موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب خصوص النعم
في شرح فصوص الحكم

تأليف: الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية


14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفصّ العزيري
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وعلم اللّه في الأشياء على ما أعطته المعلومات ممّا هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما عليه الأشياء في عينها من غير مزيد ، فما حكم القضاء على الأشياء إلّا بها ، وهذا هو عين سرّ القدر الذي يظهر " لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " [ ق : 37 ] ،فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) الأنعام : 149 ] .
فالحاكم في التّحقيق تابع لعين المسألة الّتي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها ، فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك فكلّ حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه ، كان الحاكم من كان ، فتحقّق هذه المسألة فإنّ القدر ما جهل إلّا لشدّة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطّلب والإلحاح ) .
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بسرّ القدر ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى عزير عليه السّلام ؛ لانبعاث همته إلى معرفة سره بمشاهدة ترتيب الأمور الشهادية على الأسباب الغيبية حين استبعد حياء الفقرية الخربة ، فأماته اللّه مائة عام ليشاهد الأسباب في عالم الغيب ، ثم بعثه ليشاهد ترتب الأمور الشهادية عليها ، فشهد ذلك في نفسه ، وحماره ، وطعامه ، وشرابه على أتم الوجوه .
ولما كثر اقتران ذكر القضاء بالقدر ، والتباسه به أورده ؛ فقال : اعلم أن القضاء الإلهي حكم اللّه في الأزل على الأشياء التي ستوجد بما لها من الوجود والصفات والأحوال على حدّ علمه بها أي : بحقائقها المقتضية للوجود الصفات اللازمة ما دامت موجودة ، وبما فيها من الاستعدادات المتعاقبة المقتضية لاختلافات الأحوال ، والعوارض المفارقة ، إذ لم يكن الحكم على حدّ العلم لكان جهلا ، وليست تلك الحقائق والاستعدادات أثرا للعلم ، وإن كان مؤثرا في وجوداتها ، بل ( علم اللّه في الأشياء ) ، ( على ما أعطته المعلومات ) ، وإن لم تكن محدثة للعلم فيه بل ظهرت له ( بما هي عليه في أنفسها ) ، إذ لا معنى للعلم بالشيء سوى ظهوره للعالم على ما هو عليه ، فلو كان بما هو عليه أثر للعلم لزم الدور ، فالقضاء
إنما اختصت الكلمة العزيرية بالحكمة القدرية لانبعاثه على طلب معرفة سر القدر ، وتعلق القدرة بما يقتضيه العلم من صورة القدر المقدور ؛ فإن القدرة لا تتعلق إلا بمعلومات ممكنة هي الأعيان وأحوالها المعلومة عند اللّه ، والقدر هو العلم المفصل بالأعيان وأحوالها الثابتة في الأزل الخارجة عليها عند وجودها إلى الأبد ( القاشاني ص 195 ) .
حكم كلي بأن يحكم على كل عين على حد علمه بها ، وفيها بما أعطته من نفسه ، فلابدّ له من تفصيل هو القدر .
وإليه الإشارة بقوله : ( والقدر توقيت ) أي : تفصيل ( ما هي عليه الأشياء ) من استعداداتها للوجود والصفات والأحوال ( في عينها ) بحيث تستوعب الأعيان والصفات والأحوال من غير مزيد للاستعداد على ما يقع ، ولا لما يقع على الاستعداد ، وإذا كان الحكم على حدّ العلم ، والعلم على ما أعطيه المعلوم ، ( فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ) ، ولا ظلم في تقدير القبائح والمعاقبة عليها .
( وهذا هو عين ) أي : شهود ( سر القدر ) ما خفي منه على العامة ، فعجزوا عن تطبيق التكليف به ، لكنه ( شهودا لمن كان له قلب ) أدرك بنور بصيرته أن حقائق الأشياء واستعداداتها غير مجعولة من حيث هي معلومة بالعلم الأزلي ؛ لأن الجعل للموجود ، وهي معدومة في الخارج حينئذ ، وإن ما يفيض من الحق لا يخالف ذلك أبدا .
"أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ"[ ق : 37 ] ، إلى أهل الكشف ،وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] ، حاضر بذوقه في فهم كلماتهم ، وفيه تعريض بمن يتمسك بالمقدمات الجدلية ،"فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ"[ الأنعام : 149 ] ، لا للمتمسك بالقدر على نفي العذاب ، ولا لن فيه بإثبات العذاب ، وإذا كان حكم اللّه على حد علمه ، وعلمه على ما أعطته المعلومات .
( فالحكم ) عليها بالقبائح والمعاقبة عليه ( في التحقيق ) ، وإن توهم ابتداءه بذلك ( تابع لعين المسألة ) أي : جاز عليها لا على ما ورائها ، وإن كان أصلح ، فلا يكون ظلما إذ تلك المسألة غير مجعولة ، بل هي ( التي يحكم فيه بما تقتضيه ذاتها ) ، والجريان بمقتضى الذات لا يكون ظلما ، وإذا كان الحكم تابعا لعين المسألة .
( فالمحكوم عليه ) لكونه حكم عليه ( بما فيه ) ، كأنه حاكم بلسان الاستعداد على ( الحاكم ) الإلهي أن يحكم عليه بمقتضى الجود والحكمة ، وإن لم يلجئه إلى ذلك ؛ ولهذا صار مكتسبا مستوجبا للعقاب ، وإذا كان الحق حاكما على الأعيان بإفاضة مقتضياتها ، فالأعيان حاكم عليه باستفاضة ( ذلك ، فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به ) على الآخر .
( وبما حكم فيه ) أي : في نفسه ، فالحق محكوم عليه من جهة الأعيان أن يفيض بمقتضياته ، وأن يستفيض علم مقتضياتها ، والأعيان محكوم عليها بإفاضة علم مقتضياتها ، واستفاضة مقتضياتها ؛ ولهذا صار الحق خالقا ، والأعيان كاسبة كان الحاكم من كان ، فإن الحق وإن لم يحكم عليه الخلق في ذاته وصفاته يحكمون في صور تجلياته ثم إياهم . " كان الحاكم مّن كان ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (فتحقّق هذه المسألة فإنّ القدر ما جهل إلّا لشدّة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطّلب والإلحاح ).
( فتحقق هذه المسألة ) أي : اعتقد حقيقتها لوضوح مقدماتها من أن الفعل تابع للعلم ، والعلم للمعلوم ، والمعلوم الأزلي غير مجعول ؛ لامتناع حلول الحوادث في العلم الأزلي .
ولا يلزم تعدد القدر ما لكونه معدوم في الخارج ، فمسألة القدر أيضا جلية وإن خفيت على أهل الخبر والاعتزال ، ( فإن القدر ما جهل إلا من شدة الظهور ) ، فإن الشيء إذا جاوز حده أورث ضده ، ( فلم يعرف ، فكثر فيه الطلب ) بالمقدمات الكثيرة الطويلة العريضة العميقة ، (والإلحاح ) في إيراد الشبهات وحله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أنّ الرّسل صلوات اللّه عليهم من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم فما عندهم من العلم الّذي أرسلوا به إلّا قدر ما تحتاج إليه أمّة ذلك الرّسول ، لا زائد ول ناقص ، والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض فيتفاضل الرّسل في علم الإرسال بتفاضل أممها ، وهو قوله تعالى :"تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ "[ البقرة : 253 ] .
كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم - عليهم السّلام - من العلوم والمعارف والأحكام الإلهيّة متفاضلون بحسب استعداداتهم ، وهو في قوله :وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ" [ الإسراء : 55 ] .
وقال تعالى في حقّ الخلق :"وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ"[ النحل : 71 ] .
والرّزق منه ما هو روحانيّ كالعلوم ، وحسّيّ كالأغذية وما ينزّله الحقّ إلّا بقدر معلوم ، وهو الاستحقاق الّذي يطلبه الخلق ، فإنّ اللّه "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ "[ طه : 50].
فينزّل بقدر ما يشاء وما يشاء إلّ ما علم فحكم به ، وما علم كما قلناه إلّا بما أعطاه المعلوم من نفسه ، فالتّوقيت في الأصل للمعلوم والقضاء والعلم والإرادة والمشيّة تبع للقدر .
فسرّ القدر من أجلّ العلوم وم يفهّمه اللّه تعالى إلّا لمن اختصّه بالمعرفة التّامّة ، فالعلم به يعطي الرّاحة الكلّيّة للعالم به ، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ؛ فهو يعطي النّقيضين ، وبه وصف الحقّ نفسه بالغضب والرّضا وبه تقابلت الأسماء الإلهيّة ، فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيّد لا يمكن أن يكون شيء أتمّ منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدّي وغير المتعدّي) .
ثم أشار إلى فضيلة علم القدر بأن فضائل الأنبياء والخلائق وتفاوت درجاتهم ، إنما تعرف به ، وأنه إنما يعرف به تقابل أسماء اللّه وصفاته ، وإن علمه وإرادته وقضاءه تابعة له .
فقال : ( واعلم أن الرسل صلوات اللّه عليهم من حيث هم رسل ) أرسلوا إلى أممهم ( لا من حيث هم أولياء وعارفون ) ، فإنهم وإن تفاوتوا بتلك الحيثية أيضا ، لكنه ليس بمقدار استعدادت الأمم .
وكذا من حيث هم أنبياء على ما يصرح به عن قريب ، ولكن لم يذكرهم آنفا ؛ فلهم منزلة الأولياء أو العارفين بهذ الاعتبار ( على مراتب ما هي عليه أممهم ) من الاستعدادات العملية والعلمية ، ( فعندهم من العلم الذي أرسلوا به ) إلى الأمم سواء في العقائد أو الأحكام .
( إلا قدر ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسول ) في الاعتقاد أو العمل ( لا زائد ) ؛ لأنه في باب الاعتقاد مضل مثير للشبهات ، وفي باب العمل مشتق ، ( ولا ناقص ) يفوت به الكمال الممكن الذي بعثوا لتحصيله لهم .
وهذا وإن لم يمكن رعايته بالنسبة إلى الأشخاص يمكن بالنسبة إلى الأمم ، إذ ( الأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض ) في درك الدقائق من الأدلة والحقائق ، وفي تحمل أعباء التكليف .
( فتفاضل الرسل في علم الإرسال ) وراء تفاضلهم في أنفسهم ( بتفاضل أممهم ) ، وإن لم يكن تفاضلهم بتفاضل آحاد الأمم ، وهو أي : دليل تفاضل الرسل في علم الإرسال .
قوله تعالى :" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ "[ البقرة : 253 ] رتب التفضل على وصف الرسالة ، وهي حقيقة واحدة لا تقبل التفاوت في نفسها ، وإنما هو في علم الإرسال .
ثم أشار إلى تفاضلهم باعتبار النبوة والولاية والمعرفة .
""أضاف المحقق : الولايات هي أحد الأقسام العشرة ذات المنازل المائة التي ينزلها السائرون إلى اللّه تعالى ، بعد ترقيهم في الأحوال العشرة ، التي عرفت تحولهم فيها بإزالة القيود والتعينات عن سير السائر في تلك الأطوار التي توجب لمن تحقق بها زيادة قوة كلية في ذاته وصفاته وإدراكاته ، وقربه من مدارج نهاياته ، فذلك التقوى بالقرب هو المسمى في اصطلاحهم بقسم الولايات العشرة ، وهي : اللحظ ، والوقت ، والصفاء ، والسرور ، والسر ، والنفس ، والغربة ، والغرق ، والغيبة ، والتمكن . ( لطائف الإعلام ( 375 .أه ""
بقوله : ( كما هم أيضا فيما ) متعلق بالخبر ، وهم متفاضلون ( يرجع إلى ذواتهم ) أي : من غير نظر إلى الأمم ( من العلوم ) الاعتقادية ، ( والأحكام العلمية ) ، كوجوب الضحى والأضحى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، (متفاضلون بحسب استعداداتهم ) في أمر النبوة والولاية والمعرفة ، وهو أي : دليل تفاضلهم فيما يرجع إلى ذواتهم .
قوله تعالى :" وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ" [ الإسراء : 55 ] هذا في النبوة ، وأما في الولاية والمعرفة .
فهو ما ( قال تعالى في حق الخلق ) الداخل فيهم مخصوصا بالأغذية كما يتوهم العامة ، بل منه فيه إشارة إلى أن منه م هو قلبي كالأحوال ، ونفسي كالأخلاق ( ما هو روحاني كالعلوم ) للعارفين وكالتجليات للأولياء .
إذ العارف تصقل الأرواح فتتصل بالمل الأعلى ، وتتقوى بالتجليات في التصرف بالهمم والعروج إلى المراتب العالية ، ( وحسي كالأغذية ) ، والكل (بالقدر ) ؛ لأنهوَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[ الحجر : 21 ].
كما قال في كتابه الكريم ، وهو أي : ( المعلوم الاستحقاق ) ؛ لأنه ( الذي يطلبه الحق ) فيعطيهم الحق الجواد ، فإن اللّه :"أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ"[ طه : 50 ] كما نصّ عليه في كتابه المجيد ، ولا جبر في ذلك بل هو بالمشيئة ، ( فينزلبقدر ما يشاء ) ، ولا يتنافى بين القدر والمشيئة ؛ لأنه ( ما يشاء إلا ما علم ) أول ؛ ( فحكم به ) ثانيا قضاء ، فالحكم تابع للعلم والعلم تابع للمعلوم ؛ لأنه ( ما علم كما قلنا إلا ما أعطاه المعلوم من نفسه ) ، وما أعطاه المعلوم هو التوقيت المعبر عنه بالقدر .
( فالتوقيت في الأصل للمعلوم ) وإن نسب إلى اللّه تعالى باعتبار أنه الحاكم به في الإفاضة بمشيئته وإرادته ، والقضاء التابع للمعلوم التابع للتوقيت ، والإرادة والمشيئة التابعتان للقضاء تبع للقدر ؛ لأن تابع التابع تابع.
فسر القدر علمه بالكشف من أجل العلوم يوجب الاطلاع على علم اللّه وقضائه وإرادته ومشيئته وعلمه بالتلقي من المشايخ .
قال رضي الله عنه : ( فسرّ القدر من أجلّ العلوم ، وما يفهّمه اللّه تعالى إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة ) ، وإذا كانت هذه المعرفة لوازمها ونتائجها كذلك ، ( فالعلم به يعطي الراحة الكلية ) عن تعب الطلب ( للعالم به ) إذا علم في بعض المطالب أنه لم يقدر وجوده ، فلا يفيد فيه الطلب ، ( ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ) إذا اطلع على أمر مهم لم يقدر وجوده ؛ ( فهو يعطي النقيضين ) ، وهذا لا يختص بعالم دون عالم ، بل يعم الكل حتى أنه لو لم يكن له الاتصاف بالراحة والعذاب اتصف بما يناسبها كالحق تعالى كما قال ، ( وبه وصف الحق نفسه بالغضب ) على أعيان تقتضي ستر جماله المحبوب لوقتها ، ( وبه تقابلت الأسماء ) ؛ لأن الأعيان لما اختلفت بذواتها لم تخل عن اقتضاء لأمور المسألة التي لكل منها من الأسماء ( الإلهية ) رب خاص .
وإذا علم أن القدر يفيد الرضا والغضب ، ويقابل الأسماء في الحق والراحة والألم في الخلق ، ( فحقيقته تحكم في الوجود المطلق ) الحق باختلاف التجليات ، وفي ( الموجود المقيد ) الخلق باختلاف الصفات والأحوال ؛ ولذلك ( لا يمكن أن يكون شيء أتم منها ) إذ حقيقتها كأنها شاملة للحقائق كلها ، (ولا أقوى ) لتأثيرها في تجليات الحق القديم والأعيان الثابتة في علمه الأزلي ، ( ولا أعظم العموم حكمها المتعدي ) من الأسماء الإلهية وسائر الأسباب ، ( وغير المتعدي ) من الأشياء سيما المسببات .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم ل تأخذ علومها إلّا من الوحي الخاصّ الإلهي ؛ فقلوبهم ساذجة من النّظر العقليّ لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري ، عن إدراك الأمور على ما هي عليه ، والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلّا بالذّوق فلم يبق العلم الكامل إلّ في التّجلّي الإلهي ، وما يكشف الحقّ عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانه ) .
ثم أشار إلى أن العلم به لا يحصل بطريق النظر ولا بطريق الوحي ، وساق الكلام إلى سبب وقوع العتب على عزير عليه السّلام في طلبه ؛ فقال : ( ولما كانت الأنبياء عليهم السّلاملا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص ) ، وهو كشف عالم الملكوت له فتخاطبه الملائكة بإذن اللّه تعالى وقد يأخذون باعتبار ، ولا يتهم عما فوق ذلك من التجلي ( الإلهي ) ، ومن كشف الأغطية عن أعين البصائر والأبصار فيما لا يسعهم فيه ملك ، لكن لا يأخذون عم دونها من النظر العقلي.
واحترز بالخاص عن الإلهام ، كما أوحى إلى أم موسى عليه السّلام ، وبقوله الإلهي عن وحي الشياطين إلى أوليائهم من الزنادقة والفلاسفة ، ( فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي ) ؛ لأنه مانع من كمال التصفية الواجبة في أنواع الكشف ، فتركوا قلوبهم ساذجة عنه .
قال رضي الله عنه ( لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه ) ؛ لأنه تنور منه غبار الشبهات وظلماته .
ولذلك لا يكاد يرتفع اختلاف أرباب النظر ، فلابدّ لإدراك العقل لها من تصفية القلب ، إذ يكون لنظره كنوز الشمس ، فاقتصروا في تحصيل العلم بالوحي وبما فوقه ، ولكن ( الإخبار ) الحاصل بالوحي ( يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق ) المخصوص بالكشف الأعلى .
""أضافة المحقق :الذوق يراد به أول مبادئ التجليات ، والشرب أوسطها ، والرّيّ نهايتها ، وهو الذوق الإيماني ، تشبيها له بالتذوق في المحسوسات ، فالأذواق التي يشير القوم إليها ، هي علوم لا تنال إلا لمن كان خالي القلب عن جميع العلائق والعوائق كلها ( انظر : التعريفات للجرجاني ص 12 ، ولطائف الإعلام ص ( 470 ) .""
قال رضي الله عنه ( فلم يبق العلم الكامل ) المحصل للمعلوم في العالم بطريق الذوق ( إلا في التجلي الإلهي ) بشهوده بالروح أو القلب أو النفس عند تنورهما بنوره ، ( وما يكشف الحق عن أعين البصائر ) الباطنة ، ( والأبصار ) الظاهرة ( من الأعطية ) التي هي حجب المعقولات والمحسوسات .
( فتدرك ) البصائر والأبصار ( الأمور كلها قديمها وحديثها ) ، وإن لم يكن البصر يدرك القديم من قبل ( وعدمها ووجودها ) ، وإن لم يكن العدم مدركا للبصر والبصيرة ، ولا يختص هذا بالعدم الممكن إذ (محالها ، وواجبها ، وجائزها ) ، وليس المراد الإدراك بوجه ما ، فإنه غير مشروط بالتجلي والكشف ، بل ( ما هي عليه في حقائقها ) أي : الماهيات المتحققة بإشراق نور الوجود عليها ( وأعيانها ) أي : الماهيات من حيث ثبوتها في العلم الأزلي حال عدمه في الخارج .
فعلم مما ذكرنا أن طريقة الكشف والتجلي عامة كطريق الوحي بخلاف طريقة النظر العقلي ، فإنها مخصوصة بإدراك بعض الأشياء دون بعض ، ومخصوصة بالمقدمات الخاصة ، ويقع الغلط كثيرا في رعاية مناسبه للمطالب وشرائطه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما كان مطلب العزير على الطّريقة الخاصّة لذلك وقع العتب عليه كما ورد في الخبر ولو طلب الكشف الّذي ذكرناه ربّما كان ل يقع عتب في ذلك ، والدّليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه : " أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها" [ البقرة : 259]
وأمّا عندنا فصورته عليه السّلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السّلام في قوله :"رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى"[البقرة : 260 ] ، ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الّذي أظهره الحقّ فيه في قوله تعالى :فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ؛فقال له :"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً"[ البقرة : 259 ] ؛ فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق فأراه الكيفيّة ، فسأل عن القدر الّذي لا يدرك إلّ بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها فما أعطي ذلك ، فإنّ ذلك من خصائص الإطّلاع الإلهي ، فمن المحال أن يعلمه إلّا هو فإنّها المفاتح الأول أعني مفاتح الغيب الّتي لا يعلمها إلّا هو وقد يطلع اللّه من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك ) .
قال رضي الله عنه : ( فلما كان مطلب عزير ) معرفة سر القدر في إحياء الموتى ( على الطريقة الخاصة ) عن طريقة النظر ؛ ( لذلك وقع العتب عليه ، كما ورد في الخبر ) : " أنه لم يزل يسأل عن القدر ، فزجر فلم ينزجر ، فمحي عن النبوة " ، ومعناه أنه لم يجب ، وقطع عليه الوحي ، وإلا فالأنبياء معصومون عن الانعزال بالإجماع ؛ فلهذا عبّر الشيخ رضي اللّه عنه بالعتب ، وليس المراد به قوله تعالى فيما أوحى اللّه : « لئن لم تنته لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة » ، فإنه بالوحي إليه ولا قطع للنبوة معه ، بل هو عناية في حقّه عليه السّلام لا عتاب على ما يأتي بيانه ، ( فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ) أي : الكشف عن أعين البصائر والأبصار .
قال رضي الله عنه : ( ربما كان لا يقع عليه عتب في ذلك ) ؛ لأنه أعلى من الوحي الذي كان يأخذ منه بنبوته ؛ لأن ولايته أعلى من نبوته ، وإن كانت ليس ولاية من ليس بنبي أعلى من نبوة نبي ، ولا كشفه أعلى من الوحي على ما يأتي في كلام الشيخ - رحمه اللّه - ولفظه ربما يشير أنه لو كان مطلوبه كشف ما لا يمكن كشفه لغير الحق كان العتاب بحاله .
قال رضي الله عنه : ( والدليل على سذاجة قلبه ) عن المقدمات النظرية ، وطلبها لتقوية ما علم بالوحي ، ونشر تعزيره على أهل النظر قوله : ( في بعض الوجوه أني ) ليس للاستبعاد بمعنى : من أين بل معنى كيف فاندفع شبهة من زعم أن القائل كان كافرا مستبعدا لإحياء من اللّه تعالى ورد بأنه لا يليق به جعله آية للناس بطريق الإكرام له ، ولا يمكنه التشبث في عطف قصته على قصة إبراهيم ، إنها إنما عطفت عليها للتزويد في أن أي : القصتين أعجب قصة من بالغ التلبيس في أمر الإحياء ، وهو إبراهيم المخرج من النور إلى الظلمات ، أم قصة من بالغ في رفع التلبيس فيه وهو عزير المخرج من الظلمات إلى النور .
وقد أشار بإدخال الكاف على قصة دون قصة نمرود أن قصته أعجب ، إذ لا نظير له سابق في دعوى الربوبية ، اضطر لتصحيحه إلى مثل هذه التلبيسات.
قال رضي الله عنه : ( وقصة عزير لها نظير سابق هو قصة إبراهيم عليه السّلام ) ؛ ولذلك أوردها عزّ وجل بعده بقوله :"وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ " [ الزخرف : 26 ]
فعلم من ذلك أن قوله :"أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها"[ البقرة : 259 ] ليس سؤالا عن القدر بل هو متأخر عنه ، فإنه لما تحقق بهذا الجواب وجود الإحياء أخذ يسأل عن أسبابه ؛ ( فسأل عن القدر الذي ) به يعرف ترتب المسببات على أسبابها بمقتضى ذوات كل من الأسباب والمسببات من التأثير والتأثر ؛ فلذلك ( لا يدرك إلا بالكشف للأشياء ) أي :
أعيانها على ما هي عليه تأثير وتأثرا ، ولا يتأتى ذلك إلا بالاطلاع على العلم الإلهي ، إذ لا يمكن الكشف عنه إلا ( في حال ثبوتها ) ، ولا ثبوت لها فيما سوى العلم الإلهي ؛ لكونه ( في حال عدمها ) في الخارج فلا مقر لها هناك ولا ثبوت ، ولا معنى للاطلاع على الشيء إلا إدراكه على ما هو عليه والاطلاع على العلم الإلهي ، وإن أمكن في الجملة .
قال رضي الله عنه : ( فما أعطى ) عزير عليه السّلام ( ذلك ) في هذا السؤال ، فإن ذلك ( من خصائص الاطلاع الإلهي ) ، فإنه إنما اطلع عليها لحضور ذاته مع لوازمها لذاته المحررة ، ومن لوازمها ظهوره ، وهو متنوع على ظهوره في ذاته ، وهو بالفعل دائما وإلى ظهوره في المظاهر ، وهو بالقوة في الأزل .
وهو إنما يكمل عند الخروج إلى الفعل وهو فتح ، فلابدّ له من خزانة هي الأسماء الإلهية ، ومن فاتح هو الاسم الأعظم الإلهي ، ومن مفتاح ، وهو نوعان : ثوان هي الأسباب الروحانية والجسمانية ، وأول وهي الأعيان الثابتة ، فإنها مفاتيح الأول إذ لا يتصور سبق شيء عليه .
وإليه الإشارة بقوله : ( أعني : مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ) كما نص عليه في كتابه ، وإذ قد نص على ذلك .
قال رضي الله عنه : ( فمن المحال أن يعلمه إلا هو ) من جهة مفاتيحها ، وإن كان ( قد يطلع اللّه من يشاء من عباده ) ، فاطلاعه على علمه ( على بعض الأمور من ذلك ) لا على كلها لعدم تناهيها ؛ فلا يسعها علم العبد المتناهي ، ومع ذلك فلا يكون ذلك الاطلاع من حيث مفاتيحها الأولية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أنّها لا تسمّى مفاتح إلّا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلّق التّكوين بالأشياء ؛ أو قل إن شئت : حال تعلّق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير اللّه في ذلك ، فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ، إذ ل قدرة ولا فعل إلّا للّه خاصّة ، إذ له الوجود المطلق الّذي لا يتقيّد ، فلمّ رأينا عتب الحقّ له عليه السّلام في سؤاله في القدر علمنا أنّه طلب هذا الاطّلاع ، فطلب أن تكون له قدرة تتعلّق بالمقدور ، وما يقتضي ذلك إلّا من له الوجود المطلق ، فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإنّ الكيفيّات لا تدرك إلّا بالأذواق ).
وإليه الإشارة بقوله : ( واعلم أنها لا تسمى الأعيان الثابتة بالحقيقة مفاتيح إلا في حال الفتح ) لما تقرر أن شرط صدق المشتق استصحاب أصله في الأصح ، ( وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء ) عند القائلين به ، وهو الشيخ أبو منصور الماتريدي وأتباعه ، أو قل على مذهب منكريه كالأشعري ، وكذا على مذهب الماتريدي .
قال رضي الله عنه : ( إن ثبت حال تعلق القدرة بالمقدور ) ، والاطلاع على الحقائق في إحدى هاتين الحالتين بالطريق الذوقي لغير اللّه محال ؛ وذلك لأنه ( لا ذوق لغير اللّه في ذلك ) ، والاطلاع على الشيء إما بالمشاعر أو العقل أو الكشف ، لكن لا دخل للأولين في إدراك الحقائق ؛ لعجز أرباب العقول عن ذلك فضلا عن أرباب الحس ، فما بقي إلا الكشف ، وهو بطريق الذوق ، ولا يمكن حصوله لغير اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه : ( فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ) ، وإنما امتنع حصول ذلك الذوق لغير اللّه تعالى ( إذ لا قدرة ولا فعل ) حقيقين يتم بهما الفتح ( إلا للّه خاصة ) ؛ لامتناع قيام الصفة الحقيقية بغير الموجود ، وليس إلا اللّه تعالى ( إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد ) ، وإن ظهر فيها قيد ، وإلا لم يكن ظهوره في نقيضه ، ولا في نظيره ، إذ المقيد عدم عند عدم قيده ولو فرضا ، فيجوز نفيه والحقيقي ل يجوز نفيه ، فلا حقيقي إلا المطلق دون المقيد ؛ فلا تقوم الصفة الحقيقية به ، فغاية ما يمكن أن يحصل للعبد من ذلك دون تعلق التكوين والقدرة غير الحقيقيين ، ولكن لا مفتاحية بذلك ، وهذا معنى قول أهل السنة : إنه لا تأثير للوسائط في الأشياء ، بل المؤثر ابتدأ فيها ، وهو اللّه تعالى ، وإن جرت سنته أن يفعل المسببات عند وجود أسبابه .
ولما كان الاطلاع على سرّ القدر متنوعا إلى ممكن في حق المخلوق ، وهو الاطلاع على الأعيان من حيث هي أعيان ، وإلى ممتنع في حقّه ، وهو الاطلاع عليها من حيث مفتاحيتها ، والأول لا يوجب طلبه العتاب ، وإنما يوجبه الثاني .
"" أضاف المحقق :يشيرون به إلى أن حكم اللّه تعالى في الأشياء ، وعليها ، إنما هو بها ، وتقرير ذلك : هو أنه لما كان القضاء عبارة عن حكم اللّه في الأشياء على ما أعطته من المعلومات ، مما هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد ، فما حكم القضاء على الأشياء إل بها ، وهذا هو عين سر القدر ؛ فسرّ القدر من أجلّ العلوم ، وما يفهّمه اللّه إل لمن اختصه بالمعرفة التامة ؛ فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالم به ، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ، إلا لمن أشهده اللّه عينه الثابتة ؛ لأنه من أكابر السعداء ؛ فهذا الشخص يسميه شيخنا صفاء خلاصة خاصة الخاصة ، كما ذكر ذلك في « الفص الشيثي » ( لطائف الإعلام ص 745 ) ""
قال رضي الله عنه : ( فلما رأين عتب الحق له عليه السّلام في سؤاله في القدر ) ، واحترز به عن سؤاله كيفية الإحياء الذي لا عتاب فيه ( علمنا أنه ) ما طلب الاطلاع عليها من حيث هي أعيان .
بل إنما ( طلب هذا الاطلاع ) المخصوص بالحق ، وهو الاطلاع عليها من حيث هي مفاتيح ، فطلب ( أن يكون له قدرة ) حقيقية ( تتعلق بالمقدور ) أي : بإخراجه عن القوة إلى الفعل والتأثير فيه بخلاف غير الحقيقية اقتصر على ذكرها لعمومها المذهبين ، وم علم أنه محال في حقّه ، وإن فني في الحق وبقي به ، إذ ( لا يقتضي ذلك ) أي : الاتصاف بالقدرة الحقيقية .
قال رضي الله عنه : ( إلا من له الوجود المطلق ) ، والباقي بالحق ليس له ذلك ، وإن تنور بنور خاص من الحق ؛ لأنه معلل ببقائه بالحق فلا يكون مطلقا موجودا لذاته .
قال رضي الله عنه : ( فطلب ما ل يمكن وجوده ) من القدرة الحقيقية في حق المخلوق ، وإن بقي بالحق واتصف بصفاته ، لكنه ليس ذلك اتصافا بعين صفاته لامتناع قيام صفة واحدة بموصوفين ، بل غاية م يمكن من ذلك حصوله بطريق العلم في حق من لم يفن عن نفسه ، ولم يبق بالحق وهو طلب حصوله ( ذوقا ) لا علما ؛ لأن الأنبياء لا يخلون عن علم ذلك .
وقد سأل عن الكيفية في سؤاله المذكور في القرآن ، فالظاهر أنه سأل هنا أيضا عن الكيفية ، فكان سؤاله حصولها له (ذوقا ، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق ) إذا لم تكن محسوسة ، ولا معقولة ، والشيء لا يحصل بالذوق لمن ليس فيه دلالة استعداده ، فوقع العتب عليه بقطع الوحي ، وعدم الإجابة إلى سؤاله بعد م قال له أولا: ( لئن لم تنته لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة ).
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا ما رويناه ممّا أوحى اللّه به إليه لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة ، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التّجلّي ، والتّجلّي لا يكون إلّا بما أنت عليه من الاستعداد الّذي به يقع الإدراك الذّوقي ، فتعلم أنّك ما أدركت إلّا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الّذي طلبت ، فلمّا لم تره تعلم أنّه ليس عندك الاستعداد الّذي تطلبه وأنّ ذلك من خصائص الذّات الإلهيّة ، وقد علمت أنّ اللّه أعطى كلّ شيء خلقه ؛ فإن لم يعطك هذ الاستعداد الخاصّ ، فما هو خلقك ، ولو كان خلقك لأعطاكه الحقّ الّذي أخبر "أنّه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" [ طه : 50 ] ، فتكون أنت الّذي تنتهي عن مثل هذا السّؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي وهذه عناية من اللّه بالعزير عليه السّلام علم ذلك من علمه وجهله من جهله ) .
وأشار إلى أن ذلك العتاب ليس هو قوله : " لئن تنته . . . إلى آخره " ، بل هو عتابه يتبين به استحالة حصول مسئوله بطريق الكشف .
فقال : ( وأما ما رويناه فيم أوحى اللّه به إليه ) فيه إشارة إلى أنه كيف يكون عتابا يقطع الوحي ، وهو عين الوحي ( لئن لم تنته لأمحون اسمك عن ديوان النبوة ) ، كيف وليس إشارة إلى عزل عن النبوة ، فإن الأنبياء - عليهم السّلام - معصومون عن ذلك بالإجماع .
فمعناه ما ذكره الشيخ - رحمه اللّه - ( أي : أرفع عنك طريق الخبر ) أي : الوحي في بيان استحالة حصول هذا المسؤول لقصوره عن إفادة الظمآنية .
( وأعطيك الأمور ) أي : حقائق الأشياء (على التجلي ) أي : تجلي العلم الإلهي الشامل ما عليها المفيد للظمآنية لكمال ما فيه .
وحينئذ يتبيّن لك استحالة حصول مسئولك إذ ( التجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد ) ، وإنما كان هذ التجلي مفيدا للظمآنية إذ هو (الذي يقع به الإدراك الذوقي ) ، وهو فوق الإدراك بالحس والعقل ، وإنما تبيّن استحالته مع أنه ل ثبات للأمر المحال أصلا ؛ لأن الاطلاع على هذا العلم الإلهي .
وإن لم يفد للعبد الاطلاع على جميع ما فيه يفيده الاطلاع على جميع ما في استعداده ، ( فتعلم أنك ما أدركت ) شيئا مما أدركته ( إلا بحسب استعدادك ) الذي اطلعت فيه على كله ، ( فتنظر ) أي : تتأمل ( في هذا الأمر الذي طلبته ) على ظن عدم استحالته ، ( فلما لم تره ) مع رؤية كل ما كان في استعدادك ( تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي يطلبه ) لحصول مسئولك ، فينكشف لك استحالة هذا الأمر في حق المخلوق بطريق الذوق .
قال رضي الله عنه : ( وأنه من خصائص الذات الإلهية ) بحيث لا يمكن أن يحصل لغيره تعالى ، وإن اطلع على علمه ؛ فهو إنما ثبت في العلم الإلهي لا مكانة في حقه ، ولا ثبات له من حيث الاستحالة في موضع أصلا ، فهو إنما يعرف ذوقا بهذا الطريق ، وكيف لا تعلم ذوقا أنه محال في حقّك.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد علمت أن اللّه أعطى كل شيء خلقه ، ولم يعطك هذا الاستعداد الخاص ؛ فما هو خلقك ) ؛ وذلك لأنه ( لو كان ذوقك لأعطاكه الحق ) ، وإن لم يجب عليه شيء بالنظر إلى علو رتبته ، فلا ينافي ذلك وجوب شيء عليه بحسب سنته وحكمته ، ومقتضى خبره الصدق ووعده الحق ؛ فإنه ( الذي أخبر أنه "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" )[ طه : 50 ] .
وإذا علمت استحالة ذلك بهذا الكشف ( فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك لا تحتاج فيه إلى نهي الإلهي ) ، وإن أمكن في حق مخلوق إذا رأيت استحالته في حقك ، فكيف إذا علمت استحالته في حق الكل .
وهذا الخبر على هذا التأويل ليس عتابا ولا زجرا سابقا عليه ، بل هو ( عناية من اللّه بعزير عليه السّلام في بيان استحالة مسئوله ) بحيث يفيده الطمأنينة الكلية فيه ( علم ذلك من علمه ) ، فأوله بما ذكرنا ، ( وجهل ذلك من جهله ) ، فظنه عتابا أو زجر سابقا عليه .
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يكون قوله : « لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة » رواه ابن قتيبة في المعارف وكذلك الغزالي في الإحياء وغيرهما.
عناية مع أنه وعيد بمحو رتبة النبوة التي كانت له مع الولاية إذ غاية العناية على ما ذكر ؟ ثم إنه نقله إلى محض الولاية .
فأجاب بأن المحو لا بدّ من وقوعه في حقّ الأنبياء بعد الموت ، فمرجعهم إلى محض الولاية مع أنها لا تنزل لهم عن حالهم ، فذلك بتكميل ولايتهم ، وجعلها أتم مما كانت لهم مع النبوة ، وإن كانت ولاية النبيّ حال نبوته أكمل من ولاية كل ولي غير نبي ، إذ لا نهاية لمراتب القرب من اللّه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أنّ الولاية هي الفلك المحيط العامّ ، ولهذا لم تنقطع ، وله الإنباء العامّ ، وأمّا نبوّة التّشريع والرّسالة فمنقطعة ، وفي محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده مشرّعا أو مشرّعا له ولا رسول وهو المشرّع ، وهذا الحديث قصم ظهور أولياء اللّه ؛ لأنّه يتضمّن انقطاع ذوق العبوديّة الكاملة التّامّة ، فلا ينطلق عليه اسمها الخاصّ بها ؛ فإنّ العبد يريد ألا يشارك سيّده وهو اللّه في اسم ؛ واللّه لم يتسمّ بنبيّ ولا رسول ، وتسمّى بالوليّ واتّصف بهذا الاسم ؛ فقال :"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا"[ البقرة : 257 ] ، وقال :"وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ"[ الشورى : 28 ] ، وهذا الاسم باق جار على عباد اللّه دنيا وآخرة .
فلم يبق اسم يختصّ به العبد دون الحقّ بانقطاع النّبوّة والرّسالة ، إلّا أنّ اللّه لطيف بعباده ، فأبقى لهم النّبوّة العامّة الّتي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التّشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة في التّشريع ؛ فقال : « العلماء ورثة الأنبياء » ، وما ثمّة ميراث في ذلك إلّا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه .
فإذا رأيت النّبيّ يتكلّم بكلام خارج عن التّشريع ؛ فمن حيث هو وليّ عارف ، ولهذا ، مقامه من حيث هو عالم ووليّ أتمّ وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع ) .
وقدّم لبيان ذلك مقدمة ؛ فقال : ( واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط ) بالكمالات ( العامة ) للموجودات الكاملة ، حتى أن كل مؤمن ولى من وجه ، وإن لم يسم بذلك عرفا لدنو رتبة في ذلك إن كان من العوام ، وكذا كل نبي ورسول وولي ، وإن لم يسم بذلك لعدم ظهوره به في العموم ، واللّه تعالى قد يسمى بذلك ؛ ( ولهذا ) أي : ولإحاطتها بالكمالات ( لا تنقطع ) لعدم تناهي الكمالات ، وانقطاع ما لا نهاية له محال ولعمومه الأنبياء الأولياء ( لها الإنباء العام ) للأنبياء الأولياء عن حقائق الموجودات ، وإن اختص بعضهم ببعض الحقائق والمراتب كالرسل.
قال رضي الله عنه : ( أما نبوة التشريع ) التي بها أنباء الأحكام العلمية ، (والرسالة ) تبلغها إلى العامة ، ( فمنقطعة ) بجوار انقطاع بعض أفراد غير المتناهي ، وإن لم يكن انقطاعه بكليته ، وقد وقع ذلك في حقّ الأنبياء - عليهم السّلام - فكيف ( وفي حق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) مع عدم تناهي كمالاته ، ( فقد انقطعت ) له هذه الرتبة الخاصة.
وإن زادت مراتب قوية من ربه ، (فل نبي بعده مشرعا ) أي : أتيا بشرع خاص ، ( ومشرعا له ) أي : مجعولا شرع من تقدمه شرعا له يتكلم في تأويله بالوحي بحيث يكون تأويله حجة بخلاف تأويل المجتهد ، ولو وليّا من العامة ، فربما لا يكاشفون بأسرار الشريعة ، وإن كوشفوا فلا يكون كشفهم حجة على غير .
ولهذا اختلفت الصحابة مع أن بعضهم أولياء ( ولا رسول ، وهو المشرع ) ، فهو أخص من النبي ، وإن كان أخص من الولي ، ( وهذا الحديث ) أي : شأن انقطاع النبوة التشريعية والرسالة ( قصم ) أي : كسر ( ظهور أولياء اللّه ) التي بها قوة ولايتهم ، وهي كمال العبودية.
قال رضي الله عنه : ( لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة ) حقيقة ، ومعنى العامة صورة ولفظا ، ( فلا ينطلق عليه ) أي : على الولي ( اسمها ) بالحقيقة ؛ لاختصاص الاسم المطلق بالمسمى الكامل ، وكمال الولي في عبوديته التي هي أصله ، وكمال كل شيء فيما يتميز به عما عداه لا فيما يشاركه .
قال رضي الله عنه : ( فإن العبد يريد ) أي : يقتضي حاله ( ألا يشارك ) سيده ، وهو أي : ( سيده هو اللّه في اسم ) ، وإن شاركه في اسم آخر ليتميز به عنه ، كما أن سيده اختص باسم هو اللّه لا يشاركه العبد فيه قال تعالى :"هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"[ مريم : 65 ] .
والمراد اسم يدل على كمال المعنى ، وتمام الصورة ، وإلا فلفظ العبد مختص بالعبد ، فذلك الاسم إما الرسول أو النبي أو الولي ، لكن الأخير غير مختص بالعبد الأولان يختصان به ؛ وذلك لأن ( اللّه تعالى لم يتسم بنبي ، ولا رسول ، ويسمى بالولي ) إذ ذكر في أسمائه ، واتصف بهذا الاسم في كتابه ، فقال :"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا" [ البقرة : 257] .
بالإضافة ، وقال أيضا بدون الإضافة :"وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" [ الشورى : 28 ] .

ثم رجع إلى المقصود من بقاء الاسم غير المخصوص مع عدم بقاء الاسم المخصوص.
فقال : ( وهذا الاسم ) أي : الولي ( باق ) يعني ( جار ) لفظا فيه إشارة أنه لا غيره بلفظ العارف والمصلي والمزكي والصائم ، فإن العارف في المعنى قريب من العالم ، فهو كالباقي في حق اللّه ، وإن لم يجر عليه ، والألفاظ الباقية كالجارية عليه لفظا ، وإن لم تبق في حقّه معنى ، كما في قوله تعالى : "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ" [ الأحزاب : 43].
وقوله : "وَلا يُزَكِّيهِمْ" ، فإنه يدل على أنه يزكي غيرهم ، وقوله :" وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ " [ الأنعام : 14 ] ، فإنه يقرب من معنى الصائم ( على عباد اللّه ) الأنبياء الأولياء ( دنيا وأخرى ) قبل دخول الجنة والنار وبعده .
وقد شاركهم فيه مولاهم ، ( ولم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة ) بعد دخول الجنة أو النار على ما يأتي بالكلية ، وكذا بموت الأنبياء والرسل الذين بعثوا في الدنيا ، فلم يبق في حقهم وحق الأولياء من أمتهم اسم يدل على العبودية الكاملة التامة ، فانقطع ذوقها فقصم ذلك ظهورهم ( إلا أن اللّه لطيف بعباده ) الأولياء التابعين للأنبياء ترك لهم نصيبا من هذا الاسم جبرا لخواطرهم ، ( فأبقى لهم النبوة العامة ) الأنبياء الأولياء ، وهي الإنباء عن اللّه تعالى ، وعن حقائق الموجودات (التي لا تشريع فيها ) ، وهو اسم خاص العباد باق فيهم معنى ، وإن لم يجر عليهم لفظا ، وهذا في حق الأولياء وأيضا ( أبقى لهم التشريع ) من غير إنباء عن اللّه ( في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ) غير المنصوصة في حق المجتهدين من العلماء ، وأيضا ( أبقى لهم الوراثة في التشريع ) ، وهذا في حق جملة العلماء .
( فقال : العلماء ورثة الأنبياء ) والوراثة في الأحكام المنصوصة ظاهر ( وما ثمة ) أي : في المسائل غير المنصوصة ميراث ( في ذلك ) أي : نبوة التشريع ( إل فيما اجتهدوا فيه من الأحكام ، فشرعوه ) أي : في جعلهم تلك الأحكام لاحقة بالأحكام المنصوصة باجتهادهم ، فإن المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به عليه ؛ فعلم مما ذكرنا أن الأنبياء جامعون بين النبوة التشريعية والرسالة والولاية .
قال رضي الله عنه : ( فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ) ، فالتكلم في أحوال الصوفية ومقاماتهم ، وفي الحقائق التي لا يصح كشفها للعامة ، وبالجملة ما وراء الأحكام الفرعية والأصلية التي يجب على العامة اعتقادها ، ( فمن حيث هو ولي عارف ) أوردهم ؛ ليشير أن نبوتهم العامة باقية من هذين الوجهين فيهم ، وفي أتباعهم الذين هم في حكمهم ؛ ( ولهذا ) أي : ولبقاء اسم الولي والعارف عليهم بعد انقطاع النبوة التشريعية والرسالة عنهم مع أنهم لا ينزلون عن درجتهم العالية بالإجماع ( مقامه من حيث هو عالم ) بالحقائق .
قال رضي الله عنه : (وولي ) عامل بمقتضى علمه يحصل علمه بالكشف ( أتم وأكمل ) منه ( من حيث هو رسول ) مبعوث إلى الخلق أو ( ذو تشريع ) أي : ( شرع ) متسابق أو شرع سابق ، ولكنه مخصوص بولاية النبي لاستقلالها ، وعدم توقفها على أعمال ظاهرة يتابع فيها النبي السابق بخلاف ولاية الولي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول أو ينقل إليك عنه أنّه قال : الولاية أعلى من النّبوّة ، فليس يريد ذلك القائل إلّا م ذكرناه ، أو يقول : إنّ الوليّ فوق النّبيّ والرّسول ، فإنّه يعني بذلك في شخص واحد ، وهو أنّ الرّسول من حيث إنّه وليّ أتمّ منه من حيث إنّه نبيّ ورسول ، ل أنّ الوليّ التّابع له أعلى منه ؛ فإنّ التّابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعا ؛ فافهم .
فمرجع الرّسول والنّبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم ) .
قال رضي الله عنه : ( فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول ) بخلاف ما يسمع من الكرامية القائلين بتفضيل الولي عن النبي ، ومن ملحدة المتصوفة ، ( أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة ، فليس يريد ذلك القائل ) من أهل اللّه ( إلا ما ذكرناه ) من تفضيل ولاية النبي على نبوته التشريعية ورسالته ، أو ينقل إليك بعبارة توهم المغايرة بين صاحبيهما ( بأن يقول : إن الولي فوق النبي والرسول ؛ فإنه يعني ذلك في شخص واحد ) .
فإن لفظه عام خص عند صورة المغايرة ، ( وهو ) أي : معناه في شخص ( أن الرسول ) الجامع بين النبوة والرسالة والولاية ( من حيث هو ولي )( أتم منه من حيث هو نبي ورسول) ، فإنه يجوز تفضيل الشيء على نفسه إذ تغايرت فيه الجهات .
كما يقال : الإنسان من حيث ناطقيته أفضل منه من حيث حيوانيته ، فإنه بالناطقية يشارك الملائكة ، وبالحيوانية الدواب ؛ وذلك لأن ولايته باقية غير متوقفة على أمور غير باقية ، وهي الأعمال الظاهرة في الابتداء والانتهاء ( لا أن الولاية الولي التابع له ) في الأعمال الظاهرة التي بها تفارق ولايته الاستدراج لو أعطى خوارق العادة بدونها ( أعلى منه ) أي : من النبي ، ولو من حيث النبوة ، ( فإن التابع لا يدرك المتبوع فيما هو تابع له فيه ) ، وهو في ولايته تابع لنبوة النبي لما ذكرنا ، فلا تكون ولايته أفضل من نبوة نبي .
قال رضي الله عنه : ( إذ لو أدركه لم يكن تابعا ) ؛ لأنهما إن تساويا ، فليس أحدهما بالتبعية أولى من الآخر ، وإن كان التابع زائدا ؛ فهو بالمتبوعية أولى من التابعية ؛ ( فافهم ) ول تتوهم أن الولي تابع في الأعمال الظاهرة دون الأحوال والمقامات التي هي ثمرات ذلك ، فإن لم تكن ثمرات بل وهبية ، فلابدّ من توقفها على تلك الأعمال تميزا لها عن الاستدراج ، وإذا كانت النبوة التشريعية والرسالة منقطعتين .
قال رضي الله عنه : ( فمرجع الرسول والنبي المشرع ) بعد انقطاع الرسالة والنبوة التشريعية ، وقيّد النبي بالمشرع احترازا عن صاحب النبوة العامة ، وهم الأولياء وإن لم يطلق عليهم اسم النبي ( إلى الولاية ) المتمحضة ، وهي أكمل من ولايتهم التي كانت لهم مع النبوة ؛ لارتفاع الحجب عنهم بالكلية علو الناطقية التي للإنسان عند لحوقه بالملائكة من ناطقيته التي كانت له مع الحيوانية ، وهو الرجوع إلى العلم باللّه وبالحقائق ، وهو لا ينتهي إلى حد لعدم تناهي علومه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى أنّ اللّه أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمر : بقوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] ، وذلك أنّك تعلم أنّ الشّرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أعمال مخصوصة ومحلّها هذه الدّار فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرّسالة من حيث هي ، وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم ، والوليّ اسم باق للّه تعالى ، فهو لعبيده تخلّقا وتحقّقا وتعلّق .
فقوله للعزير : لئن لم تنته عن السّؤال عن ماهيّة القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة ، فيأتيك الأمر على الكشف بالتّجلّي ، ويزول عنك اسم النّبيّ والرّسول ، وتبقى له ولايته ، إلا أنّه لمّا دلّت قرينة الحال أنّ هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنّه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدّار ، إذ النّبوّة والرّسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تجري عليه الولاية من المراتب ، فيعلم أنّه أعلى من الوليّ الّذي لا نبوّة تشريع عنده ولا رسالة ).
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى أنّ اللّه أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره )كالرسالة والنبوة إذ الأولى في الزائل المنقطع الاقتصار على قدر الحاجة ، وإن كان من المراتب العالية المفيدة في الآخرة.
( فقال له ) أي : لأكمل أنبيائه عليه السّلام علما به ( آمرا ) عناية "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" [طه : 114 ] .
لأنه زيادة في المراتب الباقية والزيادة في مراتب الرسالة ، وإن قلنا : إنها لم تتناه إلى حدّ أيضا ليس زيادة إل في المراتب التي تنفي فينفي عند مفارقته .
( وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف ) أي : أمر ( بأعمال مخصوصة ) واجبة ومندوبة ، أو مباحة ، ( أو نهي عن أعمال مخصوصة ) محبوبة أو مكروهة ، ( ومحلها هذه الدار ) المنقطعة فينقطع ما فيها ، وإن فرض غير متناه ، ونبوة التشريع والرسالة من أجل هذه الأعمال ، ( فهي منقطعة ) بانقطاع هذه الأعمال المخصوصة بهذه الدار في حق المبعوثين الأنبياء في الدنيا ، وأممهم المكلفين .
قال رضي الله عنه : ( والولاية ليست كذلك ) أي : منقطعة بانقطاع هذه الدار ، ولو في حق الأولياء المتمحضين ، إذ ولايتهم ، وإن كانت ثمرات الأعمال ؛ فلا يلزم من تلف الشجر تلف ثمراتها ، فليست تابعة للأعمال في النهاية ؛ فلا تنقطع ، (إذ لو انقطعت ) مع عدم تبعيتها لشيء منقطع ( لانقطعت من حيث هي ) ، ( كما انقطعت الرسالة من حيث هي ) ، إذ لا تتصور فيها التبعية لاختصاصها بصاحب الشرع المستقل ؛ لكنه يتصور الانقطاع في الرسالة ، إذ لا يبقى اسمها صادقا على الولي أصلا ، وعلى الرسول إلا مجازا باعتبار ما كان عليه ، لكن لا يجوز نفي الرسالة عنه لإيهامه التكذيب كنفي القرآن عن هذه الكلمات لإيهام ذلك نفي دلالتها على الكلام الأزلي .
وإن صحّ القول بأن القرآن حقيقة في الألفاظ أيضا فافرض البحث في عدم جواز نفي كلام اللّه تعالى ، فقد وقع الإجماع على أن ما بين دفتي المصحف كلام اللّه ، وكذا المقروء والمحفوظ مع أن الكلام الحقيقي هو القائم بذات اللّه تعالى ، وكذلك لا يجوز نفي المؤمن عن النائم لإيهامه كفره مع أنه لا تصديق له بالفعل حالة النوم ، بل غايته أن يجعل في حكم الباقي .
( فإذا انقطعت الولاية لم يبق لها اسم ) يصدق حقيقة على أحد ، ولكنه باطل ، فإن ( الولي اسم باق للّه ) ، وإذا كان له بقاء في الجملة مع أنه ليس تابعا في النهاية للأعمال في حق الأولياء في البداية أيضا في حق الأنبياء ، وهي الأسماء الجميلة التي تقتضي الظهور ، ( فهو لعبيده ) الأنبياء الأولياء ( تخلقا ) يؤثر بها العبد في نفسه ، ( وتحققا ) يؤثر بها في حق غيره ، ( وتعلقا ) يتأثر بها عن ربه .
ثم رجع إلى المقصود بعد بيان المقدمة ، فقال : ( قوله عزّ وجل للعزير (، وإذا كانت الولاية مرجعا للرسل والأنبياء بعد انقطاع الرسالة والنبوة ، وهذا القول ( لئن لم تنته ) ي عزير (عن السؤال عن ماهية القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة ) .
وهو عين السؤال عن الاطلاع على أعيان الممكنات من حيث مفتاحيتها الموجب للعتب لاستحالة حصول المسؤول عنه فيه بخلاف هذ السؤال .
فمعناه : إني أقطع عنك طريق الخير الذي لا يتم فيه الذوق ، (فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي) أي : الكشف عن أعيان الموجودات واستعدادتها لا من حيث مفاتيحها بتجلي العلم الإلهي من جهة ولايتك ، والولاية وإن اجتمعت مع النبوة والرسالة ، ولكن ( يزول عنك اسم النبي والرسول ) قبل أوان زواله.
وهو الموت أو دخول الجنة والنار إذ لا فائدة في الإخبار بالوحي لمن تجلي له هذا العلم الإلهي بما فيه على أتم الوجوه بخلاف تجليه للأولياء من العامة ؛ لأن رؤيتهم الأشياء في هذا العلم أقصر مما يحصل بالوحي للنبي عليه السّلام ، فإن من رأى الشيء من بعد يحتاج إلى إخبار من رآه عن قرب وحقق ما فيه .
ولهذا يحتاج الولي من العامة في صحة كشفه إلى شواهد الكتاب والسنة وإجماع الأمة بخلاف الأنبياء ، ويدل على هذا قوله تعالى :”عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ”[ الجن : 26 ] أي : إظهارا تامّ ( على غيبه ) أي : على م في الغيب ( أحدا إلا من ارتضى ) ممن كملت ولايته من رسول ، وأما سائر الرسل ، والأنبياء ، وعامة الأولياء ، فيقصرون عن كمال هذه الرتبة ، ( وتبقى له ) أي : للمتجلى له عالم الغيب من الرسل.
(ولايته ) أي : ولاية الرسول ، ولا تصير كولايته من تمحض وليّا من أول الأمر ؛ فإنها تقصر عن كمال هذه الرتبة ، والرسل أهل العناية ، وكذا الأنبياء لا تقصر رتبتهم بعد كمالها .
"" أضاف المحقق : اعلم أنه لما كان للنبي جهتان : جهة ولاية ولها شرف حال ، وجهة نبوة ولها فضيلة وكمال ، فعند كشف سر القدر بالتجلي يقوم مقام الولاية ويضمحل مقام النبوة والرسالة لقوة الاختصاص والتوغل في التأله ، فالإخبار بمحو النبوة وإزالته باعتبار أن فيه فوات فضيلة وكمال وعيد ، وباعتبار أن فيه شرفا حال وعد ( شرح الجامي ص 322 ) . ""
وهذا التأويل مستقر عندنا إلا أنه خالفنا فيه البعض ؛ ( لأنه لما دلت قرينة الحال ) أي : حال سؤاله عليه السّلام إذ نهى عنه ورتب عليه محو النبوة على ( أن هذا الخطاب ).
أي : لئن لم تنته لأمحون اسمك عن ديوان النبوة ( جرى مجرى الوعيد ) ، وإن كان وعدا بالكشف عن التجلي المذكور ، إذ ( علم من اقترنت عنده هذه الحالة ) أي : ترتب محو النبوة على النهي عن السؤال ( مع الخطاب أنه وعيد ) ، وإن نفيت ولايته التي كانت له حال النبوة والرسالة تامة في حقّ التجلي المذكور (بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية ) فلا يكون تمامها كتمام ولاية النبي والرسول .
وإن كان من شأن تلك الرتبة الانقطاع بالموت أو دخول الجنة والنار لكنها كمال لهم ما داموا في الدنيا ، وقد أوعده اللّه تعالى بانقطاعها ( في هذه الدار ) ، وإنما قلنا : إنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية ، ( إذ النبوة والرسالة ) ، وإن تميزتا عن الولاية فهم (خصوص رتبة في الولاية ) ، إذ لها مزية (على بعض ما تجري عليه الولاية من المراتب) ؛ فإنها أعلى من مراتب سائر الأنبياء من الفناء في اللّه ، والبقاء به ، والجمع والتوحيد والتفريد ، (فيعلم) هذا المخالف ( أنه ) أي : الباقي على رتبة نبوته ورسالته ( أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع ، ولا رسالة عنده ) سواء بمحوهما عنه أو ل بمحوهما عنه ؛ إلا أن من انقطعت عنه الرسالة أو دخول الجنة والنار ، ولا تنزل رتبته لا حاجة إلى ذلك ، ولا تبقى رتبته في الولاية بخلاف الآن ، فحين كونها رتبة خاصة فيها إذا أشير بمحوها يكون وعيد .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النّبوّة يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد ؛ فإنّ سؤاله عليه السّلام مقبول إذ النّبيّ هو الوليّ الخاصّ ، ويعرف بقرينة الحال أنّ النّبيّ من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أنّ اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال ، فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقرّرت أخرج هذ الخطاب الإلهي عنده في قوله : « لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة » مخرج الوعد ، وصار خبر يدلّ على علوّ مرتبة باقية ، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرّسل في الدّار الآخرة الّتي ليست بمحلّ لشرع يكون عليه أحد من خلق اللّه في جنّة ولا نار بعد الدّخول فيهم ).
ثم أشار إلى التقصي عن هذه الشبهة ؛ فقال : ( ومن اقترنت عنده ) فحال سؤاله المقتضية نقص رتبة خاصة من الولاية هي نبوة التشريع ، والرسالة ( حالة أخرى ) تقتضي زيادة مرتبة أخص من الولاية بدل تلك المرتبة تكمل بها ولايتهم أكبر من كمالها حال النبوة المقتضية كمالها بالنسبة إلى ولاية العامة من الأولياء ( تقتضيها ) أي : تلك الحالة ( أيضا مرتبة النبوة ) ، وإن انقطعت من حصول تلك الحالة من حيث أن هذه الرتبة مانعة من التنزل من أعلى إلى أدنى ، وهذه الرتبة هي رتبة كمال الاصطفاء للمخصوصة بهم اقتضت أولا رتبة النبوة ، ورتبة خاصة من الولاية ، ثم أخص منها عوضا عنه .
قال رضي الله عنه : ( يثبت عنده ) أشار بصيغة المضارع إلى استمرار هذا الثبوت من الحال إلى الاستقبال (أن هذا) أي : قوله : " لأمحون اسمك عن ديوان النبوة " .
وإن تضمن زوال هذه الرتبة الخاصة ؛ فهو ( وعد ) بتعويض رتبة أخص بجعل ولايته أكمل مما كانت حال النبوة ( ل وعيد ) ، وإن زالت جمعيته بين النبوة والولاية تكن كملت ناطقيته بإلحاقه بالملائكة ، وسلبت جمعيته منها وبين الحيوانية ، وكيف يكون وعيدا ، وهو إنما يتصور عند ردّ وسؤاله غير مردود كان ( سؤاله عليه السّلام مقبول ) ، وكيف يرد سؤال الولي من العوام ، وهذا من خواصهم .
قال رضي الله عنه : ( إذ النبي هو الولي الخاص ) ، وإن سلم رد سؤال الولي من العوام ؛ لأنه لقصوره يجوز أن يسأل ما يكرهه أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال ، إذ ( يعرف بقرينة الحال ) أي : حال هذا السائل الذي هو النبي الكامل الولاية ( أن النبي من حيث أن له في الولاية هذا الاختصاص ) بحيث لا ينزل من أعلى إلى أدنى أصلا ، وإن انقطعت نبوته .
قال رضي الله عنه : ( محال أن يقدم على ) سؤال (ما يعلم أن اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال ) هو كما توهم ذلك القائل في سؤال عزير عليه السّلام عن ماهية القدر أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال .
وإنما سأل عن الاطلاع على أعيان الموجودات من حيث مفتاحيتها لعدم علمه باستحالته ثم علم ذلك ، وعلم من بعده بم جرى عليه ، وبقوله تعالى :"عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ"[ الأنعام : 59 ] .
قال رضي الله عنه : ( فإن اقترنت هذه الأحوال ) وهو عدم تنزل النبي عن درجة أعلى إلى أدنى ، وأنه لا يقدم في سؤاله على المكروه والمحال مع علمه بذلك ، وإن سؤاله مقبول لا محالة لكمال ولايته بسؤاله عن ماهية القدر التي لا تستحيل معرفتها لعامة الأولياء فضلا عن الأنبياء.
( عند من اقترنت عنده ) أي : من يعتبر اقترانها ، ( وتقررت ) بحيث لا تزيلها شبهة [ ظاهرة ] تكون كالجامع بين النبوة والولاية .
قال رضي الله عنه : ( أخرج هذ الخطاب الإلهي ) أي : الذي خاطب اللّه به عبده ، وهو لا يشأ بخطأ له من ليس من أهل اصطفائه ، وإنما خاطب إبليس بواسطة الملائكة عنده أي : عند سؤاله عن أو غير مكروه ولا محال ، وإن كان هذا الخطاب مصبوبا في قالب الزجر والعنف جاريا مجرى الوعيد ( في قوله : لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة مخرج الوعد ) بتفويض رتبة أخص من المسلوبة ، فصار ما هو إنشاء وعيد في الصورة خبرا يدل على حصوله علو رتبة في ولايته أخص من رتبة النبوة ، ومع ذلك هذه الرتبة باقية ، ورتبة الولاية العامة ، وإن بقيت لا تبلغ هذه الرتبة .
إذ ( هي الرتبة الباقية على الأنبياء والرسل ) الذين لا ينزلون عن رتبة أعلى إلى أدنى سيما إذا انتقلو إلى الدار الآخرة ، فيؤتون هذه الرتبة من الولاية ( في الدار الآخرة ) عوض عن نبوتهم ورسالتهم لانقطاعهما بالكلية ؛ لأنها الدار .
قال رضي الله عنه : ( التي ليست بمحل لشرع يكون على أحد من خلق اللّه ) لا نبي مشرع ، ولا مشرع له ، ولا مجتهد ، ولا عامي بعمل شيء من ذلك ( في جنة أو نار ) ، وهما دار الجزاء المترتب على ذلك العمل ، فلو كان ثم عمل لكان لأهلها دار جزاء أخرى ، فلا يتصور شرع يعمل به أحد ( بعد الدخول فيهما ) بخلاف ما قبله ؛ فإنه ليس بدار جزاء ، فيتصور فيه التكليف بل هو واقع.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنّما قيّدناه بالدّخول في الدّارين الجنّة والنّار لما شرّع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصّغار والمجانين ، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثّواب العملي في أصحاب الجنّة ، فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن النّاس بعث فيهم نبيّ من أفضلهم ، وتمثّل لهم نار يأتي بها هذا النّبيّ المبعوث في ذلك اليوم ؛ فيقول لهم : أنا رسول اللّه إليكم ، فيقع عندهم التّصديق به ويقع التّكذيب عند بعضهم ، ويقول لهم : اقتحموا هذه النّار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ودخل الجنّة ، ومن عصاني وخالف أمري هلك ، وكان من أهل النّار ؛ فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثّواب العملي ، ووجد تلك النّار بردا وسلاما ، ومن عصاه استحقّ العقوبة فدخل النّار ، ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من اللّه تعالى في عباده ) .

كما أشار إليه بقوله : ( وإنم قيدناه ) أي : انقطاع الشرع والتكليف المستلزم به انقطاع النبوة التشريعية والرسالة ( بالدخول في الدارين الجنة والنار ) بيّن لئلا يتوهم أن المراد البرزخ والقيامة ( لما شرع يوم القيامة )، وهو من وقت النفخة الأولى الثانية إلى دخول الكل الجنة والنار (لأصحاب الفترات ) أي : الذين كانوا في وقت فترة النبوة ومحو شرائع الأنبياء لم تبلغهم دعوتهم ولا شرائعهم .
قال رضي الله عنه : (والأطفال الصغار ) الذين لا يعقلون التكليف ، فإن من عقله من غير البالغين في حكم المكلفين يوم القيامة ، فإن التكليف حقيقة منوط به ، وإنما نيط بالسن والاحتلام للضبط في حقّ الدنيا ، ( والمجانين ) الذين كانوا من حين وقت التعقل من الصبا إلى الموت على الجنون لم يعقلوا التكليف أصلا ، أنه لا بدّ من دخول إحدى داري الجزاء المترتب على التكليف الذي لم يتحقق لهم في الدنيا ، فلابدّ من تحققه في حقهم بعد الخروج عنها .
قال رضي الله عنه : ( فيحشر هؤلاء ) الذين لم يتحقق تكليفهم في الدنيا لعدم تعقلهم إياه ( في صعيد واحد ) ؛ لئلا يقول بعضهم : إنه لم يبلغه دعوة هذا النبي ، ولا يحتاج إلى تعديده في مدة قريبة اقتصارا على قدر الحاجة ؛ ( لإقامة العدل ، والمؤاخذة بالجريمة ) في حق المعذب منهم لم يقل في أصحاب النار اكتفاء بم يقول في ضده ، وإقامة (الثواب العملي في أصحاب الجنة ) والثواب الفعلي ، وإن كان أيضا في الجنة ؛ فليس من حيث إنها دار الجزاء وذا خلاف وضعها .
قال رضي الله عنه : ( فإذا حشروا في صعيد واحد ) ليكون أقرب إلى اجتماع كلمتهم على التصديق به ( بمعزل عن الناس ) ؛ لئلا يدعوا متابعة آبائهم الناجين ، ول يقلدوا من روا فيه النجاة من غيرهم (بعث فيهم نبي ) لعقلهم التكليف حينئذ ( من أفضلهم ) ؛ لأن أهل الفصل أبعد من تهمة الكذب ، ( ويمثل لهم نارا ) ، أي : يأتي بها من عالم المثال ابتلاءهم وإيهام إخراقها من دخلها من غير أن تكون محرقة بالحقيقة .
قال رضي الله عنه : ( يأتي بها هذا النبي ) لا ملك ؛ إذ يقع التصديق به حينئذ ضروريّا ( للمبعوث في ذلك اليوم ) لا المشهور بالنبوة قبله ، إذ يكون تصديقه ضروريّا إذا بلغهم الخبر من يحشر المكلفين إذا علموا بذلك ، ( فيقول لهم : أنا رسول الحق إليكم ) لم يذكر معجزته ؛ لأن كونه من أهل الفضل كاف من أن يكذب على الحق سيما في ذلك اليوم ، ( فيقع عندهم ) أي : في قلوب جميعهم (التصديق) القلبي ( به ) ، أي : بكونه رسول الحق إليهم ، ولكن لا يذعن بعضهم لهذ التصديق ، وحينئذ (يقع التكذيب عند بعضهم ،ويقول لهم: ) هذا النبي في التكليف العملي ( اقتحموا هذه النار بأنفسكم ) أي : باختياركم .
قال رضي الله عنه : ( فمن أطاعني ) بالتصديق والعمل ( نجا ) من حرقة هذه النار ونار جهنم ، ( ودخل الجنة ) ، فإن صدقه ولم يعمل به لم ينج ، ولكن سيدخل الجنة بعد حين ، ( ومن عصاني ) بالتكذيب ، (وخالف أمري هلك) بالكفر والمعصية العملية جميعا ، ( وكان من أهل النار ) أبدا ، وإن لم يكن مكلفا في الدنيا ، ( فمن امتثل أمره منهم ) لإطاعته بالتصديق والعمل ، ( ورمى بنفسه فيها ) من غير أن يشير إلى غيره بجذب أو دفع وذلك لقوة إيمانه وتصديقه ، ( سعد ) بالنجاة عن نار جهنم ، ( ونال الثواب العملي ) بدخول الجنة ، وزيد له فيها ما زيد تفضلا مع قصور عمله ، ( ووجد تلك النار برد وسلاما ) إذ كانت من عالم المثال لا محرقة بالحقيقة ، ( ومن عصاه ) بالتكذيب وترك العمل ( استحق العقوبة ) عليهما ، ( فدخل النار) أي : نار جهنم ، وليس ذلك بظلم في شأنه لقصور مدة عمله .
إذ ( نزل فيها بعمله المخالف ) لمقتضى التكليف ، فهو ينزل منزلة من أنكر أمر الملوك يستحق القتل ؛ ليقوم العدل من اللّه في عباده ، ولا يكون متحكما بالإثابة والانتقام ، وإن كان متفضلا في حق من أثاب ، لكن الحكمة تقتضي ألا يدخل دار وضعت للجزاء لا للجزاء بالقصد الأول .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك قوله تعالى :يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ[ القلم : 42 ] ، أي : أمر عظيم من أمور الآخرة " وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ" [ القلم : 42 ] ، تكليف وتشريع فيهم ، فمنهم من يستطيع ، ومنهم من لا يستطيع ، وهم الّذين قال اللّه تعالى فيهم :" وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ" [ القلم : 42 ] ، وهذا كما لم يستطع في الدّنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد كأبي جهل وغيره ؛ فهذا قدر من الشّرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنّة والنّار ، فلذا قيّدناه ، والحمد للّه ربّ العالمين .)
ثم أشار إلى تكليف آخر يوم القيامة ؛ فقال رضي الله عنه : ( وكذلك ) أي : ومثل تكليف أصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين بما ذكرنا يوم القيامة فيه تكليف آخر يدل عليه السلام .
قال رضي الله عنه : ( قوله تعالى :"يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ" [ القلم: 42 ]أي : عن أمر عظيم من أمور الآخرة ) يكشف عن ساق من وقع في الدنيا في مثله عند السعي فيه ، إذ تظهر فيه الهيئات الحاصلة للأرواح على الأعمال "وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ" [ القلم : 42 ] ؛ لتظهر تلك الهيئات فيهم ، فيفتضحو برذائلها ويبتهجوا بفضائلها ، فهذا الدعاء إلى السجود (تكليف ) ، وكل تكليف (تشريع ) ، فهو بقاء للنبوة في الجملة ، وإن لم يكن بقاء لشرع من كان نبيّا في الدنيا ، ( فمنهم من يستطيع ) لحصول هيئة الانقياد لأمر من اللّه لروحه ، ولم يذكره في القرآن اكتفى بالشق الآخر الذي فيه يظهر الافتضاح برذائل تلك الهيئات .
قال رضي الله عنه : (ومنهم من لا يستطيع ، وهم الذين قال اللّه فيهم :وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ[ القلم : 42 ] ) ، وإن كان المدعو إليه الكل ( فلا يستطيعون ) ، إذ صار عدم امتثالهم أمر اللّه هيئة ظلمانية مانعة لهم من السجود ، وإن اضطروا إليه ، وافتضحوا بتركه ، ( كما لم يستطع في الدنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد ) لغلبة الصفات النفسانية التي هي مبادئ هذه الهيئات إلا أنه كان القلع لتلك الصفات هناك ممكنا ، ولو اضطروا هناك هذا الاضطرار لم تمنعهم تلك الصفات من السجود ، وهن قد امتنع بالكلية ( كأبي جهل ) غلب عليه هيئة الكبر والجهل ، ( وغيره ) كأبي لهب .
قال رضي الله عنه : ( فهذا ) المذكور من تكليف أصحاب الفترات والأطفال والمجانين والتكليف بالسجود قدر ما يبقى ( من الشرع في الآخرة ) يلزمها بقاء النبوة التشريعية في الجملة ، لكنه إنما يكون ( يوم القيامة ) ؛ لاختصاصه ببيان ما تستحقه الناس من الجزاء .
قال رضي الله عنه : ( قبل دخول الجنة والنار ) ، إذ لو بين الجزاء فيهما لكان إعطاء الجزاء على سبيل التحكم في أول الأمر.
قال رضي الله عنه : ( فلهذا ) أي : فلاختصاص انقطاع الشرع والتكليف قيدناه ، أي : الانقطاع بالدخول فيهما ، ( والحمد للّه رب العالمين ) بما جعل لكل شيء دارا مخصوصة ، وقوم مخصوصين عن علم كامل وحكمة بالغة ، ولما فرغ عن بحث سر القدر بالاطلاع على أعيان الموجودات .
وهي رتبة خاصة في الولاية أخذ يبحث في رتبة خاصة في النبوة ، وهي الظهور بها في بطن الأم والمهد والكهولة ؛ فقال : فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
.
....

WFlumSebEeE

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!