المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 62]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
لما بين [ الله ] تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحل بهم من النكال ، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ، كما قال تعالى : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62 ] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) [ فصلت : 30 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال سلمان : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ) إلى آخر الآية .
وقال السدي : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ) الآية : نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبيا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان ، هم من أهل النار . فاشتد ذلك على سلمان ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان إيمان اليهود : أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ، عليه السلام ؛ حتى جاء عيسى . فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ، فلم يدعها ولم يتبع عيسى ، كان هالكا . وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا .
قلت : وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ) الآية فأنزل الله بعد ذلك : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران : 85 ] .
فإن هذا الذي قاله [ ابن عباس ] إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [ الله ] بما بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود أتباع موسى ، عليه السلام ، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم .
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ، عليه السلام : ( إنا هدنا إليك ) [ الأعراف : 156 ] أي : تبنا ، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض .
[ وقيل : لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون ، أي : يتحركون عند قراءة التوراة ] .
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم : أنصار أيضا ، كما قال عيسى ، عليه السلام : ( من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) [ آل عمران : 52 ] وقيل : إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وابن جريج ، وروي عن ابن عباس أيضا ، والله أعلم .
والنصارى : جمع نصران كنشاوى جمع نشوان ، وسكارى جمع سكران ، ويقال للمرأة : نصرانة ، قال الشاعر :
نصرانة لم تحنف
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين ، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه زجر . وهؤلاء هم المؤمنون [ حقا ] . وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية . وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن
مجاهد ، قال : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ، ليس لهم دين . وكذا رواه ابن أبي نجيح ، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس ، والسدي ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، والضحاك [ وإسحاق بن راهويه ] الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور .
[ ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ] .
وقال هشيم عن مطرف : كنا عند الحكم بن عتيبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين : إنهم كالمجوس ، فقال الحكم : ألم أخبركم بذلك .
وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن عبد الكريم : سمعت الحسن ذكر الصابئين ، فقال : هم قوم يعبدون الملائكة .
[ وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الحسن قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس . قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية . قال : فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة ] .
وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرؤون الزبور ، ويصلون إلى القبلة .
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : الصابئون قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات .
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ، فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا .
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم ، يعني في قول : لا إله إلا الله .
وقال الخليل هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح ، عليه السلام . وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ، ولا تؤكل ذبائحهم ، قال ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم . قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنها فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ، قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، رادا عليهم ومبطلا لقولهم .
وأظهر الأقوال ، والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ، ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ، أي : أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك .
وقال بعض العلماء : الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن. والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام, فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم, لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها, ومَنْ رحمته وسعت كل شيء. وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين.
تفسير البغوي
( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) يعني اليهود سموا به لقولهم إنا هدنا إليك أي ملنا إليك وقيل لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل وقيل لأنهم مالوا عن دين الإسلام وعن دين موسى عليه السلام وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون : إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة ( والنصارى ) سموا به لقول الحواريين : نحن أنصار الله ، وقال مقاتل : لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة وقيل لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام
( والصابئين ) قرأ أهل المدينة : والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة وأصله الخروج ، يقال صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر وصبأت النجوم إذا خرجت من مطالعها وصبأ ناب البعير إذا خرج فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين قال عمر وابن عباس : هم قوم من أهل الكتاب قال عمر رضي الله عنه ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس وقال الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رءوسهم ويجبون مذاكيرهم وقال قتادة : قوم يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة ويقرون بالله تعالى أخذوا من كل دين شيئا قال عبد العزيز بن يحيى : انقرضوا .
( من آمن بالله واليوم الآخر ) فإن قيل كيف يستقيم قوله ( من آمن بالله ) وقد ذكر في ابتداء الآية ( إن الذين آمنوا ) ؟ قيل اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم أراد بقوله ( إن الذين آمنوا ) على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم هم الذين آمنوا قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار وقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل والبراء السني وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وبحيرا الراهب ووفد النجاشي فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ( وبايعه ) ، ومنهم من لم يدركه . وقيل هم المؤمنون من الأمم الماضية وقيل هم المؤمنون من هذه الأمة ( والذين هادوا ) الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ولم يبدلوا ، والنصارى الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك ، قالوا وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق كالإسلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والصابئون زمن استقامة أمرهم ( من آمن ) أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة ويجوز أن يكون الواو مضمرا أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة وقال بعضهم إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التبديل والصابئون بعض أصناف الكفار ( من آمن بالله واليوم الآخر ) هذه الأصناف بالقلب واللسان ( وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن ( من ) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ( ولا خوف عليهم ) في الدنيا ( ولا هم يحزنون ) في الآخرة.
الإعراب:
(الَّذِينَ هادُوا) اليهود.
(الصابئ) التارك لدينه.
(إِنَّ) حرف مشبه بالفعل.
(الَّذِينَ) اسم موصول في محل نصب اسمها.
(آمَنُوا) فعل ماض وفاعل والجملة صلة الموصول.
(وَالَّذِينَ) معطوف على الذين الأولى.
(هادُوا) مثل آمنوا.
(وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) معطوفان على الذين.
(مَنْ) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب بدل من اسم إن، ويجوز إعرابها شرطية مبتدأ.
(آمَنَ) فعل ماض والفاعل هو والجملة صلة الموصول.
(بِاللَّهِ) متعلقان بالفعل.
(وَالْيَوْمِ) معطوف على اللّه.
(الْآخِرِ) صفة اليوم.
(وَعَمِلَ) الجملة معطوفة على أمن.
(صالِحًا) مفعول به.
(فَلَهُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط في المعنى ولهم متعلقان بالخبر المحذوف.
(أَجْرُهُمْ) مبتدأ والجملة خبر إن، أو جواب الشرط.
(عِنْدَ) ظرف مكان متعلق بالمصدر أجر أو بحال محذوفة تقديرها محفوظا عند ربهم.
(رَبِّهِمْ) مضاف إليه.
(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا نافية لا عمل لها لأنها تكررت. وهذه الجملة سبق إعرابها مع الآية (38).