كتاب فصوص الحكم وخصوص الكلم
يعدّ كتاب "فصوص الحكم" بالنسبة إلى كتب الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي بمثابة التاج على رأس الملك، والفتوحات المكية هي الجسم، والكتب الأخرى هي الأطراف. فرغم صغر حجمه، ورغم محدودية الموضوعات التي يطرحها، إذا ما قورن بالفتوحات المكية مثلا، فإن هذا الكتاب بحرٌ عميق تستقر في قعره اللآلئ والجواهر، وفضاءٌ رحيبٌ تسبح فيه النجوم الزواهر.
ملاحظة: يعتقد الشيخ محمود غراب أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون للشيخ محي الدين، مع أنه هو نفسه قام يتحقيقه! [انظر هنا للرد على هذا الادعاء].
يقول الدكتور أبو العلا عفيفي في تقديمه لهذا الكتاب الذي كان موضوع دراسته في رسالة الدكتوراه بجامعة كامبريدج مع أستاذه المستشرق الكبير نيكلسون: "ولا مبالغة في القول بأن كتاب "الفصوص" أعظم مؤلفات ابن العربي كلِّها قدراً وأعمقها غوراً وأبعدها أثراً في تشكيل العقيدة الصوفية في عصره وفي الأجيال التي لحقته".[1] ورغم أن هذا الكلام غير دقيق، لأن الفتوحات المكيّة لا تزال هي الأهم والأشمل والأكثر تأثيراً وانتشاراً، ولكنه يوضح أهمية هذا الكتاب الذي أخرجه الشيخ رضي الله عنه بشكل موجز ومكثّف. ومن أجل ذلك عكف الكثير من العلماء على شرحه ودراسته ومحاولة فكّ رموزه وكشف أسراره، وهناك حوالي المائة والخمسين شرحاً وترجمة ذكر أكثرها الدكتور عثمان يحيى في تصنيفه،[2] ومن هذه الشروح كتاب لابن العربي نفسه بعنوان "مفتاح الفصوص".[3] وكذلك قام صدر الدين القونوي بشرحه في كتاب "الفكوك على الفصوص". وكتب داود القيصري كتاب "مطلع خصوص الكلم في شرح فصوص الحكم"، و كتب عبد الرحمن جامي "نقد النصوص في شرح نقش الفصوص"، وكذلك عبد الغني النابلسي في "جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص"، بالإضافة إلى شروحات وتعليقات أخرى كثيرة.
ولكنّ الكثير من العلماء وقفوا عند هذا الكتاب واعتبروا أن فيه كلاماً مخالفاً للشرع ويصعب تأويله على محملٍ حسن. وكذلك فإن بعض العلماء انتقدوه بشدة حتى إن الذهبي وصفه بأنه من أردأ تآليف ابن العربي وقال: "فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفرٌ.. فواغوثاه بالله."[4] وتجدر الإشارة إلى أن الذهبي هو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الذي صنّف رسائل كثيرة في الردّ على ابن العربي منها رسالة سمّاها "الرد الأقوم على ما في كتاب فصوص الحكم"، كما سنرى في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
يفتتح الشيخ الأكبر هذا الكتاب الجليل بقوله في مقدمة الفصوص أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مُبشِّرةٍ في العشر الأواخر من شهر محرم سنة سبعٍ وعشرين وستمائةٍ بمحروسةِ دمشق وبيده صلّى الله عليه وسلّم كتابٌ، فقال له: هذا كتاب "فصوص الحكم" خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به. فقال ابن العربي: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا، كما أُمرنا. ثم يقول:
فحقّقت الأمنية، وأخلصت النيّة، وجرّدت القصد والهمّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير زيادة ولا نقصان. وسألت الله تعالى أن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وأن يخصّني في جميع ما يرقمه بناني وينطق به لساني وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبوحيّ والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي، حتى أكون مترجماً لا متحكّماً، ليتحقّق من يقف عليه من أهل الله، أصحاب القلوب، أنه من مقام التقديس المنزّه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس. وأرجو أن يكون الحقّ لمّا سمع دعائي قد أجاب ندائي؛ فما ألقي إلا ما يُلقي إليّ، ولا أُنزل إلا ما ينزّل به عليّ، ولست بنبيّ رسول ولكنّي وارث ولآخرتي حارث:
فَمِنَ الله فاسمعوا *** وإلى اللهِ فارجِعُوا
فإذَا ما سمِعتمُ *** ما أتيتُ بهِ فعُوا
ثمّ بالفهم فصّلوا *** مُجمل القول واجمعوا
ثمّ مُنّوا به على *** طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي *** وسعتكم فوسّعوا
ومن الله أرجو أن أكون ممّن أُيّد فتأيّد، وقُيّد بالشرع المحمّدي المطهّر فتقيّد وقَيّد، وحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمّته.[1]
ثم شرع الشيخ محي الدين رضي الله بسرد أبواب الكتاب وهي سبعة وعشرون فصّاً كلُّ فصٍّ سمّاه فصُّ حكمة "كذا" في كلمة "نبيّ من الأنبياء" وذلك لحكمةٍ خفيةٍ رآها الشيخ في حقيقة هذا النبيّ، وهذه هي أسماء الفصوص السبعة والعشرين:
0 - مقدمة مع قراءة خطبة الكتاب
1 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية
2 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية
3 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية
4 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية
5 - فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية
6 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية
7 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية
8 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية
9 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
13- فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
14- فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
15- فص حكمة نبوية في كلمة عبسوية
16- فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
17- فص حكمة وجودية في كلمة داودية
18- فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
19- فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
20- فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية
21- فص حكمة مالكية في كلمة زكراوية
22- فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
23- فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
24- فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
25- فص حكمة علوية في كلمة موسوية
26- فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
27- فص حكمة فردية في كلمة محمدية
والشيخ رضي الله عنه لم يقصد بالإشارة إلى الأنبياء ذكر سيرتهم أو صفاتهم، بل ما هو إلا عنوان حكمةٍ معيّنةٍ ذكرها الله عنهم في القرآن الكريم. وكلمة "فصّ" تعني في اللغة "جوهر" وقال صدر الدين القونوي في مقدمة شرحه للفصوص أن الفصّ عبارة عن خاتمة علوم كل مرتبة من المراتب المذكورة في هذا الكتاب... والكلمة عين ذلك النبي المذكور من حيث خصوصيته.[5]
فهذا الكتاب يتضمن سبعة وعشرين بحراً من العلم، كل بحرٍ عنوانه هذا النبيّ من
الأنبياء الذي سميّ الفصّ باسمه. وليس قولنا "بحراً" مبالغة في الكلام، ولا مجازا
ولا حتى كناية، بل هو حقيقة، وذلك لأنّ الأنبياء هم على الحقيقة كلمات الله تعالى
الذي يقول في سورة النساء عن عيسى عليه السلام مثلاً: ((... إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِّنْهُ ... [171]))، ثم قال الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف:
((قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ
قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [109]))،
وقال أيضاً في آية أخرى من سورة لقمان: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن
شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا
نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [27])). وبحسب رؤية
الشيخ محي الدين ابن العربي فإن الوجود هو كلمات الله تعالى التي لا تنفد، فهؤلاء الأنبياء
السبعة والعشرون الذين سمّى الشيخ محي الدين أسماء فصوص (أي أبواب) هذا الكتاب على
أسمائهم هم سبعة وعشرون كلمة من كلمات الله تعالى، التي لو كان البحر، يمدّه من
بعده سبعة أبحر، مداداً لها لنفد البحر قبل أن تنفد هذه الكلمات.
[1] د. أبو العلا عفيفي: مقدمة فصوص الحكم، ص7.
[2] مؤلفات ابن عربي: ص479-500.
[3] مؤلفات ابن عربي: ص479، 574، ولكن قد يكون هذا الكتاب منتحلا أو مضافا عليه من قبل بعض الدارسين اللاحقين.
[4] الذهبي، "سير أعلام النبلاء": ج23ص48.
[5] القونوي: فكوك خواتم الفصوص، ص3.