The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

[الأحداث الرئيسية في سيرة الشيخ محي الدين ابن العربي.]

بعض شيوخ الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

من خلال إجازته التي كتبها للملك المظفر الأيوبي

انظر تحقيق هذه الإجازة في النسخة الجديدة من كتاب شمس المغرب

أبو مدين شعيب بن حسين الأنصـاري

المعروف بـ" سيدي بومدين"

(520 ـ 594 هـ)

منزلته و أصوله العلمية ونبذة من حياته

الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده.

لأسباب كثيرة بعضها معروف وبعضها الآخر مجهول، على الأقل لا يعرفه إلا قلة من الباحثين، يجهل كثير من إخواننا أبناء المشرق، وحتى بعض أبناء المغرب سير وتراجم بعض العلماء المرموقين، و أهل الصلاح و المعرفة من أبناء الجزائر، أو ممن استوطنوا بها بعد طول ترحال.

وفي سياق التعريف بهؤلاء الأعلام، و التنويه بمساهماتهم في العلوم الإسلامية هذه سلسلة مختصرة لسيرهم، تعرف بهم، وتزيل اللثام عن بعض محاسنهم و إنجازاتهم .

ومعلوم أن أشد ما يسيء إلى ذكرى العالم الرباني الذي سخر علمه ووقته وجهده للدعوة إلى دين الله الحق، هو أن يضيع جهده بين الناس بمجرد موته ،و أن يخمد ذكره ويتآكله النسيان.

ومن أقوم المناهج، و أحسن طرق التربية و التعليم، تتبع سير الصالحين، و نشرها بين الناس، تعريفا بفضلهم، ودعوة للاقتداء بهم،فإن لذكر الصالحين حلاوة في القلوب لا مثيل لها.

و أفضل الصالحين، و أحقهم بأن تنشر مزاياهم، ويهتف بكراماتهم، وتردد أقوالهم من كان منهم بالسنة النبوية معتصا، على طريق السلف الصالح سائرا، وبفهمهم للدين متقيدا، ومن أجل هؤلاء ببلاد المغرب شيخ العارفين، و إمام العابدين في عصره أبو مدين ـ رحمه الله ـ فقد كان على جانب كبير من المعرفة، اتسمت طريقته بالاعتماد على العلم تعلما وتعليما .

مولد الشيخ وبداية طلبه العلم:

هو أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري، أصله من قطنيانة [CANTILLANA] ،حصن صغير في الشمال الشرقي من أشبيلية [ٍSéville]

غادر الأندلس فارا من إخوته الذين استغلوا يتمه ليجبروه على رعي مواشيهم،وقصد العدوة طلبا للعلم ،لأنه كان يتألم إن رأى الناس يصلون وهو لا يعرف كيف يصلي.

و كان أميا في منتصف العقد الثاني من عمره عندما عبر إلى طنجة، ثم ذهب إلى سبتة حيث عمل أجيرا للصيادين، ثم انتقل إلى مراكش صحبة جماعة من أهل الأندلس إلا انه وقع في مكرهم، فقد أدخلوه معهم في جملة الأجناد، و كانوا يأكلون عطاءه.

وفي مراكش قوت رغبته في العلم، فنصحه بعض الناس أنه إن كان يريد التفرغ للعلم فعليه بالانتقال إلى فاس ، يقول أبو مدين:"فسرت حتى وصلت البحر، ووجدت خيمة فيها ناس، فخرج إلي منها شيخ، فسألني عن أمري فأخبرته،فجلست عنده،فإذا جعت رمى بخيط في طرفه مسمار فأخذ حوتا و يطعمه لي مشويا، ثم قال لي: انصرف إلى الحاضرة حتى تتعلم العلم فإن الله تعالى لا يعبد إلا بالعلم".

قال الشيخ أبومدين عن أول أمره بفاس:"سرت إليها ولازمت جامعها، ورغبت من علمني أحكام الوضوء و الصلاة، ثم سألت عن مجالس العلماء،فسرت إليها مجلسا بعد مجلس، و أنا لا يثبت في قلبي شيء مما أسمعه من المدرسين إلى أن جلست إلى شيخ كلما تكلم بكلام ثبت في قلبي و حفظته".

هذا الشيخ هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حرزهم، وقد سأله الشيخ أبو مدين عن السر في ذلك، فقال له:" هم يتكلمون بأطراف ألسنتهم، فلا يتجاوز كلامهم الآذان، و أنا قصدت الله بكلامي فخرج من القلب".

لازم أبو مدين شيخه ابن حرزهم {حرازم بالعامية}مدة كان يشتغل فيها في أوقات فراغه مع النسّاخين ليحصل على قوته، بينما يقضي ليله في المراجعة و العبادة.

قال الشيخ أبو مدين:" سمعت رعاية المحاسبي عن أبي الحسن بن حرزهم".

ومن شيوخ أبي مدين بفاس الفقيه المجاهد أبو الحسن بن غالب المتوفى سنة 592 هـ قرأ عليه أبو مدين كتاب السنن لأبي عيسى الترمذي.

ومنهم الشيخ أبو عبد الله الدقاق السجلماسي الأصل المدفون بمقبرة باب الجيسة

كذلك اخذ الشيخ أبو مدين عن أبي يعزى يلنور بن ميمون {438/572} دفين جبل أيروجان قرب قرية تاغية، الذي لم يكن يتقن التكلم باللغة العربية، ولم يحضر حلق علماء القرويين و إنما اخذ عن الشيخ أبي شعيب السارية مؤسس رباط أزمور،قال عنه أبو مدين:" طالعت أخبار الصالحين من زمن اويس القرني إلى زماننا فما رأيت أعجب من أبي يعزى،و طالعت كتب التذكير فما رأيت كالإحياء للغزالي".

وقد امتحن أبو يعزى أبا مدين مرات ، تارة بالإعراض عنه، وتارة باستبار صبره على الجوع،وتارة بإرساله إلى أماكن موحشة.

ولما اشتاقت نفس أبي مدين إلى الرحلة، و بالضبط لأداء مناسك الحج استأذن شيخه أبا يعزى فإذن له، وفي عرفة تعرف بالشيخ عبد القادر الجيلاني، و المرجح أن ذلك كان فيما بين 550 و555هـ ، فقرا عليه بالحرم، وكان ابومدين يعده أفضل مشايخه الأكابر " شجرة النور الزكية"

وقد ذكر المقري في" النفح" أن أبا مدين كان يؤثر بعد عودته من المشرق العزلة للعبادة، و التأمل، قال مبينا عن نفسه ذلك:قال لي بعض الأولياء : رأيت في النوم قائلا يقول: قل لابن مدين بث العلم ولا تبال ترتع غدا مع العوالي، فإنك في مقام آدم أبي الذراري، فقلت له: كنت عزمت على الخروج للجبال و الفيافي حتى أبعد عن العمران،ورؤياك هذه تعدل بي عن هذا العزم و تأمرني بالجلوس، فقولك:"ترتع مع العوالي" إشارة لحديث حلق الذكر مراتع أهل الجنة، و " العوالي" أصحاب عليين، ومعنى قوله "أبي الذراري" أن آدم أعطي قوة النكاح و أمر به، ولم يجعل له قوة على كون ذريته مطيعين مؤمنين، وكذا نحن أعطانا الله العلم و أمرنا ببثه و تعليمه، ولا قدرة لنا على كون أتباعنا موفقين".

ومن المرجح أنه اتخذ هذا القرار وهو بالجزائر المغرب الأوسط آنذاك، و بالضبط عند عروس البحر عاصمة الحمادين بجاية ، وقد قال عنها:" معينة على طلب الحلال".

مكث أبو مدين ببجاية أكثر من خمسة عشر سنة، و فيها تزوج بجارية حبشية، و أنجب منها ولدا، قال الشعراني في " الطبقات الكبرى"{156/1}:"وولده مدين هو المدفون بمصر بجامع الشيخ عبد القادر الدشطوطي، ببركة القرع، خارج السور، مما يلي شرقي مصر، عليه قبة عظيمة، وقبره يزار."

وفي بجاية قرأ عليه الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن حماد الصنهاجي القلعي سنة 581هـ كتاب " المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" ولما قيد كلامه في الشرح في اليوم الأول، قال له الشيخ في اليوم الثاني :" لا أريد أن تقيد عني شيئا مما أقوله في هذا الكتاب" ـ" انس الفقير"{92}.

ونقل صاحب " عنوان الدراية"{ص:73} كلاما لأبي بكر بن العربي مفاده أن الشيخ الحافظ زين العلماء ورأس المحدثين أبا عبد الحق عبد الرحمان الإشبيلي كان آخى أبا مدين في بجاية وكان يأتي إلى حلقته و بيته هو و الشيخ أبو علي المسلي".

كما أن الشيخ أبا مدين درس بمدينة بجاية "الرسالة القشيرية" لأبي القاسم عبد الكريم القشيري.

تلامذة الشيخ أبي مدين:

ومن تلاميذ الشيخ أبي مدين المشهورين عبد الرزاق الجز ولي دفين الإسكندرية،قال ابن قنفذ في" الوافيات"{10/1}:" وهو من أشياخ الشيخ سيدي أبي محمد عبد العزيز المهدوي وأبي البقاء عبد الله".

قال اليافعي في"مرآة الجنان و عبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان"{121/3}:وتخرج به جماعة من أكابر المشايخ الأصفياء، مثل الشيخ أبي محمد عبد الرحيم القنادي، والشيخ أبي عبد الله القرشي، والشيخ أبي محمد عبدالله الفارسي، والشيخ أبي محمد صاحب الدكالي، والشيخ أبي غانم سالم، والشيخ أبي علي واضح، والشيخ أبي الصبر أيوب المكناسي، والشيخ أبي محمد عبد الواحد، والشيخ أبي الربيع المظفري، والشيخ أبي زيدين هبة الله وغيرهم من العلماء. وتلمذ له خلق كثير من أهل الطريق، وقال بارادته جم غفير من أصحاب الأحوال، وانتهى إليه عالم عظيم من الصلحاء وتأدب بين يديه المشايخ والعلماء".

ومن تلاميذ الشيخ أبي مدين المرموقين جعفر بن سيدبونة الخزاعي، ذكره لسان الدين بن الخطيب في"الإحاطة في أخبار غرناطة"{113/1}وقال عنه:"

كان أحد الأعلام المنقطعي القرين في طريق كتاب الله، وأولى الهداية الحقة، فذ، شهير، شائع الخلة، كثير الأتباع، بعيد الصيت، توجب حقه حتى الأمم الداينة بغير دين الإسلام، عند التغلب على قرية، مدفنه بما يقضي منه بالعجب، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عند ذكره في الصلة: أحد أعلام المشاهير فضلاً وصلاحاً، قرأ ببلنسية، وكان يحفظ نصف المدونة وأقرأها، ويؤثر الحديث والتفسير والفقه، على غير ذلك من العلوم.

أخذ القراءات السبع عن المقرئ أبي الحسن بن هذيل، وأبي الحسن بن النعمة، ورحل إلى المشرق، فلقي في رحلته جلة، أشهرهم وأكبرهم في باب الزهد وأنواع سنى الأحوال، ورفيع المقامات، الشيخ الجليل، الولي لله تعالى، العارف، أبو مدين شعيب بن الحسين المقيم ببجاية، صحبه وانتفع به، ورجع من عنده بعجايب دينية، ورفيع أحوال إيمانية، وغلبت عليه العبادة، فشهر بها حتى رحل إليه الناس للتبرك بدعائه، والتيمن برؤيته ولقائه، فظهرت بركته على القليل والكثير منهم، وارتورا زلالا من ذلك العذب النمير، وحظه من العلم مع عمله الجليل موفور، وعلمه نورٌ على نور. لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن حسين بن سيدبونة حين ورد غرناطة، فكان يحدث عنه بعجائب."

ومن أكابر تلميذ الشيخ أبي مدين عبد السلام بن مشيش شيخ العارف الصالح أبي الحسن الشاذلي ـ رحمهم الله أجمعين.

وفاة الشيخ أبي مدين:

ولما اشتهر الشيخ أبو مدين، و كثر رواده و طلبته، وشى به بعض الحاقدين عند يعقوب المنصور الموحدي بعد أن اتهموه بالزندقة، و قالوا:" أنا نخاف منه على دولتكم،فإن له شبها بالإمام المهدي، و أتباعه كثيرون في كل بلد" فبعث إليه السلطان ليختبره، و كتب لصاحب بجاية بالوصية و الاعتناء بحمله، فشق ذلك على أصحاب الشيخ،حتى قال لهم:" إن منيتي قربت، و لغير هذا المكان قدرت، فبعث الله من يحملني إليه برفق، و أنا لا أرى السلطان ولا يراني".

فارتحل به موكب السلطان إلى أن وصل مدينة تلمسان، في ضواحي منطقة " العباد" فقال لأصحابه :" ما أصلحه للرقاد"، ومرض مرض موته، فتوفى هناك سنة 594 هـ وحمل إلى العباد و دفن فيه رحمه الله .

قال الصفدي في " الوافي بالوفيات"{207/5}:" ، كان آخر كلامه: الله الحي، ثم فاضت نفسه؛ توفي نحو التسعين وخمسمائة."

الخلاصة:

أقام الشيخ أبو مدين طريقته على أسس قوية منها أن الشيخ الحقيقي هو الذي يربي تلامذته تربية أساسها القرآن و السنة،وكان مهتما بعلم التوحيد و الفقه ، قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى"{488/3}:"قال الشيخ أبو مدين رحمه الله : أشرف العلوم علم التوحيد، وأنفع العلم أحكام العبيد" .

و أن التوكل لابد أن يبنى على السعي الملائم و العمل الصالح، و يستخلص من سيرته انه صاحب لله و دعا لله.

ومن أقواله المشهورة:

ـ من لم يجد في قلبه زاجرا فهو خراب.

ـ من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه.

ـ المروءة موافقة الإخوان فيما لا يحظره العلم عليك.

ـ احذر صحبة المبتدعة اتقاء على دينك، و احذر صحبة النساء اتقاء على إيمان قلبك.

ـ أبناء الدنيا يخدمهم العبيد و الإماء، و أبناء الآخرة يخدمهم الأحرار و الكرماء.

ـ بفساد العامة تظهر ولاة الجور، و بفساد الخاصة تظهر دجاجلة الدين المفتاتون.

ـ سنة الله استدعاء العباد لطاعته بسعة الأرزاق ودوام المعافاة ليرجعوا إليه بنعمته، فإن لم يفعلوا ابتلاهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون، لأن مراده عز وجل رجوع العباد إليه طوعاً وكراهاً.

ـ انكسار العاصي خير من صولة المطيع.

ـ من لم يمت لم ير الحق.

ـ لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد.

ـ أغنى الأغنياء من أبدى له الحق حقيقة من حقه، وأفقر الفقراء من ستر الحق حقه عنه.

ـ إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره.

ـ ليس للقلب سوى وجهة واحدة، فإلى أي جهة توجه حجب عن غيرها، وإذا سكن الخوف القلب أورثه المراقبة.

ـ من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء، وأحواله بعين الدعوى، وأقواله بعين الافتراء.

ـ ما وصل إلى صريح الحرية من عليه من نفسه بقية

ومن شعره:

يا من علا فرأى ما في الغيوب وما ... تحت الثرى، وظلام الليل منسدل

أنت الغياث لمن ضــاقت مذاهبه ... أنت الدليل لمن حـارت به الحيل

إنا قصدناك والآمـال واثــــقة ... والكل يدعوك ملهـوف ومبتهل

فإن عفوت فذو فضل وذو كــرم ... وإن سطوت فأنت الحـاكم العــدل

قلت : إضافة إلى شهرة الشيخ في الآفاق عند أهل العلم و المعرفة، فإنا نستشف من كلاماته هذه التي تعبر عن طريقته في علم السلوك، أنه كان صاحب سنة ينفر من البدعة و المبتدعة ، و قد أشاد بعلو مرتبته عند الأشياخ، و باستقامة طريقته ومنهجه شيخ الإسلام ابن تيمية، و حسبك بشيخ الإسلام حكما عدلا، و منصفا عارفا فيما يحكم،فذكره في مواضع من كتبه مستشهدا به، قال ابن تيمية في " المجموع"{197/1}:"مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والأوزاعي وإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والشافعي وأبي سليمان وأحمد بن حنبل وبشر الحافي وعبد الله بن المبارك وشقيق البلخي ومن لا يحصى كثرة . إلى مثل المتأخرين : مثل الجنيد بن محمد القواريري وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي ومن بعدهم - إلى أبي طالب المكي إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ عدي والشيخ أبي البيان والشيخ أبي مدين والشيخ عقيل والشيخ أبي الوفاء والشيخ رسلان والشيخ عبد الرحيم والشيخ عبد الله اليونيني والشيخ القرشي وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق ومصر والمغرب وخراسان من الأولين والآخرين".

{293/1}:" وهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشايخ كمعروف الكرخي والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ونحوهم . وهو سماع المشايخ المتأخرين الأكابر كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين وغيرهم من المشايخ - رحمهم الله –"

وقال أيضا{48/3}:"وكذلك أكابر الشيوخ المتأخرين مثل : الشيخ عبد القادر والشيخ عدي والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وغير هؤلاء ، فإنهم لم يحضروا " السماع البدعي " بل كانوا يحضرون " السماع الشرعي " سماع الأنبياء وأتباعهم كسماع القرآن . والله أعلم ."

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء"{219/21}:"

قال محيي الدين بن العربي: كان أبو مدين سلطان الوارثين، وكان جمال الحفاظ عبد الحق الازدي قد آخاه ببجاية، فإذا دخل عليه، ويرى ما أيده الله به ظاهرا وباطنا، يجد في نفسه حالة سنية لم يكن يجدها قبل حضور مجلس أبي مدين، فيقول عند ذلك: هذا وارث على الحقيقة.

قال محيي الدين: كان أبو مدين يقول: من علامات صدق المريد في بدايته انقطاعه عن الخلق، وفراره، ومن علامات صدق فراره عنهم وجوده للحق، ومن علامات صدق وجوده للحق رجوعه إلى الخلق، فأما قول أبي سليمان الداراني (لو وصلوا ما رجعوا) فليس بمناقض لقول أبي مدين، فإن أبا مدين عنى رجوعهم إلى إرشاد الخلق، والله أعلم."

هذه كانت نبذة موجزة من حياة وسيرة الشيخ العارف الرباني أبي مدين رحمه الله وألحقنا بهم صالحين بسنة المصطفى متأسين آمين.

و الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده ، و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أرزيو، الجزائر، في2009-02-12

مختار طيــباوي

شيخ المشايخ أبو مدين

أَبُو مَدْيَنَ شُعَيْبُ بنُ حُسَيْنٍ الأَنْدَلُسِيُّ الزَّاهِدُ، شَيْخُ أَهْلِ الـمَغْرِبِ، وسيد العارفين وقدوة السالكين في عصره. واشتهر بشيخ المشايخ، كَانَ مِنْ أَهْلِ العمل وَالاجتهَاد، مُنْقَطِع القرِيْن فِي العِبَادَةِ وَالنُّسك. قال الشيخ أبو عبد الله التلمساني في كتابه: النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب [كان الشيخ سيدي أبو مدين فردًا من أفراد الرجال وصدرًا من صدور الأولياء الأبدال جمع الله له علم الشريعة والحقيقة]. اه

من مناقبه

وذكر التادَلي وغيره أنه خرّج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات. وقال التادلي: كان مبسوطًا بالعلم مقبوضًا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك. وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهدًا فاضلا عارفًا بالله تعالى خاض بحار الأحوال ونال أسرار المعارف خصوصًا مقام التوكل لا يشق غباره ولا تجهل آثاره.

نشأته وطلبه العلم

كَانَ مِنْ أَهْلِ حِصنِ مَنتُوجَبْ، مِنْ عَمل إِشْبِيْلِيَة، بالأندلس، جَال، وَسَاح، وَاسْتَوْطَنَ بِجَايَة مُدَّة، ثُمَّ تِلِمْسَان. جال في رحلته لطلب العلم، في المغرب وزار سبتة وطنجة بالشمال، واشتغل مع الصيادين ثم انتقل إلى مراكش بالجنوب وانخرط في سلك الجندية وفيها عرض أمره وغايته على من رآه نصوحًا فقال له: عليك بفاس.اهـ وفاس مدينة في بلاد المغرب. يقول أبو مدين [سرت إليها (أي إلى مدينة فاس) ولازمت جامعها ورغبت في من علمني أحكام الوضوء والصلاة ثم سألت عن مجالس العلماء فسرت إليها مجلسًا بعد مجلس]. اه

وفي هذه المجالس أخذ عن شيوخ ولازمهم، ومال عن آخرين، وممن لازم وأخذ عنهم، الشيخ أَبُو يَعْزَى يلنور، (ت سنة 572هـ )، والشيخ أبو الحسن علي بن حِرْزِهِم، بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبعدها زاي، المشهور بابن حرازم رضي الله عنه(ت سنة 559 هـ). وقرأ عليه "الرعاية للمحاسبي". ومن الشيوخ كذلك الذين أخذ عنهم، الشيخ أبو الحسن بن غالب، فقيه فاس؛ أخذ عنه كتاب السنن للترمذي، والشيخ أبو عبد الله الدقاق وأخذ عنه التصوف.

ذكر عنه رضي الله عنه أنه قال [كنت في أول أمري وقراءتي على الشيوخ إذا سمعت تفسير آية أو معنى حديث قنعت به، وانصرفت لموضع خال خارج فاس، أتخذه مأوى للعمل بما فتح به علي، فإذا خلوت به تأتيني غزالة تأوي إلي وتؤنسني، وبقيت كذلك مدة وأخبار سيدي أبي يعزى ترد علي وكراماته يتداولها الناس وتنقل إلي فملأ قلبي حبه، فقصدته مع جماعة الفقراء، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة ( أي الحج) فأذن لي].اه

فتوجه الشيخ أبو مدين للشرق، وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من الزهاد والأولياء، وتعرف في عرفة بالشيخ عبد القادر الجيلاني فقرأ عليه في الحرم الشريف كثيرا من الحديث وألبسه خرقة الصوفية. وبعد زيارته المباركة للمشرق، عاد واستوطن مُدَّة في شرق الجزائر في مدينة بجاية. وكان يقول عنها [إنها معينة على طلب الحلال]. ولم يزل بها يزداد حاله على مر الليالي رفعة، ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق. وفيها تزوج، وأنجب ولدًا. قال الشعراني في الطبقات الكبرى [وولده مدين هو المدفون بمصر بجامع الشيخ عبد القادر الدشطوطي، ببركة القرع، خارج السور، مما يلي شرقي مصر، عليه قبة عظيمة، وقبره يزار].

حاله بين العلماء

كان رضي الله عنه من أعلام العلماء، وترد عليه الفتاوى في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه فيجيب عنها في الوقت، وله مجلس وعظ يتكلم فيه فتجتمع عليه الناس من كل جهة وتمر به الطيور وهو يتكلم فتقف تسمع وربما مات بعضها، وكثيرا ما يموت بمجلسه أصحاب الحب، تخرج عليه جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال. وكان أولياء وقته يأتونه من البلدان للاستفتاء فيما يعرض لهم من المسائل.

قال الشعراني في "الطبقات الكبرى" [قال الشيخ أبو الحجاج الأقصري سمعت شيخنا عبد الرزاق رضي الله عنه يقول: لقيت الخضر عليه السلام سنة ثمانين وخمسمائة، فسألته عن شيخنا أبي مدين، فقال: هو إمام الصديقين في هذا الوقت. قلت: وأجمعت المشايخ على تعظيمه وإجلاله وتأدبوا بين يديه وكان ظريفا جميلا متواضعا زاهدا ورعا محققا مشتملا على كرم الأخلاق رضي الله عنه]. اهـ كلام الشعراني.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء [قَالَ مُحْيِي الدِّيْنِ ابْنُ العَرَبِيِّ: كَانَ أَبُو مَدْيَنَ سُلْطَانَ الوَارِثِيْنَ، وَكَانَ جمَال الحُفَّاظ عَبْدُ الحَقِّ الأَزْدِيّ قَدْ آخَاهُ بِبجَايَة، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَيَرَى مَا أَيَّده الله بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، يَجد فِي نَفْسِهِ حَالَة سَنِيَّةً لَمْ يَكُنْ يَجِدُهَا قَبْل حُضُوْر مَجْلِس أَبِي مَدْيَن، فَيَقُوْلُ عِنْدَ ذَلِكَ: هَذَا وَارِث عَلَى الحقيقَة].

عقيدته

من مصنفاته: أنس الوحيد ونزهة المريد في علم التوحيد والحكم. قال الشيخ أبو مدين في عقيدته [الحمد لله الذي تنـزه عن الحد والأين والكيف والزمان والمكان المتكلم بكلام قديم أزلي صفة من صفاته قائم بذاته لا منفصل عنه ولا عائد إليه ولا يحُل في المحدثات ولا يجانس المخلوقات ولا يوصف بالحروف والأصوات تنـزَّهت صفات ربنا عن الأرض والسمـٰوات. اللهم إنّا نُوَحِّدُك ولا نَحُدُّك ونؤمن بك ولا نكَيِّفُك ونعبدك ولا نُشَبِّهُك ونعتقد أن من شبهك بخلقك لم يعرف الخالق من المخلوق] اﻫ

وقال فيها [القُدُّوس على العرش استوى من غير تمكن ولا جلوس]. اﻫ

وقال [العرش له حدٌّ ومقدار والرب لا تدركه الأبصار. العرش تُكَيِّفُه خواطر العقول وتصفه بالعرض والطول وهو مع ذلك محمول وهو الذي لا يحول ولا يزول. العرش بنفسه هو المكان وله جوانب وأركان وكان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ليس له تحتٌ فيُقِلَّه ولا فوقٌ فيُظِلَّه ولا جوانب فتعدله ولا خلْف فيسنده ولا أمام فيحده]. اﻫ عن مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس رقم 5485.

ومن أقواله المشهورة

وكان أبو مدين يقول: كرامات الأولياء نتائج معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وطريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال: من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجرا فهو خراب.اهـ

وقال: بفساد العامة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصة تظهر دجاجلة الدين الفتانون.اهـ

وقال: من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله تعالى احترامهم، ابتلاه الله بالمقت من خلقه.اه

وقال: عُمْرُكَ نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أنْ يَكُونَ لَكَ لاَ عليك. انتهى

وقال: احذر صحبة المبتدعة اتقاء على دينك.اهـ

وقال: الزهد عافية.اه

وقال: بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة.اه

ونختم هذه المأثورات بأبيات لأبي مدين نالت قبولا لدى الخاصة والعامة وتغنى بها المنشدون وتعالت بها أصواتهم في مجالس الذكر والإنشاد.

قال الشيخُ أبو مدين رحمه اللَّه :

مَا لذّةُ العَيشِ إلاّ صُحبَةُ الفُقَر

هُم السّلاَطين والسَّادَاتُ والأُمَر

فَاصْحَبْهُمُو وتأدَّب في مَجَالِسِهِم

وخلِّ حظَّكَ مَهمَا قدموك ورَ

واستغنم الوقت واحضر دائمًا معهم

واعلم بأن الرضا يختص من حضر

أي ما لذة عيش السالك في طريق مولاه إلا صحبة الفقراء، والفقراء جمع فقير، والفقير هو المتجرد عن العلائق المعرض عن العوائق.

من كراماته

الله تعالى أكرمه بكرامات كثيرة، قال الشيخ أحمد بن محمد الْمُقْرِي التلمساني في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: ومن مشهور كراماته أنه كان ماشيا يوما على ساحل فأسره العدو وجعلوه في سفينة فيها جماعة من أسرى المسلمين فلما استقر في السفينة توقفت عن السير ولم تتحرك من مكانها مع قوة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم أنهم لا يقدرون على السير، فقال بعضهم: أنـزلوا هذا المسلم، ولعله من أصحاب السرائر عند الله تعالى، وأشاروا له بالنـزول، فقال: لا أفعل إلا إن أطلقتم جميع من في السفينة من الأسارى، فعلموا أن لا بد لهم من ذلك، فأنزلوهم كلهم وسارت السفينة في الحال.

وذكر ابن بطوطة في رحلته أنه: يحكى أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط، وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة. ويقال: إن كل واحد منهما كان يسلم على صاحبه صباحًا ومساء فيرد عليه الآخر.

تلامذة الشيخ أبي مدين

قال اليافعي في "مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان": وتخرج به جماعة من أكابر المشايخ الأصفياء، مثل الشيخ أبي محمد عبد الرحيم القنادي، والشيخ أبي عبد الله القرشي، والشيخ أبي محمد عبد الله الفارسي، والشيخ أبي محمد صاحب الدكالي، والشيخ أبي غانم سالم، والشيخ أبي علي واضح، والشيخ أبي الصبر أيوب المكناسي، والشيخ أبي محمد عبد الواحد، والشيخ أبي الربيع المظفري، والشيخ أبي زيدين هبة الله وغيرهم من العلماء".

وفاته

ولما اشتهر الشيخ أبو مدين، وكثر رواده وطلبته، وشى به بعض الحاقدين عند يعقوب المنصور، وقالوا:" إنا نخاف منه على دولتكم، وأتباعه كثيرون في كل بلد"، فبعث إليه السلطان ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصية والاعتناء بحمله، فشق ذلك على أصحاب الشيخ، حتى قال لهم:" إن منيتي قربت، فبعث الله من يحملني إليه برفق، وأنا لا أرى السلطان ولا يراني". فارتحل به موكب السلطان إلى أن وصل مدينة العبَّاد بتِلِمْسَان، غرب الجزائر، فقال لأصحابه: " ما أصلحه للرُّقَادِ"، ومرض مرض موته، فتوفى هناك سنة أربع وتسعين وخمسمائة 594 هـ.

قال الصفدي في "الوافي بالوفيات": " كان آخر كلامه: الله الحي، ثم فاضت نفسه"

قال الشعراني في " الطبقات الكبرى": وكان سبب دخوله تلمسان أن أمير المؤمنين لما بلغه خبره أمر بإحضاره من بـجاية ليتبرك به، فلما وصل الشيخ شعيب إلى تلمسان، قال: ما لنا وللسلطان، الليلة نزور الإخوان، ثم نـزل وذهب إلى المسجد الجامع هناك، واستقبل القبلة وتشهد، وقال: ها قد جئت، ها قد جئت، وعجلت إليك رب لترضى، ثم قال: الله الحىّ، ثم فاضت روحه رضي الله عنه.

وسمع أهل تلمسان بجنازته فكانت من المشاهد العظيمة والمحافل الكريمة. ونقل المعتنون بأخباره أن الدعاء عند قبره مستجاب وجربه جماعة. وقد أطال في ترجمته يوسُفُ بن يَحْيَى التَّادَلِيُّ في كتابه: التشوف لرجال التصوف، وقد أفردها أبو العباس القُسمطيني الشهير بابنِ الخطيب وابنِ قُنفذ، بتأليف سماه: أنس الفقير.

رضي الله عنه وجمعنا معه تحت لواء المصطفى عليه السلام ءامين.



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de manière semi-automatique !