موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحجب

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


حِجَابُ الحُب

"إعلم أن الحب حجاب عن نفسه، فإنه يطلبك بالفناء والبقاء، وهما ضدان، وهما من أحكام الحب؛ لأنه يطالبك بطلب المشاهدة.

وهي البهت فيفنيك عنك، ويطالبك بامتثال الأمر فيبقيك معك، وإن آثرت امتثال الأمر آثرت المحبوب على نفسك ما لم تتوهم وقوع الهجران بالمخالفة، فإن توهمت ذلك فإنما آثرت نفسك، وإن آثرت المشاهدة فأنت في حظ نفسك مؤثر لها على حظ المحبوب. فالحب يطالبك بحب الوصل كما يطالبك بحب الفراق إذا كان الفراق محبوباً لمحبوبك.

وقد قيل: "وكل ما يفعل المحبوب محبوب"

وقال آخر:

تعشقت فيه كل شيء يودّه = من الهجر حتى صرت أعشق صدّه

وإن كنا نعقل أن حب الوصلة في الحب ذاتي، وحب الفرقة في الحب عرضي غير ذاتي، ولكن لا بد من حبه فإذا أحب المحب الفرقة فقد فعل ما لا تقتضيه حقيقة المحبة، وإن لم يحب الفرقة التي هي محبوب محبوبه فقد فعل ما لا تقتضيه المحبة !

فالحاصل من هذا أن المحب هالك محجوج لا حجة له، فإنه حصل في مقام متناقض الأحكام. وأما قول من قال:

أريد وصاله ويريد هجري = فأترك ما أريد لما يريد

فليس بتام ولا كامل في المحبة فإنه قال بالترك لا بالمحبة بخلاف قول الآخر:

أهوى هواه وأخشى من تعتبه = وكل ما يفعل المحبوب محبوب

فالواحد تارك، وهل أحب أم لا فهو في موقف الاحتمال. والآخر أتم في المشي في هوى المحبوب لا أنه أتم في المحبة. وصاحب الترك والإرادة أتم في المحبة لأنه أتم في المشي في هوى المحبوب وتخليص الأمر عندي أن يحب حب الحبيب الذي هو الفرقة لا الفراق. مثل الراضي بقضاء الله وقدره، فإذا قضى بالكفر فهو يرضى بالقضاء لا بالمقضي به فإن المقضي هو الكفر وكذلك قضاء المحبوب بالفراق، ما هو عين الفراق؛ فحب المحب إنما يتعلق بإرادة المحبوب، الفرقة لا بالفرقة. فإنما يتعلق بهذا الباب قول مجنون بني عامر حين ضمته ليلى إلى صدرها فنظر إليها وقال: إليكِ عني فإن حبك شغلني عنك، فهذا فناء في الحب. ويسمى شهوة الحب وصاحبها ملتذ في اتصال دائم وقد قيل في المعنى:

ولما رأيت الحب يعظم قدره = وما لي بها حتى الممات تداني

تعشقت حب الحب عمري ولم أقل = كفاني الذي قد نلت منه كفاني

ولا يتصور في هذا المقام هجر لأن الصورة الروحانية المعنوية التي مسكنها المحب في نفسه من مشاهدة محبوبة ثابتة عنده، وليس لها وجد إلا فيه.

ولهذا قيل:

ما لمجنون بني عامر من هواه = غير شكوى البعاد والاغتراب

وأنا ضده وإن حبيبي = في فؤادي لم يزل في اقتراب

فحبيبي معي وفيّ وعندي = فلماذا أقول ما بي وما بي!

والحس لا يقيده عن مشاهدة هذا المثال الحاصل عنده؛ لقوة سلطانه عليه وتحققه به. فإذا قبل المحب من خارج عن المحبوب طلب المحب البعد عنه لا العطف منه في عينه للمناسبة. فإنّ الحب روحاني معنوي، والمثال كذلك. فكانت المناسبة أتم، ووصلة الذات المفارقة تقع بعدها الفرقة والألم، لأنه ليس بدائم الاتصال لما يعطيه المقام من تغير الأحوال فيتوهم مثل «قيس» هذا الفراق فخاف من الألم بعد النعيم فوقع النفور منه للصورة الخارجة لأن الأجنبية مصاحبة لها، وعاشق الصورة الغريبة اكتفى؛ والجار ذي القربى مقدم على الجار ذي الجنب. وهذا ذوق يعز واجده، ولا سيما في طريق الله تعالى، ولو وجد القائلون بالمشاهدة والسماع -الذين هم ضالة الصوفية- هذا الأمر ما طلبوا شاهداً ولا سماعاً أبداً، لأنه مقام فرقة. ولهذا لم يجيء بالشاهد ولا بالسماع كتاب ولا سنّة، ولا جعلوه طريقاً ولا قربة، وكان من المباحات، إلا الشاهد فإنّه إلى المحظور أقرب منه إلى المباح.

ومما يؤيد ما أومأنا إليه كون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحب السماع قط، ولا استدعاه ولا تعلق له به خاطر أصلا، وهو صلى الله عليه وسلم الجامع للمقامات كلها حتى قال للمرأة التي نذرت أن تضرب بين يديه بالدف: "إن كنت نذرت وإلا فلا".

وكل حديث روي عنه صلى الله عليه وسلم، في باب قيامه في السماع وأمثاله، مستفعل استفعله من لا خلاق له، ليتمكن بذلك من شهوته. وأكثر شيوخ هذه الطريقة في محل الضعف عن هذا الإدراك؛ بل هو من قوة النبوة والإرث الإلهي الصحيح، وكذلك حب العبد ربه بهذه المنزلة التي تقدمت؛ فإن الفرقة لا تتصور فيه لأنه به وفيه ومنه وإليه، وهو، فلا فراق. لكن ينبغي أن يعرف أي ذات شاهد حتى يفرق بين الذات الحقيقية التي هي: "الهو" وبين الذات المجازية التي هي عبارة عن الصورة وبها يقع التحول والتبدل؛ فمتى ما طالع المحب ما عنده فيه فتلك المشاهدة، ومتى ما طالع ما لم يكن عنده فتلك الرؤية والنعيم بها أتم.

فاحذر أن تطلبه بما يشهد له به، واطلبه من غير ما تشهد له به، لكن بمن يعرف هو نفسه به.

والله الموفق وهو حسبنا.


X1LNdvS0Ku8

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!