موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف

لأبي بكر الكلاباذي رحمه الله

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


31. الباب الحادي والثلاثون: عُلْوم الصّوفيّة

أقول وبالله التوفيق: اعلم أن "علوم الصوفية": علوم الأحوال، والأحوال: مواريث الأعمال، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال.

وأول تصحيح الأعمال: معرفة علومها، وهي علم الأحكام الشرعية: من أصول الفقه، وفروعه (من الصلاة، والصوم، وسائر الفرائض، إلى علم المعاملات: من النكاح، والطلاق، والمبايعات، وسائر ما أوجب الله تعالى، وندب إليه، وما لا غناء به عنه من أمور المعاش)، وهذه: علوم التعلم والاكتساب.

فأول ما يلزم العبد: الاجتهاد في طلب هذا العلم، وإحكامه على قدر ما أمكنه ووسعه طبعه، وقوى عليه فهمه، بعد إحكام علم التوحيد والمعرفة، على طريق: الكتاب، والسنة، وإجماع السلف الصالح عليه، القدر الذي يتيقن بصحة ما عليه أهل السنة والجماعة.

فإن وُفِّقَ لما فوقه: من نفي الشبه التي تعترضه (من خاطر، أو ناظر) فذاك، وإن أعرض عن خواطر السوء اعتصاما بالجملة التي عرفها، وتجافى عن المُنَاظِرِ الذي يحاجه فيه ويجادله عليه وباعده، فهو في سعة إن شاء الله عز وجل ، واشتغل باستعمال علمه وعمل بما علم.

فأول ما يلزمه: علم آفات النفس، ومعرفتها، ورياضتها، وتهذيب أخلاقها. ومكائد العدو، وفتنة الدنيا، وسبيل الاحتراز منها، وهذا العلم علم الحكمة.

فإذا استقامت النفس على الواجب، وصلحت طباعها، وتأدبت بآداب الله عز وجل : من زم جوارحها، وحفظ أطرافها، وجمع حواسها، سهل عليه إصلاح أخلاقها، وتطهير الظاهر منها، والفراغ مما لها، وعزوفها عن الدنيا، وإعراضها عنها.

فعند ذلك يمكن العبد مراقبة الخواطر، وتطهير السرائر، وهذا هو علم المعرفة.

ثم وراء هذا: علوم الخواطر، وعلوم المشاهدات المكاشفات، وهي التي تختص بعلم الإشارة: وهو العلم الذي تفردت به الصوفية، بعد جمعها سائر العلوم التي وصفناها. >

وإنما قيل " علم الإشارة ": لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمَواجيد، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال، وحل تلك المقامات.

روى سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله}.

وعن عبد الواحد بن زيد قال: سألت الحسن عن علم الباطن؟ فقال: سألت حذيفة بن اليمان عن علم الباطن؟ فقال: سألت رسول الله عن علم الباطن؟ فقال: سألت جبريل عن علم الباطن؟ فقال: سألت الله عز وجل عن علم الباطن؟ فقال: "هو سر من سِرّي، أجعله في قلب عبدي، لا يقف عليه أحد من خلقي".

قال أبو الحسن بن أبى ذر في كتابه منهاج الدين: أنشدونا للشّبلي: >

عِلمُ التصوف: عِلمٌ لا نَفَادَ له *** عِلْمٌ سَنِيٌّ سَمَاوي رَبُوْبِي

فيه الفوائد للأرباب يَعرِفُها *** أهل الجزالة والصنع الخصوصي

ثم لكل مقام بدء ونهاية، وبينهما أحوال متفاوتة، ولكل مقام علم، وإلى كل حال إشارة، ومع كل مقام إثبات ونفي، وليس كل ما نفي في مقام كان منفيا فيما قبله، ولا كل ما أثبت فيه كان مثبتا فيما دونه.

وهو كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا إيمان لمن لا أمانة له}، فنفى إيمان الأمانة لا إيمان العقد، والمخاطبون أدركوا ذلك؛ إذ كانوا قد حلوا مقام الأمانة، أو جاوزوه إلى ما فوقه.

وكان عليه السلام مشرفا على أحوالهم فصرح لهم، فأما من لم يشرف على أحوال السامعين، وعبر عن مقام: فنفى فيه وأثبت! جاز أن يكون في السامعين من لم يحلّ ذلك المقام، وكان الذي نفاه القائل مثبتا في مقام السامع، فيسبق إلى وهم السامع أنه نفى ما أثبته العلم، فخطأ قائله، أو بدعه، وربما كفره. >

فلما كان الأمر كذلك، اصطلحت هذه الطائفة على ألفاظ في علومها، تعارفوها بينهم ورمزوا بها، فأدركه صاحبه، وخفي على السامع الذي لم يحل مقامه، فأما أن يحسن ظنه بالقائل فيقبله ويرجع إلى نفسه فيحكم عليها بقصور فهمه عنه، أو يسوء ظنه به فيهوس قائله وينبه إلى الهذيان؛ وهذا أسلم له من رد حق وإنكاره.

قال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: ما بالكم - أيها المتصوفة - قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين، وخرجتم عن اللسان المعتاد! هل هذا إلا طلب للتمويه، أو ستر لعُوَّار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه؛ لعزته علينا، كيلا يشربها غير طائفتنا، ثم اندفع يقول:

أحسن ما أُظْهِرُهُ وَنُظْهِرُهُ *** بادئ حَقٍَ للقلوب نشعره

يُخبرني عني وعنه أخبره *** أكسوه من رونقه ما يستره

عن جاهل لا يستطيع ينشره *** يُفْسِد مَعناه إذا ما يعبره

فلا يُطْبِقُ اللفظ بل لا يَعْشرُه *** ثُمّ يُوافِي غَيْرَه فيخبره

فَيَظْهَر الجَهْلُ وتبدو زمره *** ويُدْرَسَ العِلْمُ وَيَعْفُو أثرُه

وأنشدونا أيضا له: >

إذا أهلُ العِبَارَة سَاءلونا *** أجَبنَاهم بأعلام الإشارة

نُشِيرُ بها فنَجعلها غُمُوضاً *** تُقَصِّرُ عَنهُ ترجمةُ العِبَارة

ونَشْهَدُهَا وتُشْهِدُنا سروراً *** له في كُلّ جارِحَةٍ إثارة

ترى الأقوالَ في الأحوال أسْرَى *** كأسْرِ العارِفِين ذوي الخَسَارة



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!