ما ) للاستفهام . إستفهم ب‍ ( من ) لأولى العقل ، ب‍ ( ما ) لغير أولى العقل ، لأنهما واقعان في الوجود .
أي ، إذا كان العين واحدة ، فانظر ما ثم ومن ثم ، وليس في الوجود غيره تعالى ، ظهرت في صورة هي التي ظهرت في صورة أخرى .
وتذكير ( ( هو ) ) العائد إلى ( العين ) باعتبار الحق ، أو الشئ والوجود .
(فمن قد عمه خصه ..... ومن قد خصه عمه )
ضمير ( عمه ) و ( خصه ) عائد إلى ( العين الواحدة ) ، والمراد به ( الوجود ) لذلك
ذكره .
أي ، الذي قد عمم الوجود وبسطه على الأعيان ، هو الذي خصه أيضا بجعله وجودا معينا . ومن خصص الوجود وجعله مهية معينة ، هو الذي عممه بالنسبة إلى أفراد تلك المهية .
أو من قال بأن الوجود عام ، فقد خصه ، لأن العموم أيضا قيد مخصص .
ومن قال بأن الوجود معنى خاص ، فقد عممه أيضا ، لشموله على كل ما في الوجود .



(فما عين سوى عين ..... فنور عينه ظلمة )
أي ، إذا كان عين العالم عين الخاص وبالعكس ، فليس عين سوى عين ، بل عين كل أحد عين العين الذي للآخر .
فعين ( النور ) هو عين ( الظلمة ) وبالعكس ، لاتحاد حقيقة الكل ، وهي عين الوجود .
اعلم ، أن ( النور ) قد يطلق ويراد به الضياء المحسوس ، وقد يطلق ويراد به الوجود : فإنه الظاهر بنفسه والمظهر لغيره .
و ( الظلمة ) أيضا يطلق على ما يقابل المعنيين :
وهو ظل الأرض أو جزء منها ، والعدم .
فقوله : ( فنور عينه ظلمة ) باعتبار المعنى الأول لهما ، فإنهما وجوديين ، لكونهما محسوسين . وقولهم : ( الظلمة عدم النور ) .
رسم لها ، إذا أريد بها المعنى الأول ، باعتبار أن الظل يستلزمه . وإذا أريد بها المعنى الثاني ، فحد له .
(فمن يغفل عن هذ .... يجد في قلبه غمة )
الغم بضم ( الغين ) ، هو الكرب ، ويستعمل في الظلمة مجازا . والمراد هنا الحجاب .

ومنه ( الغمام ) أيضا ، لأنه يستر الشمس . أي ، ومن يغفل عن مقام الوحدة ، تبقى في حجاب الكثرة وظلمتها ، لأن الوحدة منبع النور ، والكثرة منبع الظلمة .

(ولا يعرف ما قلناه ..... سوى عبد له همة )
أي ، لا يعرف هذا المعنى إلا من له همة قوية : لا يقنع بظواهر العلوم ، ولا يقف عند مبلغ علماء الرسوم من العلم ، بل يقدر على خرق الحجب الناتجة من كثرة الصور ، ليصل إلى ما لا يصل إليه الفكر .



قال الشيخ رضي الله عنه : ( "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " . لتقلبه في أنواع الصور والصفات . ولم يقل : لمن كان له عقل ، فإن العقل قيد ، فيحصر الأمر في نعت واحد ، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر . )
أي ، السر في إسناد ( الذكرى ) إلى ( القلب ) هنا ، وفي موضع آخر إلى ( اللب ) كقوله : ( إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب ) .
و ( اللب ) هو القلب دون العقل ، أن القلب لكونه محلا لتجليات مختلفة من الإلهية والربوبية
وتقلبه في صورها ، يتذكر م نسيه مما كان يجده قبل ظهوره في هذه النشأة العنصرية ، ويجد هنا ما أضاعه ، كم قال ، صلى الله عليه وسلم : ( الحكمة ضالة المؤمن ) .
والعقل ، أي القوة النظرية ، من شأنه أن يضبط الأشياء ويقيدها ، فيحصر الأمر الإلهي ، الذي لا ينحصر في نفسه ، فيما يدركه ، والحقيقة تأبى وتمنع من ذلك .
( فما هو ذكرى لمن كان له عقل . ) الضمير عائد إلى المشار إليه بذلك ، وهو القرآن ، أي ، القرآن ليس ذكرى لمن يريد أن يدرك الأشياء بالعقل .



قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، وما لهم من ناصرين . )
أي ، أصحاب الاعتقادات الجزئية . وإنما نسبهم إلى العقل ، لكون عقولهم أعطت لهم التقيد بتلك الاعتقادات بحسب إدراكاتهم . ولو كان مبدأ اعتقاداتهم قلوبهم ، لما كانوا مقيدين بها ، كما لم يتقيد القلب ، فكانوا من العابدين للحق في صور شؤونه كلها .

ولما تقيد كل منهم باعتقاد خاص ، ظن أن الحق هو الذي اعتقده فقط ، وغيره باطل ، فكفر بعضهم بعضا ، ولعن بعضهم بعضا ، فما لهم من ناصرين .

( فإن إله المعتقد ماله حكم في إله المعتقد الآخر . ) لما كان لكل من أرباب العقائد الخاصة ربا خاصا يربه في صورة معتقده ، لا يمكن لكل من أربابها أن ينصر عبد رب آخر ، إذ ليس له تلك الوجهة التي للآخر من الله ، كم قال تعالى :
( ولكل وجهة هو موليها ) . لكن لكل أن ينصر عبده .
فليس المراد ب‍ ( الإله ) هنا ، الرب الحاكم على المعتقد ، بل المراد منه الإله المجعول الذي اتخذه المعتقد بتصوره وتعمله إلها .
وهذا الإله لا يقدر أن ينصر معتقده ، فكيف تقدر أن ينصر معتقدا آخر يضاده وينافيه قد والفرق بين الإله المجعول بحسب الاعتقاد ، وبين الأصنام التي عبدت ، أنها مجعولة في الخارج ، وهو مجعول في الذهن .
بل صاحب الاعتقاد ينصر إلهه ويدفع عنه ، وهو عاجز عن نصرته ودفع المكاره عنه . وإليه أشار بقوله : ( فصاحب الاعتقاد يذب عنه ، أي ، عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره . وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره . )
أي ، صاحب الاعتقاد يدفع عن الإله الذي اعتقده ما ينافيه ويخالفه ، وينصره ، وذلك
الإله لا ينصر صاحب الاعتقاد ، لأنه مجعوله ، والمجعول لا يمكن أن يكون أقوى من جاعله لينصره .



قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذ لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له . وكذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده : "فما لهم من ناصرين". ) أي ، فلأجل أن إله المعتقد عاجز
عن النصرة ، ليس له أثر في اعتقاد المنازع له .
وهكذا إله المنازع عاجز عن نصرة معتقده ، وليس له أثر ، أي ، فيمن يضاده وينافيه . فليس لأصحاب الاعتقادات الجزئية من ناصرين .



قال الشيخ رضي الله عنه : (فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته . )
أي ، نفى الحق عنها النصرة على انفراد كل منها ، إذ لا يقدر أن ينصر كل منها لكل معتقد على حدته . ف‍ ( عن ) متعلق ب‍ ( نفى ) . و ( على ) ب‍ ( النصرة ) . وإضافة ( الانفراد ) إلى ( الكل ) إضافة المصدر إلى مفعوله .
( والمنصور المجموع ، والناصر المجموع . ) وفي بعض النسخ :
( فالمنصور ) . ب‍ ( الفاء ) . و ( المجموع ) في قوله : ( والمنصور المجموع ) يجوز أن
يحمل بمجموع الآلهة .
وفي قوله : ( والناصر المجموع ) لمجموع المعتقدين ، لينصر كل منهم إلهه الذي يعتقده . ويجوز أن يحمل بمجموع المعتقد وإلهه المجعول في الأول ، وبمجموع المعتقد وإلهه الحقيقي في الثاني .
ومعناه : والحال أن المنصور مجموع المعتقد ، وإلهه الذي يعتقده ، إذ الرب الحاكم عليه ينصره، وهو ينصر معتقده .
و ( الناصر ) أيض المجموع ، وهو الرب الحاكم على المعتقد وعين المعتقد . فإن نصرة الرب من الباطن ل يظهر في الظاهر إلا بمظهره ، وهو عين العبد .
( فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر ) كما قال رضي الله عنه في فتوحاته :
( الآمرون بالمعروف هم الآمرون بالحق ) . أي ، فالحق عند العارف هو الذي يظهر
في صور تجلياته ، ويعرف فيه ولا ينكر ، لأنه يعرف أن لا غير في الوجود ، فصور الموجودات ظاهرا وباطنا كله صورته ، فهو المعروف الذي لا ينكر .
( عند العارف . فأهل المعروف في الآخرة . ) أي ، إذا كان الحق المعروف الذي لا ينكر ، فأهل المعروف هم العارفون الذين عرفو الحق في صور تجلياته ، وصار الحق معروفهم في الدنيا ، وهم الذين يتصفون في الآخرة أيضا بأنهم أهل المعروف ، فإنهم يعرفونه أيضا في صور يتحول فيها ، ولا ينكرونه أبد .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذ قال : "لمن كان له قلب" أي ، لكون أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة ).
قال : " لمن كان له قلب " . ولم يقل : لمن كان له عقل .
لأن صاحب القلب يتقلب في الصور بحسب العوالم الخمسة الكلية ، ومن تقليبه فيها يعرف تقليب الحق في الصور ، فيعبده فيها ، ولا ينكره في صورة من الصور .
وهذا معنى قوله : ( فعلم تقلب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال ، فمن نفسه عرف
نفسه . ) أي ، علم القلب تقليب الحق في الصور المتنوعة وتجلياته المختلفة بواسطة تقلباته الحق في صور العوالم الكلية والحضرات الأصلية .
وإذا كان كذلك ، فالقلب العارف من نفسه وذاته عرف نفس الحق وذاته .
كما قال صلى الله عليه وسلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه " . أو العارف من نفسه
عرف نفسه ، ليكون هو العارف والمعروف . والأول أنسب .



قال الشيخ رضي الله عنه : (وليست نفسه بغير لهوية الحق ، ولا شئ من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق ، بل هو عين الهوية . فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ول عالم وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى . )
لما تكلم في مراتب الكثرة بلسانه ، شرع يتكلم في الوحدة ومعناه أن نفس العارف ليست مغائرة لهوية الحق ، فلا شئ من الموجودات أيضا مغائر لها ، لأن الهوية الإلهية هي التي ظهرت
في هذه الصور كلها ، فهو العارف والعالم والمقر في صور أهل العلم والعرفان والإيمان ، وهو الذي لا يعرف ولا يعلم وينكر في صور المحجوبين والجهلة والكفرة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع . ) أي ، هذا العلم الذي حصل للقلب من نفسه وعرف الحق وتقلباته في الصور من عين تقلباته في العوالم ، حظ من شاهد مقام الجمع من التجلي الإلهي ، وعرف الحق فيه ، لاحظ لأهل العقل وأصحاب الفكر المحجوبين عنه وعن تجلياته وتقلباته في الصور .
( فهو قوله : " لمن كان له قلب " . يتنوع في تقليبه . ) أي ، هذا الحظ المذكور من العلم والمعرفة والشهود والتجلي .
هو المعنى من قوله : ( لمن كان له قلب ) .
ويؤيده ما بعده من قوله : ( هم المرادون بقوله : " أو ألقى السمع وهو شهيد" .)
أي ، المعنى من قوله : ( لمن كان له قلب ) . صاحب الشهود .
والمعنى بقوله : ( أو ألقى السمع ) المقلدون للرسل .
( فهو ) مبتدأ ، و ( قوله ) قائم مقام الخبر . و ( يتنوع ) صفة ( للقلب ) .
وضمير قوله : ( في تقليبه ) يجوز أن يعود إلى ( الحق ) . أي ، في تقليب الحق إياه .
ويجوز أن يعود إلى ( القلب ) . أي ، في تقليبه نفسه في الصور .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأم أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل ، عليهم السلام والصلاة ، فيما أخبروا به عن الحق ، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية ، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل ، صلوات الله عليهم ، هم المرادون بقوله : "أو ألقى السمع " لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام . )
أي ، وأما نصيب أهل الايمان والمقلدين للأنبياء والأولياء من هذه الآية ، قوله تعالى : "أو ألقى السمع وهو شهيد " .
فإن ( إلقاء السمع ) إنما يكون عند القبول لما جاء به الأنبياء والرسل من غير طلب دليل عقلي . ولما كان أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار على ما يقتضيه طريق عقولهم على نهج غير موصل لم هو في نفس الأمر من الحقائق.
قال : ( لا من قلد أصحاب الأفكار ) لأن المتبوع إذا كان جاهلا بما هو الأمر عليه ، فالتابع أولى
به . ( وهو ، يعنى هذا الذي ألقى السمع ، شهيد . ) أي ، المؤمن الذي ألقى السمع بالأخبار الإلهية ، شهيد .
و ( للشهيد ) معنيان :

أحدهم ، حاضر . أي ، حاضر مراقب لما يبلغه الأنبياء من الأخبار النازلة عليهم .

وثانيهم ، شاهد .
و ( للشهود ) مراتب :
إحديها ، الرؤية بالبصر .
وثانيها ، الرؤية بالبصيرة في عالم الخيال .
وثالثها ، الرؤية بالبصر والبصيرة معا .
ورابعه ، الإدراك الحقيقي للحقائق مجردة عن الصور الحسية . وكل منها بعين نفسه أو ربه .
والمراد هنا كلا المعنيين : الحضور ، والرؤية في عالم الخيال .
أما الحضور ، فإنه لو لم يكن حاضرا أو مراقبا ، لا يحصل له الرؤية المثالية .
فالذي يلقى سمعه ، يكون مشاهد للأشياء في حضرة الخيال ، ويكون مؤمنا لما في باقي الحضرات .
لذلك قال رضي الله عنه :( ينبه على حضرة الخيال واستعمالها . ) أي ، الحق ينبه بهذا القول على حضرة الخيال ، إذ أول ما ينكشف للمؤمن حضرة الخيال ، وهو المثال المقيد ، ثم يسرى إلى المثال المطلق الذي هو عالم الأرواح . كما مر بيانه .
وكذلك ينبه على الوصول إلى هذ المقام ، وهو المراد بقوله : ( واستعمالها ) . أي ، واستعمال الحضرة الخيالية .

وهي القوة التي فيها تظهر الصور الخيالية ، واستعمالها إنما يكون بالتجرد التام والتوجه الكلى

بالقلب إلى العالم العلوي ، من غير اتباع العقل واستعمال للمفكرة .

فإنه كما يتحرك ، ينفتح له طريق الفكر وينسد عليه باب الكشف ، بل يتوجه توجها تام عند تسكين المفكرة عن حركاتها بالذكر .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو قوله ، عليه السلام ، في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه ". "والله في قبلة المصلى" . فلذلك هو شهيد . )
( هو ) عائد إلى ( الاستعمال ) . أو ( الشهود ) . أي ، ذلك الاستعمال ، أو الشهود ، كقوله ، عليه السلام ، في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " . أي ، بمراقبة تامة وتوجه كلي ، كأنك مشاهد للحق ، لأن مثل هذه المراقبة تفتح أبواب الغيوب ، فتحصل هذه الرؤية العيانية ، فيرتفع حكم ، كأن الذي كان يقوم مقام المشاهدة .
وقوله : " والله في قبلة المصلى " هذا أيضا حديث آخر صحيح ، فإن كان المصلى ممن تكحل عينه بنور الحق واحتد بصره ، فيراه رؤية العين ، وإلا فينبغي أن يراقب بجمعية تامة ، ليكون كأنه يراه .
وقوله : "فلذلك هو شهيد " أي ، فلكون الحق في قبلة المصلى بصلاة الحضور والمراقبة ، هو شهيد للحق ، مشاهد لوجهه الكريم في قبلته .

ومن يكمل استعداده ويقوى كشفه ، شاهد الحق في جميع الجهات ، فإنه فيها كلها ، كم

قال : "أينما تولوا فثم وجه الله " .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به ، فليس هو الذي "ألقى السمع " . فإن هذا الذي "ألقى السمع "لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه ، ومن لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فم هو المراد بهذه الآية .
فهؤلاء هم الذين قال الله تعالى في حقهم : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " . والرسل لا يتبرؤون من اتباعهم الذين اتبعوهم . فحقق يا ولى ما ذكرته لك في الحكمة القلبية . )
إنما كان صاحب نظر فكري غير معتبر عند أهل الله ، لأن المفكرة قوة جسمانية يتصرف فيها الوهم تارة ، والعقل أخرى ، فهي محل ولايتها ، والوهم ينازع العقل .

والعقل لانغماس آلته في المادة الظلمانية ، لا يقدر على إدراك الشئ إدراكا تاما ، خصوصا مع

وجود المنازع ، ولا يسلم مدركاته عن الشبه النظرية ، فيبقى صاحبه لا يزال شاك
أو ظانا فيما أدركه .
بخلاف أرباب اليقين ، فإنهم يشاهدون الأشياء بنور ربهم لا بتعلمهم وتفكرهم . والقوة الخيالية ، وإن كانت جسمانية ، لكنها بمنزلة البصر للقلب ومدركاته محسوسة ، فيحصل بها اليقين .
فمن قلد لمن لا يكون على يقين ، فقد خاب وخسر ، إذ ليس ممن "ألقى السمع " ، ولم يحصل له الشهود ، ويدخل فيمن قال الله تعالى في حقهم : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " .
أي ، المتبوعون من تابعيهم .
ولما كان هذا التنبيه أصل عظيما لأرباب السلوك ، وصى بتحقيقه ، أي ، بجعله حقا ثابتا ، وإمعان النظر في حقيقته ، لئلا يقلدوا أرباب النظر بترك الشرائع ، فيقعون في الغواية ، و" يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . كما في زماننا هذ .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأم اختصاصها بشعيب ، لما فيها من ( التشعب ) ، أي ، شعبها لا تنحصر ، لأن كل اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلها ، أعني الاعتقادات . )
لما كان ( شعيب )مأخوذا من ( الشعبة ) ، وكان القلب كثير الشعب - بحسب عوالمه وعقائده وقواه الروحانية والجسمانية ذكر أن اختصاص الحكمة القلبية بهذا الكلمة الشعيبية ، لأجل المناسبة التي بينهم .
وإنما بين هذا الاختصاص هنا ، ليبين شعب الاعتقادات المختلفة ، وإن شعبها لا تنحصر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذ انكشف الغطاء ، انكشف لكل أحد بحسب معتقده ، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم وهو قوله) أي ، الانكشاف بخلاف المعتقد .
هو كقوله : ( "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " . فأكثرها في الحكم ، كالمعتزلي ، يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة . فإذا مات وكان مرحوما عند الله : قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب : "وجد الله غفورا رحيما". فبدا له من الله م لم يكن يحتسبه . )
أي ، إذا انكشف الغطاء عن البصائر والأبصار ، انكشف الحق لكل أحد بحسب معتقده ، وأما حكم الله قد ينكشف بخلاف معتقده .
كما ينكشف للمعتزليالذي يعتقد أن العاصي إذا مات على غير توبة ، يكون معاقبا ، فإذا رأى من مات كذلك ورحمه الحق وعفا عنه للعناية السابقة في حقه أزلا بأنه لا يعاقب ، فقد انكشف له خلاف ما اعتقد في حكم الله .
وكذا من اعتقد أنه من الناجين ، وعاقبه الحق وجعله من الهالكين ، لما قضى عليه أزلا ، فقد انكشف له خلاف معتقده . واستشهد بالآية : " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما في الهوية ، فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء ، رأى صورة معتقده ، وهي حق ، فاعتقدها وانحلت العقدة ، فزال
الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة . وبعد احتداد البصر ، لا يرجع كليل النظر . ) أي ،
كل من اعتقد أن هوية الحق كذ وكذا ، يرى يوم القيامة معتقده حقا واقعا ، لأن الحق يتجلى له بذلك الاعتقاد فتنحل العقدة التي كانت على قلبه ، وهي الحجاب المانع لكل أحد من انكشاف الغيوب لهم ، فزال الاعتقاد الذي كان بالغيب بواسطة الحجاب ، وعاد علما يقينيا لا يحتمل النقيض بمشاهدة الأمر على ما هو عليه .
قوله : ( وبعد احتداد البصر ، لا يرجع كليل النظر . ) إشارة إلى بطلان قول من يقول : إن بعد الظهور التام يحصل الخفاء التام . كما يقول بعض الموحدين من التناسخية .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيبدو لبعض العبيد ، باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية ، خلاف معتقده ، لأنه لا يتكرر ، فيصدق عليه في الهوية . و "بدا لهم من الله " في هويته "ما لم يكونوا يحتسبون " فيها قبل كشف الغطاء . )

أي ، فيبدو لبعض العبيد في تجلى الهوية أيضا خلاف معتقده في الدنيا ، لأن الحق يتجلى في صور أسمائه المختلفة عند الرؤية .
فبعد أن يتجلى له بصورة معتقده ، يتجلى أيضا بصورة أخرى لم يعتقد تجلى الحق فيها ، لأن التجلي لا يتكرر ليكون على صورة واحدة فقط ، فيصدق عليه بحسب الهوية ، و ( بدا لهم من الله ما لم يكونو يحتسبون ) .
وحديث ( التحول ) أيض يدل على ذلك . وعدم معرفة الجاهلين بتجليات الحق لا يقدح في كونه تجلي .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية ، في كتاب التجليات لنا ، عند ذكرنا بعض من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف . وم أفدنا هم في هذه المسألة مما لم يكن عندهم . )
ولم كان ظهور الحق في صور ما كان يعتقد أن الحق يتجلى بها ترقيا حصل للعبيد بعد انتقالهم إلى دار الآخرة ، أكد بما وقع له في بعض مكاشفاته من أنه أفاد أكابر الأولياء ، كالجنيد والشبلي وأبى يزيد وغيرهم قدس الله أسرارهم ، وحصل لهم الترقي بعد الموت .

وهذا ( الترقي ) ليس مخصوصا بطائفة دون طائفة ، لأن العارفين ببعض التجليات يحصل لهم البعض الآخر ، فيحصل لهم الترقي .
وكذلك المحجوبون من المؤمنين والمشركين والكافرين : فإن انكشاف الغطاء عنهم ترق ، وظهور أحكام أعمالهم ترق ، وشهود أنواع التجليات ، وإن لم يعرفوا حقيقتها ، ترق ،
وحصولهم في البرازخ الجهمية والجنانية أيضا ترق ، لوصولهم فيها إلى كمالهم الذاتي ، وارتفاع العذاب عنهم بعد انتقام ( المنتقم ) منهم ترق ، وشفاعة الشافعين لهم ترق . ولولا مخافة التطويل ، لأوردت مراتب الترقيات في الآخرة مفصلا ، وللعارف غنية فيما أشرت إليه .
فقوله تعالى : "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " .
إنما هو العمى عن معرفة الحق ل غير ، لأن الحق متجل دائما أبدا ، وهو أعمى عنه .
فإذا انكشف الغطاء ، ارتفع العمى بالنسبة إلى دار الآخرة ونعيمها وجحيمها والأحوال التي فيها ، لكن لا يرتفع العمى بالنسبة إلى معرفة الحق .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم ، انقطع عنه عمله إلا عن ثلاث " لا يدل
على عدم الترقي ، لأنه ليس بالعمل ، بل بفضل الله ورحمته ، والعمل أيضا مستند إليه .
ولئن سلم ذلك ، فهو يدل على أن الأشياء التي يتوقف حصولها بالأعمال لا تحصل له إلا بالعمل ، لا مالا يتوقف عليه مما سبقت له العناية الأزلية على حصوله بلا عمل . والاطلاع بأحوال غيره من السعداء والأشقياء أيضا من مراتب الترقي . والله أعلم بالحقائق ولكون الترقي ليس مخصوص بطائفة وموطن معين وزمان خاص .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن أعجب الأمر أنه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب ورقته وتشابه الصور مثل قوله : "وأتوا بها متشابها " . )
أي ، ومن أعجب الأحوال أن الإنسان دائما في الترقي من حين سيره من العلم إلى العين ، فإن عينه الثابتة ل تزال تظهر في صورة كل من مراتب النزول والعروج ، وفي جميع العوالم الروحانية والجسمانية في الدنيا والآخرة ، وكل صورة ظهرت هي فيها ، كانت بالقوة فيها ، وحصوله بالفعل بحسب استعداداتها الكلية والجزئية من جملة ترقياته ، فلا يزال في كل آن مترقيا ولا يشعر به في كل زمان جزئي ، وإن كان يشعر به بعد مدة ، أو ل
يشعر به أصلا .
وذلك لتشابه الصور التي تعرض على عينه في كل آن ، إذا كانت من جنس واحد ، كما تشابه عليهم صور الأرزاق .


قال تعالى : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا بها متشابها"

قوله : ( للطافة الحجاب ورقته ) أي ، ولا يشعر بصورة الترقي ، للطافتها ورقتها . وإنما جعلها ( حجابا ) ، لكون صور المراتب كلها حجب للذات الأحدية :
منها حجب نورانية ، ومنها حجب ظلمانية ، كما قال ، صلى الله عليه وسلم :
قال صلى الله عليه وسلم : "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو كشفها ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وليس هو الواحد عين الآخر ، فإن الشبيهين عند العارف من حيث إنهما شبيهان غيران . ) يجوز أن يكون ( هو ) تأكيدا للضمير المستتر . و ( الواحد ) عطف بيان له .
و ( عين الآخر ) خبر ( ليس ) . ويجوز أن يكون ( هو ) بمعنى ذلك ، كما استعمل الشاعر بقوله : فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق أي ، كان ذلك .
والإشارة إلى ( الحجاب ) أي ليس ذلك الحجاب الواحد عين الحجاب الآخر ، يعنى ، ليس تلك الصورة عين الصورة الأخرى ، لأن الشبيهين غيران ، إذ لا يمكن أن يكون الشئ الواحد شبيها لنفسه . فهم من حيث أنهما شبيهان غيران .
فقوله : ( غير ان ) خبر ( إن ) بالكسر . و ( شبيهان ) خبر ( أن ) بالفتح .
تقديره : فإن الشبيهين غيران من حيث أنهما شبيهان .



قال الشيخ رضي الله عنه : (وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية ، وإن اختلفت حقائقها وكثرت ،أنها عين واحدة . فهذه كثرة معقولة في واحد العين ، فيكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة .)
لما تكلم في الفرق ، شرع يتكلم في الجمع بين الفرق والجمع . ومعناه : أن المحقق يرى الكثرة الواقعة في العالم موجودة في الواحد الحقيقي الذي هو الوجود المطلق الظاهر بصور الكثرة ،
كرؤية القطرات في البحر والثمر في الشجر والشجر في النواة ، كما يرى الكثرة الأسمائية ، مع أنها مختلفة الحقائق ، راجعة إلى تلك الذات .
فهذه الكثرة الأسمائية معقولة في الذات الواحدة الإلهية ، فعند التجلي بصور الأسماء تكون الكثرة الأسمائية مشهودة في عين واحدة معقولة . ولأجل هذا المعنى ، تسرت ( الهوية ) في صور الموجودات ، فأظهرها .
وفي القيامة الكبرى يجعل تلك الصورة مستورة ، ويظهر الحق بذاته .
ويقول : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) . ثم يتجلى بالكثرة المشهودة في الدار الآخرة أيضا ، جلت قدرته .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة . وهي ، مع كثرة الصور واختلافها ، ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد ، وهو هيولاها . ) .

المراد ب‍ ( الهيولى ) هنا هو الهيولى الكلية التي تقبل صور جميع الموجودات الروحانية والجسمانية .
وهو الجوهر كما بينه في كتابه المسمى بإنشاء الدوائر .
ومعناه : أن الكثرة مشهودة في عين واحدة ، وتلك العين الواحدة معقولة فيها ، كم أن صور الموجودات كلها مشهودة في عين الهيولى ، والهيولي معقولة فيها ، لذلك تؤخذ في تعريف كل من الموجودات .
كما أنك تقول العقل هو جوهر مجرد مدرك للكليات غير متعلق بجسم ، والنفس الناطقة جوهر مجرد مدرك
للكليات والجزئيات ، وله تعلق التدبير والتصرف بالجسم ، والجسم جوهر قابل
للأبعاد الثلاثة ، فيؤخذ ( الجوهر ) في تعريفاتها .
وهو في الحقيقة واحد والصور كثيرة مختلفة . والغرض التنبيه لأرباب النظر ، لئلا تشمئز عقولهم عما يقوله أهل الله في التوحيد .
( فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ، فقد عرف ربه . ) أي ، فمن عرف أن حقيقته هي حقيقة الحق ، وهي التي تفصلت وظهرت بصور الموجودات بحسب مراتبها وظهوراتها - كما بينا في المقدمات ، هو الذي عرف ربه .
( فإنه على صورته خلقه ، بل هو عين حقيقته وهويته. ) أي ، فإن الإنسان مخلوق على صورة ربه ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( إن الله خلق آدم على صورته ) .
وفي رواية : ( على صورة الرحمان ) . والمراد ب‍ ( الصورة ) الأسماء والصفات الإلهية .

أي ، خلقه موصوفا بجميع تلك الأسماء والصفات ، بل هويته

التي اختفت وحقيقته التي تسترت في الحقيقة الإنسانية ، فأظهرت الإنسان ، فهويته عين هوية الحق ، وحقيقته عين الحقيقة الإلهية .
وهو اسمه الأعظم الجامع لحقائق الأسماء كله . ( ولهذا ما عثر ) أي ، ما اطلع .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( أحد من الحكماء والعلماء على معرفة النفس وحقيقتها ، إلا الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية . وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها ، فما منهم من عثر على حقيقتها ، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا . )

"" الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفيةعرفوا نفوسهم بعلوا هممهم ولسطوع أنوار الحضرات الإلهية والربانية على قلوبهم فتذكروا وعلموا ما لم يكونوا يعلمون ""
"وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين" لما بينا من أنه جسماني منغمس في الظلمات ، عاجز عن رفع الوهم والشبهات .
( فمن طلب العلم بها ) أي ، بماهية النفس وحقيقتها . ( من طريق النظر الفكري ، فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم . ) ( الضرم ) ما به يوقد النار .



قال الشيخ رضي الله عنه : (لا جرم أنهم من "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا " . فمن طلب الأمر من غير طريقه ، فما ظفر بتحقيقه . ) كله ظاهر .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وما أحسن ما قال الله في حق العالم وتبدله من الأنفاس في خلق جديد في عين

واحدة . فقال في حق طائفة ، بل أكثر أهل العالم : "بل هم في لبس من خلق جديد " .
فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس . )
لما كان كلامه رضي الله عنه في الحكمة القلبية وبيان تقلبات القلب في عوالمه ، وكان العالم أيضا لا يزال متقلبا في الصور ، ذكر أنه في كل آن ونفس يتبدل صورة على العين الواحدة التي هي الجوهر ، واستشهد بقوله تعالى : " بل هم في لبس من خلق جديد ".
ولما كان هذا التبديل نوعا من أنواع القيامة - كما مر بيانه في المقدمات - وأهل
النظر لم يشعروا بهذا ، جعلهم بمثابة المنكرين بقوله : ( فقال في حق طائفة ) وهم
أهل النظر . ثم عم بقوله : ( بل أكثر العالم ) . أي ، قال في حق أكثر العالم ،
وهم المحجوبون كلهم . وما التبس عليهم ذلك إلا بمشابهة الصور .



قال الشيخ رضي الله عنه : ( لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض . )
لأنهم ذهبوا أن العرض لا يبقى زمانين . ( وعثرت عليه ( الحسبانية ) في العالم كله .
وجهلهم أهل النظر بأجمعهم . ) ( الحسبانية ) هم المسماة عند أهل النظر ب‍ ( السوفسطائية )
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولكن أخطأ الفريقان : أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصور ولا يوجد إلا بها . )
أي ، ولا يوجد ذلك الجوهر في الخارج إلا بتلك الصور .
( كما لا تعقل إلا به ) أي ، كما لا تعقل تلك الصورة إلا بالجوهر ، يعنى ، كما لا يعقل كل واحد
من الموجودات عند التعريف إل بالجوهر .
( فلو قالوا بذلك ) أي ، بأن الجوهر شئ واحد يطر عليه صور العالم كله ، فتصير موجودات متعينة متكثرة .
وذلك الجوهر هو عين الحق الذي بتجليه حصل العالم . ( فازوا بدرجة التحقيق في الأمر ) لأنهم حينئذ كانو عارفين بالأمر على ما هو عليه .



قال الشيخ رضي الله عنه : (وأم الأشاعرة ، فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض ، فهو يتبدل في كل زمان ، إذ العرض لا يبقى زمانين . )
أي ، وخطاء الأشاعرة أنهم م علموا أن العالم
كله عبارة عن أعراض مجتمعة ظاهرة في الذات الأحدية متبدلة في كل آن .
فلو حكموا على أن أعيان الموجودات أيضا يتبدل ، كأعراضها ، فلا يبقى زمانين على
حالة واحدة ، لفازوا أيض بالتحقيق .
لكنهم غفلوا عن وحدة الجوهر وكونه عين الحق القائم بنفسه المقوم لغيره ، وأثبتوا جواهر غير الذات الأحدية الظاهرة بالصورة الجوهرية ، فحجبوا وحرموا عن حقيقة التوحيد .



قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنهم إذا حدوا الشئ يتبين في حدهم تلك الأعراض.)
وفي نسخة : ( كونه الأعراض ) . أي ، كون ذلك الشئ عين الأعراض .
ويتبين أيضا ، ( أن هذه الأعراض المذكورة في حده ، عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ، ومن حيث هو عرض ، لا يقوم بنفسه . )
( القائم بنفسه ) مجرور على أنه صفة ( الجوهر ) . أي ، ويظهر . أن العالم كله أعراض في
حدودهم للأشياء . فإنهم إذ حدوا الإنسان بالحيوان الناطق ، والحيوان بالجسم
الحساس المتحرك بالإرادة ، والجسم بأنه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة ، يتبين أن الجوهر هو الذي مع كل واحد من الأعراض ، يصير موجودا معينا مسمى بالجوهر قائما بنفسه .
وذلك لأن مفهوم الناطق ذو نطق ، والنطق عرض ، و ( ذو ) أيضا عرض لأنها نسبة رابطة ، والحيوان جسم حساس ، والحساس ذو حس ، والحس عرض لأنه الإدراك ، وذو عرض ، والمتحرك بالإرادة أيضا كذلك ، فإن الحركة عرض ، والإرادة عرض ، وكذلك الجسم ، فإن المتحيز هو ماله التحيز ، والتحيز عرض ، والقابل للأبعاد الثلاثة التي هي الأعراض عبارة عماله القبول ، والقبول عرض ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى الجوهر ، والجوهر موجود لا في موضوع ، والموجود هو ذو وجود ، وذو نسبة وهو عرض ، و ( الكون ) أيضا كذلك .
فبقى الوجود الحقيقي الذي يدل عليه ( ذو ) ، وهو عين الحق .

كما مر بيانه في المقدمات فتبين أن مجموع العالم من حيث إنه عالم ، أعراض كله قائمة

بالذات الإلهية .
وإنما قال : ( وأن هذه الأعراض . . . عين هذا الجوهر ) لأنها كلها صفاته التي فيه بالقوة ، فهي عينه بحسب الوجود ، وغيره بحسب العقل .
( فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه ) وهي الأعراض . ( من يقوم بنفسه . ) وهو الجوهر ( كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي ) مثال للعرض الذي يلحق الجوهر فيجعله جسما . أي ، كالتحيز الذي هو عرض ذاتي مأخوذ في حد الجوهر القائم بنفسه ، وهو الجسم .
والمراد ب‍ ( الذاتي ) جزء المهية ، فإن ( المتحيز ) و ( القابل للأبعاد ) ، فصلان للجسم .
( وقبوله للأعراض حد له ذاتي) أي ، قبول الجسم للأعراض الثلاثة أيضا حد للجسم ذاتي .
والمراد ب‍ ( الحد )التعريف : فإنك إذا عرفت الجسم بأنه القابل للأبعاد الثلاثة ، تكون صحيح .
ويجوز أن يكون المراد ب‍ ( الحد ) جزء الحد ، فإن كلا من الأجزاء الذاتية يحدد
المحدود ويعينه .
(ولا شك أن القبول عرض ، إذ لا يكون إلا في قابل ، لأنه لا يقوم بنفسه ، و هو ) أي ، القابل ( ذاتي للجوهر ) الذي هو الجسم .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( والتحيز عرض ، ولا يكون إلا في متحيز ، فلا يقوم بنفسه . وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود . ) أي ، بحسب الوجود .

( لأن الحدود الذاتية ) أي ، الأجزاء الذاتية . وإنم سماها ( حدودا ) ، لأن الحدود تعريفات ، وبالأجزاء تحصل التعريفات .
( هي عين المحدود وهويته . ) بحسب الخارج . وإنما جعل ( التحيز ) و ( القبول ) حدودا ذاتية ، لأن ( المتحيز ) و ( القابل ) ذاتيان للجسم ، والتحيز ذاتي للمتحيز والقبول للقابل ، وجزء الجزء جزء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد صار مالا تبقى زمانين ، يبقى زمانين وأزمنة . ) أي ، بحسب الظاهر والحس ، كم يزعم المحجوب .
( وعاد مالا يقوم بنفسه ، يقوم بنفسه ) أي ، بحسب ما يشاهد في الحس ويزعم المحجوب ، لأنه في الحقيقة قائم بالله لا بنفسه .
( ولا يشعرون ) أي ، المحجوبون . ( لما هم عليه من التبدل . ) لأن أعيانهم أعراض متبدلة في كل آن ، والحق ، سبحانه ، يخلقهم خلقا جديدا في كل زمان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد . وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله تعالى يتجلى في كل نفس ، ولا يكرر التجلي . )
فإن ما يوجب البقاء غير ما يوجب الفناء . وفي كل آن يحصل الفناء والبقاء ، فالتجلي غير متكرر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويرون أيضا شهودا أن كل تجلى يعطى خلقا جديدا ، ويذهب بخلق ، فذهابه هو الفناء عند التجلي . ) أي ، عند التجلي الموجب للفناء .
( والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر . ) وهو التجلي الموجب للبقاء بالخلق الجديد .
( فافهم ) لتكون من أرباب الشهود للقيامة وتلحق بالعالمين للآخرة .
وإنما قال : ( ويرون أيض شهودا ) لئلا يزعم المحجوب أنه يحكم بهذا الخلق الجديد بسبب النص الوارد فيه ، وهذا النص مستنده فقط .
ولما كان هذا الخلق من جنس م كان أولا ، التبس عليهم ، ولم يشعروا التجدد وذهاب ما كان
حاصلا بالفناء في الحق ، لأن كل تجلى يعطى خلقا جديدا ، ويفنى في الوجود الحقيقي ما كان حاصلا .
ويظهر هذا المعنى في النار المشتعل من الدهن والفتيلة :
فإنه في كل آن يدخل منها شئ في تلك النارية ويتصف بالصفة النورية ، ثم يذهب تلك الصورة بصيرورته هواء .
هكذا شأن العالم بأسره : فإنه يستمد دائما من الخزائن الإلهية ،فيفيض منها ويرجع إليها.
والله أعلم بالحقائق .

.

CuWsGPSyVJg

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!