موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: موسوعة الحديث الشريف: (صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (17)]

البخاري
مسلم
أبو داود
الترمذي
النسائي
ابن ماجة
الدارمي
الموطأ
المسند

(صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (17)]

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو الْيَمَانِ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنَا ‏ ‏شُعَيْبٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏أَنَّ ‏ ‏عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏ ‏وَكَانَ شَهِدَ ‏ ‏بَدْرًا ‏ ‏وَهُوَ أَحَدُ ‏ ‏النُّقَبَاءِ ‏ ‏لَيْلَةَ ‏ ‏الْعَقَبَةِ ‏ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ وَحَوْلَهُ ‏ ‏عِصَابَةٌ ‏ ‏مِنْ أَصْحَابِهِ ‏ ‏بَايِعُونِي ‏ ‏عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا ‏ ‏بِبُهْتَانٍ ‏ ‏تَفْتَرُونَهُ ‏ ‏بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ ‏ ‏أَصَابَ ‏ ‏مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك ‏


‏ ‏قَوْله : ( عَائِذ اللَّه ) ‏ ‏هُوَ اِسْم عَلَم أَيْ : ذُو عِيَاذَة بِاَللَّهِ , وَأَبُوهُ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو الْخَوْلَانِيّ صَحَابِيّ , وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَة تَابِعِيّ كَبِير , وَقَدْ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَة لِأَنَّ لَهُ رُؤْيَة , وَكَانَ مَوْلِده عَام حُنَيْنٍ. وَالْإِسْنَاد كُلّه شَامِيُّونَ ‏ ‏قَوْله : ( وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا ) ‏ ‏يَعْنِي حَضَرَ الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة الْكَائِنَة بِالْمَكَانِ الْمَعْرُوف بِبَدْرٍ , وَهِيَ أَوَّل وَقْعَة قَاتَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ , وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا فِي الْمَغَازِي. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَبُو إِدْرِيس , فَيَكُون مُتَّصِلًا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عُبَادَةَ , أَوْ الزُّهْرِيّ فَيَكُون مُنْقَطِعًا. وَكَذَا قَوْله "" وَهُوَ أَحَد النُّقَبَاء "". ‏ ‏قَوْله : ( أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏ ‏سَقَطَ قَبْلهَا مِنْ أَصْل الرِّوَايَة لَفْظ "" قَالَ "" وَهُوَ خَبَر أَنَّ ; لِأَنَّ قَوْله "" وَكَانَ "" وَمَا بَعْدهَا مُعْتَرِض , وَقَدْ جَرَتْ عَادَة كَثِير مِنْ أَهْل الْحَدِيث بِحَذْفِ قَالَ خَطَأ لَكِنْ حَيْثُ يَتَكَرَّر فِي مِثْل "" قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "" وَلَا بُدّ عِنْدهمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ النُّطْق بِهَا , وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَة الْمُصَنِّف لِهَذَا الْحَدِيث بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بَاب مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَلَعَلَّهَا سَقَطَتْ هُنَا مِمَّنْ بَعْده , وَلِأَحْمَد عَنْ أَبِي الْيَمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد أَنَّ عُبَادَةَ حَدَّثَهُ. ‏ ‏قَوْله : ( وَحَوْله ) ‏ ‏بِفَتْحِ اللَّام عَلَى الظَّرْفِيَّة , وَالْعِصَابَة بِكَسْرِ الْعَيْن : الْجَمَاعَة مِنْ الْعَشَرَة إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا وَاحِد لَهَا مِنْ لَفْظهَا , وَقَدْ جُمِعَتْ عَلَى عَصَائِب وَعُصَب. ‏ ‏قَوْله : ( بَايِعُونِي ) ‏ ‏زَادَ فِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار "" تَعَالَوْا بَايِعُونِي "" , وَالْمُبَايَعَة عِبَارَة عَنْ الْمُعَاهَدَة , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ( إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة ). ‏ ‏قَوْله : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ ) ‏ ‏قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل التَّيْمِيّ وَغَيْره : خُصَّ الْقَتْل بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ قَتْل وَقَطِيعَة رَحِم. فَالْعِنَايَة بِالنَّهْيِ عَنْهُ آكَد وَلِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِيهِمْ , وَهُوَ وَأْد الْبَنَات وَقَتْل الْبَنِينَ خَشْيَة الْإِمْلَاق , أَوْ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ لَا يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسهمْ. ‏ ‏قَوْله : ( وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ ) ‏ ‏الْبُهْتَان الْكَذِب يَبْهَت سَامِعه , وَخَصَّ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل بِالِافْتِرَاءِ لِأَنَّ مُعْظَم الْأَفْعَال تَقَع بِهِمَا , إِذْ كَانَتْ هِيَ الْعَوَامِل وَالْحَوَامِل لِلْمُبَاشَرَةِ وَالسَّعْي , وَكَذَا يُسَمُّونَ الصَّنَائِع الْأَيَادِي. وَقَدْ يُعَاقَب الرَّجُل بِجِنَايَةٍ قَوْلِيَّة فَيُقَال : هَذَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاك. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد لَا تَبْهَتُوا النَّاس كِفَاحًا وَبَعْضكُمْ يُشَاهِد بَعْضًا , كَمَا يُقَال : قُلْت كَذَا بَيْن يَدَيْ فُلَان , قَالَهُ الْخَطَّابِيّ , وَفِيهِ نَظَر لِذِكْرِ الْأَرْجُل. ‏ ‏وَأَجَابَ الْكَرْمَانِيّ بِأَنَّ الْمُرَاد الْأَيْدِي , وَذَكَرَ الْأَرْجُل تَأْكِيدًا , وَمُحَصَّله أَنَّ ذِكْر الْأَرْجُل إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا فَلَيْسَ بِمَانِع. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِمَا بَيْن الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل الْقَلْبَ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَرْجِم اللِّسَان عَنْهُ , فَلِذَلِكَ نُسِبَ إِلَيْهِ الِافْتِرَاء , كَأَنَّ الْمَعْنَى : لَا تَرْمُوا أَحَدًا بِكَذِبٍ تُزَوِّرُونَهُ فِي أَنْفُسكُمْ ثُمَّ تَبْهَتُونَ صَاحِبه بِأَلْسِنَتِكُمْ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبَى جَمْرَة : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَوْله "" بَيْن أَيْدِيكُمْ "" أَيْ : فِي الْحَال , وَقَوْله "" وَأَرْجُلكُمْ "" أَيْ : فِي الْمُسْتَقْبَل ; لِأَنَّ السَّعْي مِنْ أَفْعَال الْأَرْجُل. وَقَالَ غَيْره : أَصْل هَذَا كَانَ فِي بَيْعَة النِّسَاء , وَكَنَّى بِذَلِكَ - كَمَا قَالَ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ - عَنْ نِسْبَة الْمَرْأَة الْوَلَد الَّذِي تَزْنِي بِهِ أَوْ تَلْتَقِطهُ إِلَى زَوْجهَا. ثُمَّ لَمَّا اِسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظ فِي بَيْعَة الرِّجَال اُحْتِيجَ إِلَى حَمْله عَلَى غَيْر مَا وَرَدَ فِيهِ أَوَّلًا. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏قَوْله : ( وَلَا تَعْصُوا ) ‏ ‏لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار "" وَلَا تَعْصُونِي "" وَهُوَ مُطَابِق لِلْآيَةِ , وَالْمَعْرُوف مَا عُرِفَ مِنْ الشَّارِع حُسْنه نَهْيًا وَأَمْرًا. ‏ ‏قَوْله : ( فِي مَعْرُوف ) ‏ ‏قَالَ النَّوَوِيّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَلَا تَعْصُونِي وَلَا أَحَد أُولِي الْأَمْر عَلَيْكُمْ فِي الْمَعْرُوف , فَيَكُون التَّقْيِيد بِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ بَعْده. وَقَالَ غَيْره : نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَاعَة الْمَخْلُوق إِنَّمَا تَجِب فِيمَا كَانَ غَيْر مَعْصِيَة لِلَّهِ , فَهِيَ جَدِيرَة بِالتَّوَقِّي فِي مَعْصِيَة اللَّه. ‏ ‏قَوْله : ( فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ ) ‏ ‏أَيْ : ثَبَتَ عَلَى الْعَهْد. وَوَفَى بِالتَّخْفِيفِ , وَفِي رِوَايَة بِالتَّشْدِيدِ , وَهُمَا بِمَعْنًى. ‏ ‏قَوْله : ( فَأَجْره عَلَى اللَّه ) ‏ ‏أَطْلَقَ هَذَا عَلَى سَبِيل التَّفْخِيم ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُبَايَعَة الْمُقْتَضِيَة لِوُجُودِ الْعِوَضَيْنِ أَثْبَتَ ذِكْر الْأَجْر فِي مَوْضِع أَحَدهمَا. وَأَفْصَحَ فِي رِوَايَة الصَّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ بِتَعْيِينِ الْعِوَض فَقَالَ "" الْجَنَّة "" , وَعَبَّرَ هُنَا بِلَفْظِ "" عَلَى "" لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّق وُقُوعه كَالْوَاجِبَاتِ , وَيَتَعَيَّن حَمْله عَلَى غَيْر ظَاهِره لِلْأَدِلَّةِ الْقَائِمَة عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَى اللَّه شَيْء , وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث مُعَاذ فِي تَفْسِير حَقّ اللَّه عَلَى الْعِبَاد تَقْرِير هَذَا. فَإِنْ قِيلَ : لِمَ اِقْتَصَرَ عَلَى الْمَنْهِيَّات وَلَمْ يَذْكُر الْمَأْمُورَات ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يُهْمِلهَا , بَلْ ذَكَرَهَا عَلَى طَرِيق الْإِجْمَال فِي قَوْله "" وَلَا تَعْصُوا "" إِذْ الْعِصْيَان مُخَالَفَة الْأَمْر , وَالْحِكْمَة فِي التَّنْصِيص عَلَى كَثِير مِنْ الْمَنْهِيَّات دُون الْمَأْمُورَات أَنَّ الْكَفّ أَيْسَر مِنْ إِنْشَاء الْفِعْل ; لِأَنَّ اِجْتِنَاب الْمَفَاسِد مُقَدَّم عَلَى اِجْتِلَاب الْمَصَالِح , وَالتَّخَلِّي عَنْ الرَّذَائِل قَبْل التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ. ‏ ‏قَوْله : ( وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ ) ‏ ‏زَادَ أَحْمَد فِي رِوَايَته "" بِهِ "". ‏ ‏قَوْله : ( فَهُوَ ) ‏ ‏أَيْ : الْعِقَاب ( كَفَّارَة ) , زَادَ أَحْمَد "" لَهُ "" وَكَذَا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْه آخَر فِي بَاب الْمَشِيئَة مِنْ كِتَاب التَّوْحِيد , وَزَادَ "" وَطَهُور "". قَالَ النَّوَوِيّ : عُمُوم هَذَا الْحَدِيث مَخْصُوص بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ ) فَالْمُرْتَدّ إِذَا قُتِلَ عَلَى اِرْتِدَاده لَا يَكُون الْقَتْل لَهُ كَفَّارَة. قُلْت : وَهَذَا بِنَاء عَلَى أَنَّ قَوْله "" مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا "" يَتَنَاوَل جَمِيع مَا ذُكِرَ وَهُوَ ظَاهِر , وَقَدْ قِيلَ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مَا ذُكِرَ بَعْد الشِّرْك , بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَدْخُل حَتَّى يَحْتَاج إِلَى إِخْرَاجه , وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم مِنْ طَرِيق أَبِي الْأَشْعَث عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث "" وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا "" إِذْ الْقَتْل عَلَى الشِّرْك لَا يُسَمَّى حَدًّا. لَكِنْ يُعَكِّر عَلَى هَذَا الْقَائِل أَنَّ الْفَاء فِي قَوْله "" فَمَنْ "" لِتَرَتُّبِ مَا بَعْدهَا عَلَى مَا قَبْلهَا , وَخِطَاب الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ لَا يَمْنَع التَّحْذِير مِنْ الْإِشْرَاك. وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدّ عُرْفِيّ حَادِث , فَالصَّوَاب مَا قَالَ النَّوَوِيّ. وَقَالَ الطِّيبِيّ : الْحَقّ أَنَّ الْمُرَاد بِالشِّرْكِ الشِّرْك الْأَصْغَر وَهُوَ الرِّيَاء , وَيَدُلّ عَلَيْهِ تَنْكِير "" شَيْئًا "" أَيْ : شِرْكًا أَيًّا مَا كَانَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُرْف الشَّارِع إِذَا أَطْلَقَ الشِّرْك إِنَّمَا يُرِيد بِهِ مَا يُقَابِل التَّوْحِيد , وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظ فِي الْكِتَاب وَالْأَحَادِيث حَيْثُ لَا يُرَاد بِهِ إِلَّا ذَلِكَ. وَيُجَاب بِأَنَّ طَلَب الْجَمْع يَقْتَضِي اِرْتِكَاب الْمَجَاز , فَمَا قَالَهُ مُحْتَمَل وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا. وَلَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَقِبَ الْإِصَابَة بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا , وَالرِّيَاء لَا عُقُوبَة فِيهِ , فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَاد الشِّرْك وَأَنَّهُ مَخْصُوص. ‏ ‏وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : ذَهَبَ أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْحُدُود كَفَّارَات وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيث , وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "" لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لِأَهْلِهَا أَمْ لَا "" , لَكِنَّ حَدِيث عُبَادَةَ أَصَحّ إِسْنَادًا. وَيُمْكِن - يَعْنِي عَلَى طَرِيق الْجَمْع بَيْنهمَا - أَنْ يَكُون حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَرَدَ أَوَّلًا قَبْل أَنْ يُعْلِمهُ اللَّه , ثُمَّ أَعْلَمَهُ بَعْد ذَلِكَ. قُلْت : حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرَك وَالْبَزَّار مِنْ رِوَايَة مَعْمَر عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ سَعِيد الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر , وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ عَبْد الرَّزَّاق تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ , وَأَنَّ هِشَام بْن يُوسُف رَوَاهُ عَنْ مَعْمَر فَأَرْسَلَهُ. قُلْت : وَقَدْ وَصَلَهُ آدَم بْن أَبِي إِيَاس عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم أَيْضًا فَقَوِيَتْ رِوَايَة مَعْمَر , وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَالْجَمْع - الَّذِي جَمَعَ بِهِ الْقَاضِي - حَسَن ; لَكِنَّ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ جَازِمُونَ بِأَنَّ حَدِيث عُبَادَةَ هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة الْعَقَبَة لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَة الْأُولَى بِمِنًى , وَأَبُو هُرَيْرَة إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ عَام خَيْبَر , فَكَيْفَ يَكُون حَدِيثه مُتَقَدِّمًا ؟ وَقَالُوا فِي الْجَوَاب عَنْهُ : يُمْكِن أَنْ يَكُون أَبُو هُرَيْرَة مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيّ آخَر كَانَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِيمًا وَلَمْ يَسْمَع مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ أَنَّ الْحُدُود كَفَّارَة كَمَا سَمِعَهُ عُبَادَةَ , وَفِي هَذَا تَعَسُّف. وَيُبْطِلهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ , وَأَنَّ الْحُدُود لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ إِذْ ذَاكَ. ‏ ‏وَالْحَقّ عِنْدِي أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة صَحِيح وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَدِيث عُبَادَةَ , وَالْمُبَايَعَة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عُبَادَةَ عَلَى الصِّفَة الْمَذْكُورَة لَمْ تَقَع لَيْلَة الْعَقَبَة , وَإِنَّمَا كَانَ لَيْلَة الْعَقَبَة مَا ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره مِنْ أَهْل الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ الْأَنْصَار "" أُبَايِعكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ "" فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ , وَعَلَى أَنْ يَرْحَل إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابه. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَاب - فِي كِتَاب الْفِتَن وَغَيْره - مِنْ حَدِيث عُبَادَةَ أَيْضًا قَالَ : بَايَعْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة فِي الْعُسْر وَالْيُسْر وَالْمَنْشَط وَالْمَكْرَه.. الْحَدِيث. وَأَصْرَح مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُرَاد مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عُبَادَةَ أَنَّهُ جَرَتْ لَهُ قِصَّة مَعَ أَبِي هُرَيْرَة عِنْد مُعَاوِيَة بِالشَّامِ "" فَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَة إِنَّك لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة فِي النَّشَاط وَالْكَسَل , وَعَلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَعَلَى أَنْ نَقُول بِالْحَقِّ وَلَا نَخَاف فِي اللَّه لَوْمَة لَائِم , وَعَلَى أَنْ نَنْصُر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِب فَنَمْنَعهُ مِمَّا نَمْنَع مِنْهُ أَنْفُسنَا وَأَزْوَاجنَا وَأَبْنَاءَنَا , وَلَنَا الْجَنَّة. فَهَذِهِ بَيْعَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا. فَذَكَرَ بَقِيَّة الْحَدِيث. وَعِنْد الطَّبَرَانِيّ لَهُ طَرِيق أُخْرَى وَأَلْفَاظ قَرِيبَة مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ وَضَحَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبَيْعَة الْأُولَى. ‏ ‏ثُمَّ صَدَرَتْ مُبَايَعَات أُخْرَى سَتُذْكَرُ فِي كِتَاب الْأَحْكَام إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , مِنْهَا هَذِهِ الْبَيْعَة فِي حَدِيث الْبَاب فِي الزَّجْر عَنْ الْفَوَاحِش الْمَذْكُورَة. وَاَلَّذِي يُقَوِّي أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْد فَتْح مَكَّة بَعْد أَنْ نَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْمُمْتَحِنَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ( يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يُبَايِعْنَك ) وَنُزُول هَذِهِ الْآيَة مُتَأَخِّر بَعْد قِصَّة الْحُدَيْبِيَة بِلَا خِلَاف , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْد الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الْحُدُود مِنْ طَرِيق سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيّ فِي حَدِيث عُبَادَةَ هَذَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُمْ قَرَأَ الْآيَة كُلّهَا , وَعِنْده فِي تَفْسِير الْمُمْتَحِنَة مِنْ هَذَا الْوَجْه قَالَ "" قَرَأَ آيَة النِّسَاء "" وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ "" فَتَلَا عَلَيْنَا آيَة النِّسَاء قَالَ : أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا "" وَلِلنَّسَائِيّ مِنْ طَرِيق الْحَارِث بْن فُضَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "" أَلَا تُبَايِعُونَنِي عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاء : أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا "" الْحَدِيث. وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الزُّهْرِيّ بِهَذَا السَّنَد "" بَايَعْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاء يَوْم فَتْح مَكَّة "". وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق أَبِي الْأَشْعَث عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث "" أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاء "". ‏ ‏فَهَذِهِ أَدِلَّة ظَاهِرَة فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَة إِنَّمَا صَدَرَتْ بَعْد نُزُول الْآيَة , بَلْ بَعْد صُدُور الْبَيْعَة , بَلْ بَعْد فَتْح مَكَّة , وَذَلِكَ بَعْد إِسْلَام أَبِي هُرَيْرَة بِمُدَّةٍ. وَيُؤَيِّد هَذَا مَا رَوَاهُ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخه عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الطُّفَاوِيّ عَنْ أَيُّوب عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "" أُبَايِعكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا "" فَذَكَرَ نَحْو حَدِيث عُبَادَةَ , وَرِجَاله ثِقَات. وَقَدْ قَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : إِذَا صَحَّ الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو بْن شُعَيْب فَهُوَ كَأَيُّوبَ عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر ا ه. وَإِذَا كَانَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَحَد مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْبَيْعَة وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَنْصَار وَلَا مِمَّنْ حَضَرَ بَيْعَتهمْ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْلَامه قُرْب إِسْلَام أَبِي هُرَيْرَة وَضَحَ تَغَايُر الْبَيْعَتَيْنِ - بَيْعَة الْأَنْصَار لَيْلَة الْعَقَبَة وَهِيَ قَبْل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة , وَبَيْعَة أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْد فَتْح مَكَّة وَشَهِدَهَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَكَانَ إِسْلَامه بَعْد الْهِجْرَة بِمُدَّةٍ طَوِيلَة - وَمِثْل ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ مِنْ حَدِيث جَرِير قَالَ "" بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْل مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاء "" فَذَكَرَ الْحَدِيث , وَكَانَ إِسْلَام جَرِير مُتَأَخِّرًا عَنْ إِسْلَام أَبِي هُرَيْرَة عَلَى الصَّوَاب , وَإِنَّمَا حَصَلَ الِالْتِبَاس مِنْ جِهَة أَنَّ عُبَادَةَ بْن الصَّامِت حَضَرَ الْبَيْعَتَيْنِ مَعًا , وَكَانَتْ بَيْعَة الْعَقَبَة مِنْ أَجَلّ مَا يُتَمَدَّح بِهِ , فَكَانَ يَذْكُرهَا إِذَا حَدَّثَ تَنْوِيهًا بِسَابِقِيَّتِهِ , فَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْبَيْعَة الَّتِي صَدَرَتْ عَلَى مِثْل بَيْعَة النِّسَاء عَقِبَ ذَلِكَ تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَقِف عَلَى حَقِيقَة الْحَال أَنَّ الْبَيْعَة الْأُولَى وَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ. وَنَظِيره مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ عُبَادَةَ بْن الْوَلِيد بْن عُبَادَةَ بْن الصَّامِت عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه - وَكَانَ أَحَد النُّقَبَاء - قَالَ "" بَايَعْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَة الْحَرْب "" وَكَانَ عُبَادَة مِنْ الِاثْنَيْ عَشَر الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَة الْأُولَى "" عَلَى بَيْعَة النِّسَاء وَعَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة فِي عُسْرنَا وَيُسْرنَا "" الْحَدِيث , فَإِنَّهُ ظَاهِر فِي اِتِّحَاد الْبَيْعَتَيْنِ ; وَلَكِنَّ الْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَام لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَة , وَهُوَ مِنْ طَرِيق مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ عَنْ عُبَادَةَ بْن الْوَلِيد. وَالصَّوَاب أَنَّ بَيْعَة الْحَرْب بَعْد بَيْعَة الْعَقَبَة لِأَنَّ الْحَرْب إِنَّمَا شُرِعَ بَعْد الْهِجْرَة , وَيُمْكِن تَأْوِيل رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق وَرَدّهَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ , وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ رِوَايَته عَلَى ثَلَاث بَيْعَات : بَيْعَة الْعَقَبَة وَقَدْ صَرَّحَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْل أَنْ تُفْرَض الْحَرْب فِي رِوَايَة الصَّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ عِنْد أَحْمَد , وَالثَّانِيَة بَيْعَة الْحَرْب وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَاد أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَدَم الْفِرَار , وَالثَّالِثَة بَيْعَة النِّسَاء أَيْ : الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى نَظِير بَيْعَة النِّسَاء. وَالرَّاجِح أَنَّ التَّصْرِيح بِذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ بَعْض الرُّوَاة , وَاَللَّه أَعْلَم. وَيُعَكِّر عَلَى ذَلِكَ التَّصْرِيح فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق مِنْ طَرِيق الصَّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ بَيْعَة لَيْلَة الْعَقَبَة كَانَتْ عَلَى مِثْل بَيْعَة النِّسَاء , وَاتَّفَقَ وُقُوع ذَلِكَ قَبْل أَنْ تَنْزِل الْآيَة , وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى النِّسَاء لِضَبْطِهَا بِالْقُرْآنِ. وَنَظِيره مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ طَرِيق الصَّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ "" إِنِّي مِنْ النُّقَبَاء الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "" ; وَقَالَ "" بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئًا "" الْحَدِيث. فَظَاهِر هَذَا اِتِّحَاد الْبَيْعَتَيْنِ ; وَلَكِنَّ الْمُرَاد مَا قَرَّرْته أَنَّ قَوْله "" إِنِّي مِنْ النُّقَبَاء الَّذِينَ بَايَعُوا - أَيْ : لَيْلَة الْعَقَبَة - عَلَى الْإِيوَاء وَالنَّصْر "" وَمَا يَتَعَلَّق بِذَلِكَ , ثُمَّ قَالَ : بَايَعْنَاهُ إِلَخْ أَيْ : فِي وَقْت آخَر , وَيُشِير إِلَى هَذَا الْإِتْيَان بِالْوَاوِ الْعَاطِفَة فِي قَوْله "" وَقَالَ بَايَعْنَاهُ "". وَعَلَيْك بِرَدِّ مَا أَتَى مِنْ الرِّوَايَات مُوهِمًا بِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَة كَانَتْ لَيْلَة الْعَقَبَة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل الَّذِي نَهَجْت إِلَيْهِ فَيَرْتَفِع بِذَلِكَ الْإِشْكَال , وَلَا يَبْقَى بَيْن حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَة وَعُبَادَةَ تَعَارُض , وَلَا وَجْه بَعْد ذَلِكَ لِلتَّوَقُّفِ فِي كَوْن الْحُدُود كَفَّارَة. وَاعْلَمْ أَنَّ عُبَادَةَ بْن الصَّامِت لَمْ يَنْفَرِد بِرِوَايَةِ هَذَا الْمَعْنَى , بَلْ رَوَى ذَلِكَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم وَفِيهِ "" مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاَللَّه أَكْرَم مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ الْعُقُوبَة عَلَى عَبْده فِي الْآخِرَة "" وَهُوَ عِنْد الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ حَدِيث أَبَى تَمِيمَة الْهُجَيْمِيّ , وَلِأَحْمَد مِنْ حَدِيث خُزَيْمَةَ بْن ثَابِت بِإِسْنَادٍ حَسَن وَلَفْظه "" مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْب فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ "". وَلِلطَّبَرَانِيّ عَنْ اِبْن عَمْرو مَرْفُوعًا "" مَا عُوقِبَ رَجُل عَلَى ذَنْب إِلَّا جَعَلَهُ اللَّه كَفَّارَة لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْب "". وَإِنَّمَا أَطَلْت فِي هَذَا الْمَوْضِع لِأَنَّنِي لَمْ أَرَ مَنْ أَزَالَ اللَّبْس فِيهِ عَلَى الْوَجْه الْمَرْضِيّ , وَاَللَّه الْهَادِي. ‏ ‏قَوْله : ( فَعُوقِبَ بِهِ ) قَالَ اِبْن التِّين : يُرِيد بِهِ الْقَطْع فِي السَّرِقَة وَالْجَلْد أَوْ الرَّجْم فِي الزِّنَا. قَالَ : وَأَمَّا قَتْل الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَة مَعْلُومَة , إِلَّا أَنْ يُرِيد قَتْل النَّفْس فَكَنَّى عَنْهُ , قُلْت : وَفِي رِوَايَة الصَّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ ) وَلَكِنَّ قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب "" فَعُوقِبَ بِهِ "" أَعَمّ مِنْ أَنْ تَكُون الْعُقُوبَة حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا. قَالَ اِبْن التِّين : وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل وَغَيْره أَنَّ قَتْل الْقَاتِل إِنَّمَا هُوَ رَادِع لِغَيْرِهِ , وَأَمَّا فِي الْآخِرَة فَالطَّلَب لِلْمَقْتُولِ قَائِم ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ حَقّ. قُلْت : بَلْ وَصَلَ إِلَيْهِ حَقّ أَيّ حَقّ , فَإِنَّ الْمَقْتُول ظُلْمًا تُكَفَّر عَنْهُ ذُنُوبه بِالْقَتْلِ , كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَر الَّذِي صَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ وَغَيْره "" إِنَّ السَّيْف مَحَّاء لِلْخَطَايَا "" , وَعَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ "" إِذَا جَاءَ الْقَتْل مَحَا كُلّ شَيْء "" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ , وَلَهُ عَنْ الْحَسَن بْن عَلِيّ نَحْوه , وَلِلْبَزَّارِ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا "" لَا يَمُرّ الْقَتْل بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ "" فَلَوْلَا الْقَتْل مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبه , وَأَيّ حَقّ يَصِل إِلَيْهِ أَعْظَم مِنْ هَذَا ؟ وَلَوْ كَانَ حَدّ الْقَتْل إِنَّمَا شُرِعَ لِلرَّدْعِ فَقَطْ لَمْ يُشْرَع الْعَفْو عَنْ الْقَاتِل , وَهَلْ تَدْخُل فِي الْعُقُوبَة الْمَذْكُورَة الْمَصَائِب الدُّنْيَوِيَّة مِنْ الْآلَام وَالْأَسْقَام وَغَيْرهَا ؟ فِيهِ نَظَر. وَيَدُلّ لِلْمَنْعِ قَوْله "" وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّه "" فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَائِب لَا تُنَافِي السَّتْر , وَلَكِنْ بَيَّنَتْ الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة أَنَّ الْمَصَائِب تُكَفِّر الذُّنُوب , فَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد أَنَّهَا تُكَفِّر مَا لَا حَدّ فِيهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. ‏ ‏وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث أَنَّ إِقَامَة الْحَدّ كَفَّارَة لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ الْمَحْدُود , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور. وَقِيلَ لَا بُدّ مِنْ التَّوْبَة , وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْض التَّابِعِينَ , وَهُوَ قَوْل لِلْمُعْتَزِلَةِ , وَوَافَقَهُمْ اِبْن حَزْم وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْبَغَوِيّ وَطَائِفَة يَسِيرَة , وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ تَابَ فِي قَوْله تَعَالَى ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) وَالْجَوَاب فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فِي عُقُوبَة الدُّنْيَا , وَلِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. ‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّه ) ‏ ‏زَادَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة "" عَلَيْهِ "". ‏ ‏قَوْله : ( فَهُوَ إِلَى اللَّه ) ‏ ‏قَالَ الْمَازِنِيّ فِيهِ رَدّ عَلَى الْخَوَارِج الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ , وَرَدّ عَلَى الْمُعْتَزِلَة الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَعْذِيب الْفَاسِق إِذَا مَاتَ بِلَا تَوْبَة ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَحْت الْمَشِيئَة , وَلَمْ يَقُلْ لَا بُدّ أَنْ يُعَذِّبهُ. وَقَالَ الطِّيبِيّ : فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْكَفّ عَنْ الشَّهَادَة بِالنَّارِ عَلَى أَحَد أَوْ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنْ وَرَدَ النَّصّ فِيهِ بِعَيْنِهِ. قُلْت : أَمَّا الشِّقّ الْأَوَّل فَوَاضِح. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْإِشَارَة إِلَيْهِ إِنَّمَا تُسْتَفَاد مِنْ الْحَمْل عَلَى غَيْر ظَاهِر الْحَدِيث وَهُوَ مُتَعَيَّن. ‏ ‏قَوْله : ( إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ) ‏ ‏يَشْمَل مَنْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ , وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَة , وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّ مَنْ تَابَ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مُؤَاخَذَة , وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَأْمَن مَكْر اللَّه لِأَنَّهُ لَا اِطِّلَاع لَهُ هَلْ قُبِلَتْ تَوْبَته أَوْ لَا. وَقِيلَ يُفَرَّق بَيْن مَا يَجِب فِيهِ الْحَدّ وَمَا لَا يَجِب , وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِب الْحَدّ , فَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَتُوب سِرًّا وَيَكْفِيه ذَلِكَ. وَقِيلَ : بَلْ الْأَفْضَل أَنْ يَأْتِي الْإِمَامَ وَيَعْتَرِف بِهِ وَيَسْأَلهُ أَنْ يُقِيم عَلَيْهِ الْحَدّ كَمَا وَقَعَ لِمَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ. وَفَصَلَ بَعْض الْعُلَمَاء بَيْن أَنْ يَكُون مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ فَيُسْتَحَبّ أَنْ يُعْلِنَ بِتَوْبَتِهِ وَإِلَّا فَلَا. ‏ ‏( تَنْبِيه ) ‏ ‏زَادَ فِي رِوَايَة الصَّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث "" وَلَا يَنْتَهِب "" وَهُوَ مِمَّا يُتَمَسَّك بِهِ فِي أَنَّ الْبَيْعَة مُتَأَخِّرَة ; لِأَنَّ الْجِهَاد عِنْد بَيْعَة الْعَقَبَة لَمْ يَكُنْ فُرِضَ , وَالْمُرَاد بِالِانْتِهَابِ مَا يَقَع بَعْد الْقِتَال فِي الْغَنَائِم. وَزَادَ فِي رِوَايَته أَيْضًا : "" وَلَا يَعْصِي بِالْجَنَّةِ , إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ , فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا كَانَ قَضَاء ذَلِكَ إِلَى اللَّه "" أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّف فِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار عَنْ قُتَيْبَة عَنْ اللَّيْث , وَوَقَعَ عِنْده "" وَلَا يَقْضِي "" بِقَافٍ وَضَاد مُعْجَمَة وَهُوَ تَصْحِيف , وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْض النَّاس فِي تَخْرِيجه وَقَالَ : إِنَّهُ نَهَاكُمْ عَنْ وِلَايَة الْقَضَاء , وَيُبْطِلهُ أَنَّ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلِيَ قَضَاء فِلَسْطِين فِي زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله "" بِالْجَنَّةِ "" مُتَعَلِّق بِيَقْضِي , أَيْ : لَا يَقْضِي بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ مُعَيَّن. قُلْت : لَكِنْ يَبْقَى قَوْله "" إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ "" بِلَا جَوَاب , وَيَكْفِي فِي ثُبُوت دَعْوَى التَّصْحِيف فِيهِ رِوَايَة مُسْلِم عَنْ قُتَيْبَة بِالْعَيْنِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ , وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ عَنْ الْحَسَن بْنِ سُفْيَان , وَلِأَبِي نُعَيْم مِنْ طَرِيق مُوسَى بْن هَارُون كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَة , وَكَذَا هُوَ عِنْد الْبُخَارِيّ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيث فِي الدِّيَات عَنْ عَبْد اللَّه بْن يُوسُف عَنْ اللَّيْث فِي مُعْظَم الرِّوَايَات , لَكِنْ عِنْد الْكُشْمِيهَنِيّ بِالْقَافِ وَالضَّاد أَيْضًا وَهُوَ تَصْحِيف كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَوْله "" بِالْجَنَّةِ "" إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ فِي أَوَّله "" بَايَعْنَا "". وَاَللَّه أَعْلَم. ‏



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!