موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح الجامي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عبد الرحمن الجامي

فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية


15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر
الفصّ العيسوي
قال الشيخ رضي الله عنه : (
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين ... في صورة البشر الموجود من طين
تكون الروح في ذات مطهرة ... من الطبيعة تدعوها بسجين)
فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
لفظة النبي التي وردت بالهمز وبدونه ، فبالهمز مشتق من النبأ بمعنى الإخبار فنسب الشيخ رضي اللّه عنه حكمته إليه لأنه أنبأ عن نبوته في المهد بقوله : "وآتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا "[ مريم : 30 ] .
وفي بطن أمه بقوله :" أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا " [ مريم: 24] ،
أي سيدا على القوم بالنبوّة ، فله زيادة خصوصية بها ، وبدون الهمز من نبا ينبو بمعنى ارتفع لارتفاعه إلى السماء . قال تعالى: " بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ "[ النساء : 158 ] .
ثم اعلم أن لعيسى عليه السلام جهة جسمانية وجهة روحانية وأحدية جمع للجهتين ، فإذا نظر إلى جهة الجسمانية يظن أنه تكوّن من ماء مريم وإذا نظر إلى جهة الروحانية وآثارها من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين يحكم أنه من نفخ جبريل .
وإذا نظر إلى أحدية جمعهما يقال : إنه متكوّن منهما ، فلذا قال الشيخ رضي اللّه عنه على سبيل منع الخلق المحتمل انفراد كل من الأمرين واجتماعه في تكونه ( عن ماء مريم أو نفخ جبريل ) هو لغة في جبريل ، وهذا الكلام يحتمل أن يكون خبرا كما هو الظاهر واستفهاما للتقدير بتقدير الهمزة ( في صورة البشر الموجود في طين ) حال من جبريل .
أي عن ماء مريم أو عن جبريل حال كونه متمثلا في صورة بشرية كما قال تعالى :" فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا " [ مريم : 17 ] .
( تكون الروح ) ، أي الحقيقة المعنوية العيسوية بصورته الشخصية الخارجية ( في ذات مطهرة عن الطبيعة ) ، أي عن غلبة أحكام الطبيعة السفلية العنصرية ( التي يدعوها ) اللّه سبحانه ويسميها في كتابه العزيز ( بسجين ) مأخوذ من السجن لأن كل ما هو في عالم الطبيعة مسجون محبوس مقيد بالتعلقات الجسمانية والقيود الظلمانية .
وفي بعض النسخ تدعوها بتاء الخطاب أو التأنيث ، أي الطبيعة تدعوه : أنت بسجين أو الطبيعة التي تدعو بتلك الذات المطهرة إلى سجين فتكون الباء بمعنى إلى
قال الشيخ رضي الله عنه : (
لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين
روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين
حتى يصح له من ربه نسب ... به يؤثر في العالي وفي الدون
الله طهره جسما ونزهه .... روحا وصيره مثلا بتكوين
اعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيي ذلك الشيء وسرت )
(لأجل ذلك ) ، أي لأجل تكونه من نفخ جبريل ، لأن للأرواح صفة البقاء أو لأجل تكونه في ذات مطهرة ، لأن طهارة المحل توجب طهارة المحمول والطهارة تستدعي طول البقاء ( قد طالت إقامته ) ، أي إقامة الروح الذي هو عيسى عليه السلام ( فيها ) ، أي في صورة البشر ( على ألف ) من السنين ( بتعيين ) ، أي بتعيين الحق تلك المدة لما يقتضي استعداده إياه .
وفي رواية إلى حين ، أي زيادة ممتدة إلى حين عينه الحق سبحانه بمقتضى استعداده .
وإنما حكم بزيادة طوال إقامته على ألف لأن مولد عيسى عليه السلام كان قبل مولد نبينا صلى اللّه عليه وسلم بخمسمائة وخمسة وخمسين سنة وقد بقي بعده سينزل ويدعو الناس إلى نبينا صلى اللّه عليه وسلم ( روح ) ، أي هو روح ملقى ( من اللّه ) أحدية جمع الأسماء ، وكلمة ملقاة منه بواسطة جبريل إلى مريم ليكون مظهرا لهذا الاسم الجامع ( لا من غيره ).
يعني لا من غير ذلك الاسم الجامع من الأسماء التالية له ، ولا من الوسائط الكونية فهو ملقى منه بلا واسطة ( فلذا ) ، أي لكونه ملقى من هذا الاسم الجامع ، ومظهرا له ظهر منه آثار الأسماء المتكثرة كما أنه ( أحيى الموتى ) فإن إحياء الموات إنما يترتب على أسماء كثيرة من أسمائه سبحانه كالحي العليم المريد القادر المحيي ( و ) كما ( أنشأ الطير ) يعني الخفاش ( من طين ) فإن إنشاء الطير كذلك يترتب على ما سبق من الأسماء وعلى الخالق والصور أيضا ، وإنما أحيى الموتى وأنشأ الطير ( حتى يصح ) ، أي يثبت ويظهر (له من ربه ) الذي هو الاسم الجامع ( نسب ) بالفتحتين أي نسبه بالمظهرية (به ) ، أي بذلك السبب ( يؤثر في العالي ) المرتبة الذي هو الإنسان بإحياء الأموات منه بالرتبة كالطير بإنشاء نوع منه أو في العلويات ( وفي الدّون ) والسفليات ( اللّه طهره جسما ) من أدناس الطبيعة ( ونزهه روحا ) ، من الصفات الوخيمة والملكات الرذيلة ( وصيره مثلا ) ، أي مماثلا مشابها لنفسه (بتكوين ) ، أي بجامع التكوين ، فكما أنه سبحانه يكون الأنبياء كذلك هو يكون .
وقيل : معناه صيره مثالا لآدم بتكوينه من غير أب .
( اعلم أن من خصائص الأرواح ) المجردة التي من صفاتها الذاتية الحياة ومن شأنها التمثل بالصورة المثالية ( أنها لا تتعلق بشيء ) في مقام تجردها إلا حيي ذلك الشيء
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الحياة فيه.
ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبريل عليه السلام وهو الروح.
وكان السامري عالما بهذا الأمر.
فلما عرف أنه جبريل، عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه، فقبض قبضة من أثر الرسول بالصاد أو بالضاد أي بملء أو بأطراف أصابعه، فنبذها في العجل فخار العجل، إذ صوت البقر إنما هو خوار، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل والثؤاج للكباش واليعار للشياه والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام.
فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى لاهوتا والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح. فسمي الناسوت روحا بما قام به. )
المتعلق به بحسب استعداده للحياة ( ولا تطأ شيئا ) ولا يمسه في حال تمثله ( إلا حيي ذلك الشيء ) الموطوء عليه ( وسرت ) منه ( الحياة فيه ) ، بل فيما يلابسه ذلك الشيء الموطوء عليه ( ولهذا ) السريان والعلم به ( قبض السامري قبضة ) ، أي قبضة من تراب ( من أثر ) براق ( الرسول الذي هو جبريل عليه السلام ) متمثلا بصورة بشرية ( وهو ) ، أي جبريل هو ( الروح ) حقيقة باعتبار حقيقته المجردة ومجازا باعتبار صورته المثالية ( وكان السامري عالما بهذا الأمر فلما عرف ) بنور بصيرته المكتسبة في صحبة موسى عليه السلام ( أنه ) ، أي الرسول ( جبريل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه ) من التراب وأنها تسري من ذلك التراب الموطوء عليه إلى ما يلابسه .
( فقبض قبضة من أثر ) براق ( الرسول بالضاد ) المعجمة ( وبالصاد المهملة أي على يده ) ، على الأول ( أو بأطراف أصابعه ) ، على الثاني ( فنبذها ) ، أي طرح السامري هذه القبضة من التراب ( في ) صورة ( العجل ) المتخذة من حلي القوم (فخار العجل ) لسراية الحياة فيه ، وإنما سمي الصوت الظاهر من العجل خوار (إذ ) العجل من نوع البقر و ( صوت البقر إنما هو خوار ولو أقامه ) ، أي السامري العجل باعتبار مادته ( صورة أخرى ) إبلية أو كبشية أو شاتية أو إنسانية أو غير ذلك ( لتسبّب ) على البناء للمفعول أو الفاعل أي تسبب اللّه سبحانه أو السامري بأن يكون الفعل مسندا إلى السبب ( إليه ) ، أي إلى العجل الذي أقامه صورة أخرى.
( اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء ) بضم الراء والغين المعجمة ( للإبل ) خاصة ( والثواج ) بضم المثلثة والجيم (للكباش ) خاصة ( واليعار ) بفتح الياء المنقوطة نقطتين من تحت العين المهملة ( للشاة ) خاصة ( والصوت للإنسان ) ولغيره أيضا ( أو النطق له ) خاصة ( والكلام فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء ) بل الروح الذي منه سرت تلك الحياة في الأشياء ( يسمى لاهوتا ) .
لأن الحياة صفة إلهية تستلزم صفات إلهية أخرى كالعلم والإرادة والقدرة ( والناسوت هو المحل القائم به وذلك الروح ) بل صفاته السارية منه فيه ، فإن الروح ليس قائما بالمحل بل القائم به إنما هو الصفات السارية من الروح إليه ،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبريل لمريم عليهما السلام بشرا سويا تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها، فاستعاذت بالله منه استعاذة بجمعية منها ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز.
فحصل لها حضور تام مع الله وهو الروح المعنوي.
فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمه. فلما قال لها «إنما أنا رسول ربك» جئت «لأهب لك غلاما زكيا» انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها.
فنفخ فيها في ذلك الحين)
فالناسوت إن كان مأخوذا من الناس ليس مخصوصا به بل يطلق عليه وعلى غيره باعتبار محليته لصفات الروح وقيامها به ، ولما كان اسم الروح يطلق على الصورة المشهودة العيسوية وعلى الصورة المثالية الجبريلية ، أراد أن ينبه على أنه على سبيل التجوز فقال :
( فيسمى الناسوت روحا ) ، كما قلناه في عيسى وجبريل عليهما السلام ( بما قام به ) ، أي باسم ما قام به باعتبار قيام صفاته وظهورها فيه تسمية للمحل باسم الحال ( فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبريل لمريم عليهما السلام بشرا سويا ) ، أي تام الخلقة .
( تخيلت ) مريم ( أنه بشر يريد مواقعتها فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعية ) ، أي بجمعية الهمم والقوى (منها ) ، أي من مريم ( ليخلصها اللّه منه لما كانت ) مريم ( تعلم أن ذلك مما لا يجوز ) في الشرائع ( فحصل لها عند حصول تلك الجمعية حضور تام مع اللّه سبحانه ) ، بحيث لا يسع غيره .
وفي النسخة المقروءة على الشيخ رضي اللّه عنه ، فحصل من التحصيل ، أي جبريل لها ، أي لمريم حضورا تاما مع اللّه سبحانه ( وهو ) ، أي هذا الحضور وهو ( الروح المعنوي ) الذي حييت به مريم الحياة المعنوية الحقيقية التي هي التحقق بشهود الحق سبحانه ، فلروح آخر غير الروح الأمين دخل في وجود عيسى عليه السلام الذي هو أيضا روح ( فلو نفخ جبريل فيها ) ، أي في مريم في ذلك الوقت .
أي وقت استعاذتها ( على هذه الحالة ) التي كانت عليها من تحرج صدرها وضجرها لتخيلها أنه بشر يريد مواقعتها على وجه لا يجوز في الشرائع ( لخرج عيسى عليه السلام ) بحيث ( لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه ) ، أي رداءته ( لحال أمه ) ، أي لسراية حال أمه فيه لأن الولد إنما يتكون بحسب ما غلب على الوالدين من المعاني النفسانية والصور الجسمانية .
( فلما قال ) جبريل ( لها ) ، أي لمريم (" إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " جئت ) من عنده (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا[ مريم : 19 ] انبسطت ) مريم ( عن ذلك القبض ) لما عرفت أنه مرسل إليها من عند ربه ( وانشرح صدرها ) لما تذكرت بشارة ربها إياها بعيسى إذا قالت
قال الشيخ رضي الله عنه : ( عيسى: فكان جبريل ناقلا كلمة الله لمريم كما ينقل الرسول كلام الله لأمته، وهو قوله «وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه».
فسرت الشهوة في مريم: فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم من جبريل، سرى في رطوبة ذلك النفخ لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء. فتكون جسم عيسى من ماء متوهم وماء محقق، وخرج على صورة البشر )
الملائكة " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " [ مريم : 45 ] .
( فنفخ فيها في ذلك الحين ) حين الانبساط والانشراح ( عيسى ) فخرج عيسى عليه السلام منبسطا منشرح الصدر لسراية حال أمه فيه ( فكان جبريل ناقلا كلمة اللّه ) التي هي النفس الرحماني المتعين بالتعينات العيسوية في مرتبة العلم ، فنقله جبريل إلى مرتبة العين في رحم مريم بتحصيل شرائط انتقاله من العلم ، إلى العين .
فالمراد بالكلمة الحقيقة العلمية العيسوية الجامعة بين روحه وجسده الثابتة في العلم ، ويمكن أن يراد بها حقيقته الروحانية المعتين بها النفس الروحاني في مرتبة الأرواح قبل تسوية بدنه ، وتكوّن نقله عبارة عن تحصيل شرائط انتقاله من مقام تجرده إلى مرتبة تعلقه بالبدن العيسوي ، وعلى التقديرين جبريل عليه السلام هو ناقل كلمة اللّه إلى مريم لا موجدها .
( كما ينقل الرسول كلام اللّه ) المجرد في حدّ ذاته عن الكيفيات الصوتية والحرفية فيكسوها بحسب استعداده بلسان الصوت والحرف وينقله ( لأمته ) ، أي إلى أمته على أن تكون اللام بمعنى إلى أو لأجل أمته ( و ) الذي يدل على كون جبريل ناقلا كلمة اللّه إلى مريم ( هو قوله تعالى : "وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ " [ النساء : 171] فسرت الشهوة في مريم )
بذلك النفخ الحاصل من الصورة الاعتدالية المتمثلة البشرية عند انبساطه ( فخلق جسم عيسى من ماء محقق ) من مريم بلا واسطة توهم أحد ( ومن ماء متوهم من جبريل ) توهمته مريم فترتب وجود ذلك الماء على توهمها فإن وجود بعض الأشياء قد يترتيب على توهمه كترتب السقوط عن الجذع على توهمه ( سرى ) ذلك الماء المتوهم ( في رطوبة ذلك النفخ ) المتوهمة سراية في وهم مريم فتحقق مطابقا لما توهمته ، وإنما توهمت مريم سراية الماء في رطوبة النفخ.
( لأن ) ذلك ( النفخ ) إنما وقع ( من ) جبريل حال تمثله في صورة الجسم الحيواني الذي هو صورته البشرية والنفخ ، أي الهواء المنفوخ ( من الجسم الحيواني رطب ) لا محالة ( لما فيه من ركن الماء ) ، فتسري منه الرطوبة إلى الهواء المنفوخ فيصير ماء ، فتوهمت مريم نفخ جبريل على هذه الحالة ، فتولدت من توهمها الماء ( وكوّن جسم عيسى من ماء متوهم ) حققه وهم مريم ( ومن ماء
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من أجل أمه، ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد.
فخرج عيسى يحيي الموتى لأنه روح إلهي، وان الإحياء لله والنفخ لعيسى، كما كان النفخ لجبريل والكلمة لله.
فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخه كما ظهر هو عن صورة أمه. وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه وإنما كان لله. )
محقق من مريم ) لا دخل لتوهمها في تحققه ، ويمكن أن يراد بالماء المتوهم الهواء المنفوخ المحقق الذي مائيته متوهمة ، فتكوّن جسم عيسى من ماء تحقق ومن هواء منفوخ توهمت فيه المائية ، أو يراد بالماء المتوهم ما لا يكون له تحقق في الخارج .
ويكون معنى تكون جسم عيسى منه أن له مرتبة الشرطية فمتى لم تتوهم هذا الماء لم يتكون جسم عيسى من الماء المحقق ( وخرج ) عيسى ( على صورة البشر ) دون الملك ( من أجل أمه ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر )وإنما مثل في صورة البشر .
( حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد ) الذي جرت به العادة غالبا وهو تولد من شخصين إنسانيين ، ولما ذكر رضي اللّه عنه أن عيسى عليه السلام روح من اللّه نفخه جبريل في مريم وكلمته ألقاها إلى مريم ، وإن تكوّن جسمه إنما هو من ماء محقق وماء متوهم ، أراد أن يبين أن الأحوال الجارية عليه أيضا مناسبة لهذه الأمور فقال :
( فخرج عيسى عليه السلام ) بحيث كان ( يحيي الموتى لأنه روح إلهي ) ومن خصائص الروح الحياة والإحياء ( وكان ) في صورة إحيائه ، أي إحياء عيسى الموتى ( الإحياء ) بحسب الحقيقة ( للّه والنفخ ) الذي يترتب عليه الإحياء صورة ( لعيسى كما كان ) في صورة تكوين عيسى ( النفخ ) ، أي نفخ الكلمة في مريم ( لجبريل والكلمة ) المنفوخة ( للّه ) فكان النفخ من عيسى بمنزلة النفخ من جبريل .
وكان كون الإحياء حقيقة من اللّه وصورة من عيسى ككون الكلمة حقيقة من اللّه وصورة من جبريل ( فكان إحياء عيسى عليه السلام للأموات إحياء محققا ) ، أي انتساب الإحياء إليه أمرا محقق ( من حيث ما ظهر ) ، أي من حيث ظهور ذلك الإحياء ( عن نفخه ) وترتبه عليه ( كما ظهر هو عن صورةاللّه وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه ) .
"" أضاف المحقق : وفي نسخة [ أمه ] بدل [ اللّه ] وهو ما اعتمدناه وأثبتناه في نسخة المتن في الأعلى .""
أي وكان انتساب الإحياء إليه بأنه منه أيضا متوهما ، فإن الإحياء بسبب التحقيق إنما هو منتسب إلى اللّه سبحانه ، لأن الفاعل الحقيقي والمؤثر في الوجود إنما هو اللّه سبحانه ، فانتسابه إلى عيسى يكون متوهما من ترتبه على نفخه صورة
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فجمع بحقيقته التي خلق عليها كما قلناه أنه مخلوق من ماء متوهم وماء محقق: ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه وبطريق التوهم من وجه، فقيل فيه من طريق التحقيق «هو يحي الموتى»، وقيل فيه من طريق التوهم «فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني» فالعامل في المجرور «يكون» لا قوله «تنفخ».
ويحتمل أن يكون العامل فيه تنفخ، فيكون طائرا من حيث صورته الجسمية الحسية.
وكذلك «تبرئ الأكمه والأبرص» وجميع ما ينسب «إليه )
( وإنما كان ) الإحياء حقيقة ( للّه ) صادرا عنه .
وفي بعض النسخ : وإنما كان من اللّه وهو أظهر ( فجمع ) عيسى عليه السلام في الإحياء بين التحقيق والتوهم ( بحقيقته ) ، أي لأجل حقيقته (التي خلق عليها كما قلناه أنه مخلوق من ماء متوهم ومن ماء محقق ) فكما كان للتحقيق والتوهم دخل في حقيقته فكذلك لهما دخل في الإحياء ( ينتسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه ) وهو ظهوره عن نفخه .
( وبطريق التوهم من وجه ) وهو أن الفاعل الحقيقي إنما هو اللّه سبحانه ، فالإحياء بحسب الحقيقة له وليس لعيسى إلا المظهرية ( فقيل فيه ) ، أي في عيسى ( من طريق التحقيق ) نظرا إلى ترتب الإحياء على نفخه ("ويُحْيِ الْمَوْتى ") فأسند الإحياء إليه لا إلى اللّه سبحانه .
( وقيل فيه من طريق التوهم ) نظرا إلى أن المحيي في الحقيقة هو اللّه سبحانه ، وإسناد الإحياء إلى عيسى إنما هو على سبيل التوهم ( فتنفخ فيه ) ، أي فيما تخلقكَهَيْئَةِ الطَّيْرِ( فيكون طيرا بإذن اللّه ) ، أي كونه ذا حياة وطيران إنما هو بإذن اللّه ونفاذ أمره .
(والعامل في المجرور ) على هذا المعنى قوله ( فيكون لا ) قوله ( تنفخ ويحتمل أن يكون العامل فيه ) ، أي في المجرور قوله : ( تنفخ ) ، فإن النفخ أيضا بإذن اللّه يجعل عين النافخ أولا بالقبض الأقدس مستعدا قابلا للتصرف ، وبتمكينه ثانيا بالقبض المقدس في الوجود العيني مع إلهام قلبي أو وحي نازل فيشر بكونه طائرا ذا حياة وطيران على نفخ عيسى فيكون من قبيل الوجه المحقق.
( فيكون ) حينئذ ما خلقه عيسىكَهَيْئَةِ الطَّيْرِ( طائرا ) من جهة نفخه وقوله : ( من حيث صورته الحسية الجسمية ) إشارة إلى أن النفخ لا يفيد إلا حياة الجسم المنفوخ فيه ، وأما خصوصية كونه طائرا لا من حيث الحقيقة وفيه نظر .
فإنه إذا تعلقت الحياة بالصورية الطيرية يكون طيرا بالحقيقة لا محالة .
وقيل : هو بيان المناسبة بين المكوّن الذي هو عيسى وبين المكوّن الذي هو الطير لا بد منها في التكوين كما في التوليد فيه بعد .
وقيل : معناه فيكون طائرا محققا صادرا من عيسى من حيث صورته المحققة الحسية الجسمية ، لأن الكلام في جهة التحقيق ( وكذلك يشتمل ) على جهة التحقيق والتوهم إبراء الأكمة والأبرص المنسوب إلى عيسى عليه السلام بالحقيقة في قوله تعالى : ("وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ" [ المائدة : 110 ] وجميع ما ينسب )
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإلى إذن الله وإذن الكناية في مثل قوله بإذني وبإذن الله.
فإذا تعلق المجرور «بتنفخ» فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ويكون الطائر عن النافخ بإذن الله. وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن، فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن الله، فيكون العامل عند ذلك «يكون».
فلو لا أن في الأمر توهما وتحققا ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين. بل لها هذان الوجهان لأن النشأة العيسوية تعطي ذلك.
وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرع لأمته أن «يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن لطمه، ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه.
هذا له من جهة أمه، إذ المرأة لها السفل، فلها التواضع لأنها تحت الرجل حكما وحسا.)
تارة ( إليه ) ، أي إلى عيسى عليه السلام من الأفعال الخارقة للعادات (و) تارة (إلى بإذن اللّه) ، أي الإذن المضاف إلى اللّه (أو إذن الكناية) ، أي الإذن المضاف إلى ضمير هو كناية عن اللّه ( في مثل قوله بإذني ) كما قال تعالى :" وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي " [ المائدة :110]
(وفي مثل قوله : بإذن اللّه ) كما قال تعالى حكاية عنه :فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ،وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ[ آل عمران : 49 ] .
( فإذا تعلق المجرور بتنفخ فيكون النافخ مأذونا في النفخ ويكون ) ، أي يوجد ( الطير عن النافخ ) ، أي الذي ينفخ (بِإِذْنِ اللَّهِ) فيترتب وجود الطائر على نفخه الذي وقع بالإذن ويكون ترتبه عليه على وجه التحقيق ( وإذا ) تعلق المجرور بقوله فيكون ( كان النافخ نافخا لا عن الإذن فيكون التكوين ) ، أي التكوين ( للطائر ) بالإذن ( ويكون العامل ) في المجرور ( عند ذلك ) .
قوله : ( فيكون ) فنسبة التكوين إلى عيسى عليه السلام وترتبه على نفخه تكون على وجه التوهم ( فلو لا أن الأمر ) ، أي أمر عيسى بحسب أصل خلقته ( توهما وتحققا ما قبلت هذه الصورة ) الكلامية التي وقعت في بيان معجزاته ( هذين الوجهين ) ، أي وجهي التحقيق والتوهم ( بل لها ) ، أي لتلك الصورة الكلامية ( هذان الوجهان ، لأن النشأة العيسوية تعطى ذلك ) كما عرفت ( وخرج عيسى ) ، أي ظهر ( من التواضع إلى أن شرع ) على بناء الفاعل ، أي شرع عيسى ( لأمته أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) متواضعون عاجلون لأنفسهم حقيرا منقاد ( وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر ) وأداره ( لمن يطلمه ) ، أي لا يكون بصدد الانتقام ( ولا يرتفع عليه ) ، أي على اللاطم ( ولا يطلب القصاص منه هذا له من جهة أمه إذ المرأة لها السفل فلها التواضع ) .
وإنما قلنا : المرأة لها السفل ( لأنها تحت الرجل حكما ) ، أي أدون منه في الأحكام الشرعية وغيرها ولذلك ترى جعل نصيبه
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبريل في صورة البشر. فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر.
ولم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى لا يحيى إلا حتى يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها.
ولو أتى جبريل أيضا بصورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته لكان عيسى لا يحيي الموتى إلا حتى يطهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمه.
فكان يقال فيه عند )
ضعف نصيبها في قوله :"لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"[ البقرة : 11 ] وشهادة اثنين منها بشهادة واحد منه ( وحسا ) ، وهو ظاهر ( وما كان فيه )، أي في عيسى ( من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبريل ) عليه السلام حال كونه متمثل ( في صورة البشر فكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى ) حين تلبسه ( بصورة البشر ولو لم يأت جبريل ) حين النفخ في مريم ( في صورة البشر وأتى في صورة غيرهما من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى لا يحيي الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ) .
أي تمثل تلك الصورة التي أتى فيها جبريل ( ويظهر فيها ) ولكن مع الصورة البشرية من جهة أمه فتلبس عيسى بتلك الصورة إنما يجب بقدر ما يمكن أن يجتمع مع الصورة البشرية .
وذلك لأن ظهور خواص الوالدين وأحكامهما في الولد إنما هو بحسب تكونه على صورتهما ، أي أن البغل المتولد من الفرس والحمار إنما تجري عليه أحكام الفرس من حسن الجري وشدة العدو ولما فيه من الصورة الفرسية .
وكذلك خواص الحمار توجد فيه لما فيه من صورة الحمارية ( ولو أتي جبريل بصورته النورية الخارجة عن طباع العناصر والأركان ) ، أي المرتقية عنها لا عن الطبيعة مطلق ( إذ ) هو طبيعي نوري ( لا يخرج عن طبيعته النورية ) ، وإن خرج من العناصر والأركان .
وذلك لأن جبريل سلطان العناصر وله أن يظهر في السماوات السبع وما تحتها من العناصر والعنصريات لأهليها بأي صورة شاء من صورها بحسب الموطن والمقام والمناسبة واستعداد من ظهر له .
وأن يخرج عن صورها بالترقي عنها والرجوع إلى صورته الأصلية الطبيعية النورية ، فإن صورته الأصلية غير عنصرية بل طبيعية نورية ما بين الفلك الثامن والسابع وليس له أن يخرج عن هذه الطبيعة التي هي له بالأصالة بالترقي إلى ما فوقها وهذا معنى ما روى أنه لا يتعدى سدرة المنتهى .
فإن السدرة هي منتهى السابع صعودا والثامن هبوط ( لكان عيسى لا يحيي الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا ) الصورة ( العنصرية ) ظهورا جامعا ( مع الصورة البشرية من جهة أمه ) فتكون طبيعته نورية غير عنصرية في صورة بشرية
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إحيائه الموتى هو لا هو، و تقع الحيرة في النظر إليه كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا من البشر يحيي الموتى، و هو من الخصائص الإلهية، إحياء النطق لا إحياء الحيوان، بقي الناظر حائرا، إذ يرى الصورة بشرا بالأثر الإلهي.)
(فكان يقال فيه ) ، أي في عيسى ( عند إحياء الموتى ) أنه ( هو ) ، أي جبريل بطبيعته النورية الغير العنصرية ( لا هو ) بصورته البشرية ( وتقع الحيرة في النظر إليه ) هل هو جبريل أوليس بجبريل ( كما وقعت الحيرة في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا ) ، أي على صورة البشر ( من نوع البشر يحيي الموتى وهو ) ، أي إحياء الموتى ( من الخصائص الإلهية ) .
التي لا تكون لغير اللّه بالصناعات العملية والأعمال الطلسمية ، فإن غاية ما تكلم أربابها عليه بهيئة مادة قابلة وتركيب أركان معينة بمقادير متزنة بالميزان الذي عندهم حتى يفيض عليها نفس من المبدأ أو إرادة الميت حيا صورة لا حقيقة لا إحياء ما مات بعدما كان حيا حقيقة وهو المراد بإحياء الموتى ، فإن ذلك مما لا كلام لأحد عليه أصل .
( إحياء النطق ) منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : محيي الموتى أو مرفوع على أنه بيان وتفسير للضمير المرفوع ، والمراد بالإحياء النطق أما الإحياء الذي يوجب نطق الجسم المائت والذي يحصل بنطق المحيي ودعائه
وقوله : قم بإذن اللّه ، وعلى الأول فهو إما بيان للواقع على ما روى في قصته أنه أحيا سام بن نوح فنطق وشهد بنبوته ثم رجع إلى حالته
وحينئذ معنى قوله : ( لا إحياء الحيوان ) ، أي الحيوان الذي يمشي ويأكل ويبقى حيا مدة ، فحاصله أن الإحياء الواقع من عيسى ذاك لا هذا ، وإما تقييد للإحياء ليصير من الخصائص الإلهية وفيه أن إحياء الجيف مطلقا سواء كانت جيف الحيوانات الناطقة أو غيرها من الخصائص الإلهية.
فإذا ظهر على يد أحد فإما معجز أو كرامة أو استدراج أجراه اللّه على يده . وأما إحياء الحيوان بمعنى جعل المادة قابلة لفيضان الحياة من المبدأ فليس من الخصائص الإلهية فيمكن أن يحصل بالتعملات الصناعية كالتعقبات وغيرها .
وعلى الثاني أيضا يحتمل أن يكون بيانا للواقع ، فإن إحياء سام بن نوح كان بنطقه ودعائه ، وإن يكون تقييدا فإن الإحياء بمجرد النطق والدعاء من الخصائص الإلهية لا إحياء الحيوان بتهيئة المادة لفيضان الحال عليها .
والذي يخطر ببالي أن المراد بإحياء النطق إحياء لا يظهر من الحي أثرا من آثار الحياة إلا النطق وبإحياء الحيوان أن يحصل فيه مزاج معدل مسوى بحيث إن تظهر الخواص الحيوانية كلها على الطريقة المعهودة كالمشي والأكل والشرب والبقاء مدة طويلة وغير ذلك.
(بقي ) ذلك العاقل ( الناظر حائرا ) في أنه بشرا وإله ( إذ رأى الصورة بشرا متلبسا بالأثر الإلهي ) الذي هو من خصائصه وهو
قال الشيخ رضي الله عنه : (فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول، و أنه هو الله بما أحيا به من الموتى، و لذلك نسبوا إلى الكفر و هو الستر لأنهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى.
فقال تعالى «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله لأنه لا بقولهم هو الله، ولا بقولهم ابن مريم )
الإحياء ههنا ( فأدى ) النظر ( بعضهم فيه ) ، اي في الشخص البشري المحيي للموتى (إلى القول بالحلول ) ، أي حلول اللّه في صورته البشرية ( وأنه ) ، أي وإلى القول بأنه ( هو اللّه سبحانه بما أحيا به من الموتى ) يعني الحكم بإلهيته إنما هو باعتبار ما حل فيه لا باعتبار صورته .
( ولذلك ) القول بالحلول بأنه هو اللّه من حيث ما حل فيه ( نسبوا إلى الكفر ) والكفر مطلقا ( هو الستر ) والمذموم منه ستر الحق بالباطل ، وإنما صار قوله بالحلول سببا لنسبتهم إلى الكفر ( لأنهم ) لما ذهبوا إلى القول بالحلول ( ستروا اللّه الذي أحيا الموتى ) ، أي حكموا باستتاره .
( بصورة بشرية عيسى ) ، لأن الحال لا محالة مستتر بما حل فيه ولذلك كفرهم اللّه سبحانه ( فقال :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَفجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله ) لا في أجزائه .
وإنما قلنا : الجمع بين الخطأ والكفر في تمام الكلام لا في أجزائه لأنه ، أي الجمع بينهم ( لا ) يتحقق ( بقولهم ) المسيح ( هو اللّه ) ، أو اللّه هو المسيح فقط ، فإن حمل على أن هوية الحق سبحانه هي التي تعينت وظهرت بالصورة المسيحية كما ظهرت بصور العالم كلها من غير أن يلاحظ فيه معنى الحصر فهو صدق لا شك فيه .
وإن لوحظ فيه معنى الحصر فهو كفر وستر لما هو الحق عليه من عموم سريانه في الموجودات كلها ، وإن حمل على أن الهوية الإلهية حالة في الصورة المسيحية فهو أيضا كفر إذ ظهورها في الأشياء ظهور المطلق في المقيد لا ظهور الحال في المحل فليس فيه إلا الكفر على بعض التقادير .
( و ) كذلك الجمع بينهم ( لا ) يتحقق ( بقولهم ابن مريم ) فقط ، لأنه ابن مريم بلا شك فليس فيه كفر ولا خطأ أصلا فالجمع بينهما أنه هو مجموع الكلام لأنهم ضمنوا المسيح الإلهية واعتقدوها في ضمنه على وجه الحلول ( فعدلوا ) حال كونهم متلبسين ( بالتضمين ) ، أي بجعل اللّه من حيث هو أحيا الموتى في ضمن المسيح ونسبة الإحياء إليه ( من اللّه ) المضمن في صورة المسيح .
( من حيث ) إنه ( أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية ) المسيحية فانفهم منه أن اللّه تعالى من حيث أنه أحيا الموتى إنما هو الصورة المسيحية ، وذلك خلاف معتقدهم فهو خطأ منهم ما عمدوه ، ولكن لزم من كلامهم وذلك العدول إنما يظهر ( بقول ابن مريم ) حيث أجروه على المسيح المحمول على اللّه المحيي للموتى
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث إحياء الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شك.
فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية لصورة وجعلوها عين الصورة وما فعلوا، بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم، ففصلوا بين الصورة والحكم، لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم .
كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ، ثم نفخ، ففصل بين الصورة والنفخ وكان النفخ من الصورة، فقد كانت ولا نفخ، فما هو النفخ من حدها الذاتي.
فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو؟
فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية، فيقول هو ابن مريم.
ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية )
فعدلوا بالتضمين من الله من حيث إحياء الموتى إلى الصورة الناسوتية ( وهو ) من حيث صورته الناسوتية ( ابن مريم بلا شك ) لا من حيث ما أحيا به الموتى فيتبادر الفهم أنه من حيث صورته الناسوتية محمول على اللّه ( فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية ) وأثبتوها ( للصورة وجعلوها ) بل الموصوف بها وهو اللّه ( عين الصورة ) المسيحية ( وما فعلوا )من ذلك عن قصد بل توهمه السامع من كلامهم .
( بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء ) ، أي في ابتداء كلامهم حيث قالوا : إن اللّه هو المسيح حالة ( في صورة بشرية هي ابن مريم ) ، لا ما حل فيها ( ففصلوا بين الصورة والحكم ) أي الإلهية التي هي المحكوم بها فإنهم ما حكموا على الصورة بل ما حل فيه .
( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) ، أي الإلهية على عين الموصوف بها ، ثم إنه رضي اللّه عنه لما بين أنهم فصلوا بين حكم الإلهية والصورة المسيحية شبه هذا الفصل بفصل جبريل بين النفخ والصورة البشرية .
فقال : ( كما كان جبريل في صورة ) البشر أول ( ولا نفخ منه ) في مريم ( ثم نفخ فيها ففصل بين الصورة ) البشرية ( والنفخ ) حيث تخلق النفخ عنها ( و ) لكن ( كان النفخ ) صادرا ( من الصورة ) آخرا فقد كانت الصورة ولا نفخ منه ( فما هو ) ، أي النفخ ( من حدها الذاتي ) الذي لم يفصل عنها ولا لازمها الخارجي كذلك ، ثم إنه لما استمر من العقلاء أهل النظر النظر في أمر عيسى عليه السلام وكان له وجوه متعددة اختلفت آراؤهم فيه .
( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته ) الهيولانية الجسمانية ( الإنسانية البشرية فيقول هو ابن مريم ، ومن ناظر فيه من حيث
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فينسبه إلى جبريل.
ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى الله بالروحية فيقول روح الله. أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه.
فتارة يكون الحق فيه متوهما- اسم مفعول وتارة يكون الملك فيه متوهما،
وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة: فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه.
فهو كلمة الله وهو روح الله وهو عبد الله، وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره، بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية. )
الصورة المتمثلة البشرية ) التي تمثل بها جبريل حين النفخ ( فينسبه لجبريل عليه السلام ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى ) الذي هو من الخصائص الإلهية ( فينسبه إلى اللّه بالروحية فيقول روح اللّه ، أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ) من الموتى ، فتسميته روحا إنما هو باعتبار ظهور الحياة واختصاصه باللّه ، لأن تغذية الحياة إلى ما لا تعلق به كالبدن من الخواص الإلهية دون الأولتين لعموم النظر فيها .
فمنهم من قال : هو اللّه ، ومنهم من قال : هو ابن اللّه على الخلاف المشهور بين المسيحيين ( فتارة يكون الحق فيه متوهما اسم مفعول ) م ن حيث تصدر عنه الصفات الإلهية من الإحياء والإبراء وغيرهما .
( وتارة يكون الملك فيهمتوهما ) حيث تشاهد فيه الصفات الروحانية والملكات الملكية ( وتارة تكون البشرية ) الحقيقية (الإنسانية ) لا الصورة الملكية ( فيه متوهمة ) حيث تظهر منه الأفعال البشرية كالأكل والشرب وغيرهما .
وإيراد التوهم ههنا على سبيل المشاكلة إن كان مقابلا للتحقق ، وإذا أريد به إدراك المعنى الجزئي فيمكن أن يتكلف له وجه في جميع هذه الصور ( فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه ) في اعتقاده حين مشاهدته حقا كان أو باطل ( فهو ) عند أهل الحق ( كلمة اللّه ) باعتبار حصوله من نفخ جبريل ( وهو روح اللّه ) .
باعتبار مبدئيته للإحياء كما قال اللّه تعالى فيهما :"وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ "[ النساء : 171 ] ( وهو عبد اللّه ) باعتبار صورته البشرية كما قال تعالى :" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ "[ مريم : 30 ] .
( وليس ذلك ) الخلاف والاختلاف لتعدد الوجوه ( في الصورة الحسنة لغيره ) ، أي لغير عيسى من بني نوعه إذ ليس شخص مثل عيسى منسوبا إلى جبريل (بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه ) ، حال كون ذلك النافخ متمثل ( في الصورة البشرية ) ضرورة أنه ليس لأحد غير عيسى نافخ .
كذلك على أن يكون الجار ظرفا مستقرا ، ولا إلى النافح روحه في صورته البشرية ، فإنه في غير عيسى غير مشهود وعلى هذا يكون الجار ظرفا لغوا للنفخ ، وإنما قلنا : ليس لغير عيسى نافخ متمثل في
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن الله إذا سوى الجسم الإنساني كما قال تعالى «فإذا سويته» نفخ فيه هو تعالى من روحه فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى.
وعيسى ليس كذلك، فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي، وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله.
فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد، فإنها عن «كن» وكن كلمة الله. فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيتها، أو ينزل هو تعالى )
صورة بشرية إذ ليس النافخ في صورته مشهودا ( فإن اللّه إذا سوى الجسم الإنساني كما قال الشيخ رضي الله عنه : "فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ" هو ) بنفسه ( تعالى من روحه ) لا بواسطة جبريل في صورة بشرية كما قال تعالى :وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ( فنسب الروح في كونه ) ، أي وجوده حيث قال : ونفخت فيه ، إذ نفخ الروح هو تكوينه فيه ( وعينه ) أي في ذاته حيث .
قال : من روحي فنسب وجود الروح وذاته ( إليه تعالى ) لا إلى جبريل متمثلا بالصورة البشرية ففي كل شخص إنساني غير عيسى التسوية مقدمة على نفخ الروح والنافخ هو اللّه سبحانه بلا واسطة جبريل في صورة بشرية ( وعيسى ليس كذلك ) لانتفاء الأمرين فيه (فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ) ، أي في النفخ الروحي .
فإذا اندرجت التسوية في النفخ كانا معا ومعلوم أن ذلك النفخ كان من جبريل في صورة بشرية ، أو يراد بالنفخ الروحي الصادر من جبريل فإنه أيضا روح ( وغيره ) ، أي غير عيسى ( كما ذكرناه ) من تقدم التسوية على النفخ وكون النافخ في صورة البشرية ( لم يكن مثله ) .
ولما انجر كلامه رضي اللّه عنه إلى أن تجلى عيسى عليه السلام بأنه كلمة اللّه أراد أن ينبه على أن هذا الحكم عام لكل موجود لا اختصاص له بعيسى كما كان لبعض توهمات الناظرين فيه اختصاص به .
فقال :( فالموجودات كلها ) روحانية أو مثالية أو جسمانية ( كلمات اللّه التي لا تنفذ ) ، أي لا تتناهى وإنما سميت كلمات اللّه ( فإنها ) صادرة ( عن ) قوله : ( كن وكن كلمة اللّه ) فسمي ما صدر عنها بالكلمة تسمية للمسبب باسم السبب ، وإنما يذكر للتسمية بها وجه آخر وهو ما اشتهر فيما بينهم من الكلمات الوجودية هي تعينات واقعة على النفس الرحماني ، كما أن الكلمات اللفظية تعينات واقعة على النفس الإنساني .
وإذا كان كلمة كن كلمة اللّه ( فهل تنسب ) تلك (الكلمة إليه سبحانه بحسب ما هو عليه ) في مقام الجمع من التنزه عن أن يكون كلامه من مقولة الصوت والحروف ( فلا تعلم ) حينئذ ( ماهيتها ) ، أي ماهية كلمة كن لأن في ذلك المقام لا مغايرة بين الذات والصفات .
فكما لا تعلم حقيقة الذات لا تعلم ماهية الصفات أيض ( أو ) تنسب إليه ( حين ينزل هو تعالى ) في موطن المثال والخيال أو الحس ( إلى صورة من

قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلى صورة من يقول «كن» فيكون قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها؟
فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد، وبعضهم إلى الطرف الآخر، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدري.
وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ فكان عيسوي المشهد.
وأما الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الحياة الإلهية الدائمة العلية النورية التي قال الله فيها «أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس»
فكل من أحيا نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم بالله، فقد أحياه بها وكانت له نورا يمشي به في الناس أي بين أشكاله في الصورة. )
يقول : "كُنْ فَيَكُونُ " قول كن ) المركب من هذه الحروف ( حقيقة لتلك الصورة التي نزل ) الحق سبحانه ( إليها وظهر فيها ) بحسبها لا للحق الظاهر فيها الإنباء على اتحاد الظاهر والمظهر فوقع الخلاف في كلمة كن كما وقع في عيسى (فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) ، أي طرف كان فينسب مثلا كلمة كن إلى اللّه سبحانه ( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) ، المقابل فينسب كلمة كن إلى العبد ( وبعضهم يحار في الأمر ) ، أي أمر كلمة كن وشأنها أو في الأمر الذي هو كلمة كن فإنها صيغة أمر .
( ولا يدري إلى أي من الطرفين ) ينسبه . ( وهذه ) ، أي نسبة كلمة كن إلى الحق أو العبد .
( مسألة لا يمكن أن تعرف ) كما هو عليه ( إلا ذوقا ) ووجدانا ( كأبي يزيد حين قتل نملة ) تحت قدمه وتألم من قتله ( ثم نفخ في النملة التي قتلها فحييت ) النملة (فعلم ) أبو يزيد ( عند ) إرادة ( ذلك ) النفخ ( أن ينفخ ) بربه أو بنفسه (فنفخ فكان حينئذ عيسوي المشهد ) والمقام مستعدا من روحانية عيسى صلى اللّه عليه وسلم .
وفيه إشارة إلى أن كل من يحصل له هذا المقام يكون بواسطة روحانيته ، فعلم أن الإحياء ليس مختصا بعيسى ، وما ذكر من الإحياء فهو إحياء صوري بحياة كونية عرضية سفلية ظلمانية .
( وأما الإحياء المعنوي ) يعني إحياء النفوس البشرية في ظلمات الجهل (بالعلم فتلك الحياة ) ، أي ثمرة ذلك الإحياء ونتيجة تلك الحياة ( الإلهية الدائمة العلية النورية التي قال اللّه فيهاأَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً) .
أي بموت الجهل (فَأَحْيَيْناهُ) بالحياة العلمية ("وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً") ، أي علم ("يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ"، فكل من أحيا نفسا ميتة ) بموت الجهل (بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللّه ) في ذاته وصفاته وأفعاله وإنما قيده به لأن العلم بما عدا ذلك هو والجهل سواء .
( فقد أحياه بها وكانت ) تلك الحياة (لَهُ نُوراً) [ الأنعام : 122 ] علمي ( يمشي ) متلبسا ( به في الناس أي بين أشكاله ) ، أي

قال الشيخ رضي الله عنه : (
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كان
فإنا أعبد حق ... وإن الله مولان
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسان
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهان
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمان
وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحان
فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا )
أمثاله فإن الشكل لغة هو المثل وهذه المماثلة إنما تكون ( في الصورة ) فقط فإنه بحسب المعنى متميز عنهم بذلك النور ، فهو يمشي بينهم وهم محرومون منهمكون في جهالاتهم ، ولا يبعد أن يقال معنى يمشي في الناس ينفذ بنوره العلمي في حقائقهم وبواطنهم فيعلم ما لا يعلمون من أنفسهم ، ولما ذكر أن الموجودات كلها صادرة عن كلمة كن وهي إما منسوبة إليه تعالى بحسب ما هو عليه في حد ذاته .
أو بحسب نزوله إلى صورة من يقول : كن وهو الإنسان الكامل أكده بقوله
(فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا)
( فلولاه ) لتصدر عنه بعض الموجودات بواسطة كلمة كن المنسوبة إليه تعالى بحسب نزوله إليهم البعض الآخر من الموجودات ( ولولانا لما كان الذي كانا ) يعني لما وجد الذي وجد لأن الموجودات منحصرة في هذين القسمين.
(فإنا أعبد حق ... وإن الله مولانا)
( فإنا ) معشر الكاملين ( أعبد ) ، أي عباد مطيعون له ممتثلون أمره لنا بقول : كن (حقا . . وإن اللّه مولانا ) وسيدنا فيجب علينا طاعته فيما أمرنا به
(وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا)
( وإنا عينه فاعلم . . إذا ما قلت ) أنت لن ( إنسانا ) ، أي كاملا فإن ما علمنا أنه ليس بإنسان حقيقة وإنما حكم بعينية الإنسان الكامل .
لأن كماله لا يتيسر إلا بإفناء جهة خلقيته.
(فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا)
( فلا يحجب ) على البناء للمفعول ، أي لا يحجب عن شهود هذه العينية ( بإنسان ) ، أي بالصورة الإنسانية والهيئات البشرية (فقد أعطاك ) اللّه سبحانه ( برهانا ) على تلك العينية وهو أن كلمة كن بمنزلة كن منه
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا)
( فكن حقا ) بإفناء جهة خلقيتك في حقيقته ( وكن خلقا ) بقيامك في مقام العبودية بحسب الصورة ( تكن ) جامعا بين جهتي الحقيقة والخلقية وواسطة بين الحق والخلق .
فحينئذ يكون ( باللّه ) ، أي بتجلياته الذاتية والأسمائية ( رحمانا ) ، أي عام الرحمة على العالمين إذ بواسطتك يحصل لهم ما يحصل من الكمالات الدينية والدنيوية .
(وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا)
( وغذ ) بتلك الجامعية والوساطة ( خلقه منه ) سبحانه باستفاضة الوجود والكمالات منه وإفاضتها عليهم ( تكن روحا ) ، أي راحة وتنفيسا لهم عن كرب العدم والنقصان ( وريحانا ) يستنشقون منك روائح الحياة العلمية والكمالات الوجودية
(فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا)
( فأعطيناه )بالفناء فيه والرجوع إليه ( ما يبدو ) من الوجود وكمالاته ( به ) ، أي بتجلياته

قال الشيخ رضي الله عنه : (
فصار الأمر مقسوم ... بإياه وإيان
فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيان
فكنا فيه أكوان ... وأعيانا وأزمان
وليس بدائم فين ... ولكن ذاك أحيان
ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري)
(فينا ) بحسب حقائقنا واستعداداته ( وأعطانا ) بالبقاء بعد الفناء عما أفنيناه فيه عند الفناء فيه
(فصار الأمر مقسوم ... بإياه وإيانا)
( فصار الأمر ) ، أي المعطى له ( مقسوما بإياه وإيانا ) ، أي به وبنا فتارة هو سبحانه المعطى له وتارة نحن ، أو صار الأمر المعطى مقسوما بما أعطيناه إياه وبما أعطاه إيانا .
وإنما أتى بالضمير المنصوب مع أن الظاهر المجرور ، لأنه حكاية عن الضمير المنصوب المتصل الذي هو مفعول للإعطاء ، فلما ترك الفعل صار منفصلا.
(فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا)
( فأحياه ) ، أي جعله سبحانه موصوفا بالحياة الشريفة العلمية المظهرية الحادثة ( الذي يدري ) ويعلم الأمور ( بقلبي ) وبقلب أمثالي وهو أنا وأمثالي ، فحين ظهر في أنانيتنا جعلناه موصوفا بهذه الحياة .
وأما الحياة العلمية الغير المظهرية فهي لازمة لذاته سبحانه أزلا وأبدا لا مدخل لنا في اتصافه بها وذلك الإحياء إنما كان ( حين أحيانا ) بتجليه علينا بالحياة العلمية فانصبغت فينا فحدثت لنا نسبة مخصوصة لخصوص قابلياتنا ، فهي مأخوذة مع تلك النسبة حادثة ، واتصاف الحق بها إنما هو فينا ، فنحن جعلناه موصوفا بها فهذا هو المراد بإحيائه سبحانه .
(فكنا فيه أكوان ... وأعيانا وأزمانا)
( وكنا ) على سبيل الاستمرار ظاهرين ( فيه ) ، أي في مرآة وجوده تارة ( أكوانا ) ، أي مكونين مبتدعين في مرتبة الأرواح ( و ) تارة ( أعيانا ) ثابتة في مرتبة العلم ( و ) تارة ( أزمانا ) ، أي ذوي أزمان في الزمانيات .
(وليس بدائم فين ... ولكن ذاك أحيانا)
( وليس ) الحق (بدائم ) ، أي بدائم التجلي ( فينا ) بالتجلي الشهودي .
وإن كان دائم التجلي بالتجلي الوجودي( ولكن ذاك ) ، أي التجلي الشهودي يكون ( أحيانا ) بحسب الاستعدادات التي تحصل لقلوبنا .
قال عليه السلام : " لي مع اللّه وقت لا يسعني ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
ثم أنه لما ذكر الشيخ رضي اللّه عنه : ما استغربته العقول المحجوبة من امتزاج النفخ الروحاني مع الصور البشرية العيسوية بتركب مادتها الجسمانية منهما ، أراد أن يزيل ذلك الاستغراب.
فقال : ( ومما يدل على ما ذكرناه من أمر النفخ الروحاني ) ، وشأنه ( مع صورة البشر العنصري ) من أن المنفوخ بذلك النفخ وهو الماء المتوهم ممزوجا بالماء
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هو أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزمه تلك الصفة.
وقد عرفت أن النفس في المتنفس ما يستلزمه.
فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم.
فهو لها كالجوهر الهيولاني، وليس إلا عين الطبيعة.
فالعناصر صورة من صور الطبيعة.
وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السموات السبع. )
المحقق مادة لصورة البشر العنصري العيسوي ( هو أن الحق سبحانه وصف نفسه بالنفس الرحماني ) ، حيث قال على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم : « إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن » .
( ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع ) ذلك الموصوف ( الصفة ) التي اتصف بها ( جميع ما يستلزمه تلك الصفة ) فلا بد للحق الموصوف بالنفس أن يتبع النفس الذي هو من صفاته جميع ما يستلزمه النفس ( وقد عرفت أن النفس في المتنفس ) حقا كان أو خلقا ( ما يستلزمه ) ، أي شيء يستلزمه النفس كما يستلزمه التنفيس من الكرب ، وقبوله صور الحروف والكلمات لفظية كانت أو غير لفظية .
( فلذلك قبل في النفس الإلهي صور العالم ) التي هي بمنزلة صور الحروف والكلمات اللفظية للنفس الإنساني ( فهو ) ، أي النفس الإلهي ( لها ) ، أي لصور العالم ( كالجوهر الهيولاني ) الجسماني للصور الجسمانية كذلك النفس الإلهي يقبل صور العالم ( وليس ) النفس الإلهي الذي يقبل صور العالم ( إلا عين الطبيعة ) الكلية العالية الفعالة للصور كلها ولكن لا مطلقا بل من وجه وهو وجه باطنتيتها التي هي الأحدية الذاتية الجمعية .
فإن للنفس الإلهي ظاهرا وباطنا ، فهو من حيث ظاهره قابل للصور ومن حيث باطنه فعّال لها ومن هذه الحيثية تسمى بالطبيعة .
وهذه الحقيقة هي النفس الرحماني وكانت تسميته بالطبيعة بناء على أنه مبدأ الفعل والانفعال ، فإنه يؤثر في التعينات بإظهارها ويتأثر باعتبار تقيدها به ، وإذا كان الكل عين الطبيعة فلا يبعد أن يكون ما نفخه جبريل في مريم مادة للصور البشرية العيسوية ، لأنه إما أمر روحاني أو مثالي أو حسي .
وعلى كل تقدير فهو من صور الطبيعة فلا يستبعد أن يمتزج مع ما مر ، ثم الذي هو أيضا من صور الطبيعة ويصير المجموع مادة للصورة العيسوية .
( فالعناصر صورة من صور الطبيعة وما ) هو ( فوق العناصر ) التي هي أصول المركبات العنصرية فوقية مرتبة ( وما ) هو ( تحتها ) بحسب المكانة وإن كان فوقها بحسب المكان ( عما تولد عنها ) ، أي عن العناصر كأعيان السماوات السبع وأرواحها فإنها عنصرية كما سيجيء ( فهو ) ، أي ما هو فوق العناصر وما هو متولد من العناصر ( أيضا من صور الطبيعة وهي ) إما فوق العناصر باعتبار أنها صورة طبيعية ( الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع )
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما أرواح السموات السبع و أعيانها فهي عنصرية، فإنها من دخان العناصر المتولد عنها، و ما تكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها، فهم عنصريون و من فوقهم طبيعيون: و لهذا وصفهم الله بالاختصام أعني الملأ الأعلى لأن الطبيعة متقابلة، و التقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب، إنما أعطاه النفس )
وهي الملائكة التي للعرش والكرسي وما فوقها ( وأما أرواح السماوات السبع ) يعني نفوسها المنطبعة فإن عقولها ونفوسها المجردة من الصور الطبيعية النورية لا العنصرية ( وأعيانها فهي عنصرية فإنها من دخان العناصر المتولد عنها ) ، كما تتولد الأجزاء اللطيفة الدخانية عن النار ، فإن ألطف أجزاء النار هي التي تعلوها في صورة الدخان وفي دخان النار أجزاء لطيفة وكثيفة ، وكذلك في دخان العناصر ، فمن كثيف دخانها خلقت أعيان السماوات ومن لطيفها أرواحها .
( وما تكون عن ) مادة ( كل سماء من الملائكة ) التي هي عماده (فهو ) مخلوق ( منها ) ، أي من مادتها كما أن آدم وبنيه الذين هم عماد الأرض مخلوقون من الأرض .
قال رضي اللّه عنه في الباب الثالث عشر من الفتوحات :
خلق في جوف الكرسي أفلاكا فلكا في جوف فلك وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه وسماهم ملائكة .
"" أضاف الجامع : قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الرابع عشر عن الكرسي وعماره من الملائكة:-
"ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته
فكل فلك أصل لما خلق فيه من عمارة كالعناصر فيما خلق منها من عماره
كما خلق آدم من تراب وعمر به وببنيه الأرض
وقسم في هذا الكرسي الكريم الكلمة إلى خبر وحكم وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر النبوي
ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك فلكا في جوف فلك
وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه سماهم ملائكة يعني رسل
وزينها بالكواكب وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها إلى أن خلق صور المولدات.أهـ. ""
( فهم ) ، أي الملائكة المتكونون من مادة كل سماء كلهم ( عنصريون ومن فوقهم ) من ملائكة العرش والكرسي ونفوسهما المنطبعة والمجردة والعقول المسمون بلسان الشريعة بالملأ الأعلى كلهم ( طبيعيون ولهذا ) ، أي لكونهم طبيعيين ( وصفهم اللّه تعالى بالاختصام أعني ) يعني بالضمير المنصوب في وصفهم اللّه ( الملأ الأعلى )
حيث قال : ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ، وإنما كان كونهم طبيعيين مقتضيا لوصفهم بالاختصام ( لأن الطبيعة ) من حيث ظاهرها حاملة للصور المتقابلة وقابلة إياها.
ومن حيث باطنها فعالة لها ففيها قوة الفعل والانفعال والتأثير والتأثر ولا شك أن هذه الأمور فيه ( متقابلة ) وليس المراد بالاختصام إلا التقابل بحيث يقتضي كل واحد منهم خلاف ما يقتضيه الآخر ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب ) اللاحقة للذات الإلهية باعتبار توجهها إلى عالم الظهور ( إنما أعطاه النفس ) فإنه إن لم يمتد الوجود الحق من غيبه الإطلاقي إلى مرتبة الظهور لم تتعين الأسماء .
ولا شك أن النفس إنما هو الوجود الحق باعتبار هذا الامتداد ، فلو لم تكن النفس لم تتعين الأسماء فكيف يتحقق التقابل بينها ، فظهر أنه ما أعطى الأسماء الإلهية التقابل إلا النفس ، وكذلك لا يظهر هذا التقابل في الخارج إلا بالنفس فإنه إذا لم يمتد الوجود على الماهيات الممكنة لم يظهر التقابل بين الأسماء بظهور آثارها المتقابلة .
ولما ذكر أن التقابل الذي بين الأسماء إنما أعطاه النفس
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين؟. فلهذا أخرج العالم على صورة من أوجدهم، وليس إلا النفس الإلهي.
فبما فيه من الحرارة علا، وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل. فالرسوب للبرودة والرطوبة.
ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه، فإذا رآه راسا علم أن النضج قد كمل فيسقيه الدواء ليسرع في النجح.
وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعية.
ثم إن هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان و إن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان، و لو لم يكن إلا كونهما اثنين أعني يدين )
لا الذات من حيث نوره وأوضحه بقوله : ( ألا ترى الذات ) البحت ( الخارجة عن هذا الحكم ) ، أي عن حكم النفس ( كيف جاء فيها الفناء عن العالمين ) ولا شك أن في مرتبة الفناء وهي مقام الأحدية الذاتية لا تتقابل الأسماء لعدم تعينها حينئذ فضلا عن تقابله ( فلهذا ) ، أي الفناء الذات عن العالمين (خرج العالم على صورة من أوجدهم ) أورد ضمير ذوي العلم تغليبا أو بناء على أن الكل ذو العلم في نظر أهل الكشف .
( وليس ) الموجد ( إلا النفس الإلهي ) ، لأن الذات البحت لها الفناء عن نسبة الإيجاد ، وليس إيجاد النفس الإلهي للأشياء إلا ظهوره بصورها فليس في الوجود مراتبه ظاهرا وباطنا إلا النفس الإلهي ( فبما فيه ) ، أي النفس بما فيه ( من الحرارة ) طبيعية كانت أو عنصرية ( علا وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل فالرسوب ) في العالم الكبير ( للبرودة والرطوبة ) كذلك فيما يماثله من العالم الصغير الذي هو الإنسان ( ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه فإذا رآه رسب علم أن النضج ) وهو استعداد أخلاط المزاج للصلاح يتصرف الطبيب فيها ( قد كمل فيشفيه الدواء ليسرع ) الدواء ( في النجع ) ، أي إصابة الطلبة التي هي إصلاح المزاج ( وإنما يرسب ) ما يرسب في القارورة ( لرطوبته وبرودته الطبيعية ) فالرطوبة والبرودة كما يقتضيان الرسوب والتسفل في العالم الصغير كذلك يقتضيانهما في العالم الكبير .
( ثم أن هذا الشخص الإنساني ) ، أي شخص كان ( عجن ) الحق سبحانه ( طينته بيديه ) الجمالية والجلالية أو الفاعلية والقابلية ( وهما متقابلتان وإن كانت كلتا يديه يمينا مباركا ) في مصدرية الرحمة واللطف فإن وجود الغضب والقهر لرحمته عليهم .
( فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ولو لم يكن ذلك ) الفرقان ( إلا كونهما اثنتين أعني يدين ) ، فإن الاثنينية نسبة تقتضي اختصاص كل من طرفيها بأمر لا يوجد في الآخر وذلك
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها و هي متقابلة.
فجاء باليدين: ولما أوجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه.
وجعل ذلك من عنايته بهذا النوع الإنساني فقال لمن أبى عن السجود له «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت» على من هو مثلك- يعني عنصريا أم كنت من العالين عن العنصر ولست كذلك.
ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا.
فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة.
والإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية، والملائكة العالون خير من )
فرقان بيّن وإنما عجن طينته بيديه المتقابلتين ( لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ) ، أي الطبيعة ( وهي متقابلة فجاء باليدين ) المتقابلتين لتحصل المناسبة بين المؤثر والمؤثر فيه .
قال رضي الله عنه : ( ولما أوجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب )المقدس عن توهم التشبيه فإن المباشرة حقيقة هي الإفضاء بالبشرتين والبشرة هي ظاهر الجلد ( باليدين المضافتين إليه وجعل سبحانه ذلك ) الإيجاد باليدين ( من ) مقتضيات ( عنايته بهذا النوع الإنساني فقال ) تعالى آمرا الملائكة اسجدوا لآدم وقال تغيير ( لمن أبى عن السجود له) :
("ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ") [ ص : 75 ] موميا إلى أن استحقاقه لسجود الملائكة إنما هو لمخلوقيته باليدين (استكبرت على من هو مثلك يعني ) ، بالمثل ( عنصريا ) ، أي على من هو عنصري مثلك فلا يكون استكبارك واقعا موقعه ( أم كنت من العالين عن العنصر ) فحري بك أن تستكبر ( ولست كذلك ) يعني من العالين حريا بالاستكبار .
قال رضي الله عنه : ( ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا . مما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا ) باشره الحق سبحانه بيديه عند خلقه ( من طين فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر ) ملكا كان أو غيره ( من غير مباشرة ) باليدين المضافتين إليه سبحانه بيد واحدة .
قال رضي الله عنه : ( فالإنسان في الرتبة ) ، أي رتبة الفضيلة والكمال بل في شرف الحال أيض ( فوق الملائكة الأرضية والسماوية ) أيضا ، لأنهم كلهم عنصريون مخلوقون بيد واحدة فلا لهم شرف حاله ولا مرتبة كماله ( والملائكة العالون خير ) في أم كنت من العالين .
قال الشيخ رضي اللّه عنه في فتوحاته المكية :
إني رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألته أن

قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا النوع الإنساني بالنص الإلهي.
فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي فليعرف العالم فإنه من عرف نفسه عرف ربه الذي ظهر فيه: أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها.
فامتن على نفسه بما أوجده في نفسه، فأول أثر كان للنفس إنما كان في ذلك الجناب، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد.
فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس )
الإنسان أفضل أم الملائكة ؟
فقال صلى اللّه عليه وسلم : « أما علمت بأن اللّه يقول من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم .
ثم قال عليه السلام : " وكم من ملأ ذكر اللّه فيهم وأنا بين أظهرهم ففرحت بذلك " .
وإذا كان العالم صورة النفس الإلهي ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي فليعرف العالم فإنه من عرف نفسه ( التي هي العالم الصغير (عرف ربه الذي ظهر ) نفسه ( فيه ) ، أي ربه فإن العالم باعتبار ظاهر والرب مظهر وهو باعتبار مراتبه الرب للمربوب ، ولما كان هذا الكلام محتملا لاعتبار مظهرية العالم وظاهر الرب دفعه.
بقوله : ( أي العالم ظهر في النفس الرحماني).
وفي النسخة المقروءة على الشيخ رضي اللّه عنهفي نفس الرحمن (الذي نفس اللّه تعالى به عن الأسماء الإلهية الإلهية ما تجده ) ، أي الكرب الذي تجده الأسماء ( من عدم ظهور آثارها ) وذلك التنفس إنما لا يكون إلا بظهور آثارها .
( فامتن ) اللّه تعالى ( على نفسه ) فسكون الفاء حين أزال كربه وكرب أسمائه ( بما أوجد في نفسه ) بفتح الفاء من صور أعيان الموجودات التي هي مظاهر الأسماء وآثاره .
( فأول أثر كان للنفس الرحماني ) وهو التنفيس عن الكروب ( إنما كان في ذلك الجناب ) ، أي في الجناب الإلهي ( ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد ) وهو الإنسان مما يحصل به من التنفيس أكثر مما يحصل بغيره ولكن لا يتناهى ذلك التنفيس . والتنفيس أبد الآباد لعدم انتهاء تجلياته سبحانه دنيا وآخرة .
( فالكل ) ، أي الحقائق كله ( في عين النّفس ) الإلهي ( كالضوء في ذات الغلس ) ، وهو ظلمة آخر الليل والمقصود تشبيه المجموع المركب من الحقائق والنفس بالمجموع الممتزج من الضوء والغلس ووجه الشبه هو أن الضوء بدون الغلس نور صرف لا يمكن إدراكه .
وكذلك الظلمة المحضة لا تدرك والممتزج منها وهو الضياء يتعلق به الإدراك ، وكذلك النفس من غير تقيده بالحقائق لا تدرك لصرافة نوريته والحقائق من غير تلبسها بالنفس لا تدرك
قال الشيخ رضي الله عنه : (
والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس
فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس
فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس»
ولقد تجلى للذي ... قد جاء في طلب القبس
فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس
فإذا فهمت مقالتي ... تعلم بأنك مبتئس )
لكونها من هذه الحيثية ظلمة محضة ، والمجموع المركب منهما يتعلق به الإدراك ، فظهر من هذا التقرير أنه ليس المراد من هذا الكلام تشبيه الحقائق بالضوء والنفس بالغلس ليرد أن تشبيه الحقائق بالغلس وتشبيه النفس بالضوء أظهر وإن أمكن أن يتكلف للأول أيضا وجه.
( والعلم بالبرهان ) الكشفي بأن يكون المعلوم هو البرهان ويحتمل أن يكون معناه والعلم بما ادعيناه من أن الكل في عين النفس ، التنبيه حاصل بسبب البرهان الكشفي عليه ( في . . سلخ النهار ) ، أي في آخر نهار الظهور وهو مرتبة الإنسان لما ورد في الحديث : من أن آدم خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة .
ولكن العلم بذلك البرهان ليس حاصلا لكل إنسان بل ( لمن نعس ) ، أي عطل حواسه الجزئية عن التوجه بمتعلقاتها المتعددة المتكثرة المانعة عن مشاهدة الوحدة وصار أحدي الهم والهمة في التوجه إلى الحق المطلق .
( فترى الذي قد قلته ) وهو من نعس فاسم الموصول فاعل يرى ومفعوله ( رؤيا تدل على النفس ) ، أي يرى الناعس عن المحسوسات رؤيا تدله على النفس عن كرب الاحتجاب بها وهذه الرؤيا إنما هي مشاهدة سريان نفس الرحمن في الحقائق كلها وإنما سماها رؤيا لأنها مرتبة في حال النعاس وإن لم يحتج إلى التعبير أو لإمكان أن تكون تلك المشاهدة في صورة مثالية تحتاج إلى التعبير .
( فيريحه ) ، أي يريح العلم بالبرهان الناعس ( من كل غم ) كائن ( في ) وقت ( تلاوته ) سورة ( عبس ) والمراد بتلاوته إياها تحققه بالعبوس المفهوم منها ، ثم استشهد على ما ذكر بقصة موسى عليه السلام .
( ولقد تجلى ) الحق سبحانه ( للذي قد جاء في طلب القبس ) التجلي الصوري المثالي ( فرآه نارا في صورة ) مطلق به حال كونه مستعجمعا شرائط التجلي من التوجه التام إلى الحق سبحانه والانقطاع عما سواه ( وهو ) في الحقيقة ( نور ) سار ( في الملوك ) ، أي الكمل الذين هم سلاطين نهار الكشف ( في العسر ) ، أي السالكين السائرين في أمالي ظلمة الاحتجاب .
( فإذا فهمت ) مضمون ( مقالتي ) هذه وهو أن التجلي في صورة ما يطلبه العبد المتجلى له إنما يقع إذا كان مستجمعا لشرائط التجلي ( تعلم ) أنك في حال الحجاب ( بأنك مبتئس ) فقير فاقد للتجلي لفقدان شرائطه ، وإنما تجلى الحق سبحانه لطلب القبس في صورة لأنه كان أحدي الهم والهمة في طلبها ، فوقع التجلي في صورته
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس
وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام «حتى نعلم» ويعلم، استفهما عما نسب إليها هل هو حق أم لا مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا فقال له «أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله».
فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم لأنه لما تجلى له في هذا المقام وهذه الصورة اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع،)
ليكون أوقع في نفسه ولهذا ( لو كان يطلب غير ذا ) القبس ( ليراه ) ، أي الحق المتجلي ( فيه ) ، أي في غير القبس لا في القبس ( وما نكس ) رأسه خجلا من عدم فوزه بذلك التجلي .
( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام حتى نعلم ) بصيغة التكلم ( ويعلم ) بصيغة الغيبة فالأول إشارة إلى قوله تعالى :
" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ " [ محمد : 31 ]
والثاني : إشارة إلى قوله تعالى :" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " [ آل عمران : 142].
والمراد بمقام حتى نعلم ويعلم مقام الاختبار المفيد للمخبر تجدد العلم وحصول الحادث من نوع القلم ( استفهمها ) أي الكلمة العيسوية ( عما نسب إليها ) وإلى أمها من الألوهية ليعلم بعلمه الثاني الاختباري ( هل هو حق ) واقع بقوله وأمره ( أم لا مع علمه الأول ) الأزلي ( بهل وقع منذ ذلك الأمر ) ، أي الأمر باتخاذهما إلهين أو القول بالاتخاذ ( أم لا فقال له تعالى :أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِولا بد ) [ المائدة : 116 ].
للمخاطب ( في ) مقام ( الأدب من الجواب للمستفهم ) وأنه كان عالما بأنه يعلم ما يجيب به ( لأنه لما تجلى له في هذا المقام ) ، أي في مقام الاختبار ( و ) في ( هذه الصورة ) ، أي صورة السؤال عن قوله : " لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ " على أن مقصود المستفهم إنما هو العلم المتجدد الاختباري لا العلم مطلقا ليحيل العلم عليه فلا جرم .
( اقتضت الحكمة الجواب في ) صورة ( التفرقة ) بين الحق والخلق والتنزيه والتشبيه حيث فرق بين المستفهم والمجيب وأقام كل واحد في مقامه لكن لا بحيث يحجبه ذلك الجواب عن مشاهدة عين الجمع بل إنما وقع ( بعين الجمع ) بين الحق والخلق والتنزيه والتشبيه فشاهد أن الحقيقة واحدة تسمى باعتبار مقام التنزيه حقا وباعتبار مقام التشبيه خلق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال: وقدم التنزيه «سبحانك» فحدد بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب «ما يكون لي» من حيث أنا لنفسي دونك «أن أقول ما ليس لي بحق» أي ما تقتضيه هويتي ولا ذاتي.
«إن كنت قلته فقد علمته» لأنك أنت القائل، ومن قال أمرا فقد علم ما قال، وأنت اللسان الذي أتكلم به كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الخبر الإلهي فقال «كنت لسانه الذي يتكلم به».
فجعل هويته عين لسان المتكلم، ونسب الكلام إلى عبده.
ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله «تعلم ما في نفسي» والمتكلم الحق، ولا أعلم ما فيها. فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث إنه قائل وذو أثر. )
( وقال ) عيسى عليه السلام ( وقدم التنزيه ) المفهوم من التسبيح ( سبحانك فحدد ) بعدما نزه بالتسبيح حدد ( بالكاف الذي تقتضي المواجهة والخطاب ) اللذان هما يقتضيان التشبيه والتحديد فجمع في هذه الكلمة .
( ثم قال ) عليه السلام (ما يَكُونُ لِيمن حيث أنا ) ملاحظ ( لنفسي ) فقط ( دونك ) ، أي دون أن ألاحظ أن أظهر بصورة نفسي أنت وهذا لسان التفرقة ( أن أقول ما ليس لي بحق أي ما تقتضيه هويتي ) الغيبية وعيسى الثانية ( ولا ذاتي ) الموجودة خارجا .
( إن كنت قلته فقد علمته لأنك أنت القائل في صورتي ) بمقتضى قرب الفرائض ( ومن قال أمرا فقد علم ما قال وأنت اللسان الذي أتكلم به ) بمقتضى قرب النوافل فأنت الفاعل وآلة أيضا وهذا لسان الجمع ( كما أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الخبر الإلهي ) .
والحديث القدسي الوارد في قرب النوافل ( وقال ) تعالى : ( كنت لسانه الذي يتكلم به فجعل هويته عين لسان المتكلم ونسب الكلام إلى عبده ) كما يقتضيه قرب النوافل ، فإن الفاعل في قرب النوافل إنما هو العبد والحق آلة ، ولما كان مقامه يستوعب القربين.
أشار إلى ذلك بقوله : ( ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله : تعلم ما في نفسي والمتكلم بهذا ) القول ( هو الحق ) كما تقتضيه قرب الفرائض وعيسى عليه السلام آلة للحق في هذا التكلم وكذا المتكلم.
بقوله : ( ولا أعلم ما فيها ) هو الحق لكن من حيث التعين العيسوي ولما كان المتكلم بقوله : تعلم ما في نفسي هو الحق بكون ضمير المتكلم فيه كناية عن الحق سبحانه فتكون النفس نفسه فيكفي في قوله : ولا أعلم ما فيها إرجاع الضمير المجرور إلى النفس ولا حاجة إلى التصريح كما في القرآن حيث قال : " وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ" .
أو المراد : لا أعلم ما في نفسي فكيف أعلم ما في نفسك ( فنفى العلم عن هوية عيسى ) بل عن نفسه ( من حيث هويته لا من حيث أنه ) ، أي عيسى
قال الشيخ رضي الله عنه : («إنك أنت» فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه، إذ لا يعلم الغيب إلا الله.
ففرق وجمع، ووحد وكثر، ووسع وضيق ثم قال متمما للجواب «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به» فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو.
ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم، ولو لم يفعل ذلك لاتصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك، فقال «إلا ما أمرتني به» وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني.
فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها، «أن اعبدوا الله» فجاء )
( قابل وذو أثر ) فإنه من هذه الحيثية هو الحق لا غير ("إِنَّكَ أَنْتَ " عَلَّامُ الْغُيُوبِ ).
( فجاء بالفصل والعماد ) وهما لفظة أنت ( تأكيدا للبيان ) ، أي بيان الحكم أنه هوعَلَّامُ الْغُيُوبِ *على وجه يفيد انحصار المحكوم به فيه .
( واعتمادا عليه ) ، أي على ذلك البيان في إبانة المطلوب وإنما أكد ( لأنه لا يعلم الغيب إلا اللّه ) ، فإذا حكم عليه بأنه يعلم الغيب ينبغي أن يكون على وجه يفيد التأكيد وانحصار ذلك الحكم فيه .
( ففرق ) حيث ميز بين الحق والخلق وخص كلا منهما الحكم ( وجمع ) حيث رد الكل إلى الحق سبحانه وعلى هذا القياس التوحيد والتكثير والتوسعة والتضييق المذكورة .
في قوله : ( ووحد وكثر ووسع وضيق ثم قال ) عليه السلام (متمما للجواب ما قلت لهم ) ، أي الناس ( إلا ما أمرتني به ، فنفى أولا ) بكلمة النفي القول عن نفسه .
( مشيرا ) بهذا النفي ( إلى أنه ما هو ثمة ) بل هو فإن الحق مستهلك تعينه في الوجود المطلق ، فإن القول متحقق لا محالة ، فالمنفي هو نسبته آل عيسى عليه السلام وانتفاء النسبية إنما هو بانتفاء المنسوب إليه .
( ثم أوجب القول ) بعد نفيه ( أدبا مع المستفهم ولو لم يفعل كذلك ) ، أي لم يجمع بين النفي والإيجاب ( لاتصف بعدم علم الحقائق ) فإنه لو اقتصر على النفي أخل بالصورة لثبوت القول له صورة ، ولو اقتصر على الإيجاب أخل بالحقيقة إذ لا قابل إلا اللّه ( وحاشاه من ذلك ) ، أي من عدم علم الحقائق فإن رتبة الكلام النبوي تأبى ذلك .
( فقال ) تفسير وبيان لإيجاب القول ("إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ "وأنت المتكلم ) بهذا الكلام ( على لساني ) كما يقتضيه قرب الفرائض .
( وأنت لساني ) كما يقتضيه قرب النوافل ( فانظر إلى هذه التثنية ) أي تثنية الفرق بالجمع والتنزيه بالتحديد والوحدة بالكثرة والسعة بالضيق والنفي بالإيجاب وقرب الفرائض بقرب النوافل (الروحية ) ، أي الصادرة من عيسى الذي هو روح اللّه صورة .
( والإلهية حقيقة ما ألطفها وأدقها ) لدلالتها على الجمعية الكمالية وصحح بعض الشارحين التنبئة بالنون بفعله من النبأ لا بالثاء المنقوطة ثلاث نقاط .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بالاسم «الله» لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع، لم يخص اسما خاصا دون اسم، بل جاء بالاسم الجامع للكل.
ثم قال «ربي وربكم»، ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر، فلذلك فصل بقوله «ربي وربكم» بالكنايتين كناية المتكلم وكناية المخاطب.
«إلا ما أمرتني به» فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديته، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل.
ولما كان الأمر ينزل بحكم المراتب، لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة: فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور، ومرتبة )
وقال : التثنية بالثاء تصحيف ولا يخفى أن الأولى الحكم بالتصحيف عليها أولى كيف وهذه الكلمة صححت في النسخة المقروءة على الشيخ رضي اللّه عنه بالثاء المثلثة ثم بين الأمر المأمور به ( أن اعبدوا اللّه ، فجاء بالاسم اللّه ) الجامع لجميع الأسماء ( لاختلاف العباد ) جمع عابد ( في العبادات ) فلكل وجهة من تلك الأسماء هو موليه ( واختلاف الشرائع ) ، أي الطرق الموصلة المسلوكة لهم ، فإن كل طريق شريعة ، وإن كان الكل داخلا تحت شريعة واحدة ، وحمل الشرائع على الشرائع المختلفة التي للأنبياء يخدشه أن عيسى عليه السلام لا يأمر أمته إلا بالعبادة على شريعة خاصة ( ولم يخص اسما خاصا دون اسم ) آخر ( بل جاء بالاسم اللّه الجامع للكل ) ، أي لكل الأسماء أو لكل العباد والشرائع .
( ثم قال ) عيسى عليه السلام تفصيل ( له ) ، أي للاسم اللّه (ربي وربكم ومعلوم أن نسبته ) ، أي نسبة الاسم اللّه ( إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر ) ، لأن لكل موجود خصوصية ليست لسائر الموجودات تطلب أسما خاصا يربيه .
( فلذلك فصل ) بالتشديد ما أجمل في الاسم اللّه ( بقوله : ربي وربكم بالكنايتين : كناية المتكلم وكناية المخاطب ) ، يعني المخاطبين فإن تفصيل المضاف إليه تفصيل المضاف ويجوز أن يكون فصل بالتخفيف ، أي فصل بعض الأسماء عن بعض ثم أعاد رضي اللّه عنه قوله (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) لبيان ما يتعلق بمقام عبوديته ( فأثبت ) عيسى عليه السلام ( نفسه مأمورا ) ثانيا بعدما نفاه أول ( وليست ) علة إثبات مأموريته أو ليست نفسه المأمورة من هذه الحيثية ( سوى عبوديته إذ لا يؤمر ) بشيء ( إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل ولما كان الأمر ) .
أي الحال والشأن الذي تتصف به أهل المراتب ( ينزل ) عليهم ويتصفون به ( بحكم المراتب ) ، أي بسبب أن المراتب يحكم به عليهم ويقتضيه ( لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ) ما ، حقا كان أو خلق ( بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة ) من
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الآمر لها حكم يبدو في كل آمر.
فيقول الحق «أقيموا الصلاة» فهو الآمر والمكلف والمأمور.
ويقول العبد «رب اغفر لي» فهو الآمر والحق المأمور.
فما يطلب الحق من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحق بأمره.
ولهذا كان كل دعاء مجابا ولا بد، وإن تأخر كما يتأخر بعض المكلفين ممن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلي في وقت فيؤخر الامتثال ويصلي في وقت آخر إن كان متمكنا من ذلك. فلا بد من الاجابة و لو بالقصد. )
الأحوال والأحكام ( فمرتبة المأمور ) ، أي المأمور به ( لها حكم يظهر في كل مأمور ) فذلك الحكم هو الانقياد ، وذلك إذا كان المأمور مأمورا بالأمر الإيجادي فقط أو الإيجادي والإيجابي معا .
وأما إذا كان مأمورا بالأمر الإيجابي فقط فليس مأمورا بالحقيقة هذا إذا كان المأمور هو العبد ، وأما مأمورية الحق سبحانه فإنما تتحقق إذا كان دعاء العبد بلسان الاستعداد فقط ، أو به مع القول ، وأما المأمور بلسان القول فقط فليس مأمورا بالحقيقة ( ومرتبة الآمر )، أي الأمر به ( لها حكم يبدو في كل آمر ) وهو الحكم على المأمور وإنفاذه فيه .
( فيقول الحق سبحانه ) قولا إيجاديا أو إيجابيا مع الإيجاد (أَقِيمُوا الصَّلاةَ فهو الآمر ) [ الأنعام : 72 ] .
والمكلف حقيقة ( و ) العبد ( المكلف ) هو ( المأمور ويقول العبد ) بلسان الاستعداد سواء قارنه قول اللسان أم لا ؟ ( رب اغفر لي فهو الآمر والحق المأمور فما يطلب ) ، أي الذي يطلبه ( الحق من العبد بأمره ) وهو الانقياد ( هو بعينه ما يطلبه الحق من العبد بأمره ) ، أي دعائه فإن العبد يقصد بدعائه الإجابة التي هي الانقياد من الحق فمطلوب كل من الحق والعبد بأمره هو الانقياد .
( ولهذا ) ، أي لكون كل مرتبة من المأمور والآمر لها حكم يظهر في أصحابها أو يكون طلوب كل واحد من الحق والخلق هو الانقياد ( كان كل دعاء ) حقيقي ( مجابا ) بل كل أمر حقيقي مطاع ( ولا بد ) من حصول الإجابة ( وإن تأخر ) لفقدان شرط أو وجود مانع.
( كما يتأخر ) ويتقاعد ( بعض المكلفين عن الإجابة ) والطاعة (ممن أقيم ) في مقام التكليف ( مخاطبا بإقامة الصلاة ) مثلا ( فلا يصلي في وقت ) أمر بإقامتها فيه ( فيؤخر الامتثال ويصلي في وقت آخر إن كان متمكنا من ذلك ) الامتثال بأن يكون الأمر الإيجادي واقع ( فلا بد من الإجابة ) في الوقت المأمور فيه ( ولو كان ) تأخير الامتثال ( بالقصد ) والعمد فكيف إذا كان بالغفلة والنسيان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم قال «وكنت عليهم» ولم يقل على نفسي معهم كما قال ربي وربكم. «شهيدا ما دمت فيهم» لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم.
«فلما توفيتني»: أي رفعتني إليك وحجبتهم عني وحجبتني عنهم «كنت أنت الرقيب عليهم» في غير مادتي، بل في موادهم إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة.
فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه.
وجعله بالاسم الرقيب لأنه جعل الشهود له فأراد أن يفصل بينه و بين ربه حتى يعلم أنه هو لكونه عبدا وأن الحق هو الحق لكونه ربا له، فجاء لنفسه بأنه شهيد و في الحق بأنه رقيب، وقدمهم في حق نفسه فقال «عليهم شهيدا ما دمت فيهم» إيثارا لهم في التقدم وأدبا، وأخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله «الرقيب عليهم» لما يستحقه)
( ثم قال : "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ " ولم يقل على نفسي معهم كما قال : ربي وربكم "شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ" لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم ) لا على أنفسهم مع الأمم ( فلما توفيتني ) .
ولما كان التوفي ظاهرا في الإماتة وعيسى عليه السلام لم يمت بل رفعه اللّه إلى السماء فسره رضي اللّه عنه بقوله : ( أي رفعتني إليك وحجبتهم عني وحجبتني عنهم ) ، فلما لم أبق متمكنا من الشهادة عليهم (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [ المائدة : 117 ] باعتبار مقام الفرق ( في غير مادتي بل في موادهم ) وأما باعتبار مقام الجمع ففي غير مادة ( إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه ) في مقام الفرق .
( و ) إنم ( جعله ) أي جعل عيسى الحق مذكورا ( بالاسم الرقيب ) ولم يذكره مثل نفسه بالشهيد ( لأنه ) عليه السلام ( جعل الشهود له ) ، أي لنفسه ( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه ) فيما يعبر به عنهما ( حتى يعلم أنه هو ) ، أي عيسى هو عيسى لا الحق بوجه (لكونه عبدا ) أو وجه العبودية التي هي جهة التعين والتقيد غير وجه الربوبية والحقية ( وأن الحق هو الحق ) ، لا عيسى ( لكونه ربا له ) وجهة الربوبية التي هي جهة الإطلاق غير جهة العبدية ( فجاء عيسى لنفسه بأنه شهيد ) وإنما خصه بالشهيد لما سبق من أن الأنبياء شهداء على أممهم ( وجاء في الحق بأنه رقيب ) فرقا بينه وبين الحق .
( وقدمهم في حق نفسه فقال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً) لا شهيد عليهم (ما دُمْتُ فِيهِمْ إيثارا لهم ) على نفسه ( في التقدم ) كما يقتضيه مقام تواضع الكمل ، وإشارة أيضا إلى اختصاص شهادته لهم دون سائر الأمم ( وأدبا ) ، أي قدمهم على نفسه لمراعاة الأدب بين يدي الحق إذ الكلام معه أو لمراعاة الأدب معهم لأنهم مظاهره ( وآخرهم في جانب الحق عن الحق
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الرب من التقديم بالرتبة. ثم أعلم أن للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو الشهيد في قوله عليهم شهيدا. فقال «وأنت على كل شي ء شهيد».
فجاء «بكل» للعموم و«بشيء» لكونه أنكر النكرات. وجاء بالاسم الشهيد، فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود. فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم». فهي شهادة الحق في مادة عيسوية كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره. ثم قال كلمة عيسوية ومحمدية: أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه، وأما كونها محمدية فلموقعها من محمد صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه، فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجر.
«إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم». )
في قوله الرقيب عليهم بما يستحقه الرب من التقدم بالرتبة ) ولعدم اختصاص رقابته ( ثم اعلم ) عيسى عليه السلام على صيغة الماضي من الإعلام ( أن للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى لنفسه و ) ذلك الاسم ( هو ) الاسم ( الشهيد في قوله "عَلَيْهِمْ شَهِيداً" فقال ) عيسى عليه السلام (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فجاء بـ « كل » للعموم وبـ « شيء » لأنه أنكر النكرات )وأشملها .
( وجاء بالاسم الشهيد فهو سبحانه الشهيد ) لا غيره ( على كل مشهود بحسب ما يقتضيه حقيقة ذلك المشهود ) وإنما دلت هذه العبارة على انحصار الشهيد فيه سبحانه مع أنها ليس فيها من أدوات الحصر شيء لا انضمام مقدمة معلومة معها ، وهي أن كل صفة تظهر في المظاهر إذا كانت صالحة ، لأن تكون للظاهر فهي للظاهر تقيدت وتخصصت بحسب المظاهر .
فإذا دلت هذه العبارة على إثبات الشهادة له سبحانه وانضمت إلى تلك المقدمة المعلومة فأدت الحصر .
ولهذا ترتب عليه قوله : ( فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فهي شهادة الحق تعالى ولكن في مادة عيسوية كما يثبت أنه لسانه وسمعه وبصره .
ثم قال ) عليه السلام ( كلمة عيسوية ومحمدية أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى عليه السلام إخبارا من اللّه تعالى في كتابه وأما كونها محمدية فلوقوعها ) .
وفي بعض النسخ فلموقعها لوقوعها ( من محمد صلى اللّه عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه فقام بها ليلة كاملة ) يقرأها و ( يرددها ولم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر ) . وهذه الكلمة العيسوية المحمدية قوله : ("إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ) [ المائدة : 118 ]
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و«هم» ضمير الغائب كما أن «هو» ضمير الغائب.
كما قال «هم الذين كفروا» بضمير الغائب، فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر.
فقال «إن تعذبهم» بضمير الغائب وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق.
فذكرهم الله قبل حضورهم حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين فصيرته مثلها.
«فإنهم عبادك» فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه. ولا ذلة أعظم من )
وهم ) في قوله :"إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" ( ضمير الغائب كما أن هو ) في قوله تعالى :" وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ " [ الزخرف : 84 ] وأمثاله ( ضمير الغائب ) فالتعبير في هذه المواضع بكناية الغائب بعينه هو ( كما قال ) في موضع آخر (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوابضمير الغائب ) فإن وصف الغيبة في تلك المواضع كما يلائم التعذيب والمغفرة كذلك وصف الغيبة في هذا الموضع يلائم الحكم عليهم بالكفر فإنه كما أن سبب تعذيبهم ومغفرتهم هو غيبتهم عن ساحة حضور القرب لاحتجابهم بالتعينات الحجابية كذلك سبب الحكم عليهم بالكفر هو غيبتهم عنه ( فكان الغيب ) ، أي الحالة الحاصلة لهم من احتجابهم بالتعينات الحجابية الموجبة لغيبتهم عن ساحة الشهود.
( سترا لهم عما يراد بالشهود الحاضر ) الذي لم يحتجب بتلك التعينات ، وما يراد به هو ما يقتضيه الشهود والحضور من القرب والسعادة الدنيوية ، ثم بين المناسبة بين التعذيب وضمير الغائب ( فقال :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ بضمير الغائب وهو ) ، أي ذلك العذاب هو (عين الحجاب الذي هم فيه ) محتجبون ( عن الحق ) ، فإن الاحتجاب عنه تعالى حجاب والعذاب الأخروي يكون صورة ذلك الاحتجاب ( فذكرهم اللّه ) ، أي جعلهم عيسى عليه السلام مذكورين للّه حاضرين عنده بالوجود الذكري اللفظي .
( قبل حضورهم ) العيني بارتفاع حجتهم ( حتى إذا حضروا ) ، أي أشرفوا على الحضور (تكون الخميرة ) وهي على الحضور الذكري ( قد تحكمت في العجين ) ، أي عجين استعدادهم ( فصيرته مثلها ) يعني صير الحضور الذكري استعداداتهم عين الحضور العيني الذي هو مثل الحضور الذكري ، وذلك إنما هو على سبيل المبالغة وإلا لم يصر استعداد عين الحضور كما لا يخفى .
ثم إنه رضي اللّه عنه لما بين النكتة في إيراد ضمير الغائب أراد أن يبين النكات المتعلقة فإفراد ضمير الخطاب وذكر العباد فلهذا أعاد قوله : (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) ثم شرع في بيان نكاته وقال : ( فأفرد الخطاب ) بالكاف ( للتوحيد الذي كانوا عليه ) بحسب أصل الفطرة أو بسبب أن الظاهر بصورة كل معبود إنما هو الحق تعالى كما قال تعالى : " وَقُضِيَ
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ذلة العبيد لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم.
فهم بحكم ما يريده بهم سيدهم ولا شريك له فيهم فإنه قال «عبادك» فأفرد.
والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذل منهم لكونهم عبادا.
فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء، فلا تذلهم فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا.
«وإن تغفر لهم» أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه. «فإنك أنت العزيز» أي المنيع الحمى.
وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده تسمى الحق بالمعز، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز. فيكون منيع الحمى عما يريد به المنتقم والمعذب من الانتقام والعذاب.
وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله «إنك أنت علام الغيوب» وقوله «كنت أنت الرقيب عليهم». )
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 23 ] ( ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم ) وعدم تصرفهم في أنفسهم فيما عدا وجوداتهم العينية ظاهرا ، وأما فيها فبناء على أن المتصرف فيهم في الكل هو الحق سبحانه وما يتوهم منه التصرف فهو من مظاهره التي يظهر منها تصرفه (فهم يحكم ما يريده بهم سيدهم ) من التصرفات ( ولا شريك له فيهم فإنه قال "عبادك " فأفرد ) كاف الخطاب الذي أضاف العباد إليه وذلك يدل على عدم الشركة فيهم ( والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذل منهم لكونهم عبادا ) وقد علمت أنه لا ذلة أعظم من ذلة العبيد ( فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء فلا تذلهم فإنك ) على تقدير الإذلال ( لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا أو أن تغفر لهم ، أي تسترهم على إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم ، أي تجعل لهم غفرا ) بمعنى الغافر كالعدل بمعنى العادل ، أي ساترا ( يسترهم عن ذلك ) الإيقاع ( ويمنعهم منه فإنك أنت العزيز ، أي المنيع الحمى ) ، أي حماه ممنوع عن أن يتصرف فيه غيره .
( وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده ) ، بأن يتجلى عليه ويظهر فيه به ( يسمى الحق بالمعز و ) العبد ( المعطى له هذا الاسم بالعزيز ) لكونه مظهرا له ( فيكون ) ذلك العبد المطعى له أيضا ( منيع الحمي عما يريد به المنتقم والمعذب من الانتقام والعذاب ، وجاء بالفصل والعماد ) فيكون الآية كما جاء به فيما سبق ( تأكيدا للبيان ولتكون الآية ) الواردة في شأن عيسى عليه السلام ( على واحد في قوله :" إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فجاء أيضا «فإنك أنت العزيز الحكيم».
فكان سؤالا من النبي عليه السلام وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة. فلو سمع الإجابة في أول سؤال ما كرر.
فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصلا فيقول له في عرض عرض وعين عين «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم».
فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم.
فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه.)
الْغُيُوبِ " وقوله : " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ" فجاء أيضا " إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ") على مساقهم ( فكان ) ترديد النبي صلى اللّه عليه وسلم الآية ليلته الكاملة ( سؤالا من النبي صلى اللّه عليه وسلم وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر ) كان ( يرددها طلبا للإجابة فلو سمع الإجابة في أول سؤاله ما كرر . فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب ) من الذنوب والمعاصي .
( عرضا مفصلا ) إما بتفصيل كل ذنب ذنب ، أو بتفصيل كل عين من أعيان المذنبين ( فيقول ) النبي صلى اللّه عليه وسلم ( له ) ، أي للحق تعالى .
( في كل عرض وعين عين " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [ المائدة : 118 ] ، فلو رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ) من إرادته القهر عليهم والانتقام منهم فإن إرادة القهر والانتقام فيما يوجب إيثار جناب الحق إذ لاحظ للعبد فيها ، بخلاف اللطف والرحمة فإن للعبد فيهما حظا فليسا إذا طلبا خالصين للّه تعالى وإن أمكن أن يلاحظ فيهما جانبه تعالى أيضا إذا وافقا إرادته .
"فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم".( لدعا عليهم ) بما لا يلائمهم ( لا لهم ) بما يلائمهم فإن الأنبياء واقفون مع إرادة الحق ولا يستشفعون إلا بإذنه ( فما عرض ) الحق سبحانه (عليه ) ، أي على النبي صلى اللّه عليه وسلم حين كان يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب ( إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم ) للّه لاشتمالها على قوله :" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " .
فقوله : ما تعطيه مفعول للاستحقاق فإن قلت المعروض عليه صلى اللّه عليه وسلم إنما هو ذنوب العباد وهي ما استوجبوا به العذاب كما صرح به أولا فلم حكم عليها ههنا بأنهم استحقوا بها التسليم للّه (والتعريض لعفوه ) ، فإن ذلك ينافي استحقاقهم بها العذاب .
قلت : إيجاب الذنوب العذاب إنما هو لذواتها ويمكن أن تلحقها أمور تخرجها عنه كالتوبة والندامة أو تسبقها كالعناية من جانب الحق سبحانه فما عرض عليه إلا ذنوبهم التي استوجبوا بها النظر إلى ذواتها العذاب ، ولكن وقع ذلك العرض على وجه ينبئ
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخر الاجابة عنه حتى يتكرر ذلك منه حبا فيه لا إعراضا عنه، ولذلك جاء بالاسم الحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ولا يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها.
فالحكيم العليم بالترتيب.
فكان صلى الله عليه وسلم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله تعالى.
فمن تلا فهكذا يتلو، وإلا فالسكوت أولى به.
وإذا وفق الله عبدا إلى النطق بأمر ما فما وفقه الله إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته، فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له، وليثابر مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم )
على استحقاقهم لما تعطيه الآية من التسليم للّه والتعريض لعفوه .
ثم إنه رضي اللّه عنه أراد أن يبين أن تأخير الإجابة بواسطة عرض الفصول إنما هو من مقتضيات عنايته لا الإعراض عنه فقال :
( وقد ورد ) في الأحاديث ( أن الحق سبحانه إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخر الإجابة حتى يتكرر ذلك الدعاء منه حبا فيه لا إعراضا عنه ) ، فيكون تأخير الإجابة عنه حتى يتكرر الدعاء مما تقتضيه حكمته تعالى ( ولذلك ) ، أي لأجل تأخير الإجابة ليترتب عليه تكرار الدعاء مما تقتضيه الحكمة ( جاء ) الحق سبحانه في هذا الكلام (بالاسم الحكيم ) حيث أجراه أولا على لسان عيسى كذلك ليترتب عليه إجراؤه على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم كذلك ويكون حين يجري على لسانه مبنيا على تلك الحكمة.
( والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يعدل بها ) الباء للتعدية أي لا يعدل به ( عما تقتضيه ) من تلك المواضع ( وتطلبه حقائقها ) ، أي حقائق الأشياء حال كونها ملتبسة ( بصفاتها ) أو مع صفاتها فإنه للصفات أيضا مدخل في اقتضاء خصوصيات المواضع فوضع تأخير إجابة دعائه صلى اللّه عليه وسلم في موضع يكون تكرار الدعاء فيه مطلوبا من جملة الحكمة (فالحكيم ) ( هو العليم بالترتيب ) ، أي بوضع كل شيء في مرتبته وموضعه ولكن يشترط أن يعمل بمقتضى علمه ويضع كل شيء في موضعه.
( فكان ) النبي ( صلى اللّه عليه وسلم بترداده هذه الآية على علم عظيم من اللّه تعالى ) كعلمه بتفاصيل ما عرض عليه الحق سبحانه من أحوال أمته وكعلمه بحكمة تأخير إجابة دعائه بل بوضعه كل شيء في مرتبته ( فمن تلا هذه ) الآية ( فهكذا يتلو وإلا ) ، أي وإن لم يتلها كذلك ( فالسكوت ) عنها ( أولى به ) من تلاوته .
( فإذا وفق اللّه سبحانه عبدا ) متحققا بمقام العبودية بحيث لم يبق له شائبة ربوبية ( إلى النطق بأمر ما ) وطلب له الدعاء أو تمنيا أو ترجي (فما فقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته ) ، لأن ذلك النطق والطلب ليس منه لأنه لا تنبعث منه إرادة تسمى أصلا لتحققه العبودية ، وكل إرادة تظهر فيه فإنما هي من الحق سبحانه فلا يتخلف عنها المراد ( فلا يستبطىء ) على صيغة النهي ( أحد ) من العبيد المتحققين بالعبودية ( ما يتضمن )
قال الشيخ رضي الله عنه : (هذه الآية في جميع أحواله حتى يسمع بأذنه أو بسمعه كيف شئت أو كيف أسمعك الله الاجابة. فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بأذنك، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك.)
من الحاجات ( ما وفق له ) من النطق بأمر م ( وليثابر مثابرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله ) فكلمة على متعلقة بمثابرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكلمة بقوله : وليثابر ( حتى يسمع ) ذلك الآخذ بالمثابرة ( بأذنه ) الجسماني ويكون المسموع من مقولة الصوت والحرف الحسي ( أو ) يسمع ( بسمعه ) الروحاني ويكون المسموع أمرا روحاني ( كيف شئت أو كيف أسمعك اللّه الإجابة ) يعني سماع الإجابة بأمره بالإذن وتارة بالسمع ، إما مستند إلى مشيئتك بأن سبب السماع بالأذن أو السمع فأسمعك اللّه كما شئت ، وإما مستندا إلى إسماع اللّه ومشيئته سواء كان لك مشيئة ولم يسمعك كما شئت أو لم يكن له مشيئة أصلا .
( فإن جازاك بسؤال اللسان ) الذي هو من مقولة الحرف والصوت الصادر من اللسان الجسماني ( أسمعك ) اللّه الإجابة ( بأذنك ) الجسماني ليوافق الجزاء العمل ( وإن جازاك بالمعنى ) ، أي بمعنى ذلك السؤال وروحه ( أسمعك بسمعك ) الروحاني لتلك الموافقة ولا يخفى أن الظاهر أن يقال : كيف شاء أو كيف أسمعه اللّه ، فتغيير الأسلوب إما بالتفاوت من الغيبة إلى الخطاب أو بتقدير القول .
أي يسمع بأذنه مقولا معه كيف شئت الإجابة بسؤال اللسان لفظا أو بمعناه ، كيف شئت أسمعك اللّه الإجابة لا بد أن يكون مجازا به لك ، وإجابته إياك بما يناسب حالك .
فإن جازاك بسؤالك باللسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك .
.
تم الفص العيسوي
.
....


jKcwHO48vRI

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!