موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب خصوص النعم
في شرح فصوص الحكم

تأليف: الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية


13- فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفصّ اللوطي
قال الشيخ رضي الله عنه : (الملك الشدّة والمليك الشّديد : يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه قال قيس بن الخطيم يصف طعنة ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها أي : شددت بها كفّي يعني الطّعنة ، فهو قول اللّه تعالى عن لوط :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود80: ] ؛ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يرحم اللّه أخي لوط : لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، فنبّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان مع اللّه من كونه شديدا ، والّذي قصد لوط عليه السّلام القبيلة بالرّكن الشّديد ؛ والمقاومة بقوله :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ،وهي الهمّة هنا للبشر خاصّة ) .
أي : م يتزين به ويكمل العلم اليقيني الباحث عن الشدة الحاصلة عن بعض التجليات في التأثير بها والتأثر ، ظهر ذلك العلم بزينتها وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى لوط عليه السّلام إذ قاسى الشدائد عند بعض المظاهر حتى قال :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ[هود : 80] ، ثم أثر بها فجعل قريتهم عاليه سافلها لجعلهم الرجال العاليين كالنساء السافلات ، وأمطر عليها حجارة من سجيل رجمهم بها إقامة لحد اللواط عليهم .
ولما كان لفظ ( الملك ) بفتح الميم وسكون اللام غير مشهود بمعنى ( الشدة ) في العامة بينه بقوله : الملك الشدة ( والمليك ) في قوله تعالى :عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[ القمر : 55 ] ، و ( الشديد ) ؛ لأن المتقين شددوا على أنفسهم واقتدروا عليها ، وعلى رفع العوائق والعوارض والقوادح ، وليس بمعنى المالك والملك كما يتوهم ومنه ( يقال : ملكت العجين ) ، وإن لم تملكه بالشراء والإرث والإيهاب ونحوها ( إذا شددت عجنه ) .
واستدل عليه بقول شاعر جاهلي يعتمد على لغته فقال : ( قال قيس ابن الخطيم يصف ) خلفته بالشدة : ( ملكت ) بالضم ( بها كفى فانهرت ) أي : وسعت ، ( فتقها ) أي : ما فتقته طعنة بحيث ( يرى قائم من دونها ) أي : من مكان أدنى منها في جانب ( ما وراءها ) في جانب آخر ، فقوله : ملكت ( أي شددت ) إذ لا يصح فيه معنى الملك والملك ، وقوله :
( به كفي يعني ) بالضمير في بها ( الطعنة ) فسره ؛ لأنه لم يذكر المفسر .
""أضاف المحقق : فائدة : قد قرن الشيخ هذه الحكمة بالصفة الملكية مراعاة للأمر الغالب على حال لوط عليه السّلام وأمته وما عالم الحق به قومه من شدة العقوبة في مقابلة الشدة التي قاساه نبي اللّه لوط منهم .""

ثم أشار رحمه اللّه تعالى إلى أنك لو شككت في كون هذا الملك حكمة لوط عليه السّلام ؛ ( فهو ) ما دلّ عليه ( قول اللّه تعالى ) حاكيّا ( عن لوط لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ هود : 80 ] ) أي :
همة روحانية مؤثرة أفاديكم بها ،( أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أي : مظهر الاسم الشديد الإلهي ناظر إلى أصله الظاهر فيه ، وهو الذي به قوامه يؤثر بشدته على من خالف أمره لئلا يخالف من بعده أمره .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « يرحم اللّه أخي لوطا " . رواه عبد الرزاق في المصنف.
وإن طلب الشدة على قومه ليرحم من بعدهم بتخليصهم عن فعلهم فكان أخي في الرحمة » سيم من جهة كونه ناظرا إلى الذات الإلهية التي تجدد فيها الأسماء المختلفة ، ( لقد كان يأوي إلى ركن شديد ).
أي : أصل مقوم للاسم الشديد جامع لسائر الأسماء ، ( فنبه صلّى اللّه عليه وسلّم ) بقوله : " يرحم اللّه " في موضع يستحق الشدة في مقابلة الشدة ، لو كانت من نفسه ونسب ذلك إلى الاسم الجامع من حيث ( إنه كان مع اللّه ) ، وإن كان ( من ) جهة ( كونه شديدا ) إذ كانت شدته عين الرحمة بالنظر إلى الذات ، وبالنظر إلى من بعدهم ، وهذا بطريق الإشارة المخصوصة بالخاصة ( والذي قصد لوط ) عليه السّلام بطريق العبادة لتفهيم قومه ، ( القبيلة ) التي بهم قوام البشرية ( بالركن الشديد ) ، وقصد ( المقاومة ) معهم بنفسه ( بقوله :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي :
لمجموع هذ القول ، وهي أي القوة التي بها المقاومة ( هي الهمة هنا ) ، أي : فيما قصده لوط عليه السّلام بطريق العبارة لتفهيم قومه ، وليس المراد بها الهمة الروحانية هاهنا لبعدها عن فهمهم ، بل من ( للبشر خاصة ) ، إذ قد شاهدوها وسمعوا به من قصص الأبطال ، وهي الهمة النفسانية الحاصلة من النفس الحيوانية .
وإنما قال ذلك حين رأى ضعف الهمة من جهة البشرية والروحانية جميعا ، وهذا هو الغالب في الأنبياء ؛ لأن بعثهم إنما يكون بعد كمال المعرفة المانعة من تأثير الهمة الروحانية ، وبعد الأربعين ، وهو سن الانحطاط المضعف للهمة البشرية على أنه لو كان لهم إحدى الهمتين ، لقيل : إنهم سحرة أو أبطال غلبوا بسحرهم أو شجاعتهم .

قال الشيخ رضي الله عنه : (فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمن ذلك الوقت ، يعني من الزّمن الذي قال فيه لوط عليه السّلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍما بعث نبيّ بعد ذلك إلّا في منعة من قومه ، فكان تحميه قبيلته كأبي طالب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقوله :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [هود : 80 ] لكونه عليه السّلام سمع اللّه يقول :اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍبالأصالة ،ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّفعرضت القوّة بالجعل ؛ فهي قوّة عرضيّةثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً فالجعل تعلّق بالشّيبة ، وأمّ الضّعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله :خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ[ الروم : 54 ] ، فردّه لما خلقه منه قال تعالى :وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً [ الحج : 5 ] .
فذكر أنّه ردّ إلى الضّعف الأوّل فحكم الشّيخ حكم الطّفل في الضّعف ، وما بعث نبيّ إلّ بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النّقص والضعف فلهذا قال :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً[ هود : 80 ] مع كون ذلك يطلب همّة مؤثّرة ، فإن قلت : وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة وهي موجودة في السّالكين من الأتباع ، والرّسل أولى بها قلنا صدقت ، ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة لا تترك للهمّة تصرّفا فكلّما علت معرفته نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين : الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبوديّة ونظره إلى أصل خلقه الطّبيعيّ ) .
( فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمن ذلك الوقت ) ولما توهم في بداهة النظر كونه إشارة إلى زمن ضعف الهمة ، وهو مخل .
فسره بقوله : (يعني من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السّلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍما بعث نبي إلا في منعة من قومه ) يمنعونه من شرّ أعدائه ، ولا يتأتى ذلك إلا من قبيلة عظيمة أو من رئيسها ، ( فكان تحميه قبيلته ) أو رئيسها ( كأبي طالب ) ، فإنه وإن لم يسلم كان ( مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، والذب عنه ؛ وذلك لإظهار منعة في الأصل ، وإن إظهار المعجزات من فعل اللّه تعالى للدلالة على صدقه ، وإنما كانت هذه الهمة البشرية متمناه له ؛ لأنه رأى حصولها في سن الانحطاط بعد ذهابها بذهاب سن النمو محالا بمقتضى الوعد الإلهي وسنته المستمرة.
( بقوله ) :أَوْ آوِي" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " بصيغة التمني المعلق بالمحال كثيرا ( لكونه عليه السّلام سمع اللّه يقول ) في الكتب السالفة أو فيما أوحي إليه ما عبارته بالعربية : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) ،فلم يورد فيه لفظ الجعل ولم يعلق الخلق به بذاته بل بواسطة من التي لابتداء الغاية ؛ لتدل على أنه ( بالأصالة ) كأنه مبدؤه .
( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ ) بإيراد لفظ الجعل وكونه بعد الضعف ، ( فعرضت القوة ) أي : فدل على أنه عرضت القوة على الضعف الأصلي ( بالجعل ) الطارئ ، ( فهي قوة عرضية ) من شأنها الزوال بالكلية عن محلها عند رجوعه إلى أصله بحيث لا يرجى عودها بعده
.
ثم استشعر سؤالا بأن مقتضى ما ذكرتم ألا يورد الجعل على الضعف الثاني في قوله :
( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [ الروم : 54] ) .
فأجاب عنه بقوله : ( فالجعل متعلق بالشيبة ) بالقصد الأول وبالضعف باعتبار اقترانه بها أو للمشاكلة ؛ أو لأنه لما وقع بعد القوة أشبه العارض ، ( وأما الضعف ) من غير نظر إلى هذه الاعتبارات ، ( فهو رجوع إلى أصل خلقه ) ، يكفي فيه عدم العلة الموجبة للأمر العارض ، فلا يحتاج إلى جعل ( وهو ) أي : الدليل على أصالة الضعف ( قوله :خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) فلم يعلق الخلق بالضعف في أول الأمر بل جعل الضعف من مبادئه ، وإذا كان هو الأصل ، فليس فيه من حيث هو جعل بل غايته الرد إليه ، ( فرده لما خلقه ) .
أي : إلى ما خلقه ( منه ) ، فالأصل فيه لفظ الرد كما ( قال تعالى :يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً [ النحل : 70 ]فذكر أنه رد إلى الضعف الأول ) على ما هو الأصل لكنه ذكر الجعل في الآية السابقة لما ذكرنا ، وإنما جعل الرد إلى الضعف الأول أرذل العمر ؛ لأنه ضد القوة الفائضة من اللّه الموجبة للعلم من حيث إنه ، إنما يحصل من القوة المدركة الحاصلة من القوة الفائضة على النفس من اللّه تعالى .
فلما ذهبت ذهب العلم الذي هو فائدة الحياة ، فصارت أرذل العمر ، وإذا كان الرد إلى أرذل العمر رد إلى الضعف الأول ، ( فحكم الشيخ حكم الأطفال في الضعف ) من حيث إنه أصلي ، وإن عرض بعد القوة .
فيلزم الشيخ ما يلزم الأطفال من الجهل وعدم الهمة البشرية والروحانية جميعا ، هذا إذا رد ويجوز ألا يرد وإن يرد في باب المعرفة والهمة فقط ، ثم يعود إليها وهذا الضعف لازم للأنبياء حين نبوتهم ؛ لأنه ( ما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النقص ) في قواه الجاذبة إلى عالم السفل ( والضعف ) في مزاجه الموجب ضعف تصرف الروح في بدنه بواسطة قواه.
وهو يوجب ذهاب الهمة البشرية ؛ لأنها عن قوة تصرف الروح في البدن بواسطة قواه ؛ (فلهذا) أي فلأجل تحقق لوط ضعفه الموجب ذهاب الهمة البشرية ، بحيث لا يرجى عودها بمقتضى الوعد الإلهي والنسبة المستمرة .
( قال : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) بلسان التمني وهو طلب المتمني ، ويبعد من النبي عليه السّلام طلب المحال باعتبار قصده الخاص ، وإن أمكن باعتبار قصده تفهيم العامة ، فهو يطلب بلسان الخصوص ( همة مؤثرة ) روحانية يؤثر بها في العالم بواسطة القوى البدنية .
( فإن قلت : وما يمنعه من الهمة المؤثرة ) الروحانية حتى يطلبها وهي موجودة فيه لا محالة ، وطلب الحاصل محال ، وكيف لا تكون فيه ( وهي موجودة في السالكين من الأتباع فالرسل ) المتبعون ( أولى بها ) أي : بتلك الهمة المؤثرة أن توجد فيهم ، وضعف القوى البدنية وضعف
تصرف الروح بواسطتها في البدن لا يستلزم ضعفها ، وضعف تصرف الروح بها كما في المساكين المرتاضين .
( قلنا : صدقت ) في أن لهم همة كما للأتباع ، ( ولكن نقصك علم آخر ) ، وهو أن الأتباع يتمكنون من إرسالها فأما الرسول فلا يتمكن من ذلك وإذا لم يتمكن من إرسالها فكأنه لا همة له مؤثرة أصلا فطلبها وليس ذلك لنقص معرفتهم عن معرفة الأتباع ، بل لكونها أكمل من معرفة الأتباع ، ( وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة ) ، وإن وجدت فيصاحبها ( تصرفا ) ، وإن كان التصرف مختصا بأهل المعرفة أيضا ، لكنها إنما تتمكن من التصرف ما دامت معرفتهم قاصرة ، ( فكلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة ) ، وهذا كما أن الظل حجاب ما نفي من كمال إشراقها عليه ، فإذا رفع الحجاب بينهما لم يبق شيء من الظل أصل .
( وذلك ) أي : منع كمال المعرفة من تصرف الهمة ، إنما يكون ممن يظهر بسر الربوبية بدعوى كونه على صورة ربه لانطباعها بمرآة قلبه عند التجلي الشهودي ، يؤثر بها تأثير المرآة في تنوير ما يقابلها من الجدار بما فيها من صورة الشمس والكامل لا يظهر بذلك ( لتحققه بمقام العبودية ) ؛ لأنه لما لم يحجبه الحق عن الخلق ظهر بم أصله لا بما ظهر في مرآة قلبه ، وعند هذا لا يتأتى له التصرف بالهمة لكون ( نظره إلى ) ضعفه الطبيعي الذي هو مقتضى ( أصله ) لا إلى ما عرض له من القوة عن تصور قلبه بصورة ربه .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( والوجه الآخر أحديّة المتصرّف والمتصرّف فيه : فلا يرى على من يرسل همّته فيمنعه ذلك ، وفي هذ المشهد يرى أنّ المنازع له ما عدل عن الحقيقة الّتي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلّا ما كان له في حال العدم في الثّبوت ، فم تعدّى حقيقته ولا أخلّ بطريقته ، فتسمية ذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضيّ أظهره الحجاب الّذي على أعين النّاس كما قال اللّه تعالى فيهم :وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَيَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [ الروم7:، 6 ]وهو من المقلوب فإنّه من قولهمقُلُوبُنا غُلْفٌ [النساء: 155]أي في غلاف وهو الكنّ الّذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه ، فهذا وأمثاله يمنع العارف من التّصرّف في العالم ) .
( والوجه الآخر ) أنه وإن ظهر بسر الربوبية ؛ فلا يرى نفسه مختصة بذلك ، بل يرى ظهوره في الكل فتغلب على نظره ( أحدية المتصرف والمتصرف فيه ) ؛ لكون كشفه عن عين الجمع بحيث يصير محجوبا عن رؤية الخلق بالكلية ، ( فلا يرى على من يرسل همته ) لامتناع إرسالها على الحق مع عدم رؤيته الخلق ، (فيمنعه ذلك ) النظر من التصرف بالهمة ، وإن
أمكنه ذلك لو لم يصر محجوبا عن الخلق ، وإن رأى الفرق مع الجمع ( في هذا المشهد ) .
""أضاف المحقق : أي مقام شهود الأحدية والمعرفة التامة ""

الذي هو رؤية أحدية المتصرف والمتصرف فيه ، فقد يمنعه من التصرف بالهمة عدم رؤيته من ينازعه إذ ل معنى للتصرف بها فيمن ينقاد لقوله من غير همة مؤثرة ؛ لأنه لما رأى الكل حقّا مع اندرج الخلق فيه ، فلابدّ وأن يرى الحق ساريا بصوره في أعيان الأشياء مع كونه معدومة في الخارج ثابتة في العلم الإلهي .
وهي باعتبار هذا الثبوت قبلت الصور الإلهية كقبول صورة المرآة الثابتة بمرآة موجودة صورة شخص في الصور الظاهرة في هذه الأعيان ؛ لأنه ( يرى أن المنازع له ) بحسب عرف العامة ( ما عدل ) في قبول الصورة الإلهية ( عن ) مقدار مقتضى ( حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه ) في العلم الإلهي.
الذي لا يمكن تغييره ولا تغيير ما فيه ( وحال عدمه ) في الخارج ، فإنه وإن أمكن تغييره إلى الوجود فلا يكون على خلاف ما هو عليه في العلم ، ( فما ظهر في الوجود ) عند الانتقال إليه من العدم ( إلا ما كان له في حال العدم ) لا من حيث هو عدم بل من جهة ( الثبوت ) العلمي ، لئلا ينقلب علمه الأزلي جهلا.
( فما تعدى ) فيما تسميه العامة نزاعا ( حقيقته ) ، لو تم له الأمر المنازع فيه حتى جعل راجعا إليه بالهمة ، ( ولا أخل بطريقته ) لو لم يقع له ، ولم يتم بعد حتى يجعل بالهمة سالكه .
وبالجملة فل ( فتسمية ) العارف ( ذلك نزاعا ) حتى يتصرف بالهمة إلى ترك النزاع ، لكون نظره إلى الحقائق دون العوارض ، فتسمية ذلك من العامة نزاعا ( أمر عرضي ) بالنظر إلى ما يعرض لهم من الأعراض ، والنظر إلى العوارض مانع عن رؤية الحقائق ؛ لأنه ( أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ) من العامة وإن بلغ بعضهم بعض طبقات المعرفة بخلاف أهل المعرفة الكاملة .
( كم قال تعالى :وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [ الروم : 6 ] ) وهم غير كمّل أهل المعرفة ( لا يَعْلَمُونَ ) الحقائق المكشوفة الخاصة أهل المعرفة في الدنيا ، وللكل في الآخرة وإن كانوا( يَعْلَمُونَ ظاهِراً [ الروم : 7 ] ) من دقائق حقائق الأشياء وخواصها لكونه ( مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) ،أي : مما يتم به أمر المعاش ، فإنه أمر ظاهر ، وإن احتاجوا فيه إلى تدقيق النظر بالنسبة إلى ما يظهر لأهل الآخرة من غوامض الحقائق ، وكيف يظهر للأكثر ذلك " وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ " لعدم التفاتهم إليها لكونها غيبا عليهم ، فصارت غفلتهم حجابا لهم عنها ،.
وكان لفظ الغفلة ( هو من القلوب ) من الغفلة التي هي الحجاب ، ( فإنه ) أي قوله "غافِلُونَ" كأنه مأخوذ بطريق القلب ( من قولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [ النساء : 155 ]

أي : في غلاف ) كأنها عين الغلاف ، وكيف لا يكون غلفا بمعنى في غلاف ، وهو أي الغلاف ( هو الكن ) المذكور في قولهم :قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ[ فصلت : 5 ] وكيف يكون الغلاف حجابا ، وهو بمعنى الكن (الذي ستره ) أي : القلب وحجبه ( عن إدراك الأمر على ما هو عليه ) ، وإن أدرك بعض خواصه الدقيقة ، فمثل هذ المحجوب وأن صار عارفا ببعض الأمور يسميه نزاعا بالنظر إلى ما يعرض له من الأعراض ، فيتصرف بالهمة لرفع ذلك النزاع ، ولا يتأتى ذلك في العارف الكامل .
( وهذا وأمثاله يمنع العارف ) الكامل ( من التصرف ) بالهمة المؤثرة ( في العالم ) ، وإن وجدت فيه هذه الهمة بحيث يمكنه التصرف بها في جميع العالم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال الشّيخ أبو عبد اللّه بن قائد للشّيخ أبي السّعود بن الشّبل : لم لا تتصرّف ؟ فقال أبو السّعود: تركت الحقّ يتصرّف لي كم يشاء.
يريد قوله تعالى آمرا: "فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا" [ المزمل : 9 ] فالوكيل هو المتصرّف ، ولا سيّما وقد سمع اللّه يقول :وَأَنْفِقُو مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[ الحديد : 7 ] فعلم أبو السّعود والعارفون أنّ الأمر الّذي بيده ليس له وأنّه مستخلف فيه .
ثمّ قال له الحقّ هذا الأمر الّذي استخلفتك فيه وملّكتك إيّاه اجعلني واتّخذني فيه وكيلا ، فامتثل أبو السّعود أمر اللّه فاتّخذه وكيل . فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها ، والهمّة لا تفعل إلّا بالجمعيّة الّتي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ؟
وهذه المعرفة تفرّقه عن هذه الجمعيّة . فيظهر العارف التّامّ المعرفة بغاية العجز والضّعف)
.
ثم أورد مثالا لقوله وأمثاله فقال : ( قال الشيخ أبو عبد اللّه بن قائد للشيخ أبي السعود بن الشبل)
""أضاف المحقق : الشيخ أبو عبد اللّه بن قائد : عرف بابن قائد من قرية تسمى آونة من أعمال بغداد ، كان ذا معان تضاعف مددها ورتبة علا في أفق السلوك فرقدها .
وتربية نفذ سهمها في الأمصار ومواعظ لها في القلوب إجلال وإكبار ، وهو من أصحاب الإمام عبد القادر الجيلاني رضي اللّه عنه .
قال الشيخ ابن العربي رضي اللّه عنه : وكان ابن القائد هذا يقول فيه عبد القادر رضي اللّه عنه : معربد الحضرة ، وكان يشهد له العارف عبد القادر - الحاكم في هذه الطريقة المرجوع إليه في الرجال - : أنه من المفردين ، وهم رجال خارجون عن دائرة القطب والخضر عليه السّلام منهم ونظيرهم من الملائكة الأرواح المهيمة في جلال اللّه وهم الكروبيون معتكفون في حضرة الحق سبحانه لا يعرفون سواه ، ليس لهم بذواتهم علم عند نفوسهم ، لهم مقام بين الصديقية والنبوة الشرعية . قال : هو مقام جليل جهله أكثر الناس من أهل طريقنا كأبي حامد رضي اللّه عنه وأمثاله فإن ذوقه عزيز . [ الكواكب الدرية 442 ] .
فهو من أتباع الشيخ عبد القادر الكيلاني قال عنه ابن العربي الطائي الحاتمي: حال الصدق يناقض مقامه ومقامه أعلى من حاله في الخصوص وحاله أشهد وأعلى في
العموم.
وقال عنه السهروردي: كان أبو السعود من أرباب الأحول السنية والواقفين مع فعل الله في حاله تاركا الأختيار، سبق كثير من المتقدمين في تحقيق ترك الاختيار، شاهدنا منه أحوالا صحيحة عن قوة وتمكين.
ومن كراماته إنه قال: كنت بشاطئ دجلة بغداد فخطر في نفسي هل لله عباد يعبدونه في الماء فما تم الخاطر إلا بالنهر قد أنفلق عن رجل فسلم علي وقال:
نعم يا أبا السعود لله عبادا يعبدون في الماء وأنا منهم أنا رجل من تكريت خرجت منها لأنه بعد كذا كذا يوما يقع كذا كذا فيها فذكر أمور تحدث ثم غاب فما أنقضت خمسة عشر يوما حتى وقع ذلك.
الشيخ أبي السعود بن الشبل :العارف الأفخم والصوفي الأعظم ، إمام كملت باللّه أدواته ، وصفت في مشاهد الحق ذاته ، وعرفت العارف الأفخم والصوفي الأعظم ، إمام كملت باللّه أدواته ، وصفت في مشاهد الحق ذاته ، وعرفت في مسالك العرفان خلواته وجلواته ، أجل أتباع الشيخ العارف باللّه عبد القادر الجيلاني رضي اللّه عنه الذي قال في حقه العارف ابن عربي رضي اللّه عنه : إنه أعلى مقاما من شيخه - كما سيجيء عنه في ترجمته - وقال في موضع آخر من الفتوحات : كان إمام وقته في الطريق . [ الكواكب 404 ] ""

: ثم ( لم تتصرف ) أي : بالهمة المؤثرة أو بغيرها مع أنك أعطيت التصرف كما يأتي التصريح به .
( فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي ) وكيلا عني لكمال علمه ، وقدرته ، ورعايته مصالح من وكله بحسب سنته ، وإن لم يجب عليه بل ( كما يشاء ) ، فإن لم يكن شيء من ذلك ، فلابدّ من امتثال أمره ، ( يريد قوله تعالى أمرا ) لنبيه عليه السّلام مع كونه أعلم الخلق وأقواهم وكمال حاله الموجب وهب التصرف له ( " فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا " [ المزمل : 9 ] فإني أولى بذلك مع أنه يجب على متابعته صلّى اللّه عليه وسلّم ).
"" أضاف المحقق : وذكر الشيخ اليافعي في خلاصة المفاخر : جاءوا جماعة من المشايخ عند شيخنا محيي الدين عبد القادر رضي اللّه عنه بمدرسته فقال : ليطلب كل واحد منكم حاجته أعطيها له .
فقال الشيخ أبو السعود : أريد ترك الاختيار. وقال الشيخ ابن قائد : أريد القوة على المجاهدة. ""
وإذا اتخذ الحق وكيلا ؛ ( فالوكيل هو المتصرف ) لامتناع اجتماع العلتين على معلول واحد ، فإن لم يكن فعل العبد علة فلا أقل من مشابهته إياها وكيف يكون للعبد التصرف ولا ملك له في التصرف فيه إلا بإذن المالك واستخلافه ، وإليه الإشارة بقوله : ( ولا سيما وقد سمع اللّه تعالى يقول :وَأَنْفِقُوا مِمَّ جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [ الحديد : 7 ] فعلم أبو السعود ) خاصة ( والعارفون ) عامة ( أن الأمر الذي بيده ليس ) ملك (له ) ، وإن ثبت ( أنه مستخلف فيه ) أذن له بالتصرف بقوله : "وَأَنْفِقُوا" في حق العامة .
( ثم قال له ) أي : للعارف الكامل كالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وخواص متابعيه ( هذا الأمر الذي استخلفتك فيه ) بالإذن بالتصرف ( وملكتك إياه ) وإن كنت عبد ، والعبد لا يملك وإن ملكه السيد ( اجعلني ) فيه وكيلا ، وإن كنت أنا مالك عند ملكك إياه لا تصرف لك عن علم كامل ، وقدرة تامة راع مصالحك على أتم الوجوه ، ولا تخص ذلك بأمر دون أمر ، ووقت دون وقت ، بل (اتخذني فيه ) أي : في كل ما استخلفتك فيه ، وملكتك إياه في كل وقت ( وكيلا ) ، ليكون التصرف على أحسن الوجوه وأتمها ، ولكن العارف الكامل ل ينظر إلى حسنه وتمامه ، وإنما ينظر إلى أمر ربه تحققا بمقام العبودية ، لا بالنظر إلى أنها أصله ، ولا إلى الضعف الطبيعي اللازم لها ( فامتثل أبو السعود أمر اللّه ) وهو قوله : ( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) كيف وهو أمر خاص بخواص العارفين يختل بتركه أمرهم بالكلية .
( فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر ) الذي أختل بتركه أمره بالكلية فيتصرف به ، ( والهمة لا تفعل ) أي : لا تؤثر ( إلا بالجمعية ) ، وليس المراد بها رؤية الحق بدون الخلق ؛ فإنها مانعة من التصرف كما مر ، بل المراد الجمعية (التي لا تتسع لصاحبها ) خاطر بنظر ( إلى غير ما اجتمع ) همة ( عليه ) حتى يحصل ذلك الأمر ، ( وهذه المعرفة ) أي : معرفة أن الإخلال بالأمر الخاص الإلهي موجب لإخلال أمر العارف ، وهذه بالكلية ( تفرقه عن هذه الجمعية ) باتساع خاطر اختلال أمره بالكلية عند إخلاله بهذا الأمر الخاص الإلهي ، بل هو ينافي هذه الجمعية ، ( فيظهر العارف التام المعرفة ) بما له ، وعليه في هذا التصرف ( بغاية العجز والضعف ) ، وإن كان له مقام التصرف بالهمة لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لكن له مراتب كبيرة ، ومقام التصرف بالهمة أدناها ، وإن كان صاحبها يظن أنه من أعلاه .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال بعض الأبدال للشّيخ عبد الرزّاق قل للشّيخ أبي مدين بعد السّلام عليه : يا أبا مدين لم ل يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتمّ في مقام العجز والضّعف منه ، ومع هذا قال له هذا البدل ما قال وهذا من ذلك القبيل أيضا ، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في هذا المقام عن أمر اللّه له بذلك : "ما أدري ما يفعل بي ول بكم إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ » فالرّسول بحكم ما يوحى إليه ما عنده غير ذلك ، فإن أوحي إليه بالتّصرّف فيه بجزم تصرّف وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التّصرّف ، إلّا أن يكون ناقص المعرفة ، قال أبو السّعود لأصحابه المؤمنين به إنّ اللّه أعطاني التّصرّف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرّفا هذا لسان إدلال ).
ولذلك ( قال بعض الأبدال ) ممن بلغ مقام الفرق بعد الجمع وكان له التصرف بالهمة ( للشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه قل للشيخ أبي مدين رضي اللّه عنه بعد السلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شيء ).
""
الشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه : هو سيدي عبد الرزاق الإسكندري شيخ الأقصرائي ، وتلميذ أبي مدين . كان له أحوال وكرامات . ""
إذا قصدناه بهمتنا بعد الوصول إلى مقام الفرق بعد الجمع ، ( وأنت تعتاص عليك الأشياء ) مع أنك أكمل في هذا المقام ؛ وذلك لأننا ( نحن نرغب في مقامك ) لعلوه ، ( وأنت لا ترغب في مقامنا ) لدنوه .
ثم أشار - رحمه اللّه - بأن هذا الكلام لم يكن من ذلك البدل على سبيل التواضع مع علم قصوره لقصور تأثيره بالهمة ، ولكن ( كذلك ) أي : قاصر التأثير مع كمال الحال ( كان مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام ) .
"" أضاف المحقق : أبي مدين رضي اللّه عنه: المعروف بالغوث أبي مدين قدس سره فهو الأستاذ الأعظم العارف الأفخم ، عظيم الإكبار ، رأس الصوفية في وقته ، ورئيسهم المشهور ، علم نعته زاهر ، زاهد مراقب مشاهد ، يقصد ويزار من جميع الأقطار ، وببنان العرفان إليه يشار ، يوصل ويقطع ويخفض ويرفع . ""
أي : مقام التصرف بالهمة ( وغيره ) مما يمنعه من التصرف مع كونه في مقام الفرق بعد الجمع ، ( ونحن ) مع كوننا أتم في هذا المقام ، وسائر مقامات المعرفة ( أتم في مقام الضعف والعجز ) .
ثم تعجب من قول البدل فقال : ( ومع هذا ) أي مع قوله : نحن نرغب في مقامك ، وأنت ل ترغب في مقامنا ، ( فقال له : هذا البدل ما قال ) مما يشعر بقصوره عند عدم التصرف ، ولم يعرف أن ( هذا ) العجز من أبي مدين وغيره ( من ذلك القبيل ) أي : كمال مقامهم ومعرفتهم بمعارضات التصرف بالهمة مما لم يطلع عليه هذ البدل .
ثم أشار إلى أن كمال المعرفة لا تمنع من التصرف بالهمة بالكلية ، بل فيه تفصيل ، وهو أنه ( قال صلّى اللّه عليه وسلّم في هذا المقام ) : أي مقام التصرف بالهمة عند الكمال كمال المعرفة ( عن أمر اللّه بذلك ) لا عن نفسه :( "وَم أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" [ الأحقاف : 9 ] )
"" رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير ""

أي : لا فعل لي أصلا ، ولو كان في فعل لكان في بذلك شعور ، فالتصرف في للمحقق وكذا في خواص عباده ، وإن كانوا في مقام الفرق بعد الجمع .
ثم قال :( "إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " [ الأنعام : 50] ):أي : في أمر التصرف وتركه ( فالرسول ) وكذا خواص تابعيه ( بحكم ما يوحى إليه ) به في التصرف ، وتركه ( ما عنده ) أي :
ليس عنده ( غير ذلك ) أي : خلاف ما يوحى به إليه ( فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم تصرف ) امتثالا لأمر سيده ، وإن أمره بالتوكل فذلك عام مخصوص بهذا الأمر الخاص ، ( وإن منع ) من التصرف بجزم ( امتنع ) لهذا الأمر الخاص مع ذلك الأمر العام ، ( وإن خيّر ) بين التصرف وتركه ؛ ( اختار ترك التصرف ) رعاية للأمر العام ( إلا أن يكون ) المأمور ( ناقص المعرفة ) يرى أن ذلك الأمر العام قد خص بهذا التخيير الخاص ؛ فتجوز مخالفته وقد نقص في معرفته أن رعايته عند عدم الجزم بخلافه أولى ، كيف وتصرفه قاصر عن تصرف الحق لا محالة .
ولذلك ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين ) : أورد ذلك ؛ لأن من يؤمن ( به ) ل يصدقه في إعطاء الحق التصرف إياه هذه المدة المديدة ، مع عدم ظهوره به في وقت من الأوقات ، ( إن اللّه أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرفا ) أي : طلبا لما هو طرفه وكماله ، إذ هو للحق ذاتي فهو في فعله أتم .
قال الشيخ - رحمه اللّه : ( وهذا ) القول من أبي السعود ( لسان إدلال ) لنفسه ، فإنها وإن بلغت إلى حد وهب اللّه لها التصرف ، ففي تصرفها قصور ، وليس هذا من المعرفة لم
- ولد ببجاية ونشأ بها واشتهر حتى ملأ الآفاق وصار إمام الصديقين في وقته بلا شقاق ، وأخذ عنه الكبراء كالعارف ابن عربي رضي اللّه عنه وقال : كان سلطان الوارثين . فيه من توسط الحق في أكمال التصرف المطلوب بالذات .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا نحن فم تركناه تظرّفا وهو تركه إيثارا وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة ل تقتضيه بحكم الاختيار . فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار ، ولا نشكّ أنّ مقام الرّسالة يطلب التّصرّف لقبول الرّسالة الّتي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ليظهر دين اللّه ، والوليّ ليس كذلك ، ومع هذا فلا يطلبه الرّسول في الظّاهر لأنّ للرّسول الشّفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم فيبقي عليهم ، وقد علم الرّسول أيضا أنّ الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التّصديق به ظلما وعلوا وحسدا ومنهم من يلحق ذلك بالسّحر والإيهام ، فلمّا رأت الرّسل ذلك وأنّه لا يؤمن إلّا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشّخص بذلك النّور المسمّى إيمانا فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعمّ أثرها في النّاظرين ولا في قلوبهم )
ولذا قال الشيخ رضي الله عنه: ( وأما نحن فم تركناه تظرفا ) كيف ( وهو ) أي : ترك التصرف تطرفا ( تركه إيثارا ) لما هو أكمل على ما هو قاصر ، ففيه توسيط الحق ، وليس ذلك من شأن العارف ، ( وإنما تركناه لكمال المعرفة فإن المعرفة لا تقتضيه ) بل تمنع ( بحكم الاختيار ) على ما مر في حق الرسول أنه لا يتصرف إلا أن يوحي إليه بالتصرف بجزم ، ( فمتى تصرف العارف ) من حيث هو عارف ، واحترزنا بذلك عن تصرف أبي السعود تطرفا ( بالهمة في العالم فعن أمر إلهي ) خاص ناسخ للأمر العام في حق الخواص بتوكيل الحق ، كما نسخ في حق الرسول ( وجبر لا باختيار ) ، وإن خير رعاية للأمر العام بالتوكيل ، ولا بدّ من نسخ ذلك الأمر في حق الرسول لتحصيل المعجزة إذ ( لا شك أن مقام الرسالة يطلب التصرف ) بالهمة في العام لتحصيل أمر خارق للعادة موجب (لقبول الرسالة ) منه ( التي جاء بها ) من الغيب ، فلابد مما يدل عليه ، (فيظهر عليه ) بتصرفه بالهمة في العالم ( ما يصدقه ) بالضرورة ( عند أمته ) التي أجابته ( وقومه ) الذين دعاهم ( ليظهر دين اللّه ) الذي بعث لإظهاره ليجتمعو عليه ولا يتفرقوا فيه .
قال رضي الله عنه : ( والولي ليس كذلك ) أي : ل يطلب مقامه التصرف بالهمة لتقبل منه الولاية ، إذ ليس من شأنه عموم الدعوة ، وإظهار الدين للعامة ، فلابدّ له من مزيد الاحتياط في التصرف بالهمة إذ مر ذلك بجزم كيف لا ، ( ومع هذا ) أي : كون مقام الرسالة يطلب التصرف ، ( فلا يطلبه الرسول في ) الأمر ( الظاهر ) إعجازه بحيث يلجئ العقول إلى التصديق ؛ ( لأن للرسول الشفقة على قومه ) لكونه خيرا في ذاته ، ( فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم ) بإظهار المعجزات القاهرة .
قال رضي الله عنه : ( فإن في ذلك هلاكهم ) في الحال ، إذا أخروا الإيمان به ، ( فيبقى عليهم ) وجودهم بإبقاء نوع من الخفاء في المعجزة لعلهم يعاملون ، فيؤمنون في ثاني الحال ، كيف ( وقد علم الرسول أيضا ) أي : مع علمه بهلاكهم في الحال لو لم يؤمنوا على الفور ، ( أن الأمر المعجز ) وإن بلغ حد الإلجاء ( إذا ظهر للجماعة ) المتفاوتة العقول والأخلاق ، ( فمنهم من يؤمن عند ذلك ) من غير تأخير فيفوز ، ( ومنهم من يعرفه ) بقلبه ( ويجحده ) بلسانه ، ( ولا يظهر التصديق ) الواقع في قلبه بالضرورة ( به ) ، فلا يكون لسانه ترجمان القلب ، وقد خلق لذلك فينزل إنكاره منزلة تكذيب القلب ، فلا ينفع التصديق القلبي أبدا ، إذا لم يكن الجحود عن إكراه بل ( ظلما ) بتكذيب ما دلت المعجزة على صدقه وتصديق ما لم ينزل به من اللّه سلطان من وسواس الشيطان ، ( وعلوا ) أي استكبار على آيات اللّه وأنبيائه ، ( وحسدا ) على ما أتاهم اللّه النبوة دونهم .
قال رضي الله عنه : ( ومنهم من يلحق ذلك ) المعجز ( بالسحر والإيهام ) أي : الشعوذة مع أنه يتحدى بذلك بالمعجزة مهرة العارفين بما هو من جنسها على العموم ولا يتحدى بهما كذلك ، ومع أن المعجزة مخصوصة بالنفس الخيرة اللاحقة بالملائكة الداعية إلى الخير في العموم ، وهما إنما يصدران من النفس الخبيثة اللاحقة بالشياطين ، ولا لبس في المعجزة القولية بهما أصلا ، ( فلما رأت الرسل ذلك ) الهلاك على الفور لمن آخر الإيمان عند رؤية المعجزة الملجئة ، ورأت (أنه لا يؤمن ) عند ظهور المعجزة ، ولو ملجئه ( إلا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ) وهو نور البصيرة الفارقة بين المعجزة وبين السحر والشعوذة عند خلو القلب من ظلمات الظلم والعلو والحسد وغيره .
قال رضي الله عنه : ( ومتى لم ينظر الشخص ) في المعجزة ، وإن نظر ببعض المقدمات الجدلية المشوبة بالأوهام الفاسدة عن الاحتمالات التي لا يتشكك العقل معها في دلالة المعجزة لعدم وقوعها أصلا بحسب العادة ، كما أنه يحتمل صيرورة البحر عسلا ، ومع ذلك فإنا جازمون ببقائه ما عند غيبتنا عنه ، والعادة لا تنخرق إلا لأمور مخصوصة جرت السنة الإلهية بخرقها لأجلها ( بذلك النور ) المزيل لهذه الأوهام ( المسمى ) على سبيل الاستعارة ( إيمانا ) ، كأنه عينه لإزالته الشبهات بالكلية ، فيلجئ إلى الإيمان بالضرورة لم يؤمن ذلك الشخص ، وإن كانت المعجزة ملجئة كما قال تعالى :" وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً " [ الرعد : 31 ] ، وقال :" وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُو " [ الأنعام : 111 ] ؛ فاختاروا معجزات غير ملجئة ؛ لأن من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان أمن بعد التأمل فيها ولو بعد حين ولا أي ، وإن لم ينور اللّه قلبه بنور الإيمان .
قال رضي الله عنه : (فلا ينفع في حقه الأمر المعجز ) تأمل فيها الشخص بالدلائل المشوبة بالأوهام أم لا ، وبلغ ذلك الأمر حد الإلجاء أم ل .
وإذ كان كذلك ( فقصرت الهمم ) أي همم الرسل ، وإن لم يكن لهم عنها بد في الجملة ( عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعم أثرها ) الكل ، وإن أثرت في الأكثر ( في الناظرين ) فضلا عن المعرضين ، فإن إلجائهم إلى الإقرار في الظاهر ، ( ولا ) يؤثر ( في قلوبهم ) كما في المنافقين ، وهذا القصور في تأثير الهمم لا يختص بالقاصرين بل يعم الكل أيض .
قال الشيخ رضي الله عنه : (كما قال في حقّ أكمل الرّسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال " إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" [ القصص : 56 ] ولو كان للهمّة أثر ولا بد ، لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أعلى وأقوى همّة منه ، وما أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية الّتي ذكرناها ولذلك قال في الرّسول إنّه ما عليه إلّا البلاغ ، وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ البقرة : 272 ] ، وزاد في سورة القصص :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[ القصص : 56 ] أي بالّذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم .
فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصّورة في حال وجوده ، وقد علم اللّه ذلك منه أنّه هكذا يكون ، فلذلك قال : وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلمّا قال مثل هذا قال أيضا :ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقيوَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق : 29 ] أي ما قدّرت عليهم الكفر الّذي يشقيهم ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتو به ، بل ما عاملناهم إلّا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلّا بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلما فهم الظّالمون . ولذلك قال : وَلكِنْ كانُو أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[ الأعراف : 160 ] فما ظلمهم اللّه ) .
( كما قال تعالى في حق أكمل الرسل ) في أمر الرسالة الغالية لتصرف بها لإظهار المعجزات ، ( واعلم الخلق ) بكيفية تصرفات الهمم وموضعه (وأصدقهم في الحال ) الموجبة تأثيرها على أكمل الوجوه ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) فصرفت همتك إلى هدايته ( وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ القصص : 56 ] ) بإفاضة نور الإيمان عليه ، ( ولو كان الهمة ) من الكمّل ( أثر ) في الكل ، ( ولا بدّ ) من تأثيرها ، ولو فيمن ينور اللّه قلبه بنور الإيمان ، ( لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، ولا أعلى همة من حيث أثرت همته في إيمان أكثر سكان العالم ، ( ولا أعلى ) همة من حيث أثرت همته في شق القمر ، ( وأقوى همة منه ) حيث أثرت همته في إظهار دينه على الأديان كلها ، واستنزال معجزة باقية إلى الأبد منتشرة في المشارق والمغارب ، جامعة بين الإعجاز والهداية المطلوبة منه وهي القرآن .
قال رضي الله عنه : ( وما أثرت ) همته ( في إسلام ) أحب الناس إليه ، وأمنهم عليه في التربية والحماية ( أبي طالب عمه ) من الأبوين بخلاف حمزة والعباس ، فإنهما عماه من الأب ، ( وفيه ) لا في غيره ، كما زعمت الشيعة القائلون بإيمان أبي طالب ، ( نزلت الآية التي ذكرناها ) على الخصوص ، وآيات أخر على العموم ؛ ( ولذلك ) أي : ولعدم تأثير همته في حق من خلا عن نور الإيمان لعدم مناسبته إياه ، مع أنه لا بدّ منه بين الفاعل والقابل ، ( قال في ) حق ( الرسول : ما عليه إلا البلاغ ) ؛ فإنه ينزل منه منزلة هدايته إياهم .
قال رضي الله عنه : ( وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ[ البقرة : 272 ] ) إذ ليس إليك إفاضة نور الإيمان ،"وَلكِنَّ اللَّهَ " بعد بيانك للهدى لهم" يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " بإفاضة ذلك النور عليه ، فكأنك هديته بتأثير همتك فيه ، ( وزاد في سورة القصص ) لبيان أن إفاضة نور الإيمان على البعض دون الباقين ليس على سبيل التحكم بل هو تابع لعلم الحق التابع لما عليه الأعيان في أنفسها ؛ فقال :(" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [ القصص : 56 ] )
أي : للمستعدين للهداية ، يفيض عليهم نور الإيمان لما أعطوه العلم بهدايتهم ، وإليه الإشارة بقوله : ( أي : بالذين أعطوه العلم بهدايتهم ) أي : استعدادهم لها ، وإن كانوا ( في حال عدمهم ) في الخارج ، فلا يتوقف على حدوثهم وعدمهم في الإعطاء ، إذا أعطوه ( بأعيانهم الثابتة ) في العلم الأزلي ( فأثبت ) بقوله :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَمن حيث جعله دليلا على رفع التحكم المتوهم من الآية السابقة ، ( أن العلم تابع للمعلوم ) لا باعتبار انفعاله ، بل إدراكه على ما هو عليه في نفسه ، ( فمن كان مؤمنا ) أي : مستعد للإيمان ( في ) حال ( ثبوت عينه ) في العلم الأزلي ، وإن لم يكن موجودا حتى يلزم القول بتعدد القدماء ، بل كان في ( حال عدمه ) في الخارج ( ظهر بتلك الصورة ) الإيمانية العلمية ( في حال وجوده ) في الخارج ، وكيف لا يظهر بتلك الصورة .
قال رضي الله عنه : ( وقد علم اللّه ) بالعلم الأزلي ( ذلك ) الظهور ( منه أنه هكذا يكون ) ، ولا يمكن الخلف فيه ؛ ( فلذلك ) أي : فلامتناع الخلف في العلم الأزلي ( قال :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) بصفة اسم التفضيل الدال على أنه في إدراك الخفيات على ما هي عليه كما لاستعدادات وغيرها ، زاد على ذلك من سواه ، ( فلم قال مثل هذا ) وهو قوله :"وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " الدال على أنه لا يمكن تبديله لكونه على وفق مقتضيات الأعيان الثابتة واستعداداته .
( قال أيضا :"ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ" [ ق : 29 ] ) أي : التكليفي "لَدَيَّ" بحيث يمكن أن يغير إلى ما هو الواقع من صورهم ؛ ( لأن قولي على حد علمي في خلقي ) ، وقد علمت منهم اقتضاء التكليف بما كلفتهم ، وإن لم يظهروا بما كلفوا به .
فلذلك قال بعده :( وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وليس ذلك في تقدير الكفر والمعاصي والعذاب عليهما ، ولا في تكليف الإيمان والطاعات من حيث اقتضاء أعيانهم ذلك ، ولا من حيث فيض ذلك من .
أم الأول ؛ فهو المشار إليه بقوله : ( أي : ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ) من غير أن يستحقوه باستعداداتهم .
( ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم ) من مخالفة التقدير الإلهي ( أن يأتوا به ) من غير أن تقتضي أعيانهم ذلك الطلب مني ، ( بل ما عاملناهم ) في تقدير الكفر والشقاوة والتكليف بالإيمان ، وبموجبات السعادة ، ( إلا بحسب م علمناهم ) يقتضون ذلك التقدير والتكليف ، ( وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم ).
أي : لا يجعلنا فيهم بل ( بما هم عليه فإن كان ) تقدير الكفر والشقاوة والتكليف بالإيمان وأسباب السعادة ( ظلما ) منا عليهم ، بل منهم على أنفسهم ؛ ( فهم الظالمون ، ولذلك قال :"وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُو أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "[ النحل : 118 ] ) ، وإذا كان التكليف والتقدير باقتضاء أعيانهم ، ( فما ظلمهم اللّه ) باتحاد ذلك فيهم كما ل يظلم بتقديره ، وإن كان مساعدهم على ظلمهم أنفسهم .
قال رضي الله عنه : ( كذلك ما قلنا لهم إلّا م أعطته ذاتنا أن نقول لهم ؛ وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ول نقول كذا ، فما قلنا إلّا ما علمنا أنّا نقول فلنا القول منّا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السّماع منهم .
فالكلّ منّا ومنهم ..... والأخذ عنّا وعنهم
إن لا يكونوا من ..... فنحن لا شكّ منهم
فتحقّق يا وليّ هذه الحكمة الملكيّة من الكلمة اللّوطيّة فإنّها لباب المعرفة .
فقد بان لك السّرّ ..... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشّفع ..... الّذي قيل هو الوتر
وأما الثاني ؛ فهو المشار إليه بقوله : ( كذلك ) أي كما لم تظلمهم فيما ذكرنا باعتبار كونه مقتضى أعيانهم لم نظلمهم باعتبار قولنا التكويني والتكليفي من حيث كونه مقتضى ذاتيا أيضا ، لأننا ( ما قلنا لهم ) في التكوين والتكليف ( إلا ما أعطته ) أي اقتضته ( ذاتنا ) من حيث الربوبية ( أن نقول لهم ) ، وهو أيضا تابع لعلمنا بذاتنا ومقتضياتها إذ ( ذاتنا معلومة لنا من ) حيث اقتضاؤها باعتبار الربوبية .
( أن نقول ) في أحد الأمرين أو كليهما ( كذا ول نقول كذا ) في الآخر أو كليهما ، ( فم قلنا ) في الأمرين ( إلا ما علمنا أنّا نقول ) ، فلا يمكن تغييره لكونه تابعا للعلم الأزلي ، ولا ظلم فيما يتعين فيه أحد الأمرين بالضرورة على أنه ليس الأمر أن أي : التكوين والتكليف منا بطريق المباشرة .
( فلنا القول ) التكويني والتكليفي ( ولهم الامتثال ) الجازم في التكويني ، وغير الجازم في التكليفي ، ( وعدم الامتثال ) في بعض الأقوال التكليفية ، فالمباشرة لهم والظلم منوط بالمباشرة دون القول المجرد . ""عدم الإمتثال : إن كان الأمر أمرا إيجابيّا اقتضت أعيانهم امتثاله ""
وإن كان ( مع السماع منهم ) القاهر المقتدر ، ( فالكل منّا ) التكوين والتكليف ، وتقديرهما منا باعتبار القول والعلم والحكم ، ( ومنهم ) باعتبار اقتضاء الأعيان والامتثال وعدمه ، ( والأخذ عنا ) باعتبار مخالفة القول التكليفي والتكويني ، واقتضاء الربوبية الظهور بالقهر على بعض المظاهر ، (وعنهم ) باعتبار اقتضاء أعيانهم ، وعدم امتثالهم الأمر التكليفي ، هذا كله على تقدير التمييز في الظاهر بين الحق والخلق .
ثم قال : ( إلا يكونوا ) بإثبات النون للضرورة ( منا ) في ظهور أعيانهم على تقدير أن لها الظهور بتميز ظهور كل عين من ظهور الأخرى ، بما اختصت به من العوارض والأحوال .
( فنحن لا شكّ ) في الظهور الوجودي ( منهم ) ، إذ لا يتميز ظهورن عن ظهورهم بالوجود ، إذ لا تميز في الوجود باعتبار ظهوره .
فالإثم واللذة على الصور الوجودية لا على الأعيان ، فلا ظلم عليهم من حيثهم ، ( فتحقق يا وليّ هذه الحكمة الملكية ) الدالة على شدة أمر التقدير والتكليف ، بأنهم لا يقبلان التغيير مع وقوع المخالفة بينهما .
وشدة أمر الهمة من حيث اتحاد ظهور الوجود ( من الكلمة اللوطية ) أي قوله : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " [ هود : 80 ] ؛ فإن قوله : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " يدل على شدة أمر الهمة حتى تمناها .
وقوله :" أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " يدل على شدة أمر التكليف المقتضى شدة العذاب على مخالفه من القوي الشديد ، الذي قوته وشدته ذاتيتان ، وعلى شدة الأمرين باعتبار الاتحاد ، فإنه مقدم الكل فلابدّ له من الظهور بكل ذلك ؛ ( فإنها لباب المعرفة ) وكيف لا ، ( فقد بان لك السر ) أي : سر القدر والتكليف ، ( وقد اتضح الأمر ) الإلهي بالتكوين والتكليف ، ( ولقد أدرج ) باعتبار الصور الوجودية ( في الشفع الذي ) هو ظهور الخلق بناء على أنه للأعيان أيضا ، ظهور الخلق الذي ( قيل هو الوتر ) في الظهور .
وأيض ولما كانت الحكمة الملكية باحثة عن شدة أمر القدر سيما مع اعتبار التكليف على خلافه في الواقع مع أنه منه باعتبار اقتضاء الأعيان ، وعن شدة أمر الهمة في حق العارف الناظر إلى سرّه عقبها بالحكمة القدرية .
.

19A4wQC5k0E

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!