المكتبة الأكبرية: موسوعة الحديث الشريف: (صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (125)]
(صحيح البخاري) - [الحديث رقم: (125)]
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا
قَوْله : ( حَدَّثَنِي أَبِي ) هُوَ هِشَام بْن أَبِي عَبْد اللَّه الدَّسْتُوَائِيّ. قَوْله : ( رَدِيفه ) أَيْ : رَاكِب خَلْف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْجُمْلَة حَالِيَّة وَالرَّحْل بِإِسْكَانِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل لِلْبَعِيرِ لَكِنْ مُعَاذ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَة رَدِيفه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَار كَمَا يَأْتِي فِي الْجِهَاد. قَوْله : ( قَالَ : يَا مُعَاذ بْن جَبَل ) هُوَ خَبَر "" أَنَّ "" الْمُتَقَدِّمَة , وَابْن جَبَل بِفَتْحِ النُّون , وَأَمَّا مُعَاذ فَبِالضَّمِّ لِأَنَّهُ مُنَادَى مُفْرَد عَلَم , وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن مَالِك لِعَدَمِ اِحْتِيَاجه إِلَى تَقْدِير , وَاخْتَارَ اِبْن الْحَاجِب النَّصْب عَلَى أَنَّهُ مَعَ مَا بَعْده كَاسْمٍ وَاحِد مُرَكَّب كَأَنَّهُ أُضِيفَ , وَالْمُنَادَى الْمُضَاف مَنْصُوب , وَقَالَ اِبْن التِّين : يَجُوز النَّصْب عَلَى أَنَّ قَوْله مُعَاذ زَائِد , فَالتَّقْدِير يَا اِبْن جَبَل , وَهُوَ يَرْجِع إِلَى كَلَام اِبْن الْحَاجِب بِتَأْوِيلٍ. قَوْله. ( قَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُول اللَّه وَسَعْدَيْك ) اللَّبّ بِفَتْحِ اللَّام مَعْنَاهُ هُنَا الْإِجَابَة , وَالسَّعْد الْمُسَاعَدَة , كَأَنَّهُ قَالَ : لَبًّا لَك وَإِسْعَادًا لَك ; وَلَكِنَّهُمَا ثُنِّيَا عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيد وَالتَّكْثِير , أَيْ : إِجَابَة بَعْد إِجَابَة وَإِسْعَادًا بَعْد إِسْعَاد. وَقِيلَ فِي أَصْل لَبَّيْكَ وَاشْتِقَاقهَا غَيْر ذَلِكَ , وَسَنُوَضِّحُهُ فِي كِتَاب الْحَجّ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. قَوْله : ( ثَلَاثًا ) أَيْ : النِّدَاء وَالْإِجَابَة قِيلَا ثَلَاثًا , وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسْلِم , وَيُؤَيِّدهُ الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم فِي بَاب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيث ثَلَاثًا لِيُفْهَم عَنْهُ. قَوْله : ( صِدْقًا ) فِيهِ اِحْتِرَاز عَنْ شَهَادَة الْمُنَافِق. وَقَوْله : "" مِنْ قَلْبه "" يُمْكِن أَنْ يَتَعَلَّق بِصِدْقًا أَيْ : يَشْهَد بِلَفْظِهِ وَيُصَدِّق بِقَلْبِهِ , وَيُمْكِن أَنْ يَتَعَلَّق بِيَشْهَد أَيْ : يَشْهَد بِقَلْبِهِ , وَالْأَوَّل أَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيّ : قَوْله "" صِدْقًا "" أُقِيمَ هُنَا مَقَام الِاسْتِقَامَة لِأَنَّ الصِّدْق يُعَبَّر بِهِ قَوْلًا عَنْ مُطَابَقَة الْقَوْل الْمُخْبَر عَنْهُ , وَيُعَبَّر بِهِ فِعْلًا عَنْ تَحَرِّي الْأَخْلَاق الْمَرْضِيَّة كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) أَيْ : حَقَّقَ مَا أَوْرَدَهُ قَوْلًا بِمَا تَحَرَّاهُ فِعْلًا. اِنْتَهَى. وَأَرَادَ بِهَذَا التَّقْرِير رَفْع الْإِشْكَال عَنْ ظَاهِر الْخَبَر ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَم دُخُول جَمِيع مَنْ شَهِدَ الشَّهَادَتَيْنِ النَّار لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيم وَالتَّأْكِيد , لَكِنْ دَلَّتْ الْأَدِلَّة الْقَطْعِيَّة عِنْد أَهْل السُّنَّة عَلَى أَنَّ طَائِفَة مِنْ عُصَاة الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار بِالشَّفَاعَةِ , فَعُلِمَ أَنَّ ظَاهِره غَيْر مُرَاد , فَكَأَنَّهُ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّد بِمَنْ عَمِلَ الْأَعْمَال الصَّالِحَة. قَالَ : وَلِأَجْلِ خَفَاء ذَلِكَ لَمْ يُؤْذَن لِمُعَاذ فِي التَّبْشِير بِهِ. وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْ الْإِشْكَال أَيْضًا بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى : مِنْهَا أَنَّ مُطْلَقه مُقَيَّد بِمَنْ قَالَهَا تَائِبًا ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل نُزُول الْفَرَائِض , وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّ مِثْل هَذَا الْحَدِيث وَقَعَ لِأَبِي هُرَيْرَة كَمَا رَوَاهُ مُسْلِم , وَصُحْبَته مُتَأَخِّرَة عَنْ نُزُول أَكْثَر الْفَرَائِض , وَكَذَا وَرَدَ نَحْوه مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى رَوَاهُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ حَسَن , وَكَانَ قُدُومه فِي السَّنَة الَّتِي قَدِمَ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَة. وَمِنْهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَج الْغَالِب , إِذْ الْغَالِب أَنَّ الْمُوَحِّد يَعْمَل الطَّاعَة وَيَجْتَنِب الْمَعْصِيَة. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَاد بِتَحْرِيمِهِ عَلَى النَّار تَحْرِيم خُلُوده فِيهَا لَا أَصْل دُخُولهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَاد النَّار الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ لَا الطَّبَقَة الَّتِي أُفْرِدَتْ لِعُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَاد بِتَحْرِيمِهِ عَلَى النَّار حُرْمَة جُمْلَته لِأَنَّ النَّار لَا تَأْكُل مَوَاضِع السُّجُود مِنْ الْمُسْلِم كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّم عَلَيْهَا , وَكَذَا لِسَانه النَّاطِق بِالتَّوْحِيدِ. وَالْعِلْم عِنْد اللَّه تَعَالَى. قَوْله : ( فَيَسْتَبْشِرُونَ ) كَذَا لِأَبِي ذَرّ أَيْ فَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ , وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ النُّون , وَهُوَ أَوْجَه لِوُقُوعِ الْفَاء بَعْد النَّفْي أَوْ الِاسْتِفْهَام أَوْ الْعَرْض وَهِيَ تَنْصِب فِي كُلّ ذَلِكَ. قَوْله : ( إذًا يَتَّكِلُوا ) بِتَشْدِيد الْمُثَنَّاة الْمَفْتُوحَة وَكَسْر الْكَاف , وَهُوَ جَوَاب وَجَزَاء أَيْ : إِنْ أَخْبَرْتهمْ يَتَّكِلُوا. وَلِلْأَصِيلِيِّ وَالْكُشْمِيهَنِيّ يَنْكُلُوا بِإِسْكَانِ النُّون وَضَمّ الْكَاف أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ الْعَمَل اِعْتِمَادًا عَلَى مَا يَتَبَادَر مِنْ ظَاهِره , وَرَوَى الْبَزَّار بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِمُعَاذٍ فِي التَّبْشِير , فَلَقِيَهُ عُمَر فَقَالَ : لَا تَعْجَل. ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه أَنْتَ أَفْضَل رَأْيًا , إِنَّ النَّاس إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ اِتَّكَلُوا عَلَيْهَا , قَالَ فَرَدَّهُ. وَهَذَا مَعْدُود مِنْ مُوَافَقَات عُمَر , وَفِيهِ جَوَاز الِاجْتِهَاد بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْض مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَة مِنْ قَوْله : "" يَتَّكِلُوا "" عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ اِخْتِيَارًا كَمَا سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه. قَوْله : ( عِنْد مَوْته ) أَيْ : مَوْت مُعَاذ. وَأَغْرَبَ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ : يَحْتَمِل أَنْ يَرْجِع الضَّمِير إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْت : وَيَرُدّهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَد بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ مُعَاذًا حِين حَضَرَتْهُ الْوَفَاة يَقُول : سَمِعْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ يَمْنَعنِي أَنْ أُحَدِّثكُمُوهُ إِلَّا مَخَافَة أَنْ تَتَّكِلُوا.. فَذَكَرَهُ. قَوْله : ( تَأَثُّمًا ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الْمُثَلَّثَة الْمَضْمُومَة , أَيْ : خَشْيَة الْوُقُوع فِي الْإِثْم , وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهه فِي حَدِيث بَدْء الْوَحْي فِي قَوْله : "" يَتَحَنَّث "". وَالْمُرَاد بِالْإِثْمِ الْحَاصِل مِنْ كِتْمَان الْعِلْم , وَدَلَّ صَنِيع مُعَاذ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ النَّهْي عَنْ التَّبْشِير كَانَ عَلَى التَّنْزِيه لَا عَلَى التَّحْرِيم , وَإِلَّا لَمَا كَانَ يُخْبِر بِهِ أَصْلًا. أَوْ عَرَفَ أَنَّ النَّهْي مُقَيَّد بِالِاتِّكَالِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَإِذَا زَالَ الْقَيْد زَالَ الْمُقَيَّد , وَالْأَوَّل أَوْجَه لِكَوْنِهِ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى وَقْت مَوْته. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَعَلَّ مُعَاذًا لَمْ يَفْهَم النَّهْي , لَكِنْ كُسِرَ عَزْمه عَمَّا عَرَضَ لَهُ مِنْ تَبْشِيرهمْ. قُلْت : وَالرِّوَايَة الْآتِيَة صَرِيحَة فِي النَّهْي , فَالْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْحَدِيث جَوَاز الْإِرْدَاف , وَبَيَان تَوَاضُع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَنْزِلَة مُعَاذ بْن جَبَل مِنْ الْعِلْم لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِمَا ذَكَرَ. وَفِيهِ جَوَاز اِسْتِفْسَار الطَّالِب عَمَّا يَتَرَدَّد فِيهِ , وَاسْتِئْذَانه فِي إِشَاعَة مَا يَعْلَم بِهِ وَحْده.