موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: موسوعة الحديث الشريف: (صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (6)]

البخاري
مسلم
أبو داود
الترمذي
النسائي
ابن ماجة
الدارمي
الموطأ
المسند

(صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (6)]

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنَا ‏ ‏شُعَيْبٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ‏ ‏أَنَّ ‏ ‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ‏ ‏أَخْبَرَهُ أَنَّ ‏ ‏أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ‏ ‏أَخْبَرَهُ ‏ ‏أَنَّ ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي ‏ ‏رَكْبٍ ‏ ‏مِنْ ‏ ‏قُرَيْشٍ ‏ ‏وَكَانُوا تِجَارًا ‏ ‏بِالشَّأْمِ ‏ ‏فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مَادَّ ‏ ‏فِيهَا ‏ ‏أَبَا سُفْيَانَ ‏ ‏وَكُفَّارَ ‏ ‏قُرَيْشٍ ‏ ‏فَأَتَوْهُ وَهُمْ ‏ ‏بِإِيلِيَاءَ ‏ ‏فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ ‏ ‏الرُّومِ ‏ ‏ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ ‏ ‏أَبُو سُفْيَانَ ‏ ‏فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ ‏ ‏يَأْثِرُوا ‏ ‏عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لَا قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ‏ ‏سِجَالٌ ‏ ‏يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ ‏ ‏وَالْعَفَافِ ‏ ‏وَالصِّلَةِ فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ ‏ ‏يَأْتَسِي ‏ ‏بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ‏ ‏لِيَذَرَ ‏ ‏الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ ‏ ‏وَالْعَفَافِ ‏ ‏فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ ‏ ‏لَتَجَشَّمْتُ ‏ ‏لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏الَّذِي بَعَثَ بِهِ ‏ ‏دِحْيَةُ ‏ ‏إِلَى عَظِيمِ ‏ ‏بُصْرَى ‏ ‏فَدَفَعَهُ إِلَى ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ ‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏ ‏مِنْ ‏ ‏مُحَمَّدٍ ‏ ‏عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏عَظِيمِ ‏ ‏الرُّومِ ‏ ‏سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ ‏ ‏بِدِعَايَةِ ‏ ‏الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ ‏ ‏تَوَلَّيْتَ ‏ ‏فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ ‏ ‏الْأَرِيسِيِّينَ ‏ ‏وَ ‏ { ‏يَا ‏ ‏أَهْلَ الْكِتَابِ ‏ ‏تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏} ‏قَالَ ‏ ‏أَبُو سُفْيَانَ ‏ ‏فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ ‏ ‏الصَّخَبُ ‏ ‏وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ‏ ‏ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ‏ ‏إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ ‏ ‏بَنِي الْأَصْفَرِ ‏ ‏فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ وَكَانَ ‏ ‏ابْنُ النَّاظُورِ ‏ ‏صَاحِبُ ‏ ‏إِيلِيَاءَ ‏ ‏وَهِرَقْلَ ‏ ‏سُقُفًّا ‏ ‏عَلَى ‏ ‏نَصَارَى ‏ ‏الشَّأْمِ ‏ ‏يُحَدِّثُ أَنَّ ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏حِينَ قَدِمَ ‏ ‏إِيلِيَاءَ ‏ ‏أَصْبَحَ يَوْمًا ‏ ‏خَبِيثَ النَّفْسِ ‏ ‏فَقَالَ بَعْضُ ‏ ‏بَطَارِقَتِهِ ‏ ‏قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ قَالَ ‏ ‏ابْنُ النَّاظُورِ ‏ ‏وَكَانَ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏حَزَّاءً ‏ ‏يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا ‏ ‏الْيَهُودُ ‏ ‏فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى ‏ ‏مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ ‏ ‏الْيَهُودِ ‏ ‏فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ ‏ ‏غَسَّانَ ‏ ‏يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ وَسَأَلَهُ عَنْ ‏ ‏الْعَرَبِ ‏ ‏فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ فَقَالَ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ‏ ‏ظَهَرَ ‏ ‏ثُمَّ كَتَبَ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏إِلَى صَاحِبٍ لَهُ ‏ ‏بِرُومِيَةَ ‏ ‏وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ وَسَارَ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏إِلَى ‏ ‏حِمْصَ ‏ ‏فَلَمْ يَرِمْ ‏ ‏حِمْصَ ‏ ‏حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَأَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏لِعُظَمَاءِ ‏ ‏الرُّومِ ‏ ‏فِي ‏ ‏دَسْكَرَةٍ ‏ ‏لَهُ ‏ ‏بِحِمْصَ ‏ ‏ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ ‏ ‏الرُّومِ ‏ ‏هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ ‏ ‏فَحَاصُوا ‏ ‏حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى ‏ ‏هِرَقْلُ ‏ ‏نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي ‏ ‏آنِفًا ‏ ‏أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏رَوَاهُ ‏ ‏صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ ‏ ‏وَيُونُسُ ‏ ‏وَمَعْمَرٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏


‏ ‏قَوْله : ( قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَان ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَكَرِيمَة : حَدَّثَنَا الْحَكَم بْن نَافِع , وَهُوَ هُوَ , أَخْبَرَنَا شُعَيْب : هُوَ اِبْن أَبِي حَمْزَة دِينَار الْحِمْصِيُّ , وَهُوَ مِنْ أَثْبَات أَصْحَاب الزُّهْرِيّ. ‏ ‏قَوْله : ( أَنَّ أَبَا سُفْيَان ) ‏ ‏هُوَ صَخْر بْن حَرْب بْن أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَاف. ‏ ‏قَوْله : ( هِرَقْل ) ‏ ‏هُوَ مَلِك الرُّوم , وَهِرَقْل : اِسْمه , وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاء وَفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْقَاف , وَلَقَبه قَيْصَر , كَمَا يُلَقَّب مَلِك الْفُرْس : كِسْرَى وَنَحْوه. ‏ ‏قَوْله : ( فِي رَكْب ) ‏ ‏جَمْع رَاكِب كَصَحْبِ وَصَاحِب , وَهُمْ أُولُو الْإِبِل , الْعَشْرَة فَمَا فَوْقهَا. وَالْمَعْنَى : أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَان حَال كَوْنه فِي جُمْلَة الرَّكْب , وَذَاكَ لِأَنَّهُ كَانَ كَبِيرهمْ فَلِهَذَا خَصَّهُ , وَكَانَ عَدَد الرَّكْب ثَلَاثِينَ رَجُلًا , رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْإِكْلِيل. وَلِابْنِ السَّكَن : نَحْو مِنْ عِشْرِينَ , وَسَمَّى مِنْهُمْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة فِي مُصَنَّف اِبْن أَبِي شَيْبَة بِسَنَدٍ مُرْسَل , وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُسْلِمًا. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون رَجَعَ حِينَئِذٍ إِلَى قَيْصَر ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَة مُسْلِمًا. وَقَدْ وَقَعَ ذِكْره أَيْضًا فِي أَثَر آخَر فِي كِتَاب السِّيَر لِأَبِي إِسْحَاق الْفَزَارِيّ , وَكِتَاب الْأَمْوَال لِأَبِي عُبَيْد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَر. الْحَدِيث وَفِيهِ : فَلَمَّا قَرَأَ قَيْصَر الْكِتَاب قَالَ : هَذَا كِتَاب لَمْ أَسْمَع بِمِثْلِهِ. وَدَعَا أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَكَانَا تَاجِرَيْنِ هُنَاكَ , فَسَأَلَ عَنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ‏ ‏قَوْله : ( وَكَانُوا تُجَّارًا ) بِضَمِّ التَّاء وَتَشْدِيد الْجِيم , أَوْ كَسْرهَا وَالتَّخْفِيفِ جَمْع تَاجِر. ‏ ‏قَوْله : ( فِي الْمُدَّة ) يَعْنِي مُدَّة الصُّلْح بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَسَيَأْتِي شَرْحهَا فِي الْمَغَازِي , وَكَانَتْ فِي سَنَة سِتّ , وَكَانَتْ مُدَّتهَا عَشْر سِنِينَ كَمَا فِي السِّيرَة , وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَلِأَبِي نُعَيْم فِي مُسْنَد عَبْد اللَّه بْن دِينَار : كَانَتْ أَرْبَع سِنِينَ , وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي الْبُيُوع مِنْ الْمُسْتَدْرَك , وَالْأَوَّل أَشْهَر. لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا , فَغَزَاهُمْ سَنَة ثَمَان وَفَتَحَ مَكَّة. وَكُفَّار قُرَيْش بِالنَّصْبِ مَفْعُول مَعَهُ. ‏ ‏قَوْله ( فَأَتَوْهُ ) تَقْدِيره : أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي طَلَب إِتْيَان الرَّكْب فَجَاءَ الرَّسُول يَطْلُب إِتْيَانهمْ فَأَتَوْهُ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصَاك الْحَجَر فَانْفَجَرَتْ ) أَيْ : فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَوَقَعَ عِنْد الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد أَنَّ الرَّسُول وَجَدَهُمْ بِبَعْضِ الشَّام , وَفِي رِوَايَة لِأَبِي نُعَيْم فِي الدَّلَائِل تَعْيِين الْمَوْضِع وَهُوَ غَزَّة. قَالَ : وَكَانَتْ وَجْه مَتْجَرهمْ. وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيّ , وَزَادَ فِي أَوَّله عَنْ أَبِي سُفْيَان قَالَ : كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا , وَكَانَتْ الْحَرْب قَدْ حَصَبَتْنَا , فَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة خَرَجْت تَاجِرًا إِلَى الشَّام مَعَ رَهْط مِنْ قُرَيْش , فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت بِمَكَّة اِمْرَأَة وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَة. فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ : فَقَالَ هِرَقْل لِصَاحِبِ شُرْطَته : قَلِّبْ الشَّام ظَهْرًا لِبَطْنٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْم هَذَا أَسْأَلهُ عَنْ شَأْنه. فَوَاَللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي بِغَزَّة , إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا فَسَاقَنَا جَمِيعًا. ‏ ‏قَوْله : ( بِإِيلِيَاء ) ‏ ‏بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَة بَعْدهَا يَاء أَخِيرَة سَاكِنَة ثُمَّ لَام مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء أَخِيرَة ثُمَّ أَلِف مَهْمُوزَة , وَحَكَى الْبَكْرِيّ فِيهَا الْقَصْر , وَيُقَال لَهَا أَيْضًا إِلْيَا بِحَذْفِ الْيَاء الْأُولَى وَسُكُون اللَّام حَكَاهُ الْبَكْرِيّ , وَحَكَى النَّوَوِيّ مِثْله لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْيَاء عَلَى اللَّام وَاسْتَغْرَبَهُ , قِيلَ : مَعْنَاهُ بَيْت اللَّه. وَفِي الْجِهَاد عِنْد الْمُؤَلِّف أَنَّ هِرَقْل لَمَّا كَشَفَ اللَّه عَنْهُ جُنُود فَارِس مَشَى مِنْ حِمْص إِلَى إِيلِيَاء شُكْرًا لِلَّهِ. زَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ كَانَ تُبْسَط لَهُ الْبُسُط وَتُوضَع عَلَيْهَا الرَّيَاحِين فَيَمْشِي عَلَيْهَا , وَنَحْوه لِأَحْمَد مِنْ حَدِيث اِبْن أَخِي الزُّهْرِيّ عَنْ عَمّه. وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن عَبْد الْحَكَم مِنْ طُرُق مُتَعَاضِدَة مُلَخَّصهَا أَنَّ كِسْرَى أَغْزَى جَيْشه بِلَاد هِرَقْل , فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَاده , ثُمَّ اِسْتَبْطَأَ كِسْرَى أَمِيره فَأَرَادَ قَتْله وَتَوْلِيَة غَيْره , فَاطَّلَعَ أَمِيره عَلَى ذَلِكَ فَبَاطَنَ هِرَقْل وَاصْطَلَحَ مَعَهُ عَلَى كِسْرَى وَانْهَزَمَ عَنْهُ بِجُنُودِ فَارِس , فَمَشَى هِرَقْل إِلَى بَيْت الْمَقْدِس شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَاسْم الْأَمِير الْمَذْكُور شهر براز وَاسْم الْغَيْر الَّذِي أَرَادَ كِسْرَى تَأْمِيره فَرْحَان. ‏ ‏قَوْله : ( فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسه ) ‏ ‏أَيْ : فِي حَال كَوْنه فِي مَجْلِسه , وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَاد "" فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ , فَإِذَا هُوَ جَالِس فِي مَجْلِس مُلْكه وَعَلَيْهِ التَّاج "". ‏ ‏قَوْله : ( وَحَوْله ) ‏ ‏بِالنَّصْبِ ; لِأَنَّهُ ظَرْف مَكَان. ‏ ‏قَوْله : ( عُظَمَاء ) ‏ ‏جَمْع عَظِيم. وَلِابْنِ السَّكَن : فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ وَعِنْده بَطَارِقَته وَالْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَان وَالرُّوم مِنْ وَلَد عِيص بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام عَلَى الصَّحِيح , وَدَخَلَ فِيهِمْ طَوَائِف مِنْ الْعَرَب مِنْ تَنُوخ وَبَهْرَاء وَسُلَيْح وَغَيْرهمْ مِنْ غَسَّان كَانُوا سُكَّانًا بِالشَّامِ , فَلَمَّا أَجْلَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا دَخَلُوا بِلَاد الرُّوم فَاسْتَوْطَنُوهَا فَاخْتَلَطَتْ أَنْسَابهمْ. ‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا تَرْجُمَانه ) ‏ ‏وَلِلْمُسْتَمْلِيّ "" بِالتَّرْجُمَانِ "" مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ , فَلَمَّا حَضَرُوا اسْتَدْنَاهُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ فَيَنْزِل عَلَى هَذَا , وَلَمْ يَقَع تَكْرَار ذَلِكَ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة. وَالتَّرْجُمَان بِفَتْحِ التَّاء الْمُثَنَّاة وَضَمّ الْجِيم وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيّ فِي شَرْح مُسْلِم , وَيَجُوز ضَمّ التَّاء إِتْبَاعًا , وَيَجُوز فَتْح الْجِيم مَعَ فَتْح أَوَّله حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ , وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِالرَّابِعَةِ وَهِيَ ضَمّ أَوَّله وَفَتْح الْجِيم , وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَغَيْره "" بِتَرْجُمَانِهِ "" يَعْنِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَحْضَرَهُ صُحْبَته , وَالتَّرْجُمَان الْمُعَبِّر عَنْ لُغَة بِلُغَةٍ , وَهُوَ مُعَرَّب وَقِيلَ عَرَبِيّ. ‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ : أَيّكُمْ أَقْرَب نَسَبًا ) ‏ ‏أَيْ : قَالَ التَّرْجُمَان عَلَى لِسَان هِرَقْل. ‏ ‏قَوْله : ( بِهَذَا الرَّجُل ) ‏ ‏زَادَ اِبْن السَّكَن : الَّذِي خَرَجَ بِأَرْضِ الْعَرَب يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ. ‏ ‏قَوْله : ( قُلْت أَنَا أَقْرَبهمْ نَسَبًا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن السَّكَن : فَقَالُوا هَذَا أَقْرَبنَا بِهِ نَسَبًا , هُوَ اِبْن عَمّه أَخِي أَبِيهِ. وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو سُفْيَان أَقْرَب لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَافٍ , وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْمُصَنِّف فِي الْجِهَاد بِقَوْلِهِ : قَالَ مَا قَرَابَتك مِنْهُ ؟ قُلْت : هُوَ اِبْن عَمِّي. قَالَ أَبُو سُفْيَان : وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّكْب مِنْ بَنِي عَبْد مَنَاف غَيْرِي ا ه. وَعَبْد مَنَاف الْأَب الرَّابِع لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا لِأَبِي سُفْيَان , وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اِبْن عَمّ لِأَنَّهُ نَزَّلَ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلَة جَدّه , فَعَبْد الْمُطَّلِب بْن هَاشِم بْن عَبْد مَنَاف اِبْن عَمّ أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَاف , وَعَلَى هَذَا فَفِيمَا أُطْلِقَ فِي رِوَايَة اِبْن السَّكَن تَجَوُّز , وَإِنَّمَا خَصَّ هِرَقْل الْأَقْرَب لِأَنَّهُ أَحْرَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُوره ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَكْثَر مِنْ غَيْره ; وَلِأَنَّ الْأَبْعَد لَا يُؤْمَن أَنْ يَقْدَح فِي نَسَبه بِخِلَافِ الْأَقْرَب , وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي سُؤَاله بَعْد ذَلِكَ : كَيْفَ نَسَبه فِيكُمْ ؟ وَقَوْله "" بِهَذَا الرَّجُل "" ضَمَّنَ "" أَقْرَب "" مَعْنَى "" أَوْصَل "" فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم "" مِنْ هَذَا الرَّجُل "" وَهُوَ عَلَى الْأَصْل. وَقَوْله "" الَّذِي يَزْعُم "" فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ "" يَدَّعِي "". وَزَعَمَ : قَالَ الْجَوْهَرِيّ بِمَعْنَى قَالَ , وَحَكَاهُ أَيْضًا ثَعْلَب وَجَمَاعَة كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّة ضِمَام فِي كِتَاب الْعِلْم. قُلْت : وَهُوَ كَثِير وَيَأْتِي مَوْضِع الشَّكّ غَالِبًا. ‏ ‏قَوْله : ( فَاجْعَلُوهُمْ عِنْد ظَهْره ) ‏ ‏أَيْ : لِئَلَّا يَسْتَحْيُوا أَنْ يُوَاجِهُوهُ بِالتَّكْذِيبِ إِنْ كَذَبَ , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْوَاقِدِيّ. وَقَوْله "" إِنْ كَذَبَنِي "" بِتَخْفِيفِ الذَّال أَيْ : إِنْ نَقَلَ إِلَيَّ الْكَذِب. ‏ ‏قَوْله : ( قَالَ ) أَيْ : أَبُو سُفْيَان. وَسَقَطَ لَفْظ قَالَ مِنْ رِوَايَة كَرِيمَة وَأَبِي الْوَقْت فَأَشْكَلَ ظَاهِره , وَبِإِثْبَاتِهَا يَزُول الْإِشْكَال. ‏ ‏قَوْله : ( فَوَاَللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاء مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا ) ‏ ‏أَيْ : يَنْقُلُوا عَلَيَّ الْكَذِب لَكَذَبْت عَلَيْهِ. وَلِلْأَصِيلِيِّ عَنْهُ أَيْ : عَنْ الْإِخْبَار بِحَالِهِ. وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب إِمَّا بِالْأَخْذِ عَنْ الشَّرْع السَّابِق , أَوْ بِالْعُرْفِ. وَفِي قَوْله يَأْثِرُوا دُون قَوْله يَكْذِبُوا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّكْذِيب أَنْ لَوْ كَذَبَ لِاشْتِرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي عَدَاوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اِسْتِحْيَاء وَأَنَفَة مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ بَعْد أَنْ يَرْجِعُوا فَيَصِير عِنْد سَامِعِي ذَلِكَ كَذَّابًا. وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق التَّصْرِيح بِذَلِكَ وَلَفْظه "" فَوَاَللَّهِ لَوْ قَدْ كَذَبْت مَا رَدُّوا عَلَيَّ "" وَلَكِنِّي كُنْت اِمْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّم عَنْ الْكَذِب , وَعَلِمْت أَنَّ أَيْسَر مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْته أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ , فَلَمْ أَكْذِبهُ. وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته : قَالَ أَبُو سُفْيَان : فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت مِنْ رَجُل قَطُّ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْلَف , يَعْنِي هِرَقْل. ‏ ‏قَوْله : ( كَانَ أَوَّل ) ‏ ‏هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَر , وَبِهِ جَاءَتْ الرِّوَايَة , وَيَجُوز رَفْعه عَلَى الْإِسْمِيَّة. ‏ ‏قَوْله : ( كَيْف نَسَبه فِيكُمْ ؟ ) ‏ ‏أَيْ : مَا حَال نَسَبه فِيكُمْ , أَهُوَ مِنْ أَشْرَافكُمْ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَب. فَالتَّنْوِين فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ , وَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى بَعْض الشَّارِحِينَ , وَهَذَا وَجْهه. ‏ ‏قَوْله : ( فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل مِنْكُمْ أَحَد قَطّ قَبْله ؟ ) ‏ ‏ولِلْكُشْمِيهَنِيّ وَالْأَصِيلِيّ بَدَل قَبْله "" مِثْله "" فَقَوْله : مِنْكُمْ أَيْ : مِنْ قَوْمكُمْ يَعْنِي قُرَيْشًا أَوْ الْعَرَب. وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيّ يَعُمّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُخَاطَبِينَ فَقَطْ. وَكَذَا قَوْله فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ وَقَوْله بِمَاذَا يَأْمُركُمْ ؟ وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ بِغَيْرِ أَدَاة النَّفْي وَهُوَ نَادِر , وَمِنْهُ قَوْل عُمَر "" صَلَّيْنَا أَكْثَر مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنهُ رَكْعَتَيْنِ "" وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ النَّفْي مُضَمَّن فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ : هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل أَحَد أَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَد قَطُّ. ‏ ‏قَوْله : ( فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِك ؟ ) ‏ ‏وَلِكَرِيمَة وَالْأَصِيلِيّ وَأَبِي الْوَقْت بِزِيَادَةِ "" مِنْ "" الْجَارَّة , وَلِابْنِ عَسَاكِر بِفَتْحِ مِنْ وَمَلَكَ فِعْل مَاضٍ , وَالْجَارَّة أَرْجَح لِسُقُوطِهَا مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ , وَالْمَعْنَى فِي الثَّلَاثَة وَاحِد. ‏ ‏قَوْله : ( فَأَشْرَاف النَّاس اِتَّبَعُوهُ ) ‏ ‏فِيهِ إِسْقَاط هَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَهُوَ قَلِيل , وَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِير وَلَفْظه : أَيَتْبَعُهُ أَشْرَاف النَّاس ؟ وَالْمُرَاد بِالْأَشْرَافِ هُنَا أَهْل النَّخْوَة وَالتَّكَبُّر مِنْهُمْ , لَا كُلّ شَرِيف , حَتَّى لَا يَرِدُ مِثْل أَبِي بَكْر وَعُمَر وَأَمْثَالهمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْل هَذَا السُّؤَال. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق : تَبِعَهُ مِنَّا الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين , فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَاب وَالشَّرَف فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَد. وَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْأَكْثَر الْأَغْلَب. ‏ ‏قَوْله : ( سُخْطَة ) ‏ ‏بِضَمّ أَوَّله وَفَتْحِهِ , وَأَخْرَجَ بِهَذَا مَنْ اِرْتَدَّ مُكْرَهًا , أَوْ لَا لِسَخَطٍ لِدِينِ الْإِسْلَام بَلْ لِرَغْبَةٍ فِي غَيْره كَحَظٍّ نَفْسَانِيّ , كَمَا وَقَعَ لِعُبَيْدِ اللَّه بْن جَحْش. ‏ ‏قَوْله : ( هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ ؟ ) ‏ ‏أَيْ : عَلَى النَّاس وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى السُّؤَال عَنْ التُّهْمَة عَنْ السُّؤَال عَنْ نَفْس الْكَذِب تَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى صِدْقه ; لِأَنَّ التُّهْمَة إِذَا اِنْتَفَتْ اِنْتَفَى سَبَبهَا , وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْغَدْر. ‏ ‏قَوْله : ( وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَة أُدْخِل فِيهَا شَيْئًا ) ‏ ‏أَيْ : أَنْتَقِصهُ بِهِ , عَلَى أَنَّ التَّنْقِيص هُنَا أَمْر نِسْبِيّ , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَقْطَع بِعَدَمِ غَدْره أَرْفَع رُتْبَة مِمَّنْ يُجَوِّز وُقُوع ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْجُمْلَة , وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدهمْ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَغْدِر. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْر مَغِيبًا - لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَل - أَمِنَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يُنْسَب فِي ذَلِكَ إِلَى الْكَذِب , وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ بِالتَّرَدُّدِ , وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْهُ. وَقَدْ صَرَّحَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته عَنْ الزُّهْرِيّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ "" قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا اِلْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي "". وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة مُرْسَلًا "" خَرَجَ أَبُو سُفْيَان إِلَى الشَّام - فَذَكَرَ الْحَدِيث , إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : هُوَ سَاحِر كَذَّاب. فَقَالَ هِرَقْل : إِنِّي لَا أُرِيد شَتْمه , وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبه - إِلَى أَنْ قَالَ - فَهَلْ يَغْدِر إِذَا عَاهَدَ ؟ قَالَ : لَا , إِلَّا أَنْ يَغْدِر فِي هُدْنَته هَذِهِ. فَقَالَ : وَمَا يَخَاف مِنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ. قَالَ : إِنْ كُنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَر "". ‏ ‏قَوْله : ( سِجَال ) ‏ ‏بِكَسْرِ أَوَّله , أَيْ : نُوَب , وَالسَّجْل الدَّلْو , وَالْحَرْب اِسْم جِنْس , وَلِهَذَا جُعِلَ خَبَره اِسْم جَمْع. وَيَنَال أَيْ : يُصِيب , فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ الْمُحَارِبِينَ بِالْمُسْتَقِينَ : يَسْتَقِي هَذَا دَلْوًا وَهَذَا دَلْوًا. وَأَشَارَ أَبُو سُفْيَان بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنهمْ فِي غَزْوَة بَدْر وَغَزْوَة أُحُد , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو سُفْيَان يَوْم أُحُد فِي قَوْله "" يَوْم بِيَوْمِ بَدْر , وَالْحَرْب سِجَال "" وَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَلْ نَطَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي حَدِيث أَوْس بْن حُذَيْفَة الثَّقَفِيّ لَمَّا كَانَ يُحَدِّث وَفْد ثَقِيف , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره. وَوَقَعَ فِي مُرْسَل عُرْوَة "" قَالَ أَبُو سُفْيَان : غُلِبْنَا مَرَّة يَوْم بَدْر وَأَنَا غَائِب , ثُمَّ غَزْوَتهمْ فِي بُيُوتهمْ بِبَقْرِ الْبُطُون وَجَدْع الْآذَان "" وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْم أُحُد. ‏ ‏قَوْله : ( بِمَاذَا يَأْمُركُمْ ) ؟ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الرَّسُول مِنْ شَأْنه أَنْ يَأْمُر قَوْمه. ‏ ‏قَوْله : ( يَقُول اُعْبُدُوا اللَّه وَحْده ) ‏ ‏فِيهِ أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَة مَعْرُوفَة ; لِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ "" اُعْبُدُوا اللَّه "" فِي جَوَاب مَا يَأْمُركُمْ , وَهُوَ مِنْ أَحْسَن الْأَدِلَّة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّ أَبَا سُفْيَان مِنْ أَهْل اللِّسَان , وَكَذَلِكَ الرَّاوِي عَنْهُ اِبْن عَبَّاس , بَلْ هُوَ مِنْ أَفْصَحهمْ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُقِرًّا لَهُ. ‏ ‏قَوْله : ( وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) ‏ ‏سَقَطَ مِنْ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ الْوَاو فَيَكُون تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَحْده. ‏ ‏قَوْله : ( وَاتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤُكُمْ ) ‏ ‏هِيَ كَلِمَة جَامِعَة لِتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة , وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآبَاء تَنْبِيهًا عَلَى عُذْرهمْ فِي مُخَالَفَتهمْ لَهُ ; لِأَنَّ الْآبَاء قُدْوَة عِنْد الْفَرِيقَيْنِ , أَيْ عَبَدَة الْأَوْثَان وَالنَّصَارَى. ‏ ‏قَوْله : ( وَيَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْق ) ‏ ‏وَلِلْمُصَنِّفِ فِي رِوَايَة "" الصَّدَقَة "" بَدَل الصِّدْق , وَرَجَّحَهَا شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام , وَيُقَوِّيهَا رِوَايَة الْمُؤَلِّف فِي التَّفْسِير "" الزَّكَاة "" وَاقْتِرَان الصَّلَاة بِالزَّكَاةِ مُعْتَاد فِي الشَّرْع , وَيُرَجِّحهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب فَذِكْر مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ أَوْلَى. قُلْت : وَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ الْأَمْر بِذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَمَا فِي أَمْرهمْ بِوَفَاءِ الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة , وَقَدْ كَانَا مِنْ مَأْلُوف عُقَلَائِهِمْ , وَقَدْ ثَبَتَا عِنْد الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ عَنْ شَيْخه الْكُشْمِيهَنِيّ وَالسَّرَخْسِيّ , قَالَ "" بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْق وَالصَّدَقَة "" وَفِي قَوْله : يَأْمُرنَا بَعْد قَوْله يَقُول اُعْبُدُوا اللَّه إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمُغَايَرَة بَيْن الْأَمْرَيْنِ لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى مُخَالِفهمَا , إِذْ مُخَالِف الْأَوَّل كَافِر , وَالثَّانِي مِمَّنْ قَبِلَ الْأَوَّل عَاصٍ. ‏ ‏قَوْله : ( فَكَذَلِكَ الرُّسُل تُبْعَث فِي نَسَب قَوْمهَا ) ‏ ‏الظَّاهِر أَنَّ إِخْبَار هِرَقْل بِذَلِكَ بِالْجَزْمِ كَانَ عَنْ الْعِلْم الْمُقَرَّر عِنْده فِي الْكُتُب السَّالِفَة. ‏ ‏قَوْله : ( لَقُلْت رَجُل تَأَسَّى بِقَوْلٍ ) ‏ ‏كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيّ , وَلِغَيْرِهِ "" يَتَأَسَّى "" بِتَقْدِيمِ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت , وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هِرَقْل "" فَقُلْت "" إِلَّا فِي هَذَا وَفِي قَوْله "" هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِك "" لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ مَقَام فِكْر وَنَظَر , بِخِلَافِ غَيْرهمَا مِنْ الْأَسْئِلَة فَإِنَّهَا مَقَام نَقْل. ‏ ‏قَوْله : ( فَذَكَرْت أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اِتَّبَعُوهُ ) ‏ ‏هُوَ بِمَعْنَى قَوْل أَبِي سُفْيَان ضُعَفَاؤُهُمْ , وَمِثْل ذَلِكَ يُتَسَامَح بِهِ لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَقَوْل هِرَقْل "" وَهُمْ أَتْبَاع الرُّسُل "" مَعْنَاهُ أَنَّ أَتْبَاع الرُّسُل فِي الْغَالِب أَهْل الِاسْتِكَانَة لَا أَهْل الِاسْتِكْبَار الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّقَاق بَغْيًا وَحَسَدًا كَأَبِي جَهْل وَأَشْيَاعه , إِلَى أَنْ أَهْلَكَهُمْ اللَّه تَعَالَى , وَأَنْقَذَ بَعْد حِين مَنْ أَرَادَ سَعَادَته مِنْهُمْ. ‏ ‏قَوْله ( وَكَذَلِكَ الْإِيمَان ) ‏ ‏أَيْ : أَمْر الْإِيمَان ; لِأَنَّهُ يُظْهِر نُورًا , ثُمَّ لَا يَزَال فِي زِيَادَة حَتَّى يَتِمّ بِالْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَة فِيهِ مِنْ صَلَاة وَزَكَاة وَصِيَام وَغَيْرهَا , وَلِهَذَا نَزَلَتْ فِي آخِر سِنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) وَمِنْهُ ( وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره ) وَكَذَا جَرَى لِأَتْبَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يَزَالُوا فِي زِيَادَة حَتَّى كَمُلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ اللَّه مِنْ إِظْهَار دِينه وَتَمَام نِعْمَته , فَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة. ‏ ‏قَوْله : ( حِين يُخَالِط بَشَاشَة الْقُلُوب ). ‏ ‏كَذَا رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّة وَالْقُلُوب مُضَاف إِلَيْهِ , أَيْ : يُخَالِط الْإِيمَان اِنْشِرَاح الصُّدُور , وَرُوِيَ "" بَشَاشَة الْقُلُوب "" بِالضَّمِّ وَالْقُلُوب مَفْعُول , أَيْ : يُخَالِط بَشَاشَة الْإِيمَان وَهُوَ شَرْحه الْقُلُوب الَّتِي يَدْخُل فِيهَا. زَادَ الْمُصَنِّف فِي الْإِيمَان "" لَا يَسْخَطهُ أَحَد "" كَمَا تَقَدَّمَ. وَزَادَ اِبْن السَّكَن فِي رِوَايَته فِي مُعْجَم الصَّحَابَة "" يَزْدَاد بِهِ عُجْبًا وَفَرَحًا "". وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق "" وَكَذَلِكَ حَلَاوَة الْإِيمَان لَا تَدْخُل قَلْبًا فَتَخْرُج مِنْهُ "". ‏ ‏قَوْله : ( وَكَذَلِكَ الرُّسُل لَا تَغْدِر ) ‏ ‏لِأَنَّهَا لَا تَطْلُب حَظّ الدُّنْيَا الَّذِي لَا يُبَالِي طَالِبه بِالْغَدْرِ , بِخِلَافِ مَنْ طَلَبَ الْآخِرَة. وَلَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى الدَّسِيسَة الَّتِي دَسَّهَا أَبُو سُفْيَان كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَقَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَة إِيرَاد تَقْدِير السُّؤَال الْعَاشِر وَاَلَّذِي بَعْده وَجَوَابه , وَقَدْ ثَبَتَ الْجَمِيع فِي رِوَايَة الْمُؤَلِّف الَّتِي فِي الْجِهَاد وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ ثَمَّ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. ‏ ‏( فَائِدَة ) : ‏ ‏قَالَ الْمَازِنِيّ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هِرَقْل لَيْسَتْ قَاطِعَة عَلَى النُّبُوَّة , إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ عِنْده عَلَامَات عَلَى هَذَا النَّبِيّ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ : قَدْ كُنْت أَعْلَم أَنَّهُ خَارِج , وَلَمْ أَكُنْ أَظُنّ أَنَّهُ مِنْكُمْ. وَمَا أَوْرَدَهُ اِحْتِمَالًا جَزَمَ بِهِ اِبْن بَطَّال ; وَهُوَ ظَاهِر. ‏ ‏قَوْله : ( فَذَكَرْت أَنَّهُ يَأْمُركُمْ ) ‏ ‏ذَكَرَ ذَلِكَ بِالِاقْتِضَاءِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام أَبِي سُفْيَان ذِكْر الْأَمْر بَلْ صِيغَته. وَقَوْله "" وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان "" مُسْتَفَاد مِنْ قَوْله "" وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَاتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤُكُمْ "" لِأَنَّ مَقُولهمْ الْأَمْر بِعِبَادَةِ الْأَوْثَان. ‏ ‏قَوْله : ( أَخْلُص ) ‏ ‏بِضَمِّ اللَّام أَيْ : أَصِل , يُقَال خَلُصَ إِلَى كَذَا أَيْ : وَصَلَ. ‏ ‏قَوْله : ( لَتَجَشَّمْت ) ‏ ‏بِالْجِيمِ وَالشِّين الْمُعْجَمَة , أَيْ : تَكَلَّفْت الْوُصُول إِلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّق أَنَّهُ لَا يَسْلَم مِنْ الْقَتْل إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاسْتَفَادَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ كَمَا فِي قِصَّة ضُغَاطِر الَّذِي أَظْهَر لَهُمْ إِسْلَامه فَقَتَلُوهُ. وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق ضَعِيف عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ دِحْيَة فِي هَذِهِ الْقِصَّة مُخْتَصَرًا , فَقَالَ قَيْصَر : أَعْرِف أَنَّهُ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَفْعَل , إِنْ فَعَلْت ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّوم. وَفِي مُرْسَل اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ هِرَقْل قَالَ : وَيْحك , وَاَللَّه إِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ نَبِيّ مُرْسَل , وَلَكِنِّي أَخَاف الرُّوم عَلَى نَفْسِي , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ. لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَاب الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ "" أَسْلِمْ تَسْلَمْ "" وَحَمَلَ الْجَزَاء عَلَى عُمُومه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلّ مَا يَخَافهُ. وَلَكِنَّ التَّوْفِيق بِيَدِ اللَّه تَعَالَى قَوْله "" لَغَسَلْت عَنْ قَدَمَيْهِ "" مُبَالَغَة فِي الْعُبُودِيَّة لَهُ وَالْخِدْمَة. زَادَ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ أَبِي سُفْيَان "" لَوْ عَلِمْت أَنَّهُ هُوَ لَمَشَيْت إِلَيْهِ حَتَّى أُقَبِّل رَأْسه وَأَغْسِل قَدَمَيْهِ "" وَهِيَ تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَقِيَ عِنْده بَعْض شَكّ. وَزَادَ فِيهَا "" وَلَقَدْ رَأَيْت جَبْهَته تَتَحَادَر عَرَقًا مِنْ كَرْب الصَّحِيفَة "" يَعْنِي لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي اِقْتِصَاره عَلَى ذِكْر غَسْل الْقَدَمَيْنِ إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُب مِنْهُ - إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَالِمًا - لَا وِلَايَة وَلَا مَنْصِبًا , وَإِنَّمَا يَطْلُب مَا تَحْصُل لَهُ بِهِ الْبَرَكَة. وَقَوْله "" وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكه مَا تَحْت قَدَمَيَّ "" أَيْ : بَيْت الْمَقْدِس , وَكَنَّى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَوْضِع اِسْتِقْرَاره. أَوْ أَرَادَ الشَّام كُلّه لِأَنَّ دَار مَمْلَكَته كَانَتْ حِمْص. وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ هِرَقْل آثَرَ مُلْكه عَلَى الْإِيمَان وَاسْتَمَرَّ عَلَى الضَّلَال أَنَّهُ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَة مُؤْتَة سَنَة ثَمَان بَعْد هَذِهِ الْقِصَّة بِدُونِ السَّنَتَيْنِ , فَفِي مَغَازِي اِبْن إِسْحَاق : وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا مَعَانَ مِنْ أَرْض الشَّام أَنَّ هِرَقْل نَزَلَ فِي مِائَة أَلْف مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَحَكَى كَيْفِيَّة الْوَقْعَة. وَكَذَا رَوَى اِبْن حِبَّانَ فِي صَحِيحه عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا مِنْ تَبُوك يَدْعُوهُ , وَأَنَّهُ قَارَبَ الْإِجَابَة , وَلَمْ يُجِبْ. فَدَلَّ ظَاهِر ذَلِكَ عَلَى اِسْتِمْرَاره عَلَى الْكُفْر , لَكِنْ يُحْتَمَل مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُضْمِر الْإِيمَان وَيَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِيَ مُرَاعَاة لِمُلْكِهِ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَقْتُلهُ قَوْمه. إِلَّا أَنَّ فِي مُسْنَد أَحْمَد أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي مُسْلِم. فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَبَ , بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّته. وَفِي كِتَاب الْأَمْوَال لِأَبِي عُبَيْد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ مُرْسَل بَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيّ نَحْوه , وَلَفْظه فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوّ اللَّه , لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. فَعَلَى هَذَا إِطْلَاق صَاحِب الِاسْتِيعَاب أَنَّهُ آمَنَ - أَيْ : أَظْهَرَ التَّصْدِيق - لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَيْهِ وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ , بَلْ شَحَّ بِمُلْكِهِ وَآثَرَ الْفَانِيَة عَلَى الْبَاقِيَة. وَاَللَّه الْمُوَفِّق. ‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ دَعَا ) ‏ ‏أَيْ : مَنْ وَكَّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ , وَلِهَذَا عُدِّيَ إِلَى الْكِتَاب بِالْبَاءِ. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( دِحْيَة ) ‏ ‏بِكَسْرِ الدَّال , وَحُكِيَ فَتْحهَا لُغَتَانِ , وَيُقَال إِنَّهُ الرَّئِيس بِلُغَةِ أَهْل الْيَمَن , وَهُوَ اِبْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ , صَحَابِيّ جَلِيل كَانَ أَحْسَن النَّاس وَجْهًا , وَأَسْلَمَ قَدِيمًا , وَبَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر سَنَةِ سِتّ بَعْد أَنْ رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَة بِكِتَابِهِ إِلَى هِرَقْل , وَكَانَ وُصُوله إِلَى هِرَقْل فِي الْمُحَرَّم سَنَة سَبْع , قَالَهُ الْوَاقِدِيّ. وَوَقَعَ فِي تَارِيخ خَلِيفَة أَنَّ إِرْسَال الْكِتَاب إِلَى هِرَقْل كَانَ سَنَة خَمْس , وَالْأَوَّل أَثْبَت , بَلْ هَذَا غَلَط لِتَصْرِيحِ أَبِي سُفْيَان بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُدَّة الْهُدْنَة , وَالْهُدْنَة كَانَتْ فِي آخِر سَنَة سِتّ اِتِّفَاقًا , وَمَاتَ دِحْيَة فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة. وَبُصْرَى بِضَمِّ أَوَّله وَالْقَصْر مَدِينَة بَيْن الْمَدِينَة وَدِمَشْق , وَقِيلَ هِيَ حَوْرَان , وَعَظِيمهَا هُوَ الْحَارِث بْن أَبِي شَمِر الْغَسَّانِيّ. وَفِي الصَّحَابَة لِابْنِ السَّكَن أَنَّهُ أَرْسَلَ بِكِتَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل مَعَ عَدِيّ بْن حَاتِم , وَكَانَ عَدِيّ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا , فَوَصَلَ بِهِ هُوَ وَدِحْيَة مَعًا , وَكَانَتْ وَفَاة الْحَارِث الْمَذْكُور عَام الْفَتْح. ‏ ‏قَوْله : ( مِنْ مُحَمَّد ) ‏ ‏فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنْ يَبْدَأ الْكِتَاب بِنَفْسِهِ , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , بَلْ حَكَى فِيهِ النَّحَّاس إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَالْحَقّ إِثْبَات الْخِلَاف. وَفِيهِ أَنَّ "" مِنْ "" الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَة تَأْتِي مِنْ غَيْر الزَّمَان وَالْمَكَان كَذَا قَالَهُ أَبُو حَيَّان , وَالظَّاهِر أَنَّهَا هُنَا أَيْضًا لَمْ تَخْرُج مِنْ ذَلِكَ , لَكِنْ بِارْتِكَابِ مَجَاز. زَادَ فِي حَدِيث دِحْيَة : وَعِنْدهُ اِبْن أَخ لَهُ أَحْمَر أَزْرَق سَبْط الرَّأْس. وَفِيهِ : لَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب سَخِرَ فَقَالَ : لَا تَقْرَأْهُ , إِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ. فَقَالَ قَيْصَر : لَتَقْرَأَنَّهُ. فَقَرَأَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَزَّار فِي مُسْنَده عَنْ دِحْيَة الْكَلْبِيّ أَنَّهُ هُوَ نَاوَلَ الْكِتَاب لِقَيْصَر , وَلَفْظه "" بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ إِلَى قَيْصَر فَأَعْطَيْته الْكِتَاب "". ‏ ‏قَوْله ( عَظِيم الرُّوم ) ‏ ‏فِيهِ عُدُول عَنْ ذِكْره بِالْمُلْكِ أَوْ الْإِمْرَة ; لِأَنَّهُ مَعْزُول بِحُكْمِ الْإِسْلَام , لَكِنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِكْرَام لِمَصْلَحَةِ التَّأَلُّف. وَفِي حَدِيث دِحْيَة أَنَّ اِبْن أَخِي قَيْصَر أَنْكَرَ أَيْضًا كَوْنه لَمْ يَقُلْ مَلِك الرُّوم. ‏ ‏قَوْله : ( سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْمُصَنِّف فِي الِاسْتِئْذَان "" السَّلَام "" بِالتَّعْرِيفِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي قِصَّة مُوسَى وَهَارُون مَعَ فِرْعَوْن. وَظَاهِر السِّيَاق يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَة مَا أُمِرَا بِهِ أَنْ يَقُولَاهُ. فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يُبْدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : لَيْسَ الْمُرَاد مِنْ هَذَا التَّحِيَّة , إِنَّمَا مَعْنَاهُ سَلِمَ مِنْ عَذَاب اللَّه مَنْ أَسْلَمَ. وَلِهَذَا جَاءَ بَعْده أَنَّ الْعَذَاب عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَكَذَا جَاءَ فِي بَقِيَّة هَذَا الْكِتَاب "" فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ "". فَمُحَصَّل الْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَبْدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ قَصْدًا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظ يُشْعِر بِهِ , لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْمُرَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى فَلَمْ يُسَلِّم عَلَيْهِ. ‏ ‏قَوْله : ( أَمَّا بَعْد ) ‏ ‏فِي قَوْله "" أَمَّا "" مَعْنَى الشَّرْط , وَتُسْتَعْمَل لِتَفْصِيلِ مَا يُذْكَر بَعْدهَا غَالِبًا , وَقَدْ تَرِد مُسْتَأْنَفَة لَا لِتَفْصِيلٍ كَاَلَّتِي هُنَا , وَلِلتَّفْصِيلِ وَالتَّقْرِير , وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : هِيَ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ وَتَقْدِيره : أَمَّا الِابْتِدَاء فَهُوَ اِسْم اللَّه , وَأَمَّا الْمَكْتُوب فَهُوَ مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه.. إِلَخْ , كَذَا قَالَ. وَلَفْظه "" بَعْد "" مَبْنِيَّة عَلَى الضَّمّ , وَكَانَ الْأَصْل أَنْ تُفْتَح لَوْ اِسْتَمَرَّتْ عَلَى الْإِضَافَة , لَكِنَّهَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَة فَبُنِيَتْ عَلَى الضَّمّ , وَسَيَأْتِي مَزِيد فِي الْكَلَام عَلَيْهَا فِي كِتَاب الْجُمُعَة. ‏ ‏قَوْله : ( بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام ) ‏ ‏بِكَسْرِ الدَّال , مِنْ قَوْلك دَعَا يَدْعُو دِعَايَة نَحْو شَكَا يَشْكُو شِكَايَة. وَلِمُسْلِمٍ "" بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَام "" أَيْ : بِالْكَلِمَةِ الدَّاعِيَة إِلَى الْإِسْلَام , وَهِيَ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَالْبَاء مَوْضِع إِلَى. وَقَوْله "" أَسْلِمْ تَسْلَمْ "" غَايَة فِي الْبَلَاغ , وَفِيهِ نَوْع مِنْ الْبَدِيع وَهُوَ الْجِنَاس الِاشْتِقَاقِيّ. ‏ ‏قَوْله : ( يُؤْتِك ) ‏ ‏جَوَاب ثَانٍ لِلْأَمْرِ. وَفِي الْجِهَاد لِلْمُؤَلِّفِ "" أَسْلِمْ أَسْلِمْ يُؤْتِك "" بِتَكْرَارِ أَسْلِمْ , فَيُحْتَمَل التَّأْكِيد , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْأَمْر الْأَوَّل لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام وَالثَّانِي لِلدَّوَامِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله ) الْآيَة. وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ ) الْآيَة. وَإِعْطَاؤُهُ الْأَجْر مَرَّتَيْنِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون تَضْعِيف الْأَجْر لَهُ مِنْ جِهَة إِسْلَامه وَمِنْ جِهَة أَنَّ إِسْلَامه يَكُون سَبَبًا لِدُخُولِ أَتْبَاعه. وَسَيَأْتِي التَّصْرِيح بِذَلِكَ فِي مَوْضِعه مِنْ حَدِيث الشَّعْبِيّ مِنْ كِتَاب الْعِلْم إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام أَنَّ كُلّ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَاب كَانَ فِي حُكْمهمْ فِي الْمُنَاكَحَة وَالذَّبَائِح ; لِأَنَّ هِرَقْل هُوَ وَقَوْمه لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّة بَعْد التَّبْدِيل. وَقَدْ قَالَ لَهُ وَلِقَوْمِهِ ( يَا أَهْل الْكِتَاب ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ حُكْم أَهْل الْكِتَاب , خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَوْ بِمَنْ عُلِمَ أَنَّ سَلَفه مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّة أَوْ النَّصْرَانِيَّة قَبْل التَّبْدِيل. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( فَإِنْ تَوَلَّيْت ) ‏ ‏أَيْ : أَعْرَضْت عَنْ الْإِجَابَة إِلَى الدُّخُول فِي الْإِسْلَام. وَحَقِيقَة التَّوَلِّي إِنَّمَا هُوَ بِالْوَجْهِ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِعْرَاض عَنْ الشَّيْء , وَهِيَ اِسْتِعَارَة تَبَعِيَّة. ‏ ‏قَوْله : ( الْأَرِيسِيِّينَ ) ‏ ‏هُوَ جَمْع أَرِيسِيّ , وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى أَرِيس بِوَزْنِ فَعِيل , وَقَدْ تُقْلَب هَمْزَته يَاء كَمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَة أَبِي ذَرّ وَالْأَصِيلِيّ وَغَيْرهمَا هُنَا , قَالَ اِبْن سِيده : الْأَرِيس الْأَكَّار , أَيْ : الْفَلَّاح عِنْد ثَعْلَب , وَعِنْد كُرَاع : الْأَرِيس هُوَ الْأَمِير , وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : هِيَ لُغَة شَامِيَّة , وَأَنْكَرَ اِبْن فَارِس أَنْ تَكُون عَرَبِيَّة , وَقِيلَ فِي تَفْسِيره غَيْر ذَلِكَ لَكِنْ هَذَا هُوَ الصَّحِيح هُنَا , فَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ بِلَفْظِ "" فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَكَّارِينَ "" زَادَ الْبَرْقَانِيّ فِي رِوَايَته : يَعْنِي الْحَرَّاثِينَ , وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا فِي رِوَايَة الْمَدَائِنِيّ مِنْ طَرِيق مُرْسَلَة "" فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْفَلَّاحِينَ "" , وَكَذَا عِنْد أَبِي عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال مِنْ مُرْسَل عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد "" وَإِنْ لَمْ تَدْخُل فِي الْإِسْلَام فَلَا تَحُلْ بَيْن الْفَلَّاحِينَ وَبَيْن الْإِسْلَام "" قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمُرَاد بِالْفَلَّاحِينَ أَهْل مَمْلَكَته ; لِأَنَّ كُلّ مَنْ كَانَ يَزْرَع فَهُوَ عِنْد الْعَرَب فَلَّاح , سَوَاء كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيّ : أَرَادَ أَنَّ عَلَيْك إِثْم الضُّعَفَاء وَالْأَتْبَاع إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا تَقْلِيدًا لَهُ ; لِأَنَّ الْأَصَاغِر أَتْبَاع الْأَكَابِر. قُلْت : وَفِي الْكَلَام حَذْف دَلَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ : فَإِنَّ عَلَيْك مَعَ إِثْمك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ إِثْم الْأَتْبَاع بِسَبَبِ أَنَّهُمْ تَبِعُوهُ عَلَى اِسْتِمْرَار الْكُفْر فَلَأَنْ يَكُون عَلَيْهِ إِثْم نَفْسه أَوْلَى , وَهَذَا يُعَدّ مِنْ مَفْهُوم الْمُوَافَقَة , وَلَا يُعَارَض بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى ) لِأَنَّ وِزْر الْآثِم لَا يَتَحَمَّلهُ غَيْره , وَلَكِنَّ الْفَاعِل الْمُتَسَبِّب وَالْمُتَلَبِّس بِالسَّيِّئَاتِ يَتَحَمَّل مِنْ جِهَتَيْنِ : جِهَة فِعْله وَجِهَة تَسَبُّبه وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِير الْأَرِيسِيِّينَ بِمَعْنًى آخَر , فَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ يُونُس فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير مِنْ طَرِيقه : الْأَرِيسِيُّونَ الْعَشَّارُونَ يَعْنِي أَهْل الْمَكْس. وَالْأَوَّل أَظْهَر. وَهَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّهُ الْمُرَاد , فَالْمَعْنَى الْمُبَالَغَة فِي الْإِثْم , فَفِي الصَّحِيح فِي الْمَرْأَة الَّتِي اِعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا "" لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَة لَوْ تَابَهَا صَاحِب مَكْس لَقُبِلَتْ "". ‏ ‏قَوْله : ( وَيَا أَهْل الْكِتَاب إِلَخْ ) هَكَذَا ‏ ‏وَقَعَ بِإِثْبَاتِ الْوَاو فِي أَوَّله , وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض أَنَّ الْوَاو سَاقِطَة مِنْ رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَأَبِي ذَرّ , وَعَلَى ثُبُوتهَا فَهِيَ دَاخِلَة عَلَى مُقَدَّر مَعْطُوف عَلَى قَوْله "" أَدْعُوك "" , فَالتَّقْدِير : أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام , وَأَقُول لَك وَلِأَتْبَاعِك اِمْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى ( يَا أَهْل الْكِتَاب ). وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون مِنْ كَلَام أَبِي سُفْيَان ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظ جَمِيع أَلْفَاظ الْكِتَاب , فَاسْتَحْضَرَ مِنْهَا أَوَّل الْكِتَاب فَذَكَرَهُ , وَكَذَا الْآيَة. وَكَأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : كَانَ فِيهِ كَذَا وَكَانَ فِيهِ يَا أَهْل الْكِتَاب. فَالْوَاو مِنْ كَلَامه لَا مِنْ نَفْس الْكِتَاب , وَقِيلَ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ ذَلِكَ قَبْل نُزُول الْآيَة فَوَافَقَ لَفْظه لَفْظهَا لَمَّا نَزَلَتْ , وَالسَّبَب فِي هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قِصَّة وَفْد نَجْرَان , وَكَانَتْ قِصَّتهمْ سَنَة الْوُفُود سَنَة تِسْع , وَقِصَّة سُفْيَان كَانَتْ قَبْل ذَلِكَ سَنَة سِتّ , وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الْمَغَازِي , وَقِيلَ : بَلْ نَزَلَتْ سَابِقَة فِي أَوَائِل الْهِجْرَة , وَإِلَيْهِ يُومِئ كَلَام اِبْن إِسْحَاق. وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُود. وَجَوَّزَ بَعْضهمْ نُزُولهَا مَرَّتَيْنِ , وَهُوَ بَعِيد. ‏ ‏( فَائِدَة ) : ‏ ‏قِيلَ فِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز قِرَاءَة الْجُنُب لِلْآيَةِ أَوْ الْآيَتَيْنِ , وَبِإِرْسَالِ بَعْض الْقُرْآن إِلَى أَرْض الْعَدُوّ وَكَذَا بِالسَّفَرِ بِهِ. وَأَغْرَبَ اِبْن بَطَّال فَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنْ السَّفَر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْض الْعَدُوّ وَيَحْتَاج إِلَى إِثْبَات التَّارِيخ بِذَلِكَ. وَمُحْتَمَل أَنْ يُقَال : إِنَّ الْمُرَاد بِالْقُرْآنِ فِي حَدِيث النَّهْي عَنْ السَّفَر بِهِ أَيْ : الْمُصْحَف , وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعه. وَأَمَّا الْجُنُب فَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِذَا لَمْ يَقْصِد التِّلَاوَة جَازَ , عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة نَظَرًا , فَإِنَّهَا وَاقِعَة عَيْن لَا عُمُوم فِيهَا , فَيُقَيَّد الْجَوَاز عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ اِحْتِيَاج إِلَى ذَلِكَ كَالْإِبْلَاغِ وَالْإِنْذَار كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّة , وَأَمَّا الْجَوَاز مُطْلَقًا حَيْثُ لَا ضَرُورَة فَلَا يَتَّجِه , وَسَيَأْتِي مَزِيد لِذَلِكَ فِي كِتَاب الطَّهَارَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. ‏ ‏وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمَل الْقَلِيلَة الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَاب عَلَى الْأَمْر بِقَوْلِهِ "" أَسْلِمْ "" وَالتَّرْغِيب بِقَوْلِهِ "" تَسْلَمْ وَيُؤْتِك "" وَالزَّجْر بِقَوْلِهِ "" فَإِنْ تَوَلَّيْت "" وَالتَّرْهِيب بِقَوْلِهِ "" فَإِنَّ عَلَيْك "" وَالدِّلَالَة بِقَوْلِهِ "" يَا أَهْل الْكِتَاب "" وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْبَلَاغَة مَا لَا يَخْفَى وَكَيْف لَا وَهُوَ كَلَام مَنْ أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ‏ ‏قَوْله : ( فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ ) ‏ ‏يُحْتَمَل أَنْ يُشِير بِذَلِكَ إِلَى الْأَسْئِلَة وَالْأَجْوِبَة , وَيُحْتَمَل أَنْ يُشِير بِذَلِكَ إِلَى الْقِصَّة الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن النَّاطُور بَعْد , وَالضَّمَائِر كُلّهَا تَعُود عَلَى هِرَقْل. وَالصَّخَب اللَّغَط , وَهُوَ اِخْتِلَاط الْأَصْوَات فِي الْمُخَاصَمَة , زَادَ فِي الْجِهَاد : فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا. ‏ ‏قَوْله : ( فَقُلْت لِأَصْحَابِي ) ‏ ‏زَادَ فِي الْجِهَاد : حِين خَلَوْت بِهِمْ. ‏ ‏قَوْله : ( أَمِرَ ) ‏ ‏هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم أَيْ : عَظُمَ , وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِير سُبْحَان. وَابْن أَبِي كَبْشَة أَرَادَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ أَبَا كَبْشَة أَحَد أَجْدَاده , وَعَادَة الْعَرَب إِذَا اِنْتَقَصَتْ نَسَبَتْ إِلَى جَدّ غَامِض , قَالَ أَبُو الْحَسَن النَّسَّابَة الْجُرْجَانِيّ : هُوَ جَدّ وَهْب جَدّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّهِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَر ; لِأَنَّ وَهْبًا جَدّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْم أُمّه عَاتِكَة بِنْت الْأَوْقَص بْن مُرَّة بْن هِلَال , وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ أَهْل النَّسَب إِنَّ الْأَوْقَص يُكَنَّى أَبَا كَبْشَة. وَقِيلَ هُوَ جَدّ عَبْد الْمُطَّلِب لِأُمِّهِ , وَفِيهِ نَظَر أَيْضًا ; لِأَنَّ أُمّ عَبْد الْمُطَّلِب سَلْمَى بِنْت عَمْرو بْن زَيْد الْخَزْرَجِيّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ أَهْل النَّسَب إِنَّ عَمْرو بْن زَيْد يُكَنَّى أَبَا كَبْشَة. وَلَكِنْ ذَكَرَ اِبْن حَبِيب فِي الْمُجْتَبَى جَمَاعَة مِنْ أَجْدَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَل أَبِيهِ وَمِنْ قِبَل أُمّه كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ يُكَنَّى أَبَا كَبْشَة , وَقِيلَ هُوَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَة وَاسْمه الْحَارِث بْن عَبْد الْعُزَّى قَالَهُ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ وَابْن مَاكُولَا , وَذَكَرَ يُونُس بْن بُكَيْر عَنْ اِبْن إِسْحَاق عَنْ أَبِيهِ عَنْ رِجَال مِنْ قَوْمه أَنَّهُ أَسْلَمَ وَكَانَتْ لَهُ بِنْت تُسَمَّى كَبْشَة يُكَنَّى بِهَا , وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَالْخَطَّابِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ : هُوَ رَجُل مِنْ خُزَاعَة خَالَفَ قُرَيْشًا فِي عِبَادَة الْأَوْثَان فَعَبَدَ الشِّعْرَى فَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي مُطْلَق الْمُخَالَفَة , وَكَذَا قَالَهُ الزُّبَيْر , قَالَ : وَاسْمه وَجْز بْن عَامِر بْن غَالِب. ‏ ‏قَوْله : ( إِنَّهُ يَخَافهُ ) ‏ ‏هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة اِسْتِئْنَافًا تَعْلِيلِيًّا لَا بِفَتْحِهَا وَلِثُبُوتِ اللَّام فِي "" لَيَخَافهُ "" فِي رِوَايَة أُخْرَى. ‏ ‏قَوْله : ( مَلِك بَنِي الْأَصْفَر ) ‏ ‏هُمْ الرُّوم , وَيُقَال إِنَّ جَدّهمْ رُوم بْن عِيص تَزَوَّجَ بِنْت مَلِك الْحَبَشَة فَجَاءَ لَوْن وَلَده بَيْن الْبَيَاض وَالسَّوَاد فَقِيلَ لَهُ الْأَصْفَر , حَكَاهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ. وَقَالَ اِبْن هِشَام فِي التِّيجَان : إِنَّمَا لُقِّبَ الْأَصْفَر ; لِأَنَّ جَدَّته سَارَة زَوْج إِبْرَاهِيم حَلَّتْهُ بِالذَّهَبِ. ‏ ‏قَوْله : ( فَمَا زِلْت مُوقِنًا ) ‏ ‏زَادَ فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ أَبِي سُفْيَان "" فَمَا زِلْت مَرْعُوبًا مِنْ مُحَمَّد حَتَّى أَسْلَمْت "" أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ. ‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى أَدْخَلَ اللَّه عَلَيَّ الْإِسْلَام ) ‏ ‏أَيْ : فَأَظْهَرْت ذَلِكَ الْيَقِين , وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ ذَلِكَ الْيَقِين اِرْتَفَعَ. ‏ ‏قَوْله : ( وَكَانَ اِبْن النَّاطُور ) ‏ ‏هُوَ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَة , وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَة , وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ حَارِس الْبُسْتَان. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَنْ يُونُس "" اِبْن نَاطُورَا "" بِزِيَادَةِ أَلِف فِي آخِره. فَعَلَى هَذَا هُوَ اِسْم أَعْجَمِيّ. ‏ ‏( تَنْبِيه ) : ‏ ‏الْوَاو فِي قَوْله "" وَكَانَ "" عَاطِفَة , وَالتَّقْدِير عَنْ الزُّهْرِيّ أَخْبَرَنِي عُبَيْد اللَّه فَذَكَرَ الْحَدِيث , ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيّ وَكَانَ اِبْن النَّاطُور يُحَدِّث فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّة فَهِيَ مَوْصُولَة إِلَى اِبْن النَّاطُور لَا مُعَلَّقَة كَمَا زَعَمَ بَعْض مَنْ لَا عِنَايَة لَهُ بِهَذَا الشَّأْن , وَكَذَلِكَ أَغْرَبَ بَعْض الْمَغَارِبَة فَزَعَمَ أَنَّ قِصَّة اِبْن النَّاطُور مَرْوِيَّة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور عَنْ أَبِي سُفْيَان عَنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا رَآهَا لَا تَصْرِيح فِيهَا بِالسَّمَاعِ حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ , وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو نُعَيْم فِي دَلَائِل النُّبُوَّة أَنَّ الزُّهْرِيّ قَالَ : لَقِيته بِدِمَشْق فِي زَمَن عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان. وَأَظُنّهُ لَمْ يَتَحَمَّل عَنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْد أَنْ أَسْلَمَ , وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كَانَ سُقُفًا لِيُنَبِّه عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَسْرَارهمْ عَالِمًا بِحَقَائِق أَخْبَارهمْ , وَكَأَنَّ الَّذِي جَزَمَ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه اِعْتَمَدَ عَلَى مَا وَقَعَ فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق فَإِنَّهُ قَدَّمَ قِصَّة اِبْن النَّاطُور هَذِهِ عَلَى حَدِيث أَبِي سُفْيَان , فَعِنْده عَنْ عُبَيْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ هِرَقْل أَصْبَحَ خَبِيث النَّفْس , فَذَكَرَ نَحْوه. وَجَزَمَ الْحُفَّاظ بِمَا ذَكَرْته أَوَّلًا , وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدّ فِيمَا وَقَعَ مِنْ الْإِدْرَاج أَوَّل الْخَبَر. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( صَاحِب إِيلِيَاء ) ‏ ‏أَيْ أَمِيرهَا , هُوَ مَنْصُوب عَلَى الِاخْتِصَاص أَوْ الْحَال , أَوْ مَرْفُوع عَلَى الصِّفَة , وَهِيَ رِوَايَة أَبِي ذَرّ , وَالْإِضَافَة الَّتِي فِيهِ تَقُوم مَقَام التَّعْرِيف. وَقَوْل مَنْ زَعَمَ أنَّهَا فِي تَقْدِير الِانْفِصَال فِي مَقَام الْمَنْع , وَهِرَقْل مَعْطُوف عَلَى إِيلِيَاء , وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الصُّحْبَة لَهُ إِمَّا بِمَعْنَى التَّبَع , وَإِمَّا بِمَعْنَى الصَّدَاقَة , وَفِيهِ اِسْتِعْمَال صَاحِب فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيّ وَحَقِيقِيّ ; لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيلِيَاء أَمِير وَذَاكَ مَجَاز , وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى هِرَقْل تَابِع وَذَلِكَ حَقِيقَة , قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : وَإِرَادَة الْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيّ وَالْمَجَازِيّ مِنْ لَفْظ وَاحِد جَائِز عِنْد الشَّافِعِيّ , وَعِنْد غَيْره مَحْمُول عَلَى إِرَادَة مَعْنًى شَامِل لَهُمَا وَهَذَا يُسَمَّى عُمُوم الْمَجَاز. وَقَوْله "" سُقُفًا "" بِضَمِّ السِّين وَالْقَاف كَذَا فِي رِوَايَة غَيْر أَبِي ذَرّ , وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ خَبَر كَانَ , وَ "" يُحَدِّث "" خَبَر بَعْد خَبَر. وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ سُقِّفَ بِكَسْرِ الْقَاف عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ وَالسَّرَخْسِيّ مِثْله لَكِنْ بِزِيَادَةِ أَلِف فِي أَوَّله , وَالْأُسْقُف وَالسُّقُف لَفْظ أَعْجَمِيّ وَمَعْنَاهُ رَئِيس دِين النَّصَارَى , وَقِيلَ عَرَبِيّ وَهُوَ الطَّوِيل فِي اِنْحِنَاء , وَقِيلَ ذَلِكَ لِلرَّئِيسِ لِأَنَّهُ يَتَخَاشَع , وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا نَظِير لَهُ فِي وَزْنه إِلَّا الْأُسْرُبُ وَهُوَ الرَّصَاص , لَكِنْ حَكَى اِبْن سِيده ثَالِثًا وَهُوَ الْأُسْكُفُ لِلصَّانِعِ , وَلَا يَرِد الْأُتْرُج لِأَنَّهُ جَمْع وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُفْرَد , وَعَلَى رِوَايَة أَبِي ذَرّ يَكُون الْخَبَر الْجُمْلَة الَّتِي هِيَ "" يُحَدِّث أَنَّ هِرَقْل "" , فَالْوَاو فِي قَوْله وَكَانَ عَاطِفَة وَالتَّقْدِير عَنْ الزُّهْرِيّ أَخْبَرَنِي عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه فَذَكَرَ حَدِيث أَبِي سُفْيَان بِطُولِهِ ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيّ : وَكَانَ اِبْن النَّاطُور يُحَدِّث. وَهَذَا صُورَة الْإِرْسَال. ‏ ‏قَوْله : ( حِين قَدِمَ إِيلِيَاء ) ‏ ‏يَعْنِي فِي هَذِهِ الْأَيَّام , وَهِيَ عِنْد غَلَبَة جُنُوده عَلَى جُنُود فَارِس وَإِخْرَاجهمْ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَة الَّتِي اِعْتَمَرَ فِيهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة , وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ نَصْرَة الرُّوم عَلَى فَارِس فَفَرِحُوا. وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره الْقِصَّة مُسْتَوْفَاة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَح الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه ) , وَفِي أَوَّل الْحَدِيث فِي الْجِهَاد عِنْد الْمُؤَلِّف الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ. ‏ ‏قَوْله : ( خَبِيث النَّفْس ) ‏ ‏أَيْ : رَدِيء النَّفْس غَيْر طَيِّبهَا , أَيْ : مَهْمُومًا. وَقَدْ تُسْتَعْمَل فِي كَسَل النَّفْس , وَفِي الصَّحِيح "" لَا يَقُولَنَّ أَحَدكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي "" كَأَنَّهُ كَرِهَ اللَّفْظ , وَالْمُرَاد بِالْخِطَابِ الْمُسْلِمُونَ , وَأَمَّا فِي حَقّ هِرَقْل فَغَيْر مُمْتَنِع. وَصَرَّحَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق بِقَوْلِهِمْ لَهُ "" لَقَدْ أَصْبَحْت مَهْمُومًا "". وَالْبَطَارِقَة جَمْع بِطْرِيق بِكَسْرِ أَوَّله وَهُمْ خَوَاصّ دَوْلَة الرُّوم. ‏ ‏قَوْله : ( حَزَّاء ) ‏ ‏بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيد الزَّاي آخِره هَمْزَة مُنَوَّنَة أَيْ : كَاهِنًا , يُقَال حَزَا بِالتَّخْفِيفِ يَحْزُو حَزْوًا أَيْ تَكَهَّنَ , وَقَوْله "" يَنْظُر فِي النُّجُوم "" إِنْ جَعَلْتهَا خَبَرًا ثَانِيًا صَحَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُر فِي الْأَمْرَيْنِ , وَإِنْ جَعَلْتهَا تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ فَالْكَهَانَة تَارَة تَسْتَنِد إِلَى إِلْقَاء الشَّيَاطِين وَتَارَة تُسْتَفَاد مِنْ أَحْكَام النُّجُوم , وَكَانَ كُلّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّة شَائِعًا ذَائِعًا , إِلَى أَنْ أَظْهَرَ اللَّه الْإِسْلَام فَانْكَسَرَتْ شَوْكَتهمْ وَأَنْكَرَ الشَّرْع الِاعْتِمَاد عَلَيْهِمْ , وَكَانَ مَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ هِرَقْل مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى حِسَاب الْمُنَجِّمِينَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَوْلِد النَّبَوِيّ كَانَ بِقِرَانِ الْعُلْوِيَّيْنِ بِبُرْجِ الْعَقْرَب , وَهُمَا يَقْتَرِنَانِ فِي كُلّ عِشْرِينَ سَنَة مَرَّة إِلَّا أَنْ تَسْتَوْفِيَ الْمُثَلَّثَة بُرُوجهَا فِي سِتِّينَ سَنَة , فَكَانَ اِبْتِدَاء الْعِشْرِينَ الْأُولَى الْمَوْلِد النَّبَوِيّ فِي الْقِرَان الْمَذْكُور , وَعِنْد تَمَام الْعِشْرِينَ الثَّانِيَة مَجِيء جِبْرِيل بِالْوَحْيِ , وَعِنْد تَمَام الثَّالِثَة فَتْح خَيْبَر وَعُمْرَة الْقَضِيَّة الَّتِي جَرَّتْ فَتْح مَكَّة وَظُهُور الْإِسْلَام , وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام رَأَى هِرَقْل مَا رَأَى. وَمِنْ جُمْلَة مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّ بُرْج الْعَقْرَب مَائِيّ وَهُوَ دَلِيل مُلْك الْقَوْم الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ , فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى اِنْتِقَال الْمُلْك إِلَى الْعَرَب , وَأَمَّا الْيَهُود فَلَيْسُوا مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ هَذَا لِمَنْ يُنْقَل إِلَيْهِ الْمُلْك لَا لِمَنْ اِنْقَضَى مُلْكه. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَاغَ لِلْبُخَارِيِّ إِيرَاد هَذَا الْخَبَر الْمُشْعِر بِتَقْوِيَةِ أَمْر الْمُنَجِّمِينَ وَالِاعْتِمَاد عَلَى مَا تَدُلّ عَلَيْهِ أَحْكَامهمْ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد ذَلِكَ , بَلْ قَصَدَ أَنْ يُبَيِّن أَنَّ الْإِشَارَات بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ مِنْ كُلّ طَرِيق وَعَلَى لِسَان كُلّ فَرِيق مِنْ كَاهِن أَوْ مُنَجِّم مُحِقّ أَوْ مُبْطِل إِنْسِيّ أَوْ جِنِّيّ , وَهَذَا مِنْ أَبْدَع مَا يُشِير إِلَيْهِ عَالِم أَوْ يَجْنَح إِلَيْهِ مُحْتَجّ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْحَزَّاء هُوَ الَّذِي يَنْظُر فِي الْأَعْضَاء وَفِي خَيَلَان الْوَجْه فَيَحْكُم عَلَى صَاحِبهَا بِطَرِيقِ الْفَرَاسَة. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَم مِنْهُ حَصْره فِي ذَلِكَ بَلْ اللَّائِق بِالسِّيَاقِ فِي حَقّ هِرَقْل مَا تَقَدَّمَ. ‏ ‏قَوْله : ( مُلْك الْخِتَان ) ‏ ‏بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان اللَّام , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر اللَّام. ‏ ‏قَوْله : ( قَدْ ظَهَرَ ) ‏ ‏أَيْ : غَلَبَ , يَعْنِي دَلَّهُ نَظَره فِي حُكْم النُّجُوم عَلَى أَنَّ مُلْك الْخِتَان قَدْ غَلَبَ , وَهُوَ كَمَا قَالَ ; لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام كَانَ اِبْتِدَاء ظُهُور النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَالَحَ كُفَّار مَكَّة بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا ) إِذْ فَتْح مَكَّة كَانَ سَبَبه نَقْض قُرَيْش الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَيْنهمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَمُقَدِّمَة الظُّهُور ظُهُور. ‏ ‏قَوْله : ( مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة ) ‏ ‏أَيْ : مِنْ أَهْل هَذَا الْعَصْر , وَإِطْلَاق الْأُمَّة عَلَى أَهْل الْعَصْر كُلّهمْ فِيهِ تَجَوُّز , وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله بَعْد هَذَا مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ ظَهَرَ , فَإِنَّ مُرَاده بِهِ الْعَرَب خَاصَّة , وَالْحَصْر فِي قَوْلهمْ إِلَّا الْيَهُود هُوَ بِمُقْتَضَى عِلْمهمْ ; لِأَنَّ الْيَهُود كَانُوا بِإِيلِيَاء وَهِيَ بَيْت الْمَقْدِس كَثِيرِينَ تَحْت الذِّلَّة مَعَ الرُّوم , بِخِلَافِ الْعَرَب فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ تَحْت طَاعَة مَلِك الرُّوم كَآلِ غَسَّان لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُلُوكًا بِرَأْسِهِمْ. ‏ ‏قَوْله : ( فَلَا يُهِمَّنَّك ) ‏ ‏بِضَمِّ أَوَّله , مِنْ أَهَمَّ : أَثَارَ الْهَمّ. وَقَوْله "" شَأْنهمْ "" أَيْ : أَمْرهمْ. وَ "" مَدَائِن "" جَمْع مَدِينَة قَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : مَنْ جَعَلَهُ فَعِيلَة مِنْ قَوْلك مَدَن بِالْمَكَانِ أَيْ : أَقَامَ بِهِ هَمَزَهُ كَقَبَائِل , وَمَنْ جَعَلَهُ مُفْعِلَة مِنْ قَوْلك دِينَ أَيْ : مُلِكَ لَمْ يَهْمِز كَمَعَايِش. اِنْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعَايِش هُوَ الْمَشْهُور , وَقَدْ رَوَى خَارِجَة عَنْ نَافِع الْقَارِي الْهَمْز فِي مَعَايِش , وَقَالَ الْقَزَّاز : مَنْ هَمَزَهَا تَوَهَّمَهَا مِنْ فَعِيلَة لِشَبَهِهَا بِهَا فِي اللَّفْظ. اِنْتَهَى. ‏ ‏قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرهمْ ) ‏ ‏أَيْ : فِي هَذِهِ الْمَشُورَة. ‏ ‏قَوْله : ( أُتِيَ هِرَقْل بِرَجُلٍ ) ‏ ‏لَمْ يَذْكُر مَنْ أَحْضَرَهُ. وَمَلِك غَسَّان هُوَ صَاحِب بُصْرَى الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْره , وَأَشَرْنَا إِلَى أَنَّ اِبْن السَّكَن رَوَى أَنَّهُ أَرْسَلَ مِنْ عِنْده عَدِيّ بْن حَاتِم , فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ الْمَذْكُور وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( عَنْ خَبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏ ‏فَسَّرَ ذَلِكَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته فَقَالَ : خَرَجَ مِنْ بَيْن أَظْهُرنَا رَجُل يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ , فَقَدْ اِتَّبَعَهُ نَاس , وَخَالَفَهُ نَاس , فَكَانَتْ بَيْنهمْ مَلَاحِم فِي مَوَاطِن , فَتَرَكَهُمْ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَبَيَّنَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيث الْبَاب لِأَنَّهُ يُوهِم أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِل مَا ظَهَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَة أَنَّهُ قَالَ : جَرِّدُوهُ , فَإِذَا هُوَ مُخْتَتِن , فَقَالَ : هَذَا وَاَللَّه الَّذِي رَأَيْته , أَعْطِهِ ثَوْبه. ‏ ‏قَوْله : ( هُمْ يَخْتَتِنُونَ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ "" هُمْ مُخْتَتِنُونَ "" بِالْمِيمِ وَالْأَوَّل أَفْيَد وَأَشْمَل. ‏ ‏قَوْله : ( هَذَا مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ ظَهَرَ ) ‏ ‏كَذَا لِأَكْثَر الرُّوَاة بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُون , وَلِلْقَابِسِيّ بِالْفَتْحِ ثُمَّ الْكَسْر , وَلِأُبَيّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيّ وَحْده يَمْلِك فِعْل مُضَارِع , قَالَ الْقَاضِي : أَظُنّهَا ضَمَّة الْمِيم اِتَّصَلَتْ بِهَا فَتَصَحَّفَتْ , وَوَجَّهَهُ السُّهَيْلِيّ فِي أَمَالِيهِ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَر , أَيْ هَذَا الْمَذْكُور يَمْلِك هَذِهِ الْأُمَّة. وَقِيلَ يَجُوز أَنْ يَكُون يَمْلِك نَعْتًا , أَيْ هَذَا رَجُل يَمْلِك هَذِهِ الْأُمَّة. وَقَالَ شَيْخنَا : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَحْذُوف هُوَ الْمَوْصُول عَلَى رَأْي الْكُوفِيِّينَ , أَيْ هَذَا الَّذِي يَمْلِك , وَهُوَ نَظِير قَوْله "" وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيق "". عَلَى أَنَّ الْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ اِسْتِعْمَال اِسْم الْإِشَارَة بِمَعْنَى الِاسْم الْمَوْصُول , فَيَكُون التَّقْدِير الَّذِي يَمْلِك , مِنْ غَيْر حَذْف , قُلْت : لَكِنَّ اِتِّفَاق الرُّوَاة عَلَى حَذْف الْيَاء فِي أَوَّله دَالّ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي فَيَكُون شَاذًّا. عَلَى أَنَّنِي رَأَيْت فِي أَصْل مُعْتَمَد وَعَلَيْهِ عَلَامَة السَّرَخْسِيّ بِبَاءٍ مُوَحَّدَة فِي أَوَّله , وَتَوْجِيههَا أَقْرَب مِنْ تَوْجِيه الْأَوَّل ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُون الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَظَره فِي حُكْم النُّجُوم , وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِظَهَرَ , أَيْ : هَذَا الْحُكْم ظَهَرَ بِمُلْكِ هَذِهِ الْأُمَّة الَّتِي تَخْتَتِن. ‏ ‏قَوْله : ( بِرُومِيَةَ ) ‏ ‏بِالتَّخْفِيفِ , وَهِيَ مَدِينَة مَعْرُوفَة لِلرُّومِ. وَحِمْص مَجْرُور بِالْفَتْحَةِ مُنِعَ صَرْفه لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيث. وَيُحْتَمَل أَنْ يَجُوز صَرْفه ‏ ‏قَوْله : ( فَلَمْ يَرِمْ ) ‏ ‏بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الرَّاء أَيْ : لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانه , هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف , وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : لَمْ يَصِلْ إِلَى حِمْص وَزَيَّفُوهُ. ‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى أَتَاهُ كِتَاب مِنْ صَاحِبه ) ‏ ‏وَفِي حَدِيث دِحْيَة الَّذِي أَشَرْت إِلَيْهِ قَالَ : فَلَمَّا خَرَجُوا أَدْخَلَنِي عَلَيْهِ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ الْأُسْقُف وَهُوَ صَاحِب أَمْرهمْ فَقَالَ : هَذَا الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِر , وَبَشَّرَنَا بِهِ عِيسَى , أَمَّا أَنَا فَمُصَدِّقه وَمُتَّبِعه. فَقَالَ لَهُ قَيْصَر : أَمَّا أَنَا إِنْ فَعَلْت ذَلِكَ ذَهَبَ مُلْكِي , فَذَكَرَ الْقِصَّة , وَفِي آخِره : فَقَالَ لِي الْأُسْقُف : خُذْ هَذَا الْكِتَاب وَاذْهَبْ إِلَى صَاحِبك فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَخْبِرْهُ أَنِّي أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَأَنِّي قَدْ آمَنْت بِهِ وَصَدَّقْته , وَأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا عَلَيَّ ذَلِكَ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ. وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّ هِرَقْل أَرْسَلَ دِحْيَة إِلَى ضُغَاطِر الرُّومِيّ وَقَالَ : إِنَّهُ فِي الرُّوم أَجْوَز قَوْلًا مِنِّي , وَإِنَّ ضُغَاطِر الْمَذْكُور أَظْهَرَ إِسْلَامه وَأَلْقَى ثِيَابه الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابًا بِيضًا وَخَرَجَ عَلَى الرُّوم فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَشَهِدَ شَهَادَة الْحَقّ , فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ دِحْيَة إِلَى هِرَقْل قَالَ لَهُ : قَدْ قُلْت لَك إِنَّا نَخَافهُمْ عَلَى أَنْفُسنَا , فَضُغَاطِر كَانَ أَعْظَم عِنْدهمْ مِنِّي. قُلْت : فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ صَاحِب رُومِيَة الَّذِي أُبْهِمَ هُنَا , لَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ مَا قِيلَ إِنَّ دِحْيَة لَمْ يَقْدَم عَلَى هِرَقْل بِهَذَا الْكِتَاب الْمَكْتُوب فِي سَنَة الْحُدَيْبِيَة , وَإِنَّمَا قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوب فِي غَزْوَة تَبُوك , فَالرَّاجِح أَنَّ دِحْيَة قَدِمَ عَلَى هِرَقْل أَيْضًا فِي الْأُولَى , فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَل أَنْ تَكُون وَقَعَتْ لِكُلٍّ مِنْ الْأُسْقُف وَمِنْ ضُغَاطِر قِصَّة قُتِلَ كُلّ مِنْهُمَا بِسَبَبِهَا , أَوْ وَقَعَتْ لِضُغَاطِر قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن النَّاطُور وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَا أَنَّهُ قُتِلَ , وَالثَّانِيَة الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن إِسْحَاق فَإِنَّ فِيهَا قِصَّته مَعَ دِحْيَة وَأَنَّهُ أَسْلَمَ وَقُتِلَ. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( وَسَارَ هِرَقْل إِلَى حِمْص ) ‏ ‏لِأَنَّهَا كَانَتْ دَار مُلْكه كَمَا قَدَّمْنَاهُ , وَكَانَتْ فِي زَمَانهمْ أَعْظَم مِنْ دِمَشْق. وَكَانَ فَتْحهَا عَلَى يَد أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح سَنَة سِتّ عَشْرَة بَعْد هَذِهِ الْقِصَّة بِعَشْرِ سِنِينَ. ‏ ‏قَوْله : ( وَأَنَّهُ نَبِيّ ) ‏ ‏يَدُلّ عَلَى أَنَّ هِرَقْل وَصَاحِبه أَقَرَّا بِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّ هِرَقْل كَمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ صَاحِبه. ‏ ‏قَوْله : ( فَأَذِنَ ) ‏ ‏هِيَ بِالْقَصْرِ مِنْ الْإِذْن , وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ وَغَيْره بِالْمَدِّ وَمَعْنَاهُ أَعْلَمَ. وَ "" الدَّسْكَرَة "" بِسُكُونِ السِّين الْمُهْمَلَة الْقَصْر الَّذِي حَوْله بُيُوت , وَكَأَنَّهُ دَخَلَ الْقَصْر ثُمَّ أَغْلَقَهُ وَفَتَحَ أَبْوَاب الْبُيُوت الَّتِي حَوْله وَأَذِنَ لِلرُّومِ فِي دُخُولهَا ثُمَّ أَغْلَقَهَا ثُمَّ اِطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَخَاطَبَهُمْ , وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَشْيَة أَنْ يَثِبُوا بِهِ كَمَا وَثَبُوا بِضُغَاطِر. ‏ ‏قَوْله : ( وَالرَّشَد ) ‏ ‏بِفَتْحَتَيْنِ ( وَأَنْ يَثْبُت مُلْككُمْ ) لِأَنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى الْكُفْر كَانَ سَبَبًا لِذَهَابِ مُلْكهمْ , كَمَا عَرِفَ هُوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَار السَّابِقَة. ‏ ‏قَوْله : ( فَتُبَايِعُوا ) ‏ ‏بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَة , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ بِمُثَنَّاتَيْنِ وَمُوَحَّدَة , وَلِلْأَصِيلِيِّ "" فَنُبَايِع "" بِنُونٍ وَمُوَحَّدَة ( لِهَذَا النَّبِيّ ) كَذَا لِأَبِي ذَرّ وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ اللَّام. ‏ ‏قَوْله : ( فَحَاصُوا ) ‏ ‏بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ : نَفَرُوا , وَشَبَّهَهُمْ بِالْوُحُوشِ لِأَنَّ نَفْرَتهَا أَشَدّ مِنْ نَفْرَة الْبَهَائِم الْإِنْسِيَّة , وَشَبَّهَهُمْ بِالْحُمْرِ دُون غَيْرهَا مِنْ الْوُحُوش لِمُنَاسَبَةِ الْجَهْل وَعَدَم الْفِطْنَة بَلْ هُمْ أَضَلّ. ‏ ‏قَوْله : ( وَأَيِسَ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ وَالْأَصِيلِيّ "" وَيَئِسَ "" بِيَائَيْنِ تَحْتَانِيَّتَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنَى قَنَطَ وَالْأَوَّل مَقْلُوب مِنْ الثَّانِي. ‏ ‏قَوْله : ( مِنْ الْإِيمَان ) ‏ ‏أَيْ : مِنْ إِيمَانهمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ , وَمِنْ إِيمَانه لِأَنَّهُ شَحَّ بِمُلْكِهِ كَمَا قَدَّمْنَا , وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يُطِيعُوهُ فَيَسْتَمِرّ مُلْكه وَيَسْلَم وَيَسْلَمُوا بِإِسْلَامِهِمْ , فَمَا أَيِسَ مِنْ الْإِيمَان إِلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي أَرَادَهُ , وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفِرّ عَنْهُمْ وَيَتْرُك مُلْكه رَغْبَة فِيمَا عِنْد اللَّه وَاَللَّه الْمُوَفِّق. ‏ ‏قَوْله : ( آنِفًا ) ‏ ‏أَيْ : قَرِيبًا , وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال. ‏ ‏قَوْله : ( فَقَدْ رَأَيْت ) ‏ ‏زَادَ فِي التَّفْسِير : فَقَدْ رَأَيْت مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْت. ‏ ‏قَوْله : ( فَكَانَ ذَلِكَ آخِر شَأْن هِرَقْل ) ‏ ‏أَيْ : فِيمَا يَتَعَلَّق بِهَذِهِ الْقِصَّة الْمُتَعَلِّقَة بِدُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَان خَاصَّة ; لِأَنَّهُ اِنْقَضَى أَمْره حِينَئِذٍ وَمَاتَ , أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْآخِرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي عِلْمه , وَهَذَا أَوْجَه ; لِأَنَّ هِرَقْل وَقَعَتْ لَهُ قَصَص أُخْرَى بَعْد ذَلِكَ , مِنْهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَجْهِيزه الْجُيُوش إِلَى مُؤْتَة وَمِنْ تَجْهِيزه الْجُيُوش أَيْضًا إِلَى تَبُوك , وَمُكَاتَبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَانِيًا , وَإِرْسَاله إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَهَبٍ فَقَسَّمَهُ بَيْن أَصْحَابه كَمَا فِي رِوَايَة اِبْن حِبَّانَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا قَبْل وَأَبِي عُبَيْد , وَفِي الْمُسْنَد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل قَالَ : قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوك فَبَعَثَ دِحْيَة إِلَى هِرَقْل فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَاب دَعَا قِسِّيسِي الرُّوم وَبَطَارِقَتِهَا , فَذَكَرَ الْحَدِيث , قَالَ فَتَحَيَّرُوا حَتَّى أَنَّ بَعْضهمْ خَرَجَ مِنْ بُرْنُسه , فَقَالَ : اُسْكُتُوا , فَإِنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَعْلَمَ تَمَسُّككُمْ بِدِينِكُمْ. وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق عَنْ خَالِد بْن بَشَّار عَنْ رَجُل مِنْ قُدَمَاء الشَّام أَنَّ هِرَقْل لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج مِنْ الشَّام إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة عَرَضَ عَلَى الرُّوم أُمُورًا : إِمَّا الْإِسْلَام وَإِمَّا الْجِزْيَة , وَإِمَّا أَنْ يُصَالِح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَبْقَى لَهُمْ مَا دُون الدَّرْب , فَأَبَوْا , وَأَنَّهُ اِنْطَلَقَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْب اِسْتَقْبَلَ أَرْض الشَّام ثُمَّ قَالَ : السَّلَام عَلَيْك أَرْض سُورِيَّة - يَعْنِي الشَّام - تَسْلِيم الْمُوَدِّع , ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّة. وَاخْتَلَفَ الْأَخْبَارِيُّونَ هَلْ هُوَ الَّذِي حَارَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَن أَبِي بَكْر وَعُمَر أَوْ اِبْنه , وَالْأَظْهَر أَنَّهُ هُوَ. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏( تَنْبِيه ) ‏ ‏لَمَّا كَانَ أَمْر هِرَقْل فِي الْإِيمَان عِنْد كَثِير مِنْ النَّاس مُسْتَبْهَمًا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَدَم تَصْرِيحه بِالْإِيمَانِ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسه مِنْ الْقَتْل , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون اِسْتَمَرَّ عَلَى الشَّكّ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا , وَقَالَ الرَّاوِي فِي آخِر الْقِصَّة فَكَانَ ذَلِكَ آخِر شَأْن هِرَقْل , خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيّ هَذَا الْبَاب الَّذِي اِسْتَفْتَحَهُ بِحَدِيثِ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ صَدَقَتْ نِيَّته اِنْتَفَعَ بِهَا فِي الْجُمْلَة , وَإِلَّا فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَة إِيرَاد قِصَّة اِبْن النَّاطُور فِي بَدْء الْوَحْي لِمُنَاسَبَتِهَا حَدِيث الْأَعْمَال الْمُصَدَّر الْبَاب بِهِ. وَيُؤْخَذ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ آخِر لَفْظ فِي الْقِصَّة بَرَاعَة الِاخْتِتَام , وَهُوَ وَاضِح مِمَّا قَرَّرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ : مَا مُنَاسَبَة حَدِيث أَبِي سُفْيَان فِي قِصَّة هِرَقْل بِبَدْءِ الْوَحْي ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ كَيْفِيَّة حَال النَّاس مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاء ; وَلِأَنَّ الْآيَة الْمَكْتُوبَة إِلَى هِرَقْل لِلدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام مُلْتَئِمَة مَعَ الْآيَة الَّتِي فِي التَّرْجَمَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ ) الْآيَة. وَقَالَ تَعَالَى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) الْآيَة , فَبَانَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ كُلّهمْ أَنْ أَقِيمُوا الدِّين , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ( سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُمْ ) الْآيَة. ‏ ‏( تَكْمِيل ) ‏ ‏ذَكَرَ السُّهَيْلِيّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ هِرَقْل وَضَعَ الْكِتَاب فِي قَصَبَة مِنْ ذَهَب تَعْظِيمًا لَهُ , وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتَوَارَثُونَهُ حَتَّى كَانَ عِنْد مَلِك الْفِرِنْج الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طُلَيْطُلَة , ثُمَّ كَانَ عِنْد سَبْطه , فَحَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا أَنَّ عَبْد الْمَلِك بْن سَعْد أَحَد قُوَّاد الْمُسْلِمِينَ اِجْتَمَعَ بِذَلِكَ الْمَلِك فَأَخْرَجَ لَهُ الْكِتَاب , فَلَمَّا رَآهُ اِسْتَعْبَرَ وَسَأَلَ أَنْ يُمَكِّنهُ مِنْ تَقْبِيله , فَامْتَنَعَ. قُلْت : وَأَنْبَأَنِي غَيْر وَاحِد عَنْ الْقَاضِي نُور الدِّين بْن الصَّائِغ الدِّمَشْقِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي سَيْف الدِّين فُلَيْح الْمَنْصُورِيّ قَالَ : أَرْسَلَنِي الْمَلِك الْمَنْصُور قَلَاوُون إِلَى مَلِك الْغَرْب بِهَدِيَّةٍ , فَأَرْسَلَنِي مَلِك الْغَرْب إِلَى مَلِك الْفِرِنْج فِي شَفَاعَة فَقَبِلَهَا , وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَة عِنْده فَامْتَنَعْت , فَقَالَ لِي : لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سُنِّيَّة , فَأَخْرَجَ لِي صُنْدُوقًا مُصَفَّحًا بِذَهَبٍ , فَأَخْرَجَ مِنْهُ مِقْلَمَة ذَهَب , فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَتْ أَكْثَر حُرُوفه وَقَدْ اِلْتَصَقَتْ عَلَيْهِ خِرْقَة حَرِير فَقَالَ : هَذَا كِتَاب نَبِيّكُمْ إِلَى جَدِّي قَيْصَر , مَا زِلْنَا نَتَوَارَثهُ إِلَى الْآن , وَأَوْصَانَا آبَاؤُنَا أَنَّهُ مَا دَامَ هَذَا الْكِتَاب عِنْدنَا لَا يَزَال الْمُلْك فِينَا , فَنَحْنُ نَحْفَظهُ غَايَة الْحِفْظ وَنُعَظِّمهُ وَنَكْتُمهُ عَنْ النَّصَارَى لِيَدُومَ الْمُلْك فِينَا. اِنْتَهَى. وَيُؤَيِّد هَذَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيث سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد الَّذِي أَشَرْت إِلَيْهِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل الْإِسْلَام فَامْتَنَعَ , فَقَالَ لَهُ : يَا أَخَا تَنُوخ إِنِّي كَتَبْت إِلَى مَلِككُمْ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا , فَلَنْ يَزَال النَّاس يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْش خَيْر. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال مِنْ مُرْسَل عُمَيْر بْن إِسْحَاق قَالَ : كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَر , فَأَمَّا كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب مَزَّقَهُ , وَأَمَّا قَيْصَر فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب طَوَاهُ ثُمَّ رَفَعَهُ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُمَزَّقُونَ , وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَسَتَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّة , وَيُؤَيِّدهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ جَوَاب كِسْرَى قَالَ : مَزَّقَ اللَّه مُلْكه. وَلَمَّا جَاءَهُ جَوَاب هِرَقْل قَالَ : ثَبَّتَ اللَّه مُلْكه. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( رَوَاهُ صَالِح بْن كَيْسَانَ وَيُونُس وَمَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ ) ‏ ‏قَالَ الْكَرْمَانِيُّ يَحْتَمِل ذَلِكَ وَجْهَيْنِ : أَنْ يَرْوِيَ الْبُخَارِيّ عَنْ الثَّلَاثَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور كَأَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان أَخْبَرَنَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَنْ الزُّهْرِيّ , وَأَنْ يَرْوِي عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَر. كَمَا أَنَّ الزُّهْرِيّ يَحْتَمِل أَيْضًا فِي رِوَايَة الثَّلَاثَة أَنْ يَرْوِي لَهُمْ عَنْ عُبَيْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَنْ يَرْوِي لَهُمْ عَنْ غَيْره. هَذَا مَا يَحْتَمِل اللَّفْظ , وَإِنْ كَانَ الظَّاهِر الِاتِّحَاد. قُلْت : هَذَا الظَّاهِر كَافٍ لِمَنْ شَمَّ أَدْنَى رَائِحَة مِنْ عِلْم الْإِسْنَاد. وَالِاحْتِمَالَات الْعَقْلِيَّة الْمُجَرَّدَة لَا مَدْخَل لَهَا فِي هَذَا الْفَنّ , وَأَمَّا الِاحْتِمَال الْأَوَّل فَأَشَدّ بُعْدًا ; لِأَنَّ أَبَا الْيَمَان لَمْ يَلْحَق صَالِح بْن كَيْسَانَ وَلَا سَمِعَ مِنْ يُونُس , وَهَذَا أَمْر يَتَعَلَّق بِالنَّقْلِ الْمَحْض فَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَا عَدَاهُ , وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّقْل لَاطَّلَعَ عَلَى كَيْفِيَّة رِوَايَة الثَّلَاثَة لِهَذَا الْحَدِيث بِخُصُوصِهِ فَاسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا التَّرَدُّد , وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي تَعْلِيق التَّعْلِيق وَأُشِير هُنَا إِلَيْهِ إِشَارَة مُفْهِمَة : فَرِوَايَة صَالِح وَهُوَ اِبْن كَيْسَانَ أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّف فِي كِتَاب الْجِهَاد بِتَمَامِهَا مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ صَالِح بْن كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَفِيهَا مِنْ الْفَوَائِد الزَّوَائِد مَا أَشَرْت إِلَيْهِ فِي أَثْنَاء الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث مِنْ قَبْل ; وَلَكِنَّهُ اِنْتَهَى حَدِيثه عِنْد قَوْل أَبِي سُفْيَان "" حَتَّى أَدْخَلَ اللَّه عَلَيَّ الْإِسْلَام "" زَادَ هُنَا "" وَأَنَا كَارِه "" وَلَمْ يَذْكُر قِصَّة اِبْن النَّاطُور. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِدُونِهَا مِنْ حَدِيث إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور , وَرِوَايَة يُونُس أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد مُخْتَصَرَة مِنْ طَرِيق اللَّيْث , وَفِي الِاسْتِئْذَان مُخْتَصَرَة أَيْضًا مِنْ طَرِيق اِبْن الْمُبَارَك كِلَاهُمَا عَنْ يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ بِسَنَدِهِ بِعَيْنِهِ , وَلَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ , وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ الطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن صَالِح عَنْ اللَّيْث , وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّة اِبْن النَّاطُور , وَرِوَايَة مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ كَذَلِكَ سَاقَهَا الْمُؤَلِّف بِتَمَامِهَا فِي التَّفْسِير , وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْض فَوَائِد زَائِدَة فِيمَا مَضَى أَيْضًا , وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ قِصَّة اِبْن النَّاطُور قِطْعَة مُخْتَصَرَة عَنْ الزُّهْرِيّ مُرْسَلَة. فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ أَبَا الْيَمَان مَا رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ وَاحِد مِنْ الثَّلَاثَة , وَأَنَّ الزُّهْرِيّ إِنَّمَا رَوَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِسَنَدٍ وَاحِد عَنْ شَيْخ وَاحِد وَهُوَ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه , وَأَنَّ أَحَادِيث الثَّلَاثَة عِنْد الْمُصَنِّف عَنْ غَيْر أَبِي الْيَمَان , وَلَوْ احْتَمَلَ أَنْ يَرْوِيه لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ عَنْ شَيْخ آخَر لَكَانَ ذَلِكَ اِخْتِلَافًا قَدْ يُفْضِي إِلَى الِاضْطِرَاب الْمُوجِب لِلضَّعْفِ , فَلَاحَ فَسَاد ذَلِكَ الِاحْتِمَال , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْمُوَفِّق وَالْهَادِي إِلَى الصَّوَاب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ. ‏



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!