المكتبة الأكبرية: موسوعة الحديث الشريف: (صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (23)]
(صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (23)]
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ
قَوْله : ( حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن يُوسُف ) هُوَ التِّنِّيسِيّ نَزِيل دِمَشْق , وَرِجَال الْإِسْنَاد سِوَاهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة. قَوْله : ( أَخْبَرَنَا ) وَلِلْأَصِيلِيِّ حَدَّثَنَا مَالِك , وَلِكَرِيمَة بْن أَنَس , وَالْحَدِيث فِي الْمُوَطَّأ. قَوْله : ( عَنْ أَبِيهِ ) هُوَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب. قَوْله : ( مَرَّ عَلَى رَجُل ) لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق مَعْمَر "" مَرَّ بِرَجُلٍ "" وَمَرَّ بِمَعْنَى اِجْتَازَ يُعَدَّى بِعَلَى وَبِالْبَاءِ , وَلَمْ أَعْرِفْ اِسْم هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْوَاعِظ وَأَخِيهِ. وَقَوْله "" يَعِظ "" أَيْ يَنْصَح أَوْ يُخَوِّف أَوْ يُذَكِّر , كَذَا شَرَحُوهُ , وَالْأَوْلَى أَنْ يُشْرَح بِمَا جَاءَ عِنْد الْمُصَنِّف فِي الْأَدَب مِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة عَنْ اِبْن شِهَاب وَلَفْظه "" يُعَاتِب أَخَاهُ فِي الْحَيَاء "" يَقُول : إِنَّك لَتَسْتَحِي , حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُول : قَدْ أَضَرَّ بِك. اِنْتَهَى. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون جَمَعَ لَهُ الْعِتَاب وَالْوَعْظ فَذَكَرَ بَعْض الرُّوَاة مَا لَمْ يَذْكُرهُ الْآخَر , لَكِنَّ الْمَخْرَج مُتَّحِد , فَالظَّاهِر أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّف الرَّاوِي بِحَسَبِ مَا اِعْتَقَدَ أَنَّ كُلّ لَفْظ مِنْهُمَا يَقُوم مَقَام الْآخَر , وَ "" فِي "" سَبَبِيَّة فَكَأَنَّ الرَّجُل كَانَ كَثِير الْحَيَاء فَكَانَ ذَلِكَ يَمْنَعهُ مِنْ اِسْتِيفَاء حُقُوقه , فَعَاتَبَهُ أَخُوهُ عَلَى ذَلِكَ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "" دَعْهُ "" أَيْ : اُتْرُكْهُ عَلَى هَذَا الْخُلُق السُّنِّيّ , ثُمَّ زَادَهُ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِحُكْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْإِيمَان , وَإِذَا كَانَ الْحَيَاء يَمْنَع صَاحِبه مِنْ اِسْتِيفَاء حَقّ نَفْسه جَرَّ لَهُ ذَلِكَ تَحْصِيل أَجْر ذَلِكَ الْحَقّ , لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَتْرُوك لَهُ مُسْتَحِقًّا. وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاء يَمْنَع صَاحِبه مِنْ اِرْتِكَاب الْمَعَاصِي كَمَا يَمْنَع الْإِيمَان , فَسُمِّيَ إِيمَانًا كَمَا يُسَمَّى الشَّيْء بِاسْمِ مَا قَامَ مَقَامه. وَحَاصِله أَنَّ إِطْلَاق كَوْنه مِنْ الْإِيمَان مَجَاز , وَالظَّاهِر أَنَّ النَّاهِيَ مَا كَانَ يَعْرِف أَنَّ الْحَيَاء مِنْ مُكَمِّلَات الْإِيمَان , فَلِهَذَا وَقَعَ التَّأْكِيد , وَقَدْ يَكُون التَّأْكِيد مِنْ جِهَة أَنَّ الْقَضِيَّة فِي نَفْسهَا مِمَّا يُهْتَمّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْكَر. قَالَ الرَّاغِب : الْحَيَاء اِنْقِبَاض النَّفْس عَنْ الْقَبِيح , وَهُوَ مِنْ خَصَائِص الْإِنْسَان لِيَرْتَدِع عَنْ اِرْتِكَاب كُلّ مَا يَشْتَهِي فَلَا يَكُون كَالْبَهِيمَةِ. وَهُوَ مُرَكَّب مِنْ جُبْن وَعِفَّة فَلِذَلِكَ لَا يَكُون الْمُسْتَحِي فَاسِقًا , وَقَلَّمَا يَكُون الشُّجَاع مُسْتَحِيًا , وَقَدْ يَكُون لِمُطْلَقِ الِانْقِبَاض كَمَا فِي بَعْض الصِّبْيَانِ. اِنْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ غَيْره : هُوَ اِنْقِبَاض النَّفْس خَشْيَة اِرْتِكَاب مَا يُكْرَه , أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا , وَمُقَابِل الْأَوَّل فَاسِق وَالثَّانِي مَجْنُون وَالثَّالِث أَبْلَه. قَالَ : وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "" الْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان أَيْ : أَثَر مِنْ آثَار الْإِيمَان , وَقَالَ الْحَلِيمِيّ : حَقِيقَة الْحَيَاء خَوْف الذَّمّ بِنِسْبَةِ الشَّرّ إِلَيْهِ , وَقَالَ غَيْره : إِنْ كَانَ فِي مُحَرَّم فَهُوَ وَاجِب , وَإِنْ كَانَ فِي مَكْرُوه فَهُوَ مَنْدُوب , وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاح فَهُوَ الْعُرْفِيّ , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ "" الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ "". وَيَجْمَع كُلّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَع عَلَى وَفْق الشَّرْع إِثْبَاتًا وَنَفْيًا , وَحُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف : رَأَيْت الْمَعَاصِيَ مَذَلَّة , فَتَرَكْتهَا مُرُوءَة , فَصَارَتْ دِيَانَة. وَقَدْ يَتَوَلَّد الْحَيَاء مِنْ اللَّه تَعَالَى مِنْ التَّقَلُّب فِي نِعَمِهِ فَيَسْتَحِي الْعَاقِل أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَته , وَقَدْ قَالَ بَعْض السَّلَف : خَفْ اللَّه عَلَى قَدْر قُدْرَته عَلَيْك. وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْر قُرْبه مِنْك. وَاَللَّه أَعْلَم.